موقف بودلير الأصلي هو موقف العاكف على نفسه يتأملها كنرسيس الأسطورة. فليس لديه شعور مباشر لا تخترقه نظرة مرهفة. نحن عندما نتأمل مثلاً شجرة أو بيتاً نستغرق في هذه الأشياء وننسى أنفسنا , أما بودلير فإنه لا ينسى نفسه أبداً. فهو يتأمل نفسه عندما يتأمل الأشياء, وهو ينظر إلى نفسه ليرى نفسه يُنظر.
إنه يتأمل شعوره بالبيت وبالشجرة لذا لا يراها إلا أشد ضآلة وأقل وقعاً كما لو كان ينظر إليها من خلال عدسة مصغرة. فلا تدل إحداهما على الأخرى كما يدل السهم على الطريق أو الإشارة إلى الصفحة.
وفكر بودلير لايضيع أبداً في متاهاتها ولكن على العكس يرى أن المهمة المباشرة لها هي أن تعيد له شعوره بذاته. لقد كتب يقول ((ما يهم ما تستطيع أن تكون الحقيقة الموضوعة خارج نفسي إذا هي ساعدتني على أن أعيش وأن أشعر إني موجود ومن أنا)). وفي نفسه كان همّه ألا يظهر الأشياء إلا من خلال جدار سميك من الشعور الإنساني عندما يقول في كتابه ((الفن الفلسفي)). ((ما هو الفن الخالص في المفهوم الحديث)) ((هوأن تخلق سحراً متلاحقاً يحتوي الموضوع والعلة معاً والعالم الخارجي للفنان والفنان نفسه, بشكل يستطيع معه إلقاء محاضرة بعنوان ضآلة الحقيقة في العالم الخارجي)) ذرائع, انعكاسات, أطر الأشياء كلها لا قيمة لها مطلقاً بذاتها وليس لها من مهمة سوى أن تعطي الفنان فرصة تأمل نفسه وهو يراها.
لبودلير مسافة جوهرية تفصله عن العالم ليست هي مسافتنا نحن فبينه وبين الأشياء تتدخل دائماُنصف شفافية لزجة قليلاً معطرة كثيراً كأنها ارتجاف هواء الصيف الحار وهذا الشعور المراقب والذي يشعر بأنه مراقب وهو يقوم بأعماله العادية, يفقد الإنسان عفويته كالطفل الذي يلعب في ظل مراقبة الكبار. هذه العفوية التي كرهها بودلير بقدر ما ندم على حرمانه منها. هو لا يملكها مطلقاً فكل شيء عنده مزيّف لأنه مراقب فأتفه نزوة وأقل رغبة تولد مراقبة وحلولة الرموز.
وإذا ما تذكرنا المعنى الذي أعطاه ((هيجل)) لكلمة مباشرة أدركنا أن تميز بودلير العميق يكمن في كونه الرجل الذي فقد المباشرية. ولكن كان لهذا التميز من قيمة بالنسبة لنا نحن الذين نراه من الخارج, فغنه وهو الذي ينظر إلى نفسه من الداخل لم يستطيع أن يمسك به مطلقاً. كان يفتش عن طبيعته أي خصائصه وكيانه, لكنه لم يدرك سوى توالي حالاته النفسية الرتيبة الطويلة التي جعلته يسخط عليها. كان يرى جيداً ماذا يصنع خصوصية الجنرال أو بيك وخصوصية أمه. فكيف إذنْ لم يتمتع بخصوصية شخصه هو. ذلك لأنه كان ضحية وهم طبيعي, بموجبه ينطبع داخل الإنسان على خارجه. وهذا غير موجود. وهذه الصفة المميزة التي تشير إليه دون الآخرين, لا اسم لها في لغته الداخلية. فهل يرى نفسه روحانياً أم مبتذلاً أم متميزاً ؟ أو هل باستطاعته حتى أن يدرك حيويته و سعة ذكائه ؟ هذا الذكاء الذي لا يحدّه سوى نفسه, وما لم يتدخل المخدر ليسرّع قليلاُ من مجرى أفكاره فقد كان معتاداُ على وتيرتها وكانت تعابير التشبيه تنقصه ليعرف كيف يتذوق سرعة جريانها.
أما عن تفاصيل أفكاره وعواطفه المتوقعة والمعروفة حتى قبل أن تظهر والشفافة من كل النواحي فإنها تلوح له معروفة جداً, قد رآها من قبل ولها في نفسه ألفة لا رائحة لها ولا طعم. آتية من حياة سائبة. إن نفسه مملوئة بنفسه حتى الفيضان. لكن هذه النفس لست سوى مزاج كابٍ فَقَدَ التماسك والمقاومة, حتى عجز عن الحكم والملاحظة دون ظلال ولا أنوار. إنه وعي ثرثار يرود نفسه بهمس متلاحق ويلتصق بنفسه التصاقاً يمنعه من قيادة نفسه ورؤيتها بوضوح. وهنا تبدأ المأساة البودليرية.
تصوروا الشحرور الأبيض أصيب بالعمى ـ لأن النور المبهر إذا انعكس على العين يعادل العمى ـ فتسلطت عليه فكرة البياض المنتشر على جناحيه, يراه كل الشحارير و يحدثونه عنه وهو وحده لا يستطيع أن يراه, ووضوح بودلير الشهير ليس سوى مجهود لتعويض الخسارة. فالأمر يتعلق باستعادة نفسه وبما أن النظر تملّك فيجب أن يرى نفسه ولكن لكي يرى نفسه يجب أن يكون شخصين. إن بودلير يستطيع أن يرى يديه وذراعيه لأن العين مختلفة عن اليد لكن العين لا تستطيع أن ترى فنسها إنها تشعر بنفسها وتعيشها غير أنها لا تستطيع أن تتخذ المسافة الضرورية لكي تتذوق نفسها. وعبثاً ما يصرخ في أزهار الشر قائلاً:
وجهاً لوجه كئيباً واضحاً
يقف وقلبه مرآته
وهذه المواجهة ما تكاد خطوطها الأولى ترتسم حتى تتلاشى لأنه لا يملك سوى رأس واحد. وسينحصر مجهود بودلير في دفع المحاولة المجهضة من الازدواجية إلى نهايتها القصوى, والتي هي الضمير العاكس. وإذا تمتع مبدئيا ًبالوضوح فليس ذلك من أجل أن يقدم لنفسه حساباً عن أخطائه ولكن من أجل أن يصبح اثنين. وإذا أراد أن يكون اثنين فلكي يحقق من هذا الازدواج الامتلاك النهائي للأنا بواسطة الأنا وهكذا يضج منه وضوحه.
فلم يكن سوى شاهد نفسه وسيحاول أن يكون جلادها لأن التعذيب يولد ازدواجية كاملة الاتحاد, فيه يستولي الجلاد على الضحية. وبما أنه لم ينجح في رؤية نفسه فلا أقل من أن ينبشها كما تنبش السكين الجرح آملاً من وراء ذلك أن يصل إلى الوحدة العميقة التي تكوّن حقيقة طبيعته
أنا الجرح والسكين
أنا الضحية والجلاد
فهل هذا التنكيل بنفسه يقلدّ الامتلاك؟ إنه ينزع إلى خلق لحم تحت أصابعه, لحمه هو حتى يعرف أنه لحمه من خلال ما يشعر به من ألم. فأنْ تجعل إنساناً يتألم ذلك يساعدك على امتلاكه وخلقه كما يساعدك على القضاء عليه. والصلة التي تجمع بالتبادل الضحية والمحقق هي صلة جنسية. وعبثاً يحاول أن ينقل إلى حياته الشخصية هذه العلاقة التي لا معنى لها إلا بين أشخاص متمايزين. أن يحول إلى سكين وجدانه العاكس وإلى جرح وجدانه المستقبل في حين أنهما في الواقع واحد.
لا يمكن أن يحب الإنسان نفسه ولا أن يكرهها ولا أن يعذب نفسه, فالضحية والجلاد يختفيان في عدم تمييز مطلق عندما يطالب الأول بالألم والثاني يمارسه بعمل إرادي وحيد. وبودلير أراد بعمل معاكس, لكنه يهدف إلى الغاية نفسها, أن يجعل من نفسه الشريك المتكتم بوجدانه المستقبل, ضد وجدانه العاكس.
وعندما يكف عن جعل نفسه تستشهد فذلك لأنه يحاول أن يندهش من نفسه, وسيدّعي عفوية محيّرة, وسيتظاهر بالاستسلام إلى أكثر النزوات مجانية, لكي يضع نفسه فجأة أمام نفسه, كشيء معتم وغير منتظر, أو بتعبير آخر كشخص يختلف عن شخصه. فإذا نجح في هذا المسعى فالمشكلة محلولة جزئياً وباستطاعته إذن أن يتمتع بشخصه. ولكنه هنا أيضاً لا يكوّن سوى شخص واحد مع الذي يريد أن يفاجئه, وأقل ما يقال أنه يحدس مشروعه حتى قبل أن يضعه. إنه يتوقع مفاجأته ويقيسها ويركض وراء اندهاشه الشخصي دون أن يستطيع أبداً إدراكه.
فبودليرهو الرجل الذي اختار أن يرى نفسه كأنه شخص آخر ولم تكن حياته كلها سوى قصة هذا الفشل. وعلى الرغم من الخدع التي نسجت صورته في نظرنا إلى الأبد فإنه يعرف تماماً بأن نظرته الشهيرة ليست هي والشيء المنظور سوى واحد. وأنه لن يصل أبداً إلى امتلاك حقيقي لشخصه ولكنه يصل فقط إلى ذلك التذوّق الفاتر الذي يميز الوجدان العاكس.
إنه يشعر بالضجر وهذا الضجر ((تلك العاطفة العجيبة التي هي أصل كل أمراضه وكل نجاحاته البائسة)) ليس حالة عارضة أو كما يدّعي هو أحياناً ثمرة عدم فضوله القرف: إنه ((الضجر النقي من الحياة)) الذي تكلم عنه ((فاليري)) إنه الطعم الذي يملكه الإنسان لنفسه بالضرورة إنه طعم الوجود.
أنا غرفة انتظار عتيقة
مليئة بالورود الذابلة
يملؤها خليط عجيب
من أزياء فات زمانها
ولا يتنفس فيها عبير عطر مسكوب
إلا الرسوم النائحة
ولوحات بوشيه الشاحبة
هذه الرائحة الخفيفة التي تتصاعد من حق مفتوح إنك لا تكاد تشعر بها, لكنك تراها فهي حاضرة بكل هدوء وفظاعة, لأنها الرمز الأمثل لوجود الوجدان من أجل نفسه. فهل الضجر أيضاً شعور ميتافيزيكي.
هذا هو المنظر الداخلي لبودلير والمادة الأزلية التي صنعت منها أفراحه, وغضبه, وأحزانه. وها هو تناسخه الجديد: بعد أن سدّ عليه حدسه, بتفرده الصريح, المنافذ كلها, يدرك أنه وقف على كل إنسان. فسار في طريق الوضوح ليكشف عن طبيعته المتميزة وعن مجموع الملامح التي تستصيع أن تجعل منه الرجل الذي لا يمكن تعويضه.
أما ما وجده في طريقه فلم يكن وجهه هو, لكنه الأنماط الغامضة للضمير الكوني.
فالكبرياء والوضوح والسأم كلها واحدة في نظره. ففي داخله وعلى الرغم منه, يصل ضمير المجموع إلى ضمير الفرد ويتعارفان.
إنه يتأمل شعوره بالبيت وبالشجرة لذا لا يراها إلا أشد ضآلة وأقل وقعاً كما لو كان ينظر إليها من خلال عدسة مصغرة. فلا تدل إحداهما على الأخرى كما يدل السهم على الطريق أو الإشارة إلى الصفحة.
وفكر بودلير لايضيع أبداً في متاهاتها ولكن على العكس يرى أن المهمة المباشرة لها هي أن تعيد له شعوره بذاته. لقد كتب يقول ((ما يهم ما تستطيع أن تكون الحقيقة الموضوعة خارج نفسي إذا هي ساعدتني على أن أعيش وأن أشعر إني موجود ومن أنا)). وفي نفسه كان همّه ألا يظهر الأشياء إلا من خلال جدار سميك من الشعور الإنساني عندما يقول في كتابه ((الفن الفلسفي)). ((ما هو الفن الخالص في المفهوم الحديث)) ((هوأن تخلق سحراً متلاحقاً يحتوي الموضوع والعلة معاً والعالم الخارجي للفنان والفنان نفسه, بشكل يستطيع معه إلقاء محاضرة بعنوان ضآلة الحقيقة في العالم الخارجي)) ذرائع, انعكاسات, أطر الأشياء كلها لا قيمة لها مطلقاً بذاتها وليس لها من مهمة سوى أن تعطي الفنان فرصة تأمل نفسه وهو يراها.
لبودلير مسافة جوهرية تفصله عن العالم ليست هي مسافتنا نحن فبينه وبين الأشياء تتدخل دائماُنصف شفافية لزجة قليلاً معطرة كثيراً كأنها ارتجاف هواء الصيف الحار وهذا الشعور المراقب والذي يشعر بأنه مراقب وهو يقوم بأعماله العادية, يفقد الإنسان عفويته كالطفل الذي يلعب في ظل مراقبة الكبار. هذه العفوية التي كرهها بودلير بقدر ما ندم على حرمانه منها. هو لا يملكها مطلقاً فكل شيء عنده مزيّف لأنه مراقب فأتفه نزوة وأقل رغبة تولد مراقبة وحلولة الرموز.
وإذا ما تذكرنا المعنى الذي أعطاه ((هيجل)) لكلمة مباشرة أدركنا أن تميز بودلير العميق يكمن في كونه الرجل الذي فقد المباشرية. ولكن كان لهذا التميز من قيمة بالنسبة لنا نحن الذين نراه من الخارج, فغنه وهو الذي ينظر إلى نفسه من الداخل لم يستطيع أن يمسك به مطلقاً. كان يفتش عن طبيعته أي خصائصه وكيانه, لكنه لم يدرك سوى توالي حالاته النفسية الرتيبة الطويلة التي جعلته يسخط عليها. كان يرى جيداً ماذا يصنع خصوصية الجنرال أو بيك وخصوصية أمه. فكيف إذنْ لم يتمتع بخصوصية شخصه هو. ذلك لأنه كان ضحية وهم طبيعي, بموجبه ينطبع داخل الإنسان على خارجه. وهذا غير موجود. وهذه الصفة المميزة التي تشير إليه دون الآخرين, لا اسم لها في لغته الداخلية. فهل يرى نفسه روحانياً أم مبتذلاً أم متميزاً ؟ أو هل باستطاعته حتى أن يدرك حيويته و سعة ذكائه ؟ هذا الذكاء الذي لا يحدّه سوى نفسه, وما لم يتدخل المخدر ليسرّع قليلاُ من مجرى أفكاره فقد كان معتاداُ على وتيرتها وكانت تعابير التشبيه تنقصه ليعرف كيف يتذوق سرعة جريانها.
أما عن تفاصيل أفكاره وعواطفه المتوقعة والمعروفة حتى قبل أن تظهر والشفافة من كل النواحي فإنها تلوح له معروفة جداً, قد رآها من قبل ولها في نفسه ألفة لا رائحة لها ولا طعم. آتية من حياة سائبة. إن نفسه مملوئة بنفسه حتى الفيضان. لكن هذه النفس لست سوى مزاج كابٍ فَقَدَ التماسك والمقاومة, حتى عجز عن الحكم والملاحظة دون ظلال ولا أنوار. إنه وعي ثرثار يرود نفسه بهمس متلاحق ويلتصق بنفسه التصاقاً يمنعه من قيادة نفسه ورؤيتها بوضوح. وهنا تبدأ المأساة البودليرية.
تصوروا الشحرور الأبيض أصيب بالعمى ـ لأن النور المبهر إذا انعكس على العين يعادل العمى ـ فتسلطت عليه فكرة البياض المنتشر على جناحيه, يراه كل الشحارير و يحدثونه عنه وهو وحده لا يستطيع أن يراه, ووضوح بودلير الشهير ليس سوى مجهود لتعويض الخسارة. فالأمر يتعلق باستعادة نفسه وبما أن النظر تملّك فيجب أن يرى نفسه ولكن لكي يرى نفسه يجب أن يكون شخصين. إن بودلير يستطيع أن يرى يديه وذراعيه لأن العين مختلفة عن اليد لكن العين لا تستطيع أن ترى فنسها إنها تشعر بنفسها وتعيشها غير أنها لا تستطيع أن تتخذ المسافة الضرورية لكي تتذوق نفسها. وعبثاً ما يصرخ في أزهار الشر قائلاً:
وجهاً لوجه كئيباً واضحاً
يقف وقلبه مرآته
وهذه المواجهة ما تكاد خطوطها الأولى ترتسم حتى تتلاشى لأنه لا يملك سوى رأس واحد. وسينحصر مجهود بودلير في دفع المحاولة المجهضة من الازدواجية إلى نهايتها القصوى, والتي هي الضمير العاكس. وإذا تمتع مبدئيا ًبالوضوح فليس ذلك من أجل أن يقدم لنفسه حساباً عن أخطائه ولكن من أجل أن يصبح اثنين. وإذا أراد أن يكون اثنين فلكي يحقق من هذا الازدواج الامتلاك النهائي للأنا بواسطة الأنا وهكذا يضج منه وضوحه.
فلم يكن سوى شاهد نفسه وسيحاول أن يكون جلادها لأن التعذيب يولد ازدواجية كاملة الاتحاد, فيه يستولي الجلاد على الضحية. وبما أنه لم ينجح في رؤية نفسه فلا أقل من أن ينبشها كما تنبش السكين الجرح آملاً من وراء ذلك أن يصل إلى الوحدة العميقة التي تكوّن حقيقة طبيعته
أنا الجرح والسكين
أنا الضحية والجلاد
فهل هذا التنكيل بنفسه يقلدّ الامتلاك؟ إنه ينزع إلى خلق لحم تحت أصابعه, لحمه هو حتى يعرف أنه لحمه من خلال ما يشعر به من ألم. فأنْ تجعل إنساناً يتألم ذلك يساعدك على امتلاكه وخلقه كما يساعدك على القضاء عليه. والصلة التي تجمع بالتبادل الضحية والمحقق هي صلة جنسية. وعبثاً يحاول أن ينقل إلى حياته الشخصية هذه العلاقة التي لا معنى لها إلا بين أشخاص متمايزين. أن يحول إلى سكين وجدانه العاكس وإلى جرح وجدانه المستقبل في حين أنهما في الواقع واحد.
لا يمكن أن يحب الإنسان نفسه ولا أن يكرهها ولا أن يعذب نفسه, فالضحية والجلاد يختفيان في عدم تمييز مطلق عندما يطالب الأول بالألم والثاني يمارسه بعمل إرادي وحيد. وبودلير أراد بعمل معاكس, لكنه يهدف إلى الغاية نفسها, أن يجعل من نفسه الشريك المتكتم بوجدانه المستقبل, ضد وجدانه العاكس.
وعندما يكف عن جعل نفسه تستشهد فذلك لأنه يحاول أن يندهش من نفسه, وسيدّعي عفوية محيّرة, وسيتظاهر بالاستسلام إلى أكثر النزوات مجانية, لكي يضع نفسه فجأة أمام نفسه, كشيء معتم وغير منتظر, أو بتعبير آخر كشخص يختلف عن شخصه. فإذا نجح في هذا المسعى فالمشكلة محلولة جزئياً وباستطاعته إذن أن يتمتع بشخصه. ولكنه هنا أيضاً لا يكوّن سوى شخص واحد مع الذي يريد أن يفاجئه, وأقل ما يقال أنه يحدس مشروعه حتى قبل أن يضعه. إنه يتوقع مفاجأته ويقيسها ويركض وراء اندهاشه الشخصي دون أن يستطيع أبداً إدراكه.
فبودليرهو الرجل الذي اختار أن يرى نفسه كأنه شخص آخر ولم تكن حياته كلها سوى قصة هذا الفشل. وعلى الرغم من الخدع التي نسجت صورته في نظرنا إلى الأبد فإنه يعرف تماماً بأن نظرته الشهيرة ليست هي والشيء المنظور سوى واحد. وأنه لن يصل أبداً إلى امتلاك حقيقي لشخصه ولكنه يصل فقط إلى ذلك التذوّق الفاتر الذي يميز الوجدان العاكس.
إنه يشعر بالضجر وهذا الضجر ((تلك العاطفة العجيبة التي هي أصل كل أمراضه وكل نجاحاته البائسة)) ليس حالة عارضة أو كما يدّعي هو أحياناً ثمرة عدم فضوله القرف: إنه ((الضجر النقي من الحياة)) الذي تكلم عنه ((فاليري)) إنه الطعم الذي يملكه الإنسان لنفسه بالضرورة إنه طعم الوجود.
أنا غرفة انتظار عتيقة
مليئة بالورود الذابلة
يملؤها خليط عجيب
من أزياء فات زمانها
ولا يتنفس فيها عبير عطر مسكوب
إلا الرسوم النائحة
ولوحات بوشيه الشاحبة
هذه الرائحة الخفيفة التي تتصاعد من حق مفتوح إنك لا تكاد تشعر بها, لكنك تراها فهي حاضرة بكل هدوء وفظاعة, لأنها الرمز الأمثل لوجود الوجدان من أجل نفسه. فهل الضجر أيضاً شعور ميتافيزيكي.
هذا هو المنظر الداخلي لبودلير والمادة الأزلية التي صنعت منها أفراحه, وغضبه, وأحزانه. وها هو تناسخه الجديد: بعد أن سدّ عليه حدسه, بتفرده الصريح, المنافذ كلها, يدرك أنه وقف على كل إنسان. فسار في طريق الوضوح ليكشف عن طبيعته المتميزة وعن مجموع الملامح التي تستصيع أن تجعل منه الرجل الذي لا يمكن تعويضه.
أما ما وجده في طريقه فلم يكن وجهه هو, لكنه الأنماط الغامضة للضمير الكوني.
فالكبرياء والوضوح والسأم كلها واحدة في نظره. ففي داخله وعلى الرغم منه, يصل ضمير المجموع إلى ضمير الفرد ويتعارفان.