سعيد سالم - صدأ الروح.. قصة قصيرة

كلما عجزت عن تذكرها عاودت النوم عسى أن أراها من جديد. تتجسد أمامى فى الحلم بجسدها النحيل وابتسامتها الرقيقة ونظراتها الساهمة الرصينة. تمشى بجوارى صامتة فى طريق يحفه النخيل وتمتد بموازاته ترعة عريضة ينمو على ضفتيها شجر طويل أوراقه حمراء وصفراء وخضراء تنعق على أغصانها غربان لاحصر لها..لكن النحيلة لاتكف عن التطلع فى شغف الى وجهى بنظرات ملؤها الدهشة والاعجاب دون أن تنطق ولو بكلمة واحدة أستطيع من خلالها أن أستحضر الاسم الذى تحمله أو المكان الذى من المؤكد أنه جمع بيننا يوما أو أياما وربما لزمن أطول.
شىء مزعج جدا أن يصدأ الماضى فى الذاكرة وكأنه لم يكن يوما ينبض بالحياة والحركة والحيوية والأحداث والمواقف. تزعجنى بشدة فكرة تلاشى الأزمنة والأمكنة والناس والأشياء بلا استثناء. انى على ثقة من أن هذه السيدة أو الفتاة نحيلة القوام راجحة العقل- كما أكاد أجزم ولو دون سند من منطق- قد ساهمت بشكل أو بآخر فى صناعة بعد واحد على الأقل من أبعاد حياتى المتعددة.
لو نطقت فى الحلم وحدثتنى عن أى شىء يربط بيننا لتذكرتها على الفور. لو أعطتنى ولو اشارة هامسة بمكان العمل أو السكن أو الترويح الذى جمع بيننا يوما لتذكرت من تكون.
كلما مضى الزمن بأعوامى تضاءلت طاقتى وقدراتى على تحمل تبعات التعلق بالحياة وازدادت حيرتى فى أمر تبعات التفكير بالموت بعد طول اجترار ممل للذكريات التى مضت ولن تعود ، وأصبح من الصعب أن أؤكد انها مازالت على قيد الحياة، أو انها فارقت هذا العالم المزدحم بالآمال والأحلام والأهوال.
الذى يحدث لى يؤكد أنه سيأتى على يوم أكون فيه وحيدا غريبا مغتربا فى هذا العالم الرهيب، لاوجود فيه لأهل أو أقارب أو أصدقاء أو زملاء دراسة وعمل أو رفاق طفولة وصبا. الكل يأتى ويمر ويذهب ثم يختفى او ينسى، واغلب الظن أن حالى هو كذلك تماما بالنسبة لهم ، ولولا اننى انسان محكوم بقدراتى العقلية والروحية المحدودة، لكان من الممكن أن أتفهم طبيعة هذه المسألة الملغزة.
صحوت يائسا من القدرة على تذكرها.أمعنت التفكير فى دوائر حياتى المتداخلة، مسترجعا الوجوه التى تعايشت معها وتعايشت معى على مدى العمر،محاولا العثور عليها وأنا بكامل قواى الذهنية. شحذت الذاكرة واستنفرتها بدءا من الطفولة مرورا بالصبا والشباب والكهولة التى أقف على أبوابها، لعلى ألحظ تعديلا فى تلك الملامح المبهمة يقربها من ذاكرتى، لكنها ظلت كما هى لم تتغير بزيادة أو نقصان. الشىء الوحيد الذى استجد منبعثا من ذاكرة الماضى هو اعتقادى بأنها تنتمى الى الطبقة المتوسطة التى أنتمى اليها، وان كانت دون مستواى الاجتماعى الى حد ما. أما مستواها المعرفى فقد كان يفوق قدراتى جميعا.ربما كانت هى تلك الفتاة التى لاتفكر فى الغيب ولا تعتقد الا فى كل ماهو مادى ملموس محسوس ، وتستطيع أن تجادل وتحاور وتناور لاثبات ماتقوله بمنطق الفاهمة العارفة الواثقة.
اذا كانت هى فكيف غابت عنى ملامحها ، وان لم تكن هى فمن تكون تلك المخلوقة العبثية الغامضة التى تتحدث عن تاريخ البشرية وثورات الشعوب كما لو كانت تتسلى بقزقزة اللب السورى.
انى أتعجب كيف يختزل العقل الباطن كل هذه الألغاز ويفرزها تارة فى الحلم وتارة فى الواقع، وحين يختلطان تتكاثر علامات الاستفهام حول هذا الكون الملغز وخالقه الجبار، وحول الحلم والحقيقة والواقع والخيال.
كيف انتابتنى تلك الأحاسيس لست أدرى. ربما أكون قد عاشرتها بلا روح فى ليلة عابرة تحت تأثير شراب وغيوم ذاكرة، حين يكون السلطان للجسد والحكم للغريزة..لكن ليس من المعقول أن تكون هناك علاقة حب حقيقى قد نشأت بيننا يوما ما ، فالحب منبعه الروح وذاكرة الروح لا تصدأ. لكن الشك يعاودنى فى أن يكون فراش واحد قد جمع بيننا ، رغم ميلى الى الاعتقاد بأنها قد حاولت بفطرتها الأنثوية الخالصة استدراجى اليه. كانت أكثر واقعية وكنت أكثر رومانسية كشأن المرأة والرجل دائما على عكس ما يعتقد الكثيرون.
أصابنى التردد واستبد بى الخجل من نفسى ومنها ومن طبيعة الممارسة التى ألمحت لى بها بذكاء شديد. قيود الدين وسلاسل العرف وضوابط المجتمع ومحاذير الناس تكاتفت جميعا ضد قدرتى على الاستجابة رغم تأجج الرغبة.نعم لقد اشتهيتها، لكن كيف يحدث ذلك كله ثم لا أستطيع ان اتذكر حتى اسمها ولا تكتمل فى خيالى صورة وجهها الحقيقية واضحة.
اشتعل جنون البحث فى ذهنى وعاودت النوم برقبة مائلة على الوسادة حين جاءنى طائف بحوار قديم غريب حول بعض الأصدقاء ، لست واثقا تماما ان كان قد دار بينى وبين زميلة العمل السابقة "صفاء" التى لم أرها منذ اكثر من عشرين عاما، أم بينى وبين كائن هلامى آخر لا أعرفه.
- سعدون السكرى هاجر وفتحية شاكر انتحرت وبليغ حمدى مات وعادل الجيار تحول الى امرأة
- وما شأنى بهذا كله؟
- معك حق ، فكيف تبالى بضحاياك وقد خلت أحشاؤك من قلب
ورحت أجرى فى صحراء شاسعة لابداية لها ولا نهاية. استبد بى الخوف حتى سقط شعر رأسى ووجدت نفسى أقفز من الفراش وأسارع الى الحمام فأقف تحت رشاش مياه يناير دون استخدام السخان عسيا بأن أعود الى حياة طبيعية بأفراحها وأحزانها ولكن دون خوف أو غموض. مم تخاف يا أخانا ومم تحذر وأنت غارق فى لامبالاتك الصفرية بالكون والناس والأشياء، بينما تردد كدرويش مجذوب: الله اكبر الله اكبر وأعز وأجل مم أخاف وأحذر؟..
انى أسأل الله معجزة تفسر لى العلاقة بين الأسماء الأربعة التى جاءت فى الحوار المبهم، وبين عجزى عن تذكر تلك المخلوقة الرقيقة ذات العينين الساهمتين التى أصبحت صورتها الغائمة المعالم تداهمنى فى الصحو والمنام، وتبدو نظراتها كما لو كانت تستنجد بى من أذى سوف يلحق بها لو لم أمد لها يد المساعدة والانقاذ.
سهرت طويلا أفكر فى جدوى انسياقى اللامعقول وراء حلم لامعنى له وجدل مع مجهول أو مجهولة حول من مات ومن هاجر ومن تحول الى الجنس الآخر.
فى صحوة مباغتة غسلت عقلى من تلك الخزعبلات بإرادة قوية وقمت من فورى الى دولاب الملابس فانتقيت حلة رمادية وكرافات فضية وتعطرت جيدا. بذلت جهدا فائقا للعثور على رقم تليفون صفاء. زمالتها القديمة كانت تشوبها رغبة من جانبى تقابلها بلامبالاة صريحة من جانبها تصل بالتلميح الى درجة الرفض القاطع. سألتنى ما الذى ذكرنى بها فلم أستطع الاجابة لأننى لا أعرف كيف انبعثت فجأة من ركام ذكريات توهج الروح واشتعال الحيوية. ربما كانت هى صاحبة الحوار الغريب الذى لاشك قد مضى عليه أكثر من عشرين عاما. كانت تنظر الى بدهشة شديدة حين قالت لى:
- هكذا أنت دائما، تجرى وراء من تبيعك وتغفل عمن تسعى اليك
- ومن انت بينهما؟
- أنا التى أغفلتك
- فمن الأخرى بربك؟
- ماجده الكومى
يا الهى!!! انها هى بالفعل.لقد تذكرتها الآن. أى مصادفة قدرية تلك التى جعلتنى أضغط على أزرة الهاتف لأطلب صفاء رغم طول فترة البعاد واختلاف أسباب الفراق، لكى تحل لى معضلتى العبثية التى كنت فى غنى عنها لولا اصرارى وعنادى لأجل أمر كان من الممكن تجاهله تماما.
- رغم دهشتى لاتصالك الا أنه أسعدنى
- كيف؟!
- بحثت عن رقم هاتفك فى كل مكان حتى وجدته ، لكنى ترددت فى الاتصال خشية رد فعل سلبى متوقع من جانبك
- ولم كنت تريدين الاتصال بى؟
- طمعا فى خدمة من موقع عملك لتوظيف ابنى العاطل رغم تفوقه وندرة تخصصه
- لك ماتريدين ، ولكن اخبرينى بالله عليك أين أراضى ماجدة؟
- كنت تبتعد عنها بإصرار كلما اقتربت منك حتى بدا لى أنها تتسول حبك وقد باعت الدنيا كلها من أجلك ، فلماذا تسأل اليوم عن أخبارها؟
- الحق أننى لست أعرف السبب تماما..قولى انه ربما كان الفضول
انتفضت واقفة فى غضب وقد نسيت مطلبها..
- تهملها أعواما ثم يدفعك الفضول وحده لمعرفة أحوالها؟!
لم أكن أتصور أن هذا القدر من العبث بكمه وكيفه يمكن ان يسير حياتنا، فماجدة –بعد عمر- تأتى الى فى المنام بصورة غامضة تستدعى صفاء التى كدت انساها لأسألها فى الحاح غير مبرر عن زميلة غابت عن ذاكرتى ملامحها رغم انها كانت تعشقنى.
- لم تقولى لى شيئا عنها
- ماجدة شيعت جنازتها بالأمس
أعلى