مقــدمـة
بعد أن اجتازت الثورة البلشفية محنة الحرب العالمية الثانية، واتّسع نطاق المعسكر الاشتراكى، وصار قوة كبرى، وبعد أن انقضت المرحلة الستالينة التى كانت قبضة الحزب فيها محكمة على كل شئ، بما فى ذلك الأدب والفن. وكان قد تمّ فى المرحلة السابقة إرساء أسس فلسفة فى الفن والجمال على نحو جديد تنطلق من إسهامات الاشتراكية العلمية. فى تلك الفترة، أصبح - بعد اجتياز الأزمات الكبرى - من الممكن التفكير والبحث فى التفاصيل، فظهرت آراء تؤكد على الالتزام انطلاقًا من آراء "لينين" عن الأدب والفن، كما ظهرت الحاجة إلى تحديد النهج الذى سيكون عليه الفن والأدب فى المجتمع (الاشتراكى)، وموقف هذا من الاتجاهات الجديدة، وخاصة من أدب وفن (الحداثة). وإذا كانت الآراء تتفق حول توصيف الفن الجديد بأنه (فن واقعى). فما هى أطُر هذه الواقعية؟ وأين موقعها من الاتجاهات الواقعية الأخرى، وما هو الإسم الذى يجب أن يطلق عليها؟
كل هذه الأسئلة طرحت فى ذلك الحين، وقد كان ذلك ينطلق من تصوّرات للأدب والفن متباينة، وإن كانت غير متباعدة.
وسوف ندرس هذه المشكلات فى إطارين:
الأول ينصب على تحديد معنى الواقعية، وأطرها
والثانى يحدد موقفها من الاتجاهات الحداثية فى الفن
(1) معنى الواقعية و أطرها
(1) ما الواقعية؟
يرى "نيكولاى ليزروف Nikoli Leizrov": "أن معضلة الواقعية تعد معضلة معقدة، ويزيد من تعقيدها حقيقة أن ممثلى الاتجاهات غير الواقعية يميلون اليوم بطريقة أو بأخرى إلى إدراك أهمية، وفعالية الواقعية، وبدأوا يرفعون لواءها"(1)
فإذا كان هناك من يرى الواقعية فى الأعمال "الطبيعية" أو نسخ الواقع، وهذا ما تنفيه الواقعية. أو يرى أن الواقعية تتسع لتشمل اتجاهات شديدة التعارض والتباين. وهذا ما يضفى على مفهوم الواقعية غموضًا، والتبـاسًا، وبالتالى يكون كشف هذا الغموض المعضلة الأساسية التى بواسطتها يمكن أن تتضح طبيعة الواقعية، ويمكن بذلك دراستها، ومقارنتها مع الاتجاهات الأخرى.
وإذا كانت طرق الفن فى إحداث التأثير الجمالى متعدّدة، فإن الأعمال الفنية حين تعكس عناصر من الواقع ذات أهمية ولها قدرة على التوصيل، كما يتوقف تأثيرها الجمالى على محتوى الواقع. ولما كانت الصورة الفنية Autistic Form هى العنصر الجوهرى فى العمل الفنى، فإن الواقعية هى أول من يقدم دراسة فنية للحياة الاجتماعية وللشخصية الإنسانية فى علاقاتهما المعقدّة. كما أن الواقعية ليست ظاهرة خاصة بالفن، بل هى ظاهرة تاريخية نشأت فى مرحلة محدّدة من تطوّر المعرفة الفنية - على حد تعبير سوشكوف Suchkov(2) .
أما الواقعية الإشتراكية - رغم كونها محددة جغرافيًا - إلا أنها تمثل المدرسة الواقعية الرئيسية فى القرن العشرين. وأنها تلعب دورًا هامًا فى الأدب العالمى. كما أنها تتجنب الشعارات والصيغ الشكلية، وتعارض الدوجماطيقية من حيث المبدأ فى كل من النظرية، والتطبيقات العملية. وهى ثرية دائمًا من حيث الشكل والأسلوب. كما أن الكاتب الواقعى بوسعه اقتحام جميع مجالات ومنعطفات الحياة اليومية، الحياة المدركة لا كتصور طبيعى، وإنما كواقع اجتماعى متعين Concrete Social Reality(3)
إذا كانت الواقعية هى اتجاه الفن القادر على عكس الواقع، واقتحام مجالاته، وأنها ثرية بما فيه الكفاية من الشكل والأسلوب، فهل كل عمل فنى يعتمد على الحياة اليومية ومشكلاتها يعد عمًلا فنيًا واقعيًا؟
يقول "ليزروف": "وهناك عامل هام جدًا نرى من الواجب التأكيد عليه، وهو أن ارتكاز الفن على الحياة بشكل مطلق مثله كمثل أى نشاط إنسانى Human Activity)، لا يجعلنا ننعت بالواقعية كل عمل يعكس الحياة بدرجة أو بأخـرى. واعترافنا بالصلة الوثيقة بين الفن والحياة، لا يعنى التأكيد على أن الفن كله يتجه - بقدر ما - إلى الواقعية. فمن الجلىّ تمامًا، على نقيـض ذلك، أنه توجد بالإضافة إلى الواقعية أنماط فنية أخرى مشروطة تاريخيًا.(4)
إذا كانت هناك مدارس عديدة قد استقت من الواقع ونهلت من الحياة اليومية، كما أن (تعبير) الفن عن الحياة ليس هو ما يبيح لنا القول بأنه (فن واقعى)، فما المعيار الذى يمكن بواسطته تحديد واقعية الفن؟
يرى "سوشكوف" أن أساس المنهج الواقعى يتمثل فى التحليل الاجتماعى، أى فى دراسة وتصوير الإنسان والمجتمع"(5)
أما "اليكسى، ن. تولستوى Alexi N. Tolstoi" فيرى أن الواقعية "هى فى تعميم الأحداث الفردية التى تحمل سمات مميزة. وأن الواقعية ترفض ما هو عرضى لتستوعب الجوانب الأساسية للحياة. وتأخذ من الحياة مظاهرها المتغيرة لتحيلها إلى ظواهر دائمة تنطوى على ماهية ذلك الذى يتغير، أى الحياة. أما الطبيعية - على سبيل المثال - فتقف عند تقديم صورة محايدة Indifferent لها. الواقعية تعنى موضوعًا اجتماعيًا، وأنماطًا اجتماعية معممة.. وهى تتصدى بشكل مباشر للحياة الجديدة"(6)
وبهذا يتضح أن الواقعية فى الفن تؤكد على أن الارتباط الوثيق بالمجتمع، وعكسه، والتعبير عن الإنسان فى إطار العملية الاجتماعية، والتـركيز على لبّ الحياة، وتجنب العرضى والثانوى. كما يشترط - "اليكسى تولستوى" - أن يكون (الموضوع) اجتماعيًا، وإن كان لم يحدد المنظـور الذى يعالج به الموضوع، وبهذا يمكن أن تكون هناك طرق معالجة متباينة، ونكون حتى الآن لم نقف على مفهوم محدد لما يراه واقعيًا.
ولقد نشأت الواقعية الإشتراكية Social Realism فى أتون الجدل الذى دار فى الاتحاد السوفيتى حول طبيعة الفن فى تلك المرحلة.
والجدير بالذكر أن هناك من اقترح تسمية الواقعية الجديدة بالواقعية البروليتارية (جلادكوف، وليبيرنسكى). أما "ماياكوفسكى" فقد اقترح تسميتها بالواقعية الملتزمة. وعارض "أليكسى تولستوى" النزعة الجمالية بالواقعية التاريخية. أما "ستافسكى" فرأى أن هذه الواقعية ذات مضمون اشتراكى. ثم استقر الأمر على تسميتها بالواقعية الاشتراكية(7)
ويرى "يورى بوريف Yuri Borev" أن هناك إجماعًا على التعريف التالى للواقعية الاشتراكية:
"الواقعية الاشتراكية منهج أدبى فنى يتطلب من الكاتب تصويرًا صادقًا وملموسًا من الناحية التاريخية للواقع فى تطوره الثورى"(8)
ولكنه يرى أن هذا التعريف صحيح بخطوطه العريضة، غير أنه يخلو من الجانب الجمالى الخاص، كما يخلو مما يتعلق بالفن بشكل محدّد. ويمكن من جهة ثانية استخدامه فى الفن والدعاية، والتاريخ على حدّ سواء، وفى مجموعة من الظواهر الاجتماعية الأخرى. ولكن يصعب من جانب آخر، تعميم هذا التعريف على تلك الأنواع من الفن كالفن المعمارى، والفن التشكيلى، والديكور والموسيقى، وعلى تلك الأنواع من الفنون كتصوير الطبيعة، والطبيعة الصامتة، والشعر الغنائى(9)
وإذا كانت المناقشات قد أسفرت عن آراء متباينة مثل القول بالواقعية البروليتارية، المفهوم الذى يتعارض مع كون ديكتاتورية البروليتاريا وسلطتها مؤقتتين، وهو المفهوم الذى نقده "تروتسكى" فى إطار نقده للقول الثقافة البروليتارية والفن البروليتارى. وتباين الآراء حول تسميتها بالواقعية التاريخيـة (اليكسى تولستوى). أو الملتزمة (ماياكوفسكى). فإن هذا يعكس إلى أى مدى كانت مشكلة التحديد، والتميّز فى مجال الفن وعلم الجمال عن الاتجاهات الأخرى ذات أهمية كبرى.
كما أن اعتبار "الصدق" معيارًا لتحديد الواقعية الاشتراكية - فى القول بالتصوير الصادق الملموس من الناحية التاريخية - لا يؤدى إلا إلى تصّور فضفاض، لأن الصدق من الصعب تعيينه، ويحتاج إلى ما يحدّده. بالإضـافة إلى أن صدق التصوير من الناحية التاريخية، يمكن أن يكون - إذا تجـاوزنا عن مشكلة الصدق ذاتها - مطلبًا خاصًا من المؤرخ، أما بالنسبة للكاتب، فإنه يعد مطلبًا فى غير موضعه، إن لم يكن قيدًا على الإبداع.
وإذا كان "ليزروف" يرى "أن المنهج الواقعى يفترض وجود طريقة خاصة، محددة تاريخيًا، لرؤية الفنان للحياة. فالرغبة فى فهم العالم انطلاقًا من العـالم نفسـه تعنى فهم الواقع وكشف موقف الفنان منه"(10). ولكن هذا الرأى لا يحدد جماليات الفن الواقعى، هو ينصبّ فحسب على المضمون؛ إذْ يؤكد على رؤية الفنان للحياة، ولكنه لا يتطرق إلى وسائل التعبير، أو الأسلوب.
وقد كانت ظاهرة تغليب المضمون على الشكل بالنسبة للاتجاه الواقعى الاشتراكى، هى السمة البارزة، فنجد "ناظم حكمت Nazem Hekmat" الشاعر والكـاتب التركى - شأنه شأن "اليكسى تولستوى" يجعل المضمون هو الأسـاس والشكل ثانويًا، وقد عارض فكرة وجود أشكال فنية محددة يجب اعتبـارها، دون سواها، لصيقة بالواقعية الاشتراكية. أما "بريخت فقد رأى أن الواقعية الاشتراكية تعنى إعادة إنتاج الحياة Reprodution of Life والعلاقات الإنسانية وفقًا للواقع بواسطة وسائل فنية من وجهة نظر اشتراكية.(11)
أى أن منهج الواقعية الاشتراكية لا يفترض وسائل فنية محدّدة تحديدًا صـارمًا، ولا يجعل الشكل جوهريًا فى العمل الفنى، بل إن جميع الأشكال من الممكن استخدامها كوسائل لتوصيل المضمون المحدد، وذلك انطلاقًا من أولوية المضمون، وثانوية الشكل. وإن كان النهج المستخدم فى إطار الشكل يمكن تصوّره على أنه نهج تقليدى. لا يستخدم تقنيات الحداثة الفنية، وذلك اعتمادًا على أن المضمون، هو بالضرورة يرتبط بالواقع ارتباطًا وثيقًا.
واتساقًا مع هذا الرأى الذى يغلّب المضمون على الشكل، فإننا نجد "بوريس سوشكوف" يرى أن "المنهج الواقعى معين لا ينضب، شأنه شأن الحياة التى يدرسها ويعكسها. والواقعية تبدأ فى الفن عندما - خلف حركة الشخصيات وتطورها - يتعلم الفنان كيف يدرس الواقع والعلاقات الكائنة بين الإنسان والمجتمع، والحياة الاجتماعية الإنسانية بكل ما فيها من تناقضات حقيقية".(12)
ولكن إذا كان الفنانون يشتركون فى نظرتهم إلى الواقع، فإنهم بالضرورة لا يتطابقون فى طرق التعبير عنه، وهذا يجعل الواقعية، تتسّع بأساليبها، وتختلف وفقًا لطرق التعبير التى يسلكها هذا الفنان أو ذاك.
ويرى "يورى بوريف" "أن المنهج الفنى هو نمط محدّد تاريخيًا، للتفكير التصويرى - التعبيرى، يحدد تكوينه ثلاثة عوامل رئيسية: الواقع بثـروته الجمالية، وتنوعه وتعقيداته، والآراء والعقائد بأفقها وتحديدها الطبقى، وتلك المادّة الفنية - الفكرية التى تم تجميعها واكتسابها خلال العصور السابقة"(13)
ويمكن انطلاقًا من هذا الرأى أن تنبثق مدارس وآراء عديدة تتنوع بتنوع كيفية النهل من الواقع، وطبيعة الرؤى والعقائد وتعبيرها عن الأوضاع الطبقية، وطريقة التعامل مع الميراث الفنى - بكل ما فيه من ثراء، وتعقيد - والذى تم اكتسابه عبر العصور. وفى وسط هذا الخضم، هل يمكن تحديد ماهية النهج الفنى للواقعية الاشتراكية؟ إذا كان ثمة تحديد لذلك؟
"إن المنهج الفنى للواقعية الاشتراكية هو نمط معين من التفكير التصويرى - التعبيرى، نشأ وتطوّر على أساس المنهج الماركسى الذى يسلّح الفنان بفهم لمعنى الأحداث ويطابق خصائص الواقع المعاصر، وتجربة النضال الثورى للبروليتاريا وبناء الاشتراكية"(14)- هكذا كانت إجابة "بوريف".
وهنا نصل إلى أن الرؤية الصادقة والملموسة تاريخيًا - والتى تردّد صداها لدى العديد من العلماء السوفييت - إنما تجد تحديدها هنا فى المذهب الماركسى وتحليله للواقع، وبذلك تكون الواقعية الاشتراكية هى التعبير الفنى عن رؤية للواقع تتفق والمنظور الماركسى.
أى أن "الواقعية الاشتراكية هى طريقة فى التفكير الفنى مطابقة لثروة الواقع المعاصر الجمالية الموضوعية، ولممارسة نضال البروليتاريا الثورى وبناء الاشتراكية. إنها أسلوب التصوير الصادق للواقع. والتعبير عنه من مواقع المثل العليا الجمالية الاشتراكية، والالتزام الفكرى الاشتراكى - وهذا يجعل فن الواقعية الاشتراكية مرحلة جديدة عليا من التطور الأدبى والفنى"(15)
وفى الواقعية الاشتراكية يتم تصوير نشوء، وصراع وانتصار المبادئ الأخلاقية الجديدة، مبادئ الاشتراكية، وبذا يكون الصراع الأخلاقى هو الموضوع المسيطر، كما أنها تغرس فى الشعب إحساسًا بالواجب الاجتماعى، بروح الأممية الحقيقية"(16)
وإذا كان فن الواقعية الاشتراكية يعنى بالتعبير الفنى عن رؤية الماركسية للواقع، فإن هذا الفن يصبح بالضرورة "فنًا ملتزمًا". وقد كانت صياغة الالتزام بالمثل العليا بواسطة "لينين" بمثابة التصدى "للنزعة الذاتية Subjectivism من ناحية وللموضوعية Objectivism بفهومها المحدود الأفق من ناحية أخرى"(17)
كما أكد "لينين" على أن الالتزام كمقولة علمية لا صلة له إطلاقًا بالذاتية، فهو يتطلب الموضوعية التامة فى تحليل الواقع"(18) كما أنه يختلف كل الاختلاف عن القدرية.
فالالتزام لا يجنح إلى موضوعية ذات أفق محدود بعيدة عن الواقع بثرائه وحيويته، وفى نفس الوقت لا يسرف فى الذاتية. إنه يعتمد على التحليل العلمى للطبقات الاجتماعية والصراع فى المجتمع، والوقوف إلى جانب الطبقة الثورية فى الظروف التاريخية المحددة، وهى هنا طبقة البروليتاريا.
والجدير بالذكر أن الافتقار إلى "الالتزام Commitment، ليس إلا التزامًا من نوع آخر، هو الالتزام بمبادئ وأفكار البورجوازية، ومعاداة الاشتراكية، كما يرى "ميتشنكو".
ولكن هل الالتزام بهذا المعنى الصارم يثرى الفن، أم أنه يؤدى إلى تضييق نطاق التعبير، وتقليص مدى حيويته؟
لقد كان العديد من المفكرين السوفييت - يضيّقون الخناق على الكتاب والفنانين فى الفترة الستالينية، وما بعدها بإسم الالتزام، فقد رأى الكسندر ميتشنكو Alexander Metchenko" أن الالتزام هو الالتزام الحزبى، كما أن "الكسندر بلوك" و"ماياكوفسكى" عندما كانا يدافعان عن حرية الإبداع كانا يدافعان عنه ضد البورجوازية، ولكنهما عندما إنحازا للثورة البلشفية، كان "الكسندر بلوك" متعاطفًا مع قضية البلاشفة، و"ماياكوفسكى" من أشد المدافعين عن مبـدأ الالتزام اللينيى"(19) كما أن قول "لينين" بأن "الأدب المرتبط صراحة بالبروليتاريا هو الأدب الحرّ"(20) إنما يؤكد على تضييق نطاق الالتزام والواقعية فى نفس الوقت.
كما أن تأكيد "لينين" فى مسودة قرار عن الثقافة البروليتارية بقوله "لا أفكار خاصة، بل الماركسية، لا اختلاق ثقافة بروليتارية جديدة بل تطوير خيرة نماذج وتقاليد الثقافة الموجودة من وجهة نظر الماركسية عن العالم، وظروف حياة ونضال البروليتاريا فى عهد ديكتاتوريتها"(21) إنما يؤكد على أن الماركسية هى حجر الزاوية فى الثقافة والفن فى عصر ديكتاتورية البـروليتاريا. ولعل هذا يرجع إلى أن - كما سبق أن أشرنا فى الفصل السابق - "لينين" كانت رؤيته للفن محافظة، هذا بالإضافة إلى أنه كان سياسيًا، ولم يتح له إلا القليل الذى يتأمل ويدرس فيه الفن، كما كان الأمر بالنسبة لـ "بليخانوف" أو "تروتسكى".
وإذا كان مبدأ الالتزام نحو الحزب والشعب "كأساس للمنهج الجديد قد دفع إلى الصدارة مشكلة البطل الإيجابى التى كانت تقلق العديد من الكتاب السوفييت"(22). فإن عبادة شخصية ستالين The Stalin Personality Cult وآراء "زادنوف" المتزمتة والتى كانت تضيق الخناق على الفنانين والكتاب، كانت لها آثارها السلبية البالغة على الفن فى تلك الفترة.
الواقعية الإشتراكية والواقعية النقدية:
"فى بحثهم عن الصلة التى تربط بين شخصياتهم والحياة، وربطهم الفن بالمسار الطبيعى للأحداث، صار الكتاب الواقعيون النقديون أكثر التصاقًا بفهم العمليات التى كانت تحدد مسيرة التاريخ"(23)
ولقد تجسدت الواقعية النقدية عند "بلزاك" و"تشيكوف" و"توماس مان" و"ديستوفسكى" الذى صور الواقع بمعانيه المتباينة وتعقيداته، وغاص فى أعماق الشخصيات، مبرزًا ثراء الشخصيات عن طريق الصلة بين أعماقها والواقع المعيش.
إن الكشف عن العلاقة التى تربط الواقعية النقدية بالواقعية الاشتراكية إنما يساعد على تحديد مسار الواقعية الاشتراكية، كما يلقى الضوء على الجوانب الغامضة فيها، نتيجة لتباين تفسير المقولات الأساسية للواقعية الاشتراكية.
يقول "يورى يوريف": "لقد كشفت الواقعية النقدية عن استقلالية نسبية للحياة الروحية النفسية بالنسبة للواقع، وقد أثرى اكتشاف الواقعية هذا معلوماتنا ومعطياتنا عن الإنسان، وسمح لنا بإدراك ديالكتيكية روحه ونفسه"(24)
وإذا كانت الواقعية النقدية هى بمثابة الأم بالنسبة للواقعية الاشتراكية، وهى، أى الواقعية النقدية، التى قدمت أعظم أعمالها خلال لقرن التاسع عشر، والقرن العشرين، وما تزال قائمة حتى الآن، وإذا كانت تأخذ تقاليدها من الانتقاد للمجتمع البورجوازى، فإنهما - أى الواقعية النقدية والواقعية الاشتراكية "ترتبطان بروابط دم أيديولوجية وفنية They are Linked By Ideological And Artistic blood Ties"(25). وليستا متناقضتين أو متعاديتين.
ومن الجدير بالذكر أن عددًا كبيرًا من كتاب الواقعية النقدية قد اغتنى مسارهم الفنى باتصالهم بالنضال الاشتراكى. ومن أعظم إنجازات الواقعية النقدية هذا التصوير العميق المتعدد الجوانب للحياة المعاصرة"(26)
ولكن رغم هذا الإطراء للواقعية النقدية، فإن هذا لم يمنع بعض النقاد والمفكرين السوفييت من وضع الخطوط الفاصلة بينها وبين الواقعية الاشتراكية.
"فالواقعية الاشتراكية فى الوقت التى تحافظ فيه على السمات المشتركة بينها وبين الواقعية النقدية - التحليل الاجتماعى، وتنميط الشخصيات والمواقف - فإن الواقعية الاشتراكية تختلف عنها فى فهم وتصوير الحياة انطلاقًا من تاريخية الوعى لفهم تفكير الكاتب ومنهجه. فالواقعية الاشتراكية ترتبط فى نظرتها للعالم بالاشتراكية العلمية، وباللينينية التى تمدّ الفن بالمبادئ الأساسية"(27)
وإذا كان الواقعيون النقديون - على حد تعبير "سوشكوف" - قد أدركوا الصراعات الأساسية فى عصرنا، إلا أن دراستهم، وتصويرهم لعملية التغير فى التشكيلة الاجتماعية كانت مع ذلك أقل نفاذًا مما قامت به الواقعية الاشتراكية"(28)
وإذا كانت الواقعية النقدية قد وصلت إلى أن النظام البورجوازى عاجز عن حل تناقضاته، وأدرك ممثلوها الطبيعة الطبقية المتغيرة للمجتمع، وأن البورجوازية لا تقف فى سبيلها أى وسيلة، حتى ولو كانت إرهابية للحفاظ على سيطرتها. إلا أن النضال - كما يرى "سوشكوف"، لديها كان يتوقف عند الكلمة، وهم لم يتقدموا خطوة عن نزعتهم الإنسانية التأملية، وكانوا ينظرون إلى التاريخ كمزيج متوازن من العقل، والبربرية(29)
ولكن مع ذلك النقد - الذى يبدو حادّا - فإن "سوشكوف" كان يرى الواقعية النقدية حليفًا للواقعية الاشتراكية.(30)
وهكذا يتضح لنا أن الواقعية الاشتراكية، رغم اشتراكها فى بعض السمات مع الواقعية النقدية، أو غيرها من الاتجاهات، فإنها تعمد (أو بمعنى أدق يعمد منظروها) إلى تحديد موقعها بدقة أكثر، وهو عند العلماء السوفييـت، فى الفترة المتأخرة يتحدّد بارتباط الواقعية الاشتراكية بالماركسية اللينينية، اعتمادًا على مقولات لينين عن الأدب والفن وعلاقتهما بالشعب والحزب.
(2) الواقعية فى مواجهة الحداثة
يرى "آلان تورين" أن "التصور الكلاسيكى للحداثة الفلسفى والاقتصادى فى آن، يعرّف الحداثة على أنها أنتصار للعقل. وعلى أنها تحرر وثورة، ويعـرّف التحديث على أنه حداثة مستمرة الفعل، على أنه مسيرة داخلية النمو تمامًا"(31)
والحداثة لا نهاية لها، بيد أنها ترتدى أشكاًلا متتالية طبقًا لإجاباتها على التحدّيات التى يواجهها المجتمع فى لحظة تاريخية معينة، وهى أيضًا القطيعـة الفلسفية، ولذا فهى - أى الحداثة لا تغلق فى نمط نهائى، بل هى فى تطور مستمر.(32)
والحداثة ترتكز على العقل كأساس للتحرر والتقدم، وفيها يدير الإنسان ظهره للماضى، وللعصر الوسيط، وهى تنبذ كل وحْى، وإن كانت مقاومة الحداثة قد تمت تحت شعار احترام التاريخ والأعراف، والثقافة الخاصة بإسم مجموعة معينة، إلا أن هذا، لم ينجح فى تعويق استخدام التقنيات الجديدة، على حد قول "تورين"(33)، وإيقاف مدّ الحداثة.
وإذا كانت الحداثة تعنى الهدم النشيط للمقدس، لمحظوراته وطقوسه، والتأكيـد على أن الإنسان هو صانع تاريخه، فإن النقد المضاد للحداثة قد جاء منذ "نيتشه" وهو فكر لا يعد "حنينًا إلى الماضى لكن يرفض المطابقة بين الفاعل وأفعاله، فكر "نيتشه" يخرج من الحداثية بإدخاله الكائن اللاتاريخى، لكن هذا الكائن لا يمكن أن يكون عالم الأفكار الأفلاطونية، أو الكلمة الإلهية. والإنسـان لا يتجاوز تاريخه، لا لأن نفسه على صورة الله كما أراد "ديكارت، وإنما لأنه مسكون بديونيسيوس، القوة اللاشخصية للشهوة، الجنس، الطبيعية فى الإنسان. وعلى نقيض فكر الأنوار الذى يضع الكلىّ فى العقل، ويدعو إلى مراقبة إرادة الأهواء، الإرادة الموضوعية فى خدمة الوعى، يطفو الكلىّ مع "نيتشه" ومع "فرويد" من بعده، فى اللاشعور ولغته، فى الرغبة التى تطيح بحواجزه الداخلية"(34). وهنا يفتتح عصر ما بعد الحداثة.
وإذا كان تعبير "ما بعد الحداثة" تعبيرًا ملتبسًا. وهو وإن كان ينطوى على التجـاوز أو الانتقال أو العبور أو التقدم. إلا أنه أيضًا قد يعنى إلى جانب تجاوز الجديد للقديم، دمغ القديم بصفة الجمود والتخلف عن العصر. و"كلمة ما بعد الحداثة لا تبدو خرقًا Awkword، بل هى توحى بما ترغب فى تجاوزه أو قمعه أى الحداثة نفسها، وبذلك فإن المصطلح يحتوى على عدوّه الداخلى، وهو ليس حال مصطلحات مثل الرومانسية أو الكلاسيكية أو الباروك، أو الركوكو Rococo. فوق ذلك يوحى المصطلح بالخطية الزمنية، ويستثير معنى التأخر عن الزمن، وربما التآكل الذى لا يقرّه أى ما بعد حداثى، كما أنه يعانى من عدم الاستقرار الدلالى، وعدم وجود فاصل حديدى، أو سور صينى يفصلان بين الحداثة وما بعد الحداثة."(35).
ولعل هذا هو السبب الذى يجعل العديد يخلط بين الحداثة وما بعد الحداثة، رغم أن اتجاه الحداثة يستقر على الاحتكام للعقل، فى الوقت الذى ينطلق فيه، ما بعد الحداثة، من "رفض تقليص الحياة الاجتماعية وتاريخ المجتمعات الحديثة إلى انتصار العقل"(36)
لقد كتب برادبرى، وجيمس ماكفارلن:
"من البديهيات التى يطرحها التاريح الحضارى هى أننا نستطيع تمييز نوع من التذبذب والتأرجح فى الأسلوب فى الفترات التاريخية، إنه نوع من المد والجزر بين النظرة العقلانية إلى العالم (كما هى الحال فى الكلاسيكية الجـديدة وحركة التنوير والواقعية) والنظرة اللاّعقلانية أو الذاتية المتشنجة إلى العالم (كما هى الحال فى حركة الباروك وحركة العاصفة والاندفاع Sturm and Drang والرومانسية) فأحيانًا تكون السيادة للعاطفة، وأحيانًا يسود العقل، وأحيانًا يسود العقل والعاطفة معًا، وأحيانًا أخرى تسود المشاعر العفوية البدائية. إنه تأرجح بين (أبو للو) و(ديونيسس) وقد تكون الحداثة خليطًا من هذه السيادات."(37)
"والحداثة أيضًا تعنى إما التحليل والتأمل، وإما الهروب والخيال وإطلاق العنان للأحلام"(38). وما يميز الحداثة ويعقّدها هو أنها تبدو كأنها تطالب بالتوفيق بين مسارين مميّزين متناقضين: فمن جهة تعترف الحداثة بشرعية التركيبه Synthesis الهيجلية العقلية التى تنتج وحدة متسامية تحافظ على جوهر العنصرين المتنازعين، بينما تحطمهما فى الوقت نفسه ككيانين منفصلين"(39)
أن هذا الرأى الذى يخلط بين "الأبوللونية والدبونيسسية" بين العقل واللاعقل هو الذى سوف يسود خطاب الحداثة فى كتابات "برادبرى، ومكفارلن"، وهو أيضًا الذى سوف يسود عند علماء الجمال الروس، والذى سوف يسبب قلقًا كبيرًا فى التعامل مع "ما يطلقون عليه حداثة".
وعلى هذا فإن أعماًلا كثيرة نجد من النقاد من يضعها فى إطار الحداثة، بينما يضعها الآخرون فى إطار ما بعد الحداثة أو الإرهاص بها ولعل السبب يعود إلى أن الفريق الأول، يوسع إطار الحداثة، ويجعلها تشمل الأعمال التى تقوم على العقل، واللاعقل، كما أن مصطلح ما بعد الحداثة - كما سبق أن أشرنا - ما زال مصطلحًا ملتبسًا، ويعانى من عدم الاستقرار الدلالى.
ولكن الجدير بالذكر أن العلماء السوفييت سوف ينعتون بالحداثة كل أدب يرونه مباينًا للواقعية - أحيانًا بمعناها العام - وأحيانًا الواقعية الاشتراكية والنقدية على وجه الخصوص.
يقول يورى بوريف:
إن النزعة التحديثية هى ظاهرة أدبية - فنية فكرية معقدّة، تدور حولها مناقشات، ومطارحات كثيرة، ومن أهم جوانب تعقيداتها، أن النزعة التحديثيـة مع اعتمادها على مقولات فكرية - جمالية رجعية، فكثيرًا ما تنجب أعماًلا فنية هامة، تفجّر من الداخل تلك القوانين الجمالية التى تعتبر نقطـة انطلاق للنزعة التحديثية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الكثيرين من مشاهير الأدباء والفنانين فى القرن العشرين قد اتجهوا نحو الواقعية مرورًا بالنزعة التحديثية، وخضعوا للتأثير التحديثى مثل "بريخت" و"ايلوار" و"ماياكوفسكى"، وغيرهم. وهذا لا يسمح لنا بنبذ النزعة التحديثية، كما تنبذ الترهّات"(40)
كما أن الحداثة لم تظهر إلا نتيجة لأزمة الواقعية الناشئة عن عجزها الاجتماعى، "ان عدم ترجمة المثل العليا الجمالية بواسطة الفن الواقعى إلى واقع، أدى إلى ظهور الفكر الفنى الحداثى الذى يرفض الفكر التقليدى". والحداثة هى محاولة فريدة للخروج من فن اللامبالاة إلى فن الفعل المباشر(41)
وقد فهمت الحداثة بمعان ومفاهيم متباينة، فقد تفهم على أنها نوع محـرّم لا يليق الاعتراف به، أو على أنها كلمة بذيئة، وفى أحيان أخرى على أنها اتجاه غربى صرف وكأن الأعمال التى تنطوى على الحداثة، مجرد تقليـد أعمى لها، وقد يقتصر الأمر على وصف مجموعة من الاتجاهات الفنية المنتمية إلى الحداثة دون غيرها، وأخيرًا قد تفهم على أنها قطيعة للتواصل التاريخى فى التراث الثقافى.(42)
أن "يورى بوريف" يحاول أن يجد مكانًا للأدب والفن الحداثيين فى رؤيته الجمالية، فالحداثة جاءت تعبيرًا عن رؤية جمالية محددة لم يستطيع الاتجاه الواقعى إنجازها، كما أنها محاولة لجعل الفعل صفة جوهرية للفن، وهى أى الحداثة، تقدم أعماًلا فنية هامة، رغم كون منطلقاتها - من وجهة النظر الماركسية اللينية - رجعية، وهى أيضًا المصنع الذى يقوم بتفريخ الفنانين والأدبـاء الواقعيين العظام. إن الموقف منها - فى رأى يورى بوريف - يجب ألا يكون موقف النبذ، أو التجاهل، وإنما يجب أن تدرس، فى إطار الظروف الاجتماعية والسياسية التى أنتجتها.
ولكن رغم أن "بوريف" يقدم رأيًا يتعامل بإيجابية مع الاتجاه الحداثى، ويحاول أن يفهم النزعة الحداثية فى الأدب الروسى (أندريه بيللى، ولونيد أندربيف) على أنها نزعة تعبر عن مثل جمالية عليا، وليست مجرد ثمرة محـرمة. كما يؤكد على أن التناقضات الحادة للعالم البورجوازى، والهوة التى أوجدتها الحربان العالميتان، وعدم تجسّد المثل العليا الجمالية التى طرحها الاتجاه الواقعى فى الفن، هى التى أدت إلى ظهور هذه الاتجاهات الحداثية، إلا أن "بوريف" لا يلبث أن يتراجع. فمع أنه يرى أن الحداثة هى محاولة للخروج من فن اللامبالاة إلى فن التأثير المباشر. إلا أنه يستدرك قائًلا: "إلا أن هذه المحاولة تحوّلت إلى تخريب للفن، وإنحلال للصبغة الفنية فى التفكير"(43)،ـ بل "لقد فككت النزعة التحديثية الصورة الفنية التقليدية، وجعلت من بعض عناصرها المنفصلة عنها عوامل مغلقة"(44) - كما "أبدى الفـن الحداثى عجزه عن إدراك وتفسير الأسباب العميقة للعمليات الاجتمـاعية، وأخذ يرسم إرادة شريرة جهنمية شيطانية تسيّر الإنسان وتوجهه بصورة عمياء"(45)ثم يخلص فى النهاية إلى أن الواقعية الاشتراكية هى الفن القادر على التعبير عن العصر.
وهكذا يلتقى "يورى يوريف" - رغم محاولته الآنفة الذكر - مع الرأى الذى يعادى الحداثة، ويصب جام غضبه عليها، وذلك عبر رؤيته للمحتوى الذى تعبر عنه - رغم كونها قدمت من الناحية الفنية، مالم يستطع الفن الواقعى تقديمه.
ونحن نرى أن الحداثة إذ فككّت الصورة الفنية التقليدية، فإن هذا أمر كان لابد منه، وقد حدث بالفعل - عبر الاتجاهات الحداثية المختلفة - أن ظهرت اهتمامات فنية وشكلية، لم تكن تشغل بال الاتجاه الواقعى، أما كون الفن الحداثى عجز عن تفسير الأسباب العميقة للعمليات الاجتماعية، وأخذ يرسم إرادة جهنمية شيطانية تسيّر الإنسان وتوجهه بصورة عمياء. فأوًلا: ليس المطلوب من الفن القيام بالتفسير للعمليات الاجتماعية، ويجب أن ندرك أن منـاهج الفن تختلف عن مناهج علم الاجتماع، وثانيًا: فإن الإرادة الجهنمية تلك، يمكن أن يوجد تفسيرها فى ربط الواقع المعاصر بالفن الحداثى، وليس كون هذا الواقع يطبق على الإنسان،ويعمل على تشيؤه، واغترابه، بالأمر الغامض، وإدراكه من السهولة بمكان، أما إذا كان المطلوب من الفن هو التغاضى عن ذلك، فإن هذا لا يضر الفن الحداثى فحسب، بل يضر بالأدب الواقعى أيضًا.
والجدير بالذكر أنه رغم أن "بوريف" فى مآزرته للفن الحداثى وقف فى منتصف الطريق، إلا أن هذا لم يلق إلا النقد المرير من أنصار الاتجاه الواقعى الصرف فى الاتحاد السوفيتى. فنجد أن "سيرجى موجينيا جون" يبتسر ما قاله "بوريف" ويرى أنه يقول "بأن الواقعية غير فعالة Iniffective ولا جدوى منها، ويجب أن تستبدل بالحداثة … وإننا قد ننحى جانبًا سذاجة Credulity "بوريف" ولكن لا يمكن الصمت على محاولته تقديم التصوّرات البورجوازية وكأنها آخر ما توصلت إليه آراء الماركسية فى علـم الجمال. ومن الصعب أن نفهم لماذا يحاول "بوريف"إنقاذ الواقعية فى نفس الوقت الذى يؤكد إنحدارها. إنه يفعل ذلك بطريقة غريبة جدًا، إذ يعلن أن الواقعية قادرة على البقاء بحيوية لأنها تستوعب إنجازات الحداثة."(46)
بل ويرى أن الاضطراب فى كتابه "مقدمة فى علم الجمال" جاء نتيجة لإغفاله للمعايير الاجتماعية والطبقية فى تقويمه للحداثة. ويقدم فقرة من آرائه يقول فيها ".. يظن أن كل شئ يمكن تفسيره فى ضوء العناصر الاجتماعية والطبقية فى هذه النزعة الأدبية Literary Trend (وكأن الحداثة لا تنطوى - بسبـب طبيعتها المعقدة والمتناقضة - على أكثر النزعات الاجتماعية السيـاسية تباينًا، بدءًا من العداء للفاشية، إلى الوقوف بجانبها، ومن الكاثوليكية إلى الإلحاد، ومن الفكر الإنسانى المجرد والفكر الديمقراطى المجرد إلى الأفكار البورجوازية المحددة، والأفكار الرجعية الصريحة) ويبدو أن الحداثة لا ترتبط بالاقتصاد الرأسمالى، ولا بالأيديولوجية البورجوازية، وأن "بوريف" نفسه، يراها كمدرسة تقع بعيدًا عن الطبقة والأيديولوجيا"(47)
ويرى "سيرجى موجينياجون" أن الحداثة ترتبط بالفكر الصوفى. فالسيرياليون لا يخفون صلاتهم بالصوفية. وينتقد النقاد السوفييت الذين يؤمنون بهذه "الميثولوجيا الجديدة" ويرون فى الحداثة الانعكاس الوحيد للعصر وإدراكه جماليًا. وأن العالم الخاص للفنان يتجه فى عصر الإمبريالية إلى أن يصبح واقعه الوحيد المطلق. وتساءل: كيف يعجزون عن إدراك ظاهرة الواقعية الاشتراكية التى توجد فى المجتمعات البورجوازية مع أنها ليست نتاجًا للوعى البرجوازى"(48) ويرى أن "الحداثة تدمّر معايير اللغة الفنية، وتنزع عن الفن طابعه الإنسانى، بل إن هذه الترهات والتشويهات، هى التى يرى فيها البعض التعبير عن حرية الفنان واستقلاله الإبداعى His Creative Independence"(49)
وفى إطار انتقاده "لإرنست فيشر Ernest Fisher" الذى يحاول توسيع إطار الواقعية واستيعاب الاتجاه الحداثى، فيقول "إن الفن فى نظر فيشر، خيال، ووظيفته الرئيسية وظيفة سحرية Magical، والإنسان يسحر العالم من حوله، ويعيد تشكيل الطبيعة لا شعوريًا (فنيًا). ووظيفة الفن هذه تعبير عن الجمال الذى يتجاوز الظروف التاريخية والاجتماعية. أما الظروف الاجتماعية، فمن جهة أخرى، فشئ غير أساسى، فهى ترتبط بالقاعدة الاقتصادية. والمصالح النفعية الضيقة. وهذا هو أساس التعارض بين الجمالى والاجتماعى"(50)
كما يرى أن "فيشر" ينسب كل ما هو عارض إلى البناء الفوقى، ويستبعد منه كل ما هو باق، وخالد. وإذ يرى "فيشر" أن الفنان يعبر عن رفضه الانطواء تحت لواء الرأسمالية تارة بالتمرد الرومانتيكى، وتاة أخرى بالموقف النقدى. ويحاول أن يدخل "كافكًا" ضمن الواقعية - بإطارها الواسع - واصفًا تمرده بالتمرد الثورى فى عصر الإمبريالية. فإن "سيرجى موجينياجون" يرى أن تصوّر "فيشر" ناتج عن تفسيره الفن عن طريق التناقضات An Interpretation of Art By Contrasts، فهو يعارض النظرة الطبقية بالنظرة الإنسانية الكونية للعالم، والتعارض بين الفن والمجتمع، بين حرية الفنان وتوجيهات الحزب. وإذ يرى "فيشر" أن فردية الإنسان المتميزة هى القوة الدافعة لصراعه الأبدى وغير المتكافئ His Eternal And Unequal Struggle فى مواجهة المجتمع. فإنه - أى سيرجى موجينياجون" - يرى أن هذه كلها مجرد مزاعم، لا أساس لها وأن "فيشر" - على حد تعبير ديفيد كريج David Graig - الذى يستشهد برأيه - لا يترك لنفسه أى مجال للتمييز بين التمرد العشوائى، والتمرد الهادف، الواضح الثورى.(51)
ويرى أن هدف "الحداثة" هدف سلبى يتمثل فى الكشف عن إمكانية الوصـول إلى اللاشئ، أما الزعم بأن تحطيم الصورة الفنية Artistic Form هو بمثابة نوع جديد من الخبرة الجمالية، فإنه - فى رأيه - مجرد عبث.(52)
ويرى أن "كافكا" “Kafka” عندما ينتقد الرأسمالية، هذا الانتقاد الذى دفع "روجيه جارودى"و"إرنست فيشر"وغيرهما إلى وضعـه فى إطار الواقعية بمعناها الرحب، فإنه يرى هذا الانتقاد غير مقنع لأنه يجد مصدره فى (غضـب النفس). كما أن "كافكا" يرى أنه ليست الرأسمالية فحسب هى مصدر العنف، بل وأيضًا الاشتراكية.(53)
وإذا كان "جارودى" قد رأى أن فضل "كافكا" يعود إلى أنه قدم لنا إمكانية العيش بصورة عميقة، مسألة الاغتراب، وأيقظ فينا المسؤلية الشخصية تجاه هذا الاغتراب. فإن "يورى بوريف"(54) يرى أن "جارودى" لا يأخذ فى اعتباره أن طريقة التفكير وأسلوبه - فى الواقعية - لا ينحصرا فقط فيما انعكس فى أعمال هذا الفنان أو ذاك، بل ويشمل أيضًا الكيفية التى انعكست فيها هذه الظاهرة أو تلك فى أعمال الفنان. ويرى أن المفهوم النظرى للواقعية مهما حاولنا إثراءه بتجربة الأدب الحديث، لابد له من ضفاف وأطر.
وهنا يلتقى "يورى بوريف" مع "سيرجى موجينياجون" رغم انتقادات الأخير له، ويقفان معًا فى دائرة الاتجاه الواقعى الضيق الأفق.
أما "الكسندر ديمتش" فقد رأى أن التعارض التام بين الواقعية والحداثة قد اتضح منذ وقت طويل. وقد ظهر فى روسيا منذ نهاية القرن الماضى، حين بدأت الأفكار الحداثية فى الظهور فى أعمال الإنحطاطيين Decadents والرمـزيين Symbolists(55) ولقد حوربت هذه الأفكار بواسطة الأدب الثـورى الذى ظهر قبيل ثورة أكتوبر، وبالأعمال المبكرة للواقعية الاشتراكية ولقد دار صراع أيديولوجى، وجمالى مرير بين الواقعية والحداثة. وهو صراع بين وجهتى نظر للعالم وموقفين ومنهجين اجتماعيين وجماليين متعارضين تجاه الحياة والفن.(56)
ويرى أن للحداثة شجرة عائلة تحمل أسماء "الرمزية" والمستقبلية" و"التعبيرية" و"التكعيبية" و"الدادية" و"السيريالية" .. وغيرها. والصراع بين الواقعية والحداثة يتخذ أشكاًلا معقدّة. فالواقعية تُمنى أحيانًا بخسائر فادحة، كما حدث - فى رأيه - عندما انتقل "ليونيد أندرييف Leonid Amdreyev من صفوف الواقعية إلى الحداثة.(57)
ولكن "ديمتش" يرى أن النظرة السوفيتية للحداثة فى الربع الأول من القرن العشرين كانت خاطئة فى معظمها، ولا تقوم على أساس النهج التاريخى، وتتجاهل جدليات الصراع بين الاتجاهات الحداثية(58)
ورأى أن إغفال الصراعات الداخلية فى صفوف الحداثة، والخلط بين اتجاهاتها، ووضعها فى سلة واحدة، إنما كان أحد الأشكال السائدة للصراع.
وقد يبدو أن "ديمتش" للوهلة الأولى، يحاول إعادة تقويم الحداثة، ووضعهـا فى مكان يختلف عما يضعها فيه الأيديولوجيون المتشدّدون، إلا أن هـذا التصوّر لا يلبث أن ينقشع حين نراه يصب جام غضبه على الحداثة، وخاصة المدرسة الرمزية إذ يقول: "لقد كان "بلوك" مثاًلا ممتازًا لرفض الفنان لمرحلة الانحلال، وقطيعته مع الانحطاط Break with The Decadence، وخروجه على الرمزية"(59). كما يقول أيضًا: "والحقّ إن الفن الحى كان قادرًا على تخطى حدود الانحطاط ، وبعث أعمال إنسانية، فى حين لم يكن فى وسع الفن (الجمالى الخالص) المتصنّع، الخالى من المشاعر، نتاج الموضة البورجوازية، ،أن يحرر نفسه من الحداثة.(60)
وهكذا يصبح الموقف من الحداثة هو موقف من الانحطاط والأدب والفن اللّذين يفتقران إلى المشاعر. إن هذا ليس إلا ترجمة للموقف المتشدّد تجـاه الحداثة والذى وصفته بسخرية "كاميلاجراى Camilla Gray"(61) بأنه مفهـوم سلافى قومى عن الفن انتصر على النزعة الأوروبية، والتى تعنى بها الشكلية والرمزية، أو اتجاه الحداثة عمومًا وقد حدث هنا - فى رأيها - لأن البلاشفة كانوا ماديين، فضّلوا زوج الأحذبة على "شكسبير".
ويشيد "ديمتش" شأنه فى ذلك شأن (بوريف) و"سيرجى موجينيا جون" بانتقال العديد من الفنانين والكتاب من الحداثة [المستقبلية أو الرمزية أو الشكليـة..] إلى الواقعية. فهؤلاء الفنانون لم يكن فى وسعهم لكى يكونوا شعراء أو فنانين بحق، إلا أن يهجروا الحداثة إلى الواقعية. كان هذا شأن "مايكـوفسكى" مؤسس شعر الواقعية الاشتراكية - فى رأيه - وإذا كان بعض الكتاب الروس قد تربوا على أيدى اتجاهات الحداثة المختلفة،فإن أفضل ما كتبوه جاء - فى رأيه - نتيجة لتحررهم منها(62)
وإذا كان بعض المنظرين الماركسيين - من إيطاليا وألمانيا وفرنسا - يؤكدون على أهمية التأثير المفيد "لبروست"، و"جويس" و"كافكا". و أنهم بدأوا حركة جديدة فى الأدب.
فإن "ديمتش" يرى أن خلق أدب جديد قادر على خدمة البشرية يجب أن يقوم على أساس من التقاليد الأدبية العظيمة، ويرى أن تراث الحداثيين غير قادر على توفير منصة انطلاق لسفن الفضاء الأدبية - على حد تعبيره - وإذا كان يرى ضرورة خضوع تراث هؤلاء الكتاب - رغم مواهبهم التى لا شك فيها، ومنجزاتهم، والتى يسمها ميسم الحداثة - فإن كتاباتهم لا يمكن - فى رأيه - أن تكون نموذجًا للرواية المتطلعة إلى المستقبل. فالطريق من خلال "تولستوى" وستاندال، "وتشيكوف"، أقصر من المسافة التى تفصل الأدب الواقعى عن "بروسـت"، و"كافكا" وجويس، وهو ليس أقصر فى الزمان، وإنمًا فى المضمون(63)
إن الواقعية والحداثة ليستا إلا عدوّين لدودين لا يمكن التوفيق بينهما - هذه هى خلاصة القول لدى ديمتش(64)
وفى الرد على "جارودى" وكتابة "واقعية بلا ضفاف". يؤكد على أن الفن الواقعى الإنسانى دائمًا، وعلى العكس من الشكلية والتجريدية غير الإنسانيين، واللذين يحتقران تحليل الشخصيات ويركزان انتباهمهما بدًلا من ذلك إلى تشويه صورة الإنسان. ويتفق مع الناقد البولندى "ستيفان زولكوفيسكى" فى نقده "لجارودى" ورفضه ضم "كافكا" إلى شجرة الواقعية وتمجيـده كما فعل "جارودى". ويرى أن على الفن أن يبحث عن أشكال جديـدة للتعبير عن المشكلات الجديدة والأزمنة الجديدة، فيعارض أولئك الذين يطلبون من الفنانين أن يقتفوا أثر أناس ليسوا أكثر من "فروع" سقطت من شجرة الواقعية وتحولت إلى طريق الحداثة(65)
وهكذا يقف "الكسندر ديمتش" موقفًا معارضًا من توسيع إطار الواقعيـة، وجعلها تستوعب بعض التيارات الحديثة، ويقف ضد الحداثة بعنف سواء فى الشعر أو الرواية أو سائر الفنون، ورافضا لجميع الاتجاهات، عدا الواقعية الاشتراكية.
أما نيكولاى ليزروف" والذى يرى فى الفن نزعتين رئيسيتين هما الواقعية، والمثالية والتى يطلق عليها أحيانًا (الفن اللاواقعى). وإذا كان يرى - كما سبـق أن ذكرنا - أنه يوجد العديد من الأساليب الواقعية، فإنه يرى أن الفن اللاواقعى يتسم بتشويهه للواقع سعيًا إلى خدمة فكرة زائفة. ويجعل الفن الحداثى ضمن الإطار الّلاواقعى. ويرى أن من المظاهر المعقدة فى الفن، ذلك الفن الوجودى الذى كثيرًا ما يستخدم عناصر حقيقية من الواقع ليقدم تصورات فلسفية تشوّه الواقع، ويضرب مثًلا برواية الغريب لـ "البيركامى" والتى يرى أن التصوير الرائع والمرسوم بمهارة للطبيعة والمشاعر الإنسانية يستخدم كوسيلة لا أكثر لفرض آراء الكاتب الفلسفية والسيكولوجية. ويخلص إلى أنها - أى الرواية - قريبة الشبه من سفر الرؤيا Apocalyptic، فالرؤيا تعبر عن فكرة دينية من خلال تشويه سافر للأجسام الحقيقية، على حين تستعين لا عقلانية "كامى" "بالتصوير الصادق للحياة" والنتيجة تشويه الواقع(66)
وإذا كان الإطار الواقعى لدى "ليزروف" لم يستوعب غريب كامى"، رغم كون الرواية - كما يرى هو نفسه - مكتوبة بمهارة وخبرة، فإن الإطار الواقعى أيضًا لديه - أعنى الواقعى الاشتراكى - يضيق أيضًا ولا يستطيع استيعـاب "توماس مان" الواقعى النقدى - رغم قول (سوشكوف) بأن الواقعية النقدية هى الحليف الأساسى للواقعية الاشتراكية، ورغم إطراء "جورج لوكاش" الماركسى المجرى له - فقد رأى أن "التصور العلمى الحقّ للتاريخ والمنهج الفنى للواقعية الاشتراكية المرتبط بها ارتباطًا وثيقًا، والذى ولدّته فترة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، هو الذى استطاع وحده أن يمدّ الفن الواقعى بفهم مستقبلى متكامل للعالم والإنسان"(67)
ولعل هذا يجعلنا نرى "ليزروف" الذى صب جام نقده على السوريالية والتعبيرية والتجريدية، وينتقد اتجاه "الّلارواية" عند "روب جرييه". كما ينتقد القول بأن السلوك العبثى غير المنطقى لشخصيات "بكيت" و"أونيسكو" يمثل صورة للواقع أكثر دقة، وتتمثل فيه الواقعية الحقيقية، ويرى أن ذلك يضفى غموضًا ولبسًا على مشكلة الواقعية، والتى يرى "ليزروف"(68) أنها تتمثل فى الواقعيـة الاشتراكية المرتكزة على المبادئ الماركسية اللينية - هذا يجعلنا - نراه مناهضًا أيضًا للاتجاهات الحداثية، ومع تضييق نطاق الواقعية إلى درجة كبيرة.
وعلى نفس المنهج نجد "بوريس سوشكوف"(69)، الذى يضع الواقعية الاشتراكية فى الصدارة، ويرى جميع الاتجاهات الأخرى دونها، بل ويرى أن الواقعية النقدية، رغم تعاطفه الكبير معها، وجعلها حليف الواقعية الاشتراكية، إلا أنهـا كانت فى دراستها وتصويرها لعملية التغير الموضوعية التى يمر بها النظـام الاجتماعى، أقل نفاذًا من دراسة وتصوير الواقعية الاشتراكية لها" وهو بذلك يرفض كل ماعدا الواقعية الاشتراكية، وبالتالى جميع اتجاهات الحداثة. بل إنه حين يجد نفسه أمام رواية "توماس مان" "دكتور فاوست" يبرر قوة الرواية وروعتها باقتناع "توماس مان" بالاشتراكية التى رآها وحدها القـادرة على السير بالبشر نحو تحقيق إنجازات إنسانية حقّة، وأرجع ذلك إلى ضعف الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية، وتنامى قوة المعسكر الاشتراكى.
إن الصراع بين الحداثة والواقعية، رغم ذلك لم يتوقف، والدليل على ذلك قول "اليكسى ميتشنكو": أن الصحافة الغربية تزيّف الصورة حين تقدم المجلـة الأدبية السوفيتية "نوفى مير" فى صورة حصن الحداثة. ويرى أن هذا طبيعى تمامًا. فقد نشرت المجلة فى الأعوام القليلة الماضية مواد عديدة تبيـن أن محريرها - على حد تعبيره - عرضة للأهواء الذاتية والأفكار غير الناضجة.
وينتقد آراء بعض نقاد المجلة خاصة تلك التى ترى أن شخصية المؤلف هى التى تحدّد قيمة العمل ككيان أدبى، أو أن الحكم على العمل الأدبى والحياة التى يصورها ينبغى أن يكون على أساس (شهادة الكاتب وحدها)، واعتبار هذا الرأى هو من أسس علم الجمال المادى. ويتساءل "ميشنكـو" كيف يتم ذلك، ودون مقارنة شهادة الكاتب بالحياة نفسها. ويرى أن المثل العليا التى يسعى إليها الشعب، والحزب هى التى تهم الفنان أو الكاتب.(70)
وهكذا يضيق ثوب الواقعية حتى يكاد يلتصق على الجسد الذى يمثل الحزب أو الأفكار المتشدّدة، والتى لا تضع فى حسبانها ثراء الفن، واتساع نطاقه وتعدد قراءاته وتأويله.
ونخلص فى نهاية هذا الجزء إلى أن الأفكار الجمالية التى صاغها العلماء السوفييت كانت - فى هذه المرحلة - تحاول أن تنظّر للواقعية الاشتراكية، وأن تضع الخطوط الفاصلة بينها وبين الاتجاهات الأخرى. وذلك هو ما جعل الصراع شديدًا بين - اتجاه الواقعية الاشتراكية، وغيرها من الاتجاهات. وقد تراوحت الآراء ما بين التشدّد والدوجماطيقية، التى تفرض وصاية الحزب على الفن، وتجعل الإطار النظرى للواقعية الاشتراكية فى الماركسية الليننية بشكل حرفى، وبين آراء أخرى تحاول أن تتفهم الأوضاع المتغيرة فى العالم، وماجدّ من مشكلات فنية وجمالية، والنظر إلى الحداثة على أنها ليست ثمرة محرمة، وليست بنتًا شيطانيًا وقد كان نصيب هذا الاتجاه النقد اللاذع والنعت بالسذاجة والاضطراب والتشوش، بل أن هذا الاتجاه نفسه، كان متذبذبًا بين توسيع إطار الواقعية وتضييق نطاقها، وكان ذلك خلال الموقف المتشدد تجاه آراء الماركسيين من خارج روسيا، والذين رأوا ضرورة فتح أبواب الواقعية بشكل أكبر لاستيعاب التيارات الجديدة فى الفن.
هذا وقد كانت، هذه الآراء وتلك تعبيرًا عن الصراع الدائر فى الاتحاد السـوفيتى فى مجال علم الجمال، ومحاولة تطوير الآراء التى كانت سائدة فى الفترة السابقة، فترة بداية الثورة، ومواجهة الحرب، وكذلك النظر فى بعض الأفكار التى كانت منتشرة فى تلك الفترة، سواء ما كان متشدّدًا منها فى مواجهة الفنانين والكتاب ، أو كانت مقتضيات بداية الثورة تدعو إلى التغاضى عنـه. وبذلك تمت مناقشة آراء وكتابات "بوريس باسترناك" و"مـاياكوفسكى"، و"أخماتوفا"، و"الكسندر بلوك" بشكل أفضل، وذلك بعد أن كانت قد انحسرت الموجة المناهضة للبعض، وخفتتْ الأصوات الداعية للبعض الآخر.
الهوامش
Leizrov, Nikolai: The Scope and the-limit-s of Realism , Translated by Keta Cook, In (Mozhntagun,s) Ed. Of. Problems of Modern Aesthetics, Colletion of Articles, Progess Publishers, First -print-ing, Moscow, 1969, p.p. 299 & 300
(2) Suchkov, Boris: Realism And It’s Historical Development, Translated by Keta Cook, In (Problems of Modern Aesthetics, Colletion Articles) Op, cit. P. 319.
(3) Dymshits, Alexander: Realism and Modernism, Translated by Keta Cook, in problems of Modern Aesthetics, Collection Articles Op. Cit. P 278.
(4) Leizrov, .v.: Op. Cit. P.P. 300 & 301.
(5) Suchkov, B.: Op. Cit, p. 321.
(6) Tolstoi, A.N.: Collected Works, Russ. Ed. Vol. 13, Moscow, 1949 p. 379. Quated By Leizrov, v.: Op cit. P. 310.
(7) بوريف، يورى: التفكير الفنى فى القرن العشرين - ترجمة ثزار العيون السود - الموقف الأدبى العدد 82 - فبراير 1978 - اتحاد الكتاب العرب - دمشق - 1978 -ص ص 97، 98
(8) نفس المصدر - ص 98.
(9) نفس المصدر - ص 99.
(10) Leizrov, N.:Op. Cit. P. 304.
(11) Quoted From the First Publication of the theses by I. Fradkin in an Article Entitled “The Artistic Originjlity of Bertolt Brecht’s Plays “Voprosy Literatury No. 12. 1958, p.p. 70 & 71.
See: Ibid: p. 311.
(12) Suchkov, B.: Op. Cit. P. 348.
(13) بوريف، يورى: مصدر سابق - ص 100
(14) نفس المصدر - ص100.
(15) نفس المصدر - ص ص100 & 101
(16) Suchkov, B.: Op. Cit. P. 342
(17) Metchenko, Alexei: The Basic Principles of Soviet Literature, Translated By Keta Cook, In (Problems of Modern Aesthectics - Collection Articles) - Op. Cit - p. 9.
(18) Lenin, V.I.: Collected works, Vol. I P. 531.
Quoted in: Metchenko, A.: Op. Cit. P.9
(19) Metchenko, A.: Op. Cit. P. 12
(20) Lenin, v. I. Collected work, Vol. 10 - p. 48. Quoted In Ibid p. 13
(21) لينين، فلاديمير إبليتش: فى الثقافة والثورة الثقافية - دار التقدم - موسكو - 1968 -ص148.
(22) Metchenko, A.: Op. Cit. P.32
(23) Liezrov, v.: Op. Cit, p. 308.
(24) بوريف، يورى: مصدر سابق - ص97.
(25) Dymshits, A.: Op. Cit. P. 283
(26) Leizrov, v.: Op cit, p. 308.
(27) Suchkove, B.: Op . cit. P.337.
(28) Ibid: p. 342
(29) Ibid: p.p. 342, 343.
(30) Ibid: p. 375.
(31) تورين، آلان: نقد الحداثة(الحداثة المظفرة) القسم الأول - ترجمة صياح الجهيم - منشورات وزارة الثقافة السورية - دمشق - 1998 ص ص38، 39.
(32) أمين، سمير: تجاوز الحداثة أم تطويرها، مجلة الكرمل - ع (51) - ربيع 1997 - مؤسسة الكرمل - رام الله - 1997 - ص25، 26.
(33) تورين، آلان: مصدر سابق -ص45.
(34) نفس المصدر - ص 43.
(35) حسن، إيهاب: نحو مقهوم لما بعد الحداثة - مجلة الكرمل - ع (51) ربيع 1997 - مؤسسة الكرمل - رام الله - 1997 - ص ص14، 15.
(36) تورين آلان: مصدر سابق - ص38.
(37) برادبرى، مالكوم ، ماكفارلن جيمس: مصطلح الحداثة وطبيعته - ضمن (الحداثة 1) تحرير مالكوم برادبرى - ترجمة مؤيد فوزى حسن - مركز الإنماء الحضارى - الطبعة الثانية - حلب - 1995 - ص52.
(38) ماكفارلن، جيمس: عقل الحداثة - ضمن (الحداثة I) تحرير مالكوم برادبرى & ماكفارلن، جيمس: - ترجمة مؤيد فوزى حسن - مركز الإنماء الحضارى - ط2 - حلب - 1995 - ص75
(39) نفس المصدر - ص93.
(40) بوريف، يورى: مصدر سابق - ص ص92، 93.
(41) Borev, Yori: Introduction to Aesthetics p.p. 110, 111
Quoted in: Mozhnyagun, Sergei: Unadorned Modernism - in (Problems of Aesthestics) - Op. Cit, p. 232
(42) بوريف، يورى: مصدر سابق - ص ص92، 93.
(43) المصدر السابق - ص94
(44) نفس المصدر - ص94.
(45) نفس المصدر - ص 95.
(46) Mozhnynyagun, S.: Op. Cit. P. 232
(47) Ibid: p. 233.
(48) Ibid: p. 234.
(49) Ibid: p. 231
(50) Ibid: p. 239.
(51) Ibid: p.p. 240 &242 & 243.
(52) Ibid: p. 228
(53) Ibid: p. 245
(54) بوريف، يورى: مصدر سابق - ص96.
(55) Dynshits, Alexander: Op, cit, p. 261.
لقد كان للفن والأدب، وخصوصا الشعر، والشعر الرمزى بالأخص الدور الجوهرى فى التمهيد للحداثة فى روسيا وتطويرها أكثر مما كان للمناظرات الميتافيزيقية والفلسفية مـن دور. وقد كان كتاب "أسباب أفول الأدب الروسى والتيارات الجديدةفيه) الذى وضعـه الروائى والشاعر (ديمتر ميرزكوفسكى" هو بمثابة (المانفيستو) للاتجاه الحداثى فى روسيا عام 1893. فقد احتج هذا الكتاب على الانتـلجنسيا الروسية ذات الالتـزام السياسى الجـذرى التى كانت مسيطرة على الساحة الأدبية فى روسيا ما يقرب من نصف قرن[راجع: لامبرت، يوجين: الحداثة فى روسيا - ضمن (الحداثة I) تحريرى مالكوم برادبرى جيمس ما كفارلـن: - ترجمة مؤيد فوزى حسن - دار الإنماء الحضارى - الطبعة الثانية - حلب - 1995 - ص ص147، 154.
(56) Dymshits, Alexander: Op, cit. P. 261
وقد كانت الآراء الفلسفية التى تشارك فى بعث الحداثة فى روسيا تهتم بمهاجمة الاعتقاد القائل بأن الإنسان قادر على السيطرة على بيئته وعلى تغييرها، هذا الاعتقاد الذى يقـدم حلوًلا جذرية للمشاكل العسيرة، ويتحدى الحـذر أو يتجاوز حدوده، الاعتقاد الذى رأى الناس غير قادرين على رؤية الأمور اللاعقلانية، وناشد المستقبل قبل الماضى، أو بدلا من العالم العلوى وقد تمثلت هذه الآراء فى مجموعة [علامات بارزة Land Marks] والتى يشار إليها الآن بإسم "الفيكوفستيون" والتى شارك فيها "برد يائيف" - راجع - لامبرت، يوجين: مصدر سابق - ص ص 151 - 153.
(57) Dymsshits, A.: Op. Cit., p. 262.
(58) Ibid: p. 263
(59) Ibid: p.p. 263, 264
(60) Ibid: p. 264.
(61) Gray, C.: The Great Experinemted: Russian Art, 1893 - 1922 - London, 1962 - p 255. Quoted by: Mozhnyagum, s., op cit. P.229.
(62) Dymishits, A.: Op. Cit. P. 268.
(63) Ibid: p.p. 275 & 276.
(64) Ibid.,: p. 278
(65) Ibid: p.p. 287 & 289
(66) Liezrov, N.: Op, cit. P.p. 302 - 304.
(67) Ibied: p. 309.
(68) Ibid: p. 300
(69) Suchkove, B,: Op. Cit p. 347.
(70) Metchenko, A.: Op. Cit. P. 37
بعد أن اجتازت الثورة البلشفية محنة الحرب العالمية الثانية، واتّسع نطاق المعسكر الاشتراكى، وصار قوة كبرى، وبعد أن انقضت المرحلة الستالينة التى كانت قبضة الحزب فيها محكمة على كل شئ، بما فى ذلك الأدب والفن. وكان قد تمّ فى المرحلة السابقة إرساء أسس فلسفة فى الفن والجمال على نحو جديد تنطلق من إسهامات الاشتراكية العلمية. فى تلك الفترة، أصبح - بعد اجتياز الأزمات الكبرى - من الممكن التفكير والبحث فى التفاصيل، فظهرت آراء تؤكد على الالتزام انطلاقًا من آراء "لينين" عن الأدب والفن، كما ظهرت الحاجة إلى تحديد النهج الذى سيكون عليه الفن والأدب فى المجتمع (الاشتراكى)، وموقف هذا من الاتجاهات الجديدة، وخاصة من أدب وفن (الحداثة). وإذا كانت الآراء تتفق حول توصيف الفن الجديد بأنه (فن واقعى). فما هى أطُر هذه الواقعية؟ وأين موقعها من الاتجاهات الواقعية الأخرى، وما هو الإسم الذى يجب أن يطلق عليها؟
كل هذه الأسئلة طرحت فى ذلك الحين، وقد كان ذلك ينطلق من تصوّرات للأدب والفن متباينة، وإن كانت غير متباعدة.
وسوف ندرس هذه المشكلات فى إطارين:
الأول ينصب على تحديد معنى الواقعية، وأطرها
والثانى يحدد موقفها من الاتجاهات الحداثية فى الفن
(1) معنى الواقعية و أطرها
(1) ما الواقعية؟
يرى "نيكولاى ليزروف Nikoli Leizrov": "أن معضلة الواقعية تعد معضلة معقدة، ويزيد من تعقيدها حقيقة أن ممثلى الاتجاهات غير الواقعية يميلون اليوم بطريقة أو بأخرى إلى إدراك أهمية، وفعالية الواقعية، وبدأوا يرفعون لواءها"(1)
فإذا كان هناك من يرى الواقعية فى الأعمال "الطبيعية" أو نسخ الواقع، وهذا ما تنفيه الواقعية. أو يرى أن الواقعية تتسع لتشمل اتجاهات شديدة التعارض والتباين. وهذا ما يضفى على مفهوم الواقعية غموضًا، والتبـاسًا، وبالتالى يكون كشف هذا الغموض المعضلة الأساسية التى بواسطتها يمكن أن تتضح طبيعة الواقعية، ويمكن بذلك دراستها، ومقارنتها مع الاتجاهات الأخرى.
وإذا كانت طرق الفن فى إحداث التأثير الجمالى متعدّدة، فإن الأعمال الفنية حين تعكس عناصر من الواقع ذات أهمية ولها قدرة على التوصيل، كما يتوقف تأثيرها الجمالى على محتوى الواقع. ولما كانت الصورة الفنية Autistic Form هى العنصر الجوهرى فى العمل الفنى، فإن الواقعية هى أول من يقدم دراسة فنية للحياة الاجتماعية وللشخصية الإنسانية فى علاقاتهما المعقدّة. كما أن الواقعية ليست ظاهرة خاصة بالفن، بل هى ظاهرة تاريخية نشأت فى مرحلة محدّدة من تطوّر المعرفة الفنية - على حد تعبير سوشكوف Suchkov(2) .
أما الواقعية الإشتراكية - رغم كونها محددة جغرافيًا - إلا أنها تمثل المدرسة الواقعية الرئيسية فى القرن العشرين. وأنها تلعب دورًا هامًا فى الأدب العالمى. كما أنها تتجنب الشعارات والصيغ الشكلية، وتعارض الدوجماطيقية من حيث المبدأ فى كل من النظرية، والتطبيقات العملية. وهى ثرية دائمًا من حيث الشكل والأسلوب. كما أن الكاتب الواقعى بوسعه اقتحام جميع مجالات ومنعطفات الحياة اليومية، الحياة المدركة لا كتصور طبيعى، وإنما كواقع اجتماعى متعين Concrete Social Reality(3)
إذا كانت الواقعية هى اتجاه الفن القادر على عكس الواقع، واقتحام مجالاته، وأنها ثرية بما فيه الكفاية من الشكل والأسلوب، فهل كل عمل فنى يعتمد على الحياة اليومية ومشكلاتها يعد عمًلا فنيًا واقعيًا؟
يقول "ليزروف": "وهناك عامل هام جدًا نرى من الواجب التأكيد عليه، وهو أن ارتكاز الفن على الحياة بشكل مطلق مثله كمثل أى نشاط إنسانى Human Activity)، لا يجعلنا ننعت بالواقعية كل عمل يعكس الحياة بدرجة أو بأخـرى. واعترافنا بالصلة الوثيقة بين الفن والحياة، لا يعنى التأكيد على أن الفن كله يتجه - بقدر ما - إلى الواقعية. فمن الجلىّ تمامًا، على نقيـض ذلك، أنه توجد بالإضافة إلى الواقعية أنماط فنية أخرى مشروطة تاريخيًا.(4)
إذا كانت هناك مدارس عديدة قد استقت من الواقع ونهلت من الحياة اليومية، كما أن (تعبير) الفن عن الحياة ليس هو ما يبيح لنا القول بأنه (فن واقعى)، فما المعيار الذى يمكن بواسطته تحديد واقعية الفن؟
يرى "سوشكوف" أن أساس المنهج الواقعى يتمثل فى التحليل الاجتماعى، أى فى دراسة وتصوير الإنسان والمجتمع"(5)
أما "اليكسى، ن. تولستوى Alexi N. Tolstoi" فيرى أن الواقعية "هى فى تعميم الأحداث الفردية التى تحمل سمات مميزة. وأن الواقعية ترفض ما هو عرضى لتستوعب الجوانب الأساسية للحياة. وتأخذ من الحياة مظاهرها المتغيرة لتحيلها إلى ظواهر دائمة تنطوى على ماهية ذلك الذى يتغير، أى الحياة. أما الطبيعية - على سبيل المثال - فتقف عند تقديم صورة محايدة Indifferent لها. الواقعية تعنى موضوعًا اجتماعيًا، وأنماطًا اجتماعية معممة.. وهى تتصدى بشكل مباشر للحياة الجديدة"(6)
وبهذا يتضح أن الواقعية فى الفن تؤكد على أن الارتباط الوثيق بالمجتمع، وعكسه، والتعبير عن الإنسان فى إطار العملية الاجتماعية، والتـركيز على لبّ الحياة، وتجنب العرضى والثانوى. كما يشترط - "اليكسى تولستوى" - أن يكون (الموضوع) اجتماعيًا، وإن كان لم يحدد المنظـور الذى يعالج به الموضوع، وبهذا يمكن أن تكون هناك طرق معالجة متباينة، ونكون حتى الآن لم نقف على مفهوم محدد لما يراه واقعيًا.
ولقد نشأت الواقعية الإشتراكية Social Realism فى أتون الجدل الذى دار فى الاتحاد السوفيتى حول طبيعة الفن فى تلك المرحلة.
والجدير بالذكر أن هناك من اقترح تسمية الواقعية الجديدة بالواقعية البروليتارية (جلادكوف، وليبيرنسكى). أما "ماياكوفسكى" فقد اقترح تسميتها بالواقعية الملتزمة. وعارض "أليكسى تولستوى" النزعة الجمالية بالواقعية التاريخية. أما "ستافسكى" فرأى أن هذه الواقعية ذات مضمون اشتراكى. ثم استقر الأمر على تسميتها بالواقعية الاشتراكية(7)
ويرى "يورى بوريف Yuri Borev" أن هناك إجماعًا على التعريف التالى للواقعية الاشتراكية:
"الواقعية الاشتراكية منهج أدبى فنى يتطلب من الكاتب تصويرًا صادقًا وملموسًا من الناحية التاريخية للواقع فى تطوره الثورى"(8)
ولكنه يرى أن هذا التعريف صحيح بخطوطه العريضة، غير أنه يخلو من الجانب الجمالى الخاص، كما يخلو مما يتعلق بالفن بشكل محدّد. ويمكن من جهة ثانية استخدامه فى الفن والدعاية، والتاريخ على حدّ سواء، وفى مجموعة من الظواهر الاجتماعية الأخرى. ولكن يصعب من جانب آخر، تعميم هذا التعريف على تلك الأنواع من الفن كالفن المعمارى، والفن التشكيلى، والديكور والموسيقى، وعلى تلك الأنواع من الفنون كتصوير الطبيعة، والطبيعة الصامتة، والشعر الغنائى(9)
وإذا كانت المناقشات قد أسفرت عن آراء متباينة مثل القول بالواقعية البروليتارية، المفهوم الذى يتعارض مع كون ديكتاتورية البروليتاريا وسلطتها مؤقتتين، وهو المفهوم الذى نقده "تروتسكى" فى إطار نقده للقول الثقافة البروليتارية والفن البروليتارى. وتباين الآراء حول تسميتها بالواقعية التاريخيـة (اليكسى تولستوى). أو الملتزمة (ماياكوفسكى). فإن هذا يعكس إلى أى مدى كانت مشكلة التحديد، والتميّز فى مجال الفن وعلم الجمال عن الاتجاهات الأخرى ذات أهمية كبرى.
كما أن اعتبار "الصدق" معيارًا لتحديد الواقعية الاشتراكية - فى القول بالتصوير الصادق الملموس من الناحية التاريخية - لا يؤدى إلا إلى تصّور فضفاض، لأن الصدق من الصعب تعيينه، ويحتاج إلى ما يحدّده. بالإضـافة إلى أن صدق التصوير من الناحية التاريخية، يمكن أن يكون - إذا تجـاوزنا عن مشكلة الصدق ذاتها - مطلبًا خاصًا من المؤرخ، أما بالنسبة للكاتب، فإنه يعد مطلبًا فى غير موضعه، إن لم يكن قيدًا على الإبداع.
وإذا كان "ليزروف" يرى "أن المنهج الواقعى يفترض وجود طريقة خاصة، محددة تاريخيًا، لرؤية الفنان للحياة. فالرغبة فى فهم العالم انطلاقًا من العـالم نفسـه تعنى فهم الواقع وكشف موقف الفنان منه"(10). ولكن هذا الرأى لا يحدد جماليات الفن الواقعى، هو ينصبّ فحسب على المضمون؛ إذْ يؤكد على رؤية الفنان للحياة، ولكنه لا يتطرق إلى وسائل التعبير، أو الأسلوب.
وقد كانت ظاهرة تغليب المضمون على الشكل بالنسبة للاتجاه الواقعى الاشتراكى، هى السمة البارزة، فنجد "ناظم حكمت Nazem Hekmat" الشاعر والكـاتب التركى - شأنه شأن "اليكسى تولستوى" يجعل المضمون هو الأسـاس والشكل ثانويًا، وقد عارض فكرة وجود أشكال فنية محددة يجب اعتبـارها، دون سواها، لصيقة بالواقعية الاشتراكية. أما "بريخت فقد رأى أن الواقعية الاشتراكية تعنى إعادة إنتاج الحياة Reprodution of Life والعلاقات الإنسانية وفقًا للواقع بواسطة وسائل فنية من وجهة نظر اشتراكية.(11)
أى أن منهج الواقعية الاشتراكية لا يفترض وسائل فنية محدّدة تحديدًا صـارمًا، ولا يجعل الشكل جوهريًا فى العمل الفنى، بل إن جميع الأشكال من الممكن استخدامها كوسائل لتوصيل المضمون المحدد، وذلك انطلاقًا من أولوية المضمون، وثانوية الشكل. وإن كان النهج المستخدم فى إطار الشكل يمكن تصوّره على أنه نهج تقليدى. لا يستخدم تقنيات الحداثة الفنية، وذلك اعتمادًا على أن المضمون، هو بالضرورة يرتبط بالواقع ارتباطًا وثيقًا.
واتساقًا مع هذا الرأى الذى يغلّب المضمون على الشكل، فإننا نجد "بوريس سوشكوف" يرى أن "المنهج الواقعى معين لا ينضب، شأنه شأن الحياة التى يدرسها ويعكسها. والواقعية تبدأ فى الفن عندما - خلف حركة الشخصيات وتطورها - يتعلم الفنان كيف يدرس الواقع والعلاقات الكائنة بين الإنسان والمجتمع، والحياة الاجتماعية الإنسانية بكل ما فيها من تناقضات حقيقية".(12)
ولكن إذا كان الفنانون يشتركون فى نظرتهم إلى الواقع، فإنهم بالضرورة لا يتطابقون فى طرق التعبير عنه، وهذا يجعل الواقعية، تتسّع بأساليبها، وتختلف وفقًا لطرق التعبير التى يسلكها هذا الفنان أو ذاك.
ويرى "يورى بوريف" "أن المنهج الفنى هو نمط محدّد تاريخيًا، للتفكير التصويرى - التعبيرى، يحدد تكوينه ثلاثة عوامل رئيسية: الواقع بثـروته الجمالية، وتنوعه وتعقيداته، والآراء والعقائد بأفقها وتحديدها الطبقى، وتلك المادّة الفنية - الفكرية التى تم تجميعها واكتسابها خلال العصور السابقة"(13)
ويمكن انطلاقًا من هذا الرأى أن تنبثق مدارس وآراء عديدة تتنوع بتنوع كيفية النهل من الواقع، وطبيعة الرؤى والعقائد وتعبيرها عن الأوضاع الطبقية، وطريقة التعامل مع الميراث الفنى - بكل ما فيه من ثراء، وتعقيد - والذى تم اكتسابه عبر العصور. وفى وسط هذا الخضم، هل يمكن تحديد ماهية النهج الفنى للواقعية الاشتراكية؟ إذا كان ثمة تحديد لذلك؟
"إن المنهج الفنى للواقعية الاشتراكية هو نمط معين من التفكير التصويرى - التعبيرى، نشأ وتطوّر على أساس المنهج الماركسى الذى يسلّح الفنان بفهم لمعنى الأحداث ويطابق خصائص الواقع المعاصر، وتجربة النضال الثورى للبروليتاريا وبناء الاشتراكية"(14)- هكذا كانت إجابة "بوريف".
وهنا نصل إلى أن الرؤية الصادقة والملموسة تاريخيًا - والتى تردّد صداها لدى العديد من العلماء السوفييت - إنما تجد تحديدها هنا فى المذهب الماركسى وتحليله للواقع، وبذلك تكون الواقعية الاشتراكية هى التعبير الفنى عن رؤية للواقع تتفق والمنظور الماركسى.
أى أن "الواقعية الاشتراكية هى طريقة فى التفكير الفنى مطابقة لثروة الواقع المعاصر الجمالية الموضوعية، ولممارسة نضال البروليتاريا الثورى وبناء الاشتراكية. إنها أسلوب التصوير الصادق للواقع. والتعبير عنه من مواقع المثل العليا الجمالية الاشتراكية، والالتزام الفكرى الاشتراكى - وهذا يجعل فن الواقعية الاشتراكية مرحلة جديدة عليا من التطور الأدبى والفنى"(15)
وفى الواقعية الاشتراكية يتم تصوير نشوء، وصراع وانتصار المبادئ الأخلاقية الجديدة، مبادئ الاشتراكية، وبذا يكون الصراع الأخلاقى هو الموضوع المسيطر، كما أنها تغرس فى الشعب إحساسًا بالواجب الاجتماعى، بروح الأممية الحقيقية"(16)
وإذا كان فن الواقعية الاشتراكية يعنى بالتعبير الفنى عن رؤية الماركسية للواقع، فإن هذا الفن يصبح بالضرورة "فنًا ملتزمًا". وقد كانت صياغة الالتزام بالمثل العليا بواسطة "لينين" بمثابة التصدى "للنزعة الذاتية Subjectivism من ناحية وللموضوعية Objectivism بفهومها المحدود الأفق من ناحية أخرى"(17)
كما أكد "لينين" على أن الالتزام كمقولة علمية لا صلة له إطلاقًا بالذاتية، فهو يتطلب الموضوعية التامة فى تحليل الواقع"(18) كما أنه يختلف كل الاختلاف عن القدرية.
فالالتزام لا يجنح إلى موضوعية ذات أفق محدود بعيدة عن الواقع بثرائه وحيويته، وفى نفس الوقت لا يسرف فى الذاتية. إنه يعتمد على التحليل العلمى للطبقات الاجتماعية والصراع فى المجتمع، والوقوف إلى جانب الطبقة الثورية فى الظروف التاريخية المحددة، وهى هنا طبقة البروليتاريا.
والجدير بالذكر أن الافتقار إلى "الالتزام Commitment، ليس إلا التزامًا من نوع آخر، هو الالتزام بمبادئ وأفكار البورجوازية، ومعاداة الاشتراكية، كما يرى "ميتشنكو".
ولكن هل الالتزام بهذا المعنى الصارم يثرى الفن، أم أنه يؤدى إلى تضييق نطاق التعبير، وتقليص مدى حيويته؟
لقد كان العديد من المفكرين السوفييت - يضيّقون الخناق على الكتاب والفنانين فى الفترة الستالينية، وما بعدها بإسم الالتزام، فقد رأى الكسندر ميتشنكو Alexander Metchenko" أن الالتزام هو الالتزام الحزبى، كما أن "الكسندر بلوك" و"ماياكوفسكى" عندما كانا يدافعان عن حرية الإبداع كانا يدافعان عنه ضد البورجوازية، ولكنهما عندما إنحازا للثورة البلشفية، كان "الكسندر بلوك" متعاطفًا مع قضية البلاشفة، و"ماياكوفسكى" من أشد المدافعين عن مبـدأ الالتزام اللينيى"(19) كما أن قول "لينين" بأن "الأدب المرتبط صراحة بالبروليتاريا هو الأدب الحرّ"(20) إنما يؤكد على تضييق نطاق الالتزام والواقعية فى نفس الوقت.
كما أن تأكيد "لينين" فى مسودة قرار عن الثقافة البروليتارية بقوله "لا أفكار خاصة، بل الماركسية، لا اختلاق ثقافة بروليتارية جديدة بل تطوير خيرة نماذج وتقاليد الثقافة الموجودة من وجهة نظر الماركسية عن العالم، وظروف حياة ونضال البروليتاريا فى عهد ديكتاتوريتها"(21) إنما يؤكد على أن الماركسية هى حجر الزاوية فى الثقافة والفن فى عصر ديكتاتورية البـروليتاريا. ولعل هذا يرجع إلى أن - كما سبق أن أشرنا فى الفصل السابق - "لينين" كانت رؤيته للفن محافظة، هذا بالإضافة إلى أنه كان سياسيًا، ولم يتح له إلا القليل الذى يتأمل ويدرس فيه الفن، كما كان الأمر بالنسبة لـ "بليخانوف" أو "تروتسكى".
وإذا كان مبدأ الالتزام نحو الحزب والشعب "كأساس للمنهج الجديد قد دفع إلى الصدارة مشكلة البطل الإيجابى التى كانت تقلق العديد من الكتاب السوفييت"(22). فإن عبادة شخصية ستالين The Stalin Personality Cult وآراء "زادنوف" المتزمتة والتى كانت تضيق الخناق على الفنانين والكتاب، كانت لها آثارها السلبية البالغة على الفن فى تلك الفترة.
الواقعية الإشتراكية والواقعية النقدية:
"فى بحثهم عن الصلة التى تربط بين شخصياتهم والحياة، وربطهم الفن بالمسار الطبيعى للأحداث، صار الكتاب الواقعيون النقديون أكثر التصاقًا بفهم العمليات التى كانت تحدد مسيرة التاريخ"(23)
ولقد تجسدت الواقعية النقدية عند "بلزاك" و"تشيكوف" و"توماس مان" و"ديستوفسكى" الذى صور الواقع بمعانيه المتباينة وتعقيداته، وغاص فى أعماق الشخصيات، مبرزًا ثراء الشخصيات عن طريق الصلة بين أعماقها والواقع المعيش.
إن الكشف عن العلاقة التى تربط الواقعية النقدية بالواقعية الاشتراكية إنما يساعد على تحديد مسار الواقعية الاشتراكية، كما يلقى الضوء على الجوانب الغامضة فيها، نتيجة لتباين تفسير المقولات الأساسية للواقعية الاشتراكية.
يقول "يورى يوريف": "لقد كشفت الواقعية النقدية عن استقلالية نسبية للحياة الروحية النفسية بالنسبة للواقع، وقد أثرى اكتشاف الواقعية هذا معلوماتنا ومعطياتنا عن الإنسان، وسمح لنا بإدراك ديالكتيكية روحه ونفسه"(24)
وإذا كانت الواقعية النقدية هى بمثابة الأم بالنسبة للواقعية الاشتراكية، وهى، أى الواقعية النقدية، التى قدمت أعظم أعمالها خلال لقرن التاسع عشر، والقرن العشرين، وما تزال قائمة حتى الآن، وإذا كانت تأخذ تقاليدها من الانتقاد للمجتمع البورجوازى، فإنهما - أى الواقعية النقدية والواقعية الاشتراكية "ترتبطان بروابط دم أيديولوجية وفنية They are Linked By Ideological And Artistic blood Ties"(25). وليستا متناقضتين أو متعاديتين.
ومن الجدير بالذكر أن عددًا كبيرًا من كتاب الواقعية النقدية قد اغتنى مسارهم الفنى باتصالهم بالنضال الاشتراكى. ومن أعظم إنجازات الواقعية النقدية هذا التصوير العميق المتعدد الجوانب للحياة المعاصرة"(26)
ولكن رغم هذا الإطراء للواقعية النقدية، فإن هذا لم يمنع بعض النقاد والمفكرين السوفييت من وضع الخطوط الفاصلة بينها وبين الواقعية الاشتراكية.
"فالواقعية الاشتراكية فى الوقت التى تحافظ فيه على السمات المشتركة بينها وبين الواقعية النقدية - التحليل الاجتماعى، وتنميط الشخصيات والمواقف - فإن الواقعية الاشتراكية تختلف عنها فى فهم وتصوير الحياة انطلاقًا من تاريخية الوعى لفهم تفكير الكاتب ومنهجه. فالواقعية الاشتراكية ترتبط فى نظرتها للعالم بالاشتراكية العلمية، وباللينينية التى تمدّ الفن بالمبادئ الأساسية"(27)
وإذا كان الواقعيون النقديون - على حد تعبير "سوشكوف" - قد أدركوا الصراعات الأساسية فى عصرنا، إلا أن دراستهم، وتصويرهم لعملية التغير فى التشكيلة الاجتماعية كانت مع ذلك أقل نفاذًا مما قامت به الواقعية الاشتراكية"(28)
وإذا كانت الواقعية النقدية قد وصلت إلى أن النظام البورجوازى عاجز عن حل تناقضاته، وأدرك ممثلوها الطبيعة الطبقية المتغيرة للمجتمع، وأن البورجوازية لا تقف فى سبيلها أى وسيلة، حتى ولو كانت إرهابية للحفاظ على سيطرتها. إلا أن النضال - كما يرى "سوشكوف"، لديها كان يتوقف عند الكلمة، وهم لم يتقدموا خطوة عن نزعتهم الإنسانية التأملية، وكانوا ينظرون إلى التاريخ كمزيج متوازن من العقل، والبربرية(29)
ولكن مع ذلك النقد - الذى يبدو حادّا - فإن "سوشكوف" كان يرى الواقعية النقدية حليفًا للواقعية الاشتراكية.(30)
وهكذا يتضح لنا أن الواقعية الاشتراكية، رغم اشتراكها فى بعض السمات مع الواقعية النقدية، أو غيرها من الاتجاهات، فإنها تعمد (أو بمعنى أدق يعمد منظروها) إلى تحديد موقعها بدقة أكثر، وهو عند العلماء السوفييـت، فى الفترة المتأخرة يتحدّد بارتباط الواقعية الاشتراكية بالماركسية اللينينية، اعتمادًا على مقولات لينين عن الأدب والفن وعلاقتهما بالشعب والحزب.
(2) الواقعية فى مواجهة الحداثة
يرى "آلان تورين" أن "التصور الكلاسيكى للحداثة الفلسفى والاقتصادى فى آن، يعرّف الحداثة على أنها أنتصار للعقل. وعلى أنها تحرر وثورة، ويعـرّف التحديث على أنه حداثة مستمرة الفعل، على أنه مسيرة داخلية النمو تمامًا"(31)
والحداثة لا نهاية لها، بيد أنها ترتدى أشكاًلا متتالية طبقًا لإجاباتها على التحدّيات التى يواجهها المجتمع فى لحظة تاريخية معينة، وهى أيضًا القطيعـة الفلسفية، ولذا فهى - أى الحداثة لا تغلق فى نمط نهائى، بل هى فى تطور مستمر.(32)
والحداثة ترتكز على العقل كأساس للتحرر والتقدم، وفيها يدير الإنسان ظهره للماضى، وللعصر الوسيط، وهى تنبذ كل وحْى، وإن كانت مقاومة الحداثة قد تمت تحت شعار احترام التاريخ والأعراف، والثقافة الخاصة بإسم مجموعة معينة، إلا أن هذا، لم ينجح فى تعويق استخدام التقنيات الجديدة، على حد قول "تورين"(33)، وإيقاف مدّ الحداثة.
وإذا كانت الحداثة تعنى الهدم النشيط للمقدس، لمحظوراته وطقوسه، والتأكيـد على أن الإنسان هو صانع تاريخه، فإن النقد المضاد للحداثة قد جاء منذ "نيتشه" وهو فكر لا يعد "حنينًا إلى الماضى لكن يرفض المطابقة بين الفاعل وأفعاله، فكر "نيتشه" يخرج من الحداثية بإدخاله الكائن اللاتاريخى، لكن هذا الكائن لا يمكن أن يكون عالم الأفكار الأفلاطونية، أو الكلمة الإلهية. والإنسـان لا يتجاوز تاريخه، لا لأن نفسه على صورة الله كما أراد "ديكارت، وإنما لأنه مسكون بديونيسيوس، القوة اللاشخصية للشهوة، الجنس، الطبيعية فى الإنسان. وعلى نقيض فكر الأنوار الذى يضع الكلىّ فى العقل، ويدعو إلى مراقبة إرادة الأهواء، الإرادة الموضوعية فى خدمة الوعى، يطفو الكلىّ مع "نيتشه" ومع "فرويد" من بعده، فى اللاشعور ولغته، فى الرغبة التى تطيح بحواجزه الداخلية"(34). وهنا يفتتح عصر ما بعد الحداثة.
وإذا كان تعبير "ما بعد الحداثة" تعبيرًا ملتبسًا. وهو وإن كان ينطوى على التجـاوز أو الانتقال أو العبور أو التقدم. إلا أنه أيضًا قد يعنى إلى جانب تجاوز الجديد للقديم، دمغ القديم بصفة الجمود والتخلف عن العصر. و"كلمة ما بعد الحداثة لا تبدو خرقًا Awkword، بل هى توحى بما ترغب فى تجاوزه أو قمعه أى الحداثة نفسها، وبذلك فإن المصطلح يحتوى على عدوّه الداخلى، وهو ليس حال مصطلحات مثل الرومانسية أو الكلاسيكية أو الباروك، أو الركوكو Rococo. فوق ذلك يوحى المصطلح بالخطية الزمنية، ويستثير معنى التأخر عن الزمن، وربما التآكل الذى لا يقرّه أى ما بعد حداثى، كما أنه يعانى من عدم الاستقرار الدلالى، وعدم وجود فاصل حديدى، أو سور صينى يفصلان بين الحداثة وما بعد الحداثة."(35).
ولعل هذا هو السبب الذى يجعل العديد يخلط بين الحداثة وما بعد الحداثة، رغم أن اتجاه الحداثة يستقر على الاحتكام للعقل، فى الوقت الذى ينطلق فيه، ما بعد الحداثة، من "رفض تقليص الحياة الاجتماعية وتاريخ المجتمعات الحديثة إلى انتصار العقل"(36)
لقد كتب برادبرى، وجيمس ماكفارلن:
"من البديهيات التى يطرحها التاريح الحضارى هى أننا نستطيع تمييز نوع من التذبذب والتأرجح فى الأسلوب فى الفترات التاريخية، إنه نوع من المد والجزر بين النظرة العقلانية إلى العالم (كما هى الحال فى الكلاسيكية الجـديدة وحركة التنوير والواقعية) والنظرة اللاّعقلانية أو الذاتية المتشنجة إلى العالم (كما هى الحال فى حركة الباروك وحركة العاصفة والاندفاع Sturm and Drang والرومانسية) فأحيانًا تكون السيادة للعاطفة، وأحيانًا يسود العقل، وأحيانًا يسود العقل والعاطفة معًا، وأحيانًا أخرى تسود المشاعر العفوية البدائية. إنه تأرجح بين (أبو للو) و(ديونيسس) وقد تكون الحداثة خليطًا من هذه السيادات."(37)
"والحداثة أيضًا تعنى إما التحليل والتأمل، وإما الهروب والخيال وإطلاق العنان للأحلام"(38). وما يميز الحداثة ويعقّدها هو أنها تبدو كأنها تطالب بالتوفيق بين مسارين مميّزين متناقضين: فمن جهة تعترف الحداثة بشرعية التركيبه Synthesis الهيجلية العقلية التى تنتج وحدة متسامية تحافظ على جوهر العنصرين المتنازعين، بينما تحطمهما فى الوقت نفسه ككيانين منفصلين"(39)
أن هذا الرأى الذى يخلط بين "الأبوللونية والدبونيسسية" بين العقل واللاعقل هو الذى سوف يسود خطاب الحداثة فى كتابات "برادبرى، ومكفارلن"، وهو أيضًا الذى سوف يسود عند علماء الجمال الروس، والذى سوف يسبب قلقًا كبيرًا فى التعامل مع "ما يطلقون عليه حداثة".
وعلى هذا فإن أعماًلا كثيرة نجد من النقاد من يضعها فى إطار الحداثة، بينما يضعها الآخرون فى إطار ما بعد الحداثة أو الإرهاص بها ولعل السبب يعود إلى أن الفريق الأول، يوسع إطار الحداثة، ويجعلها تشمل الأعمال التى تقوم على العقل، واللاعقل، كما أن مصطلح ما بعد الحداثة - كما سبق أن أشرنا - ما زال مصطلحًا ملتبسًا، ويعانى من عدم الاستقرار الدلالى.
ولكن الجدير بالذكر أن العلماء السوفييت سوف ينعتون بالحداثة كل أدب يرونه مباينًا للواقعية - أحيانًا بمعناها العام - وأحيانًا الواقعية الاشتراكية والنقدية على وجه الخصوص.
يقول يورى بوريف:
إن النزعة التحديثية هى ظاهرة أدبية - فنية فكرية معقدّة، تدور حولها مناقشات، ومطارحات كثيرة، ومن أهم جوانب تعقيداتها، أن النزعة التحديثيـة مع اعتمادها على مقولات فكرية - جمالية رجعية، فكثيرًا ما تنجب أعماًلا فنية هامة، تفجّر من الداخل تلك القوانين الجمالية التى تعتبر نقطـة انطلاق للنزعة التحديثية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الكثيرين من مشاهير الأدباء والفنانين فى القرن العشرين قد اتجهوا نحو الواقعية مرورًا بالنزعة التحديثية، وخضعوا للتأثير التحديثى مثل "بريخت" و"ايلوار" و"ماياكوفسكى"، وغيرهم. وهذا لا يسمح لنا بنبذ النزعة التحديثية، كما تنبذ الترهّات"(40)
كما أن الحداثة لم تظهر إلا نتيجة لأزمة الواقعية الناشئة عن عجزها الاجتماعى، "ان عدم ترجمة المثل العليا الجمالية بواسطة الفن الواقعى إلى واقع، أدى إلى ظهور الفكر الفنى الحداثى الذى يرفض الفكر التقليدى". والحداثة هى محاولة فريدة للخروج من فن اللامبالاة إلى فن الفعل المباشر(41)
وقد فهمت الحداثة بمعان ومفاهيم متباينة، فقد تفهم على أنها نوع محـرّم لا يليق الاعتراف به، أو على أنها كلمة بذيئة، وفى أحيان أخرى على أنها اتجاه غربى صرف وكأن الأعمال التى تنطوى على الحداثة، مجرد تقليـد أعمى لها، وقد يقتصر الأمر على وصف مجموعة من الاتجاهات الفنية المنتمية إلى الحداثة دون غيرها، وأخيرًا قد تفهم على أنها قطيعة للتواصل التاريخى فى التراث الثقافى.(42)
أن "يورى بوريف" يحاول أن يجد مكانًا للأدب والفن الحداثيين فى رؤيته الجمالية، فالحداثة جاءت تعبيرًا عن رؤية جمالية محددة لم يستطيع الاتجاه الواقعى إنجازها، كما أنها محاولة لجعل الفعل صفة جوهرية للفن، وهى أى الحداثة، تقدم أعماًلا فنية هامة، رغم كون منطلقاتها - من وجهة النظر الماركسية اللينية - رجعية، وهى أيضًا المصنع الذى يقوم بتفريخ الفنانين والأدبـاء الواقعيين العظام. إن الموقف منها - فى رأى يورى بوريف - يجب ألا يكون موقف النبذ، أو التجاهل، وإنما يجب أن تدرس، فى إطار الظروف الاجتماعية والسياسية التى أنتجتها.
ولكن رغم أن "بوريف" يقدم رأيًا يتعامل بإيجابية مع الاتجاه الحداثى، ويحاول أن يفهم النزعة الحداثية فى الأدب الروسى (أندريه بيللى، ولونيد أندربيف) على أنها نزعة تعبر عن مثل جمالية عليا، وليست مجرد ثمرة محـرمة. كما يؤكد على أن التناقضات الحادة للعالم البورجوازى، والهوة التى أوجدتها الحربان العالميتان، وعدم تجسّد المثل العليا الجمالية التى طرحها الاتجاه الواقعى فى الفن، هى التى أدت إلى ظهور هذه الاتجاهات الحداثية، إلا أن "بوريف" لا يلبث أن يتراجع. فمع أنه يرى أن الحداثة هى محاولة للخروج من فن اللامبالاة إلى فن التأثير المباشر. إلا أنه يستدرك قائًلا: "إلا أن هذه المحاولة تحوّلت إلى تخريب للفن، وإنحلال للصبغة الفنية فى التفكير"(43)،ـ بل "لقد فككت النزعة التحديثية الصورة الفنية التقليدية، وجعلت من بعض عناصرها المنفصلة عنها عوامل مغلقة"(44) - كما "أبدى الفـن الحداثى عجزه عن إدراك وتفسير الأسباب العميقة للعمليات الاجتمـاعية، وأخذ يرسم إرادة شريرة جهنمية شيطانية تسيّر الإنسان وتوجهه بصورة عمياء"(45)ثم يخلص فى النهاية إلى أن الواقعية الاشتراكية هى الفن القادر على التعبير عن العصر.
وهكذا يلتقى "يورى يوريف" - رغم محاولته الآنفة الذكر - مع الرأى الذى يعادى الحداثة، ويصب جام غضبه عليها، وذلك عبر رؤيته للمحتوى الذى تعبر عنه - رغم كونها قدمت من الناحية الفنية، مالم يستطع الفن الواقعى تقديمه.
ونحن نرى أن الحداثة إذ فككّت الصورة الفنية التقليدية، فإن هذا أمر كان لابد منه، وقد حدث بالفعل - عبر الاتجاهات الحداثية المختلفة - أن ظهرت اهتمامات فنية وشكلية، لم تكن تشغل بال الاتجاه الواقعى، أما كون الفن الحداثى عجز عن تفسير الأسباب العميقة للعمليات الاجتماعية، وأخذ يرسم إرادة جهنمية شيطانية تسيّر الإنسان وتوجهه بصورة عمياء. فأوًلا: ليس المطلوب من الفن القيام بالتفسير للعمليات الاجتماعية، ويجب أن ندرك أن منـاهج الفن تختلف عن مناهج علم الاجتماع، وثانيًا: فإن الإرادة الجهنمية تلك، يمكن أن يوجد تفسيرها فى ربط الواقع المعاصر بالفن الحداثى، وليس كون هذا الواقع يطبق على الإنسان،ويعمل على تشيؤه، واغترابه، بالأمر الغامض، وإدراكه من السهولة بمكان، أما إذا كان المطلوب من الفن هو التغاضى عن ذلك، فإن هذا لا يضر الفن الحداثى فحسب، بل يضر بالأدب الواقعى أيضًا.
والجدير بالذكر أنه رغم أن "بوريف" فى مآزرته للفن الحداثى وقف فى منتصف الطريق، إلا أن هذا لم يلق إلا النقد المرير من أنصار الاتجاه الواقعى الصرف فى الاتحاد السوفيتى. فنجد أن "سيرجى موجينيا جون" يبتسر ما قاله "بوريف" ويرى أنه يقول "بأن الواقعية غير فعالة Iniffective ولا جدوى منها، ويجب أن تستبدل بالحداثة … وإننا قد ننحى جانبًا سذاجة Credulity "بوريف" ولكن لا يمكن الصمت على محاولته تقديم التصوّرات البورجوازية وكأنها آخر ما توصلت إليه آراء الماركسية فى علـم الجمال. ومن الصعب أن نفهم لماذا يحاول "بوريف"إنقاذ الواقعية فى نفس الوقت الذى يؤكد إنحدارها. إنه يفعل ذلك بطريقة غريبة جدًا، إذ يعلن أن الواقعية قادرة على البقاء بحيوية لأنها تستوعب إنجازات الحداثة."(46)
بل ويرى أن الاضطراب فى كتابه "مقدمة فى علم الجمال" جاء نتيجة لإغفاله للمعايير الاجتماعية والطبقية فى تقويمه للحداثة. ويقدم فقرة من آرائه يقول فيها ".. يظن أن كل شئ يمكن تفسيره فى ضوء العناصر الاجتماعية والطبقية فى هذه النزعة الأدبية Literary Trend (وكأن الحداثة لا تنطوى - بسبـب طبيعتها المعقدة والمتناقضة - على أكثر النزعات الاجتماعية السيـاسية تباينًا، بدءًا من العداء للفاشية، إلى الوقوف بجانبها، ومن الكاثوليكية إلى الإلحاد، ومن الفكر الإنسانى المجرد والفكر الديمقراطى المجرد إلى الأفكار البورجوازية المحددة، والأفكار الرجعية الصريحة) ويبدو أن الحداثة لا ترتبط بالاقتصاد الرأسمالى، ولا بالأيديولوجية البورجوازية، وأن "بوريف" نفسه، يراها كمدرسة تقع بعيدًا عن الطبقة والأيديولوجيا"(47)
ويرى "سيرجى موجينياجون" أن الحداثة ترتبط بالفكر الصوفى. فالسيرياليون لا يخفون صلاتهم بالصوفية. وينتقد النقاد السوفييت الذين يؤمنون بهذه "الميثولوجيا الجديدة" ويرون فى الحداثة الانعكاس الوحيد للعصر وإدراكه جماليًا. وأن العالم الخاص للفنان يتجه فى عصر الإمبريالية إلى أن يصبح واقعه الوحيد المطلق. وتساءل: كيف يعجزون عن إدراك ظاهرة الواقعية الاشتراكية التى توجد فى المجتمعات البورجوازية مع أنها ليست نتاجًا للوعى البرجوازى"(48) ويرى أن "الحداثة تدمّر معايير اللغة الفنية، وتنزع عن الفن طابعه الإنسانى، بل إن هذه الترهات والتشويهات، هى التى يرى فيها البعض التعبير عن حرية الفنان واستقلاله الإبداعى His Creative Independence"(49)
وفى إطار انتقاده "لإرنست فيشر Ernest Fisher" الذى يحاول توسيع إطار الواقعية واستيعاب الاتجاه الحداثى، فيقول "إن الفن فى نظر فيشر، خيال، ووظيفته الرئيسية وظيفة سحرية Magical، والإنسان يسحر العالم من حوله، ويعيد تشكيل الطبيعة لا شعوريًا (فنيًا). ووظيفة الفن هذه تعبير عن الجمال الذى يتجاوز الظروف التاريخية والاجتماعية. أما الظروف الاجتماعية، فمن جهة أخرى، فشئ غير أساسى، فهى ترتبط بالقاعدة الاقتصادية. والمصالح النفعية الضيقة. وهذا هو أساس التعارض بين الجمالى والاجتماعى"(50)
كما يرى أن "فيشر" ينسب كل ما هو عارض إلى البناء الفوقى، ويستبعد منه كل ما هو باق، وخالد. وإذ يرى "فيشر" أن الفنان يعبر عن رفضه الانطواء تحت لواء الرأسمالية تارة بالتمرد الرومانتيكى، وتاة أخرى بالموقف النقدى. ويحاول أن يدخل "كافكًا" ضمن الواقعية - بإطارها الواسع - واصفًا تمرده بالتمرد الثورى فى عصر الإمبريالية. فإن "سيرجى موجينياجون" يرى أن تصوّر "فيشر" ناتج عن تفسيره الفن عن طريق التناقضات An Interpretation of Art By Contrasts، فهو يعارض النظرة الطبقية بالنظرة الإنسانية الكونية للعالم، والتعارض بين الفن والمجتمع، بين حرية الفنان وتوجيهات الحزب. وإذ يرى "فيشر" أن فردية الإنسان المتميزة هى القوة الدافعة لصراعه الأبدى وغير المتكافئ His Eternal And Unequal Struggle فى مواجهة المجتمع. فإنه - أى سيرجى موجينياجون" - يرى أن هذه كلها مجرد مزاعم، لا أساس لها وأن "فيشر" - على حد تعبير ديفيد كريج David Graig - الذى يستشهد برأيه - لا يترك لنفسه أى مجال للتمييز بين التمرد العشوائى، والتمرد الهادف، الواضح الثورى.(51)
ويرى أن هدف "الحداثة" هدف سلبى يتمثل فى الكشف عن إمكانية الوصـول إلى اللاشئ، أما الزعم بأن تحطيم الصورة الفنية Artistic Form هو بمثابة نوع جديد من الخبرة الجمالية، فإنه - فى رأيه - مجرد عبث.(52)
ويرى أن "كافكا" “Kafka” عندما ينتقد الرأسمالية، هذا الانتقاد الذى دفع "روجيه جارودى"و"إرنست فيشر"وغيرهما إلى وضعـه فى إطار الواقعية بمعناها الرحب، فإنه يرى هذا الانتقاد غير مقنع لأنه يجد مصدره فى (غضـب النفس). كما أن "كافكا" يرى أنه ليست الرأسمالية فحسب هى مصدر العنف، بل وأيضًا الاشتراكية.(53)
وإذا كان "جارودى" قد رأى أن فضل "كافكا" يعود إلى أنه قدم لنا إمكانية العيش بصورة عميقة، مسألة الاغتراب، وأيقظ فينا المسؤلية الشخصية تجاه هذا الاغتراب. فإن "يورى بوريف"(54) يرى أن "جارودى" لا يأخذ فى اعتباره أن طريقة التفكير وأسلوبه - فى الواقعية - لا ينحصرا فقط فيما انعكس فى أعمال هذا الفنان أو ذاك، بل ويشمل أيضًا الكيفية التى انعكست فيها هذه الظاهرة أو تلك فى أعمال الفنان. ويرى أن المفهوم النظرى للواقعية مهما حاولنا إثراءه بتجربة الأدب الحديث، لابد له من ضفاف وأطر.
وهنا يلتقى "يورى بوريف" مع "سيرجى موجينياجون" رغم انتقادات الأخير له، ويقفان معًا فى دائرة الاتجاه الواقعى الضيق الأفق.
أما "الكسندر ديمتش" فقد رأى أن التعارض التام بين الواقعية والحداثة قد اتضح منذ وقت طويل. وقد ظهر فى روسيا منذ نهاية القرن الماضى، حين بدأت الأفكار الحداثية فى الظهور فى أعمال الإنحطاطيين Decadents والرمـزيين Symbolists(55) ولقد حوربت هذه الأفكار بواسطة الأدب الثـورى الذى ظهر قبيل ثورة أكتوبر، وبالأعمال المبكرة للواقعية الاشتراكية ولقد دار صراع أيديولوجى، وجمالى مرير بين الواقعية والحداثة. وهو صراع بين وجهتى نظر للعالم وموقفين ومنهجين اجتماعيين وجماليين متعارضين تجاه الحياة والفن.(56)
ويرى أن للحداثة شجرة عائلة تحمل أسماء "الرمزية" والمستقبلية" و"التعبيرية" و"التكعيبية" و"الدادية" و"السيريالية" .. وغيرها. والصراع بين الواقعية والحداثة يتخذ أشكاًلا معقدّة. فالواقعية تُمنى أحيانًا بخسائر فادحة، كما حدث - فى رأيه - عندما انتقل "ليونيد أندرييف Leonid Amdreyev من صفوف الواقعية إلى الحداثة.(57)
ولكن "ديمتش" يرى أن النظرة السوفيتية للحداثة فى الربع الأول من القرن العشرين كانت خاطئة فى معظمها، ولا تقوم على أساس النهج التاريخى، وتتجاهل جدليات الصراع بين الاتجاهات الحداثية(58)
ورأى أن إغفال الصراعات الداخلية فى صفوف الحداثة، والخلط بين اتجاهاتها، ووضعها فى سلة واحدة، إنما كان أحد الأشكال السائدة للصراع.
وقد يبدو أن "ديمتش" للوهلة الأولى، يحاول إعادة تقويم الحداثة، ووضعهـا فى مكان يختلف عما يضعها فيه الأيديولوجيون المتشدّدون، إلا أن هـذا التصوّر لا يلبث أن ينقشع حين نراه يصب جام غضبه على الحداثة، وخاصة المدرسة الرمزية إذ يقول: "لقد كان "بلوك" مثاًلا ممتازًا لرفض الفنان لمرحلة الانحلال، وقطيعته مع الانحطاط Break with The Decadence، وخروجه على الرمزية"(59). كما يقول أيضًا: "والحقّ إن الفن الحى كان قادرًا على تخطى حدود الانحطاط ، وبعث أعمال إنسانية، فى حين لم يكن فى وسع الفن (الجمالى الخالص) المتصنّع، الخالى من المشاعر، نتاج الموضة البورجوازية، ،أن يحرر نفسه من الحداثة.(60)
وهكذا يصبح الموقف من الحداثة هو موقف من الانحطاط والأدب والفن اللّذين يفتقران إلى المشاعر. إن هذا ليس إلا ترجمة للموقف المتشدّد تجـاه الحداثة والذى وصفته بسخرية "كاميلاجراى Camilla Gray"(61) بأنه مفهـوم سلافى قومى عن الفن انتصر على النزعة الأوروبية، والتى تعنى بها الشكلية والرمزية، أو اتجاه الحداثة عمومًا وقد حدث هنا - فى رأيها - لأن البلاشفة كانوا ماديين، فضّلوا زوج الأحذبة على "شكسبير".
ويشيد "ديمتش" شأنه فى ذلك شأن (بوريف) و"سيرجى موجينيا جون" بانتقال العديد من الفنانين والكتاب من الحداثة [المستقبلية أو الرمزية أو الشكليـة..] إلى الواقعية. فهؤلاء الفنانون لم يكن فى وسعهم لكى يكونوا شعراء أو فنانين بحق، إلا أن يهجروا الحداثة إلى الواقعية. كان هذا شأن "مايكـوفسكى" مؤسس شعر الواقعية الاشتراكية - فى رأيه - وإذا كان بعض الكتاب الروس قد تربوا على أيدى اتجاهات الحداثة المختلفة،فإن أفضل ما كتبوه جاء - فى رأيه - نتيجة لتحررهم منها(62)
وإذا كان بعض المنظرين الماركسيين - من إيطاليا وألمانيا وفرنسا - يؤكدون على أهمية التأثير المفيد "لبروست"، و"جويس" و"كافكا". و أنهم بدأوا حركة جديدة فى الأدب.
فإن "ديمتش" يرى أن خلق أدب جديد قادر على خدمة البشرية يجب أن يقوم على أساس من التقاليد الأدبية العظيمة، ويرى أن تراث الحداثيين غير قادر على توفير منصة انطلاق لسفن الفضاء الأدبية - على حد تعبيره - وإذا كان يرى ضرورة خضوع تراث هؤلاء الكتاب - رغم مواهبهم التى لا شك فيها، ومنجزاتهم، والتى يسمها ميسم الحداثة - فإن كتاباتهم لا يمكن - فى رأيه - أن تكون نموذجًا للرواية المتطلعة إلى المستقبل. فالطريق من خلال "تولستوى" وستاندال، "وتشيكوف"، أقصر من المسافة التى تفصل الأدب الواقعى عن "بروسـت"، و"كافكا" وجويس، وهو ليس أقصر فى الزمان، وإنمًا فى المضمون(63)
إن الواقعية والحداثة ليستا إلا عدوّين لدودين لا يمكن التوفيق بينهما - هذه هى خلاصة القول لدى ديمتش(64)
وفى الرد على "جارودى" وكتابة "واقعية بلا ضفاف". يؤكد على أن الفن الواقعى الإنسانى دائمًا، وعلى العكس من الشكلية والتجريدية غير الإنسانيين، واللذين يحتقران تحليل الشخصيات ويركزان انتباهمهما بدًلا من ذلك إلى تشويه صورة الإنسان. ويتفق مع الناقد البولندى "ستيفان زولكوفيسكى" فى نقده "لجارودى" ورفضه ضم "كافكا" إلى شجرة الواقعية وتمجيـده كما فعل "جارودى". ويرى أن على الفن أن يبحث عن أشكال جديـدة للتعبير عن المشكلات الجديدة والأزمنة الجديدة، فيعارض أولئك الذين يطلبون من الفنانين أن يقتفوا أثر أناس ليسوا أكثر من "فروع" سقطت من شجرة الواقعية وتحولت إلى طريق الحداثة(65)
وهكذا يقف "الكسندر ديمتش" موقفًا معارضًا من توسيع إطار الواقعيـة، وجعلها تستوعب بعض التيارات الحديثة، ويقف ضد الحداثة بعنف سواء فى الشعر أو الرواية أو سائر الفنون، ورافضا لجميع الاتجاهات، عدا الواقعية الاشتراكية.
أما نيكولاى ليزروف" والذى يرى فى الفن نزعتين رئيسيتين هما الواقعية، والمثالية والتى يطلق عليها أحيانًا (الفن اللاواقعى). وإذا كان يرى - كما سبـق أن ذكرنا - أنه يوجد العديد من الأساليب الواقعية، فإنه يرى أن الفن اللاواقعى يتسم بتشويهه للواقع سعيًا إلى خدمة فكرة زائفة. ويجعل الفن الحداثى ضمن الإطار الّلاواقعى. ويرى أن من المظاهر المعقدة فى الفن، ذلك الفن الوجودى الذى كثيرًا ما يستخدم عناصر حقيقية من الواقع ليقدم تصورات فلسفية تشوّه الواقع، ويضرب مثًلا برواية الغريب لـ "البيركامى" والتى يرى أن التصوير الرائع والمرسوم بمهارة للطبيعة والمشاعر الإنسانية يستخدم كوسيلة لا أكثر لفرض آراء الكاتب الفلسفية والسيكولوجية. ويخلص إلى أنها - أى الرواية - قريبة الشبه من سفر الرؤيا Apocalyptic، فالرؤيا تعبر عن فكرة دينية من خلال تشويه سافر للأجسام الحقيقية، على حين تستعين لا عقلانية "كامى" "بالتصوير الصادق للحياة" والنتيجة تشويه الواقع(66)
وإذا كان الإطار الواقعى لدى "ليزروف" لم يستوعب غريب كامى"، رغم كون الرواية - كما يرى هو نفسه - مكتوبة بمهارة وخبرة، فإن الإطار الواقعى أيضًا لديه - أعنى الواقعى الاشتراكى - يضيق أيضًا ولا يستطيع استيعـاب "توماس مان" الواقعى النقدى - رغم قول (سوشكوف) بأن الواقعية النقدية هى الحليف الأساسى للواقعية الاشتراكية، ورغم إطراء "جورج لوكاش" الماركسى المجرى له - فقد رأى أن "التصور العلمى الحقّ للتاريخ والمنهج الفنى للواقعية الاشتراكية المرتبط بها ارتباطًا وثيقًا، والذى ولدّته فترة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، هو الذى استطاع وحده أن يمدّ الفن الواقعى بفهم مستقبلى متكامل للعالم والإنسان"(67)
ولعل هذا يجعلنا نرى "ليزروف" الذى صب جام نقده على السوريالية والتعبيرية والتجريدية، وينتقد اتجاه "الّلارواية" عند "روب جرييه". كما ينتقد القول بأن السلوك العبثى غير المنطقى لشخصيات "بكيت" و"أونيسكو" يمثل صورة للواقع أكثر دقة، وتتمثل فيه الواقعية الحقيقية، ويرى أن ذلك يضفى غموضًا ولبسًا على مشكلة الواقعية، والتى يرى "ليزروف"(68) أنها تتمثل فى الواقعيـة الاشتراكية المرتكزة على المبادئ الماركسية اللينية - هذا يجعلنا - نراه مناهضًا أيضًا للاتجاهات الحداثية، ومع تضييق نطاق الواقعية إلى درجة كبيرة.
وعلى نفس المنهج نجد "بوريس سوشكوف"(69)، الذى يضع الواقعية الاشتراكية فى الصدارة، ويرى جميع الاتجاهات الأخرى دونها، بل ويرى أن الواقعية النقدية، رغم تعاطفه الكبير معها، وجعلها حليف الواقعية الاشتراكية، إلا أنهـا كانت فى دراستها وتصويرها لعملية التغير الموضوعية التى يمر بها النظـام الاجتماعى، أقل نفاذًا من دراسة وتصوير الواقعية الاشتراكية لها" وهو بذلك يرفض كل ماعدا الواقعية الاشتراكية، وبالتالى جميع اتجاهات الحداثة. بل إنه حين يجد نفسه أمام رواية "توماس مان" "دكتور فاوست" يبرر قوة الرواية وروعتها باقتناع "توماس مان" بالاشتراكية التى رآها وحدها القـادرة على السير بالبشر نحو تحقيق إنجازات إنسانية حقّة، وأرجع ذلك إلى ضعف الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية، وتنامى قوة المعسكر الاشتراكى.
إن الصراع بين الحداثة والواقعية، رغم ذلك لم يتوقف، والدليل على ذلك قول "اليكسى ميتشنكو": أن الصحافة الغربية تزيّف الصورة حين تقدم المجلـة الأدبية السوفيتية "نوفى مير" فى صورة حصن الحداثة. ويرى أن هذا طبيعى تمامًا. فقد نشرت المجلة فى الأعوام القليلة الماضية مواد عديدة تبيـن أن محريرها - على حد تعبيره - عرضة للأهواء الذاتية والأفكار غير الناضجة.
وينتقد آراء بعض نقاد المجلة خاصة تلك التى ترى أن شخصية المؤلف هى التى تحدّد قيمة العمل ككيان أدبى، أو أن الحكم على العمل الأدبى والحياة التى يصورها ينبغى أن يكون على أساس (شهادة الكاتب وحدها)، واعتبار هذا الرأى هو من أسس علم الجمال المادى. ويتساءل "ميشنكـو" كيف يتم ذلك، ودون مقارنة شهادة الكاتب بالحياة نفسها. ويرى أن المثل العليا التى يسعى إليها الشعب، والحزب هى التى تهم الفنان أو الكاتب.(70)
وهكذا يضيق ثوب الواقعية حتى يكاد يلتصق على الجسد الذى يمثل الحزب أو الأفكار المتشدّدة، والتى لا تضع فى حسبانها ثراء الفن، واتساع نطاقه وتعدد قراءاته وتأويله.
ونخلص فى نهاية هذا الجزء إلى أن الأفكار الجمالية التى صاغها العلماء السوفييت كانت - فى هذه المرحلة - تحاول أن تنظّر للواقعية الاشتراكية، وأن تضع الخطوط الفاصلة بينها وبين الاتجاهات الأخرى. وذلك هو ما جعل الصراع شديدًا بين - اتجاه الواقعية الاشتراكية، وغيرها من الاتجاهات. وقد تراوحت الآراء ما بين التشدّد والدوجماطيقية، التى تفرض وصاية الحزب على الفن، وتجعل الإطار النظرى للواقعية الاشتراكية فى الماركسية الليننية بشكل حرفى، وبين آراء أخرى تحاول أن تتفهم الأوضاع المتغيرة فى العالم، وماجدّ من مشكلات فنية وجمالية، والنظر إلى الحداثة على أنها ليست ثمرة محرمة، وليست بنتًا شيطانيًا وقد كان نصيب هذا الاتجاه النقد اللاذع والنعت بالسذاجة والاضطراب والتشوش، بل أن هذا الاتجاه نفسه، كان متذبذبًا بين توسيع إطار الواقعية وتضييق نطاقها، وكان ذلك خلال الموقف المتشدد تجاه آراء الماركسيين من خارج روسيا، والذين رأوا ضرورة فتح أبواب الواقعية بشكل أكبر لاستيعاب التيارات الجديدة فى الفن.
هذا وقد كانت، هذه الآراء وتلك تعبيرًا عن الصراع الدائر فى الاتحاد السـوفيتى فى مجال علم الجمال، ومحاولة تطوير الآراء التى كانت سائدة فى الفترة السابقة، فترة بداية الثورة، ومواجهة الحرب، وكذلك النظر فى بعض الأفكار التى كانت منتشرة فى تلك الفترة، سواء ما كان متشدّدًا منها فى مواجهة الفنانين والكتاب ، أو كانت مقتضيات بداية الثورة تدعو إلى التغاضى عنـه. وبذلك تمت مناقشة آراء وكتابات "بوريس باسترناك" و"مـاياكوفسكى"، و"أخماتوفا"، و"الكسندر بلوك" بشكل أفضل، وذلك بعد أن كانت قد انحسرت الموجة المناهضة للبعض، وخفتتْ الأصوات الداعية للبعض الآخر.
الهوامش
Leizrov, Nikolai: The Scope and the-limit-s of Realism , Translated by Keta Cook, In (Mozhntagun,s) Ed. Of. Problems of Modern Aesthetics, Colletion of Articles, Progess Publishers, First -print-ing, Moscow, 1969, p.p. 299 & 300
(2) Suchkov, Boris: Realism And It’s Historical Development, Translated by Keta Cook, In (Problems of Modern Aesthetics, Colletion Articles) Op, cit. P. 319.
(3) Dymshits, Alexander: Realism and Modernism, Translated by Keta Cook, in problems of Modern Aesthetics, Collection Articles Op. Cit. P 278.
(4) Leizrov, .v.: Op. Cit. P.P. 300 & 301.
(5) Suchkov, B.: Op. Cit, p. 321.
(6) Tolstoi, A.N.: Collected Works, Russ. Ed. Vol. 13, Moscow, 1949 p. 379. Quated By Leizrov, v.: Op cit. P. 310.
(7) بوريف، يورى: التفكير الفنى فى القرن العشرين - ترجمة ثزار العيون السود - الموقف الأدبى العدد 82 - فبراير 1978 - اتحاد الكتاب العرب - دمشق - 1978 -ص ص 97، 98
(8) نفس المصدر - ص 98.
(9) نفس المصدر - ص 99.
(10) Leizrov, N.:Op. Cit. P. 304.
(11) Quoted From the First Publication of the theses by I. Fradkin in an Article Entitled “The Artistic Originjlity of Bertolt Brecht’s Plays “Voprosy Literatury No. 12. 1958, p.p. 70 & 71.
See: Ibid: p. 311.
(12) Suchkov, B.: Op. Cit. P. 348.
(13) بوريف، يورى: مصدر سابق - ص 100
(14) نفس المصدر - ص100.
(15) نفس المصدر - ص ص100 & 101
(16) Suchkov, B.: Op. Cit. P. 342
(17) Metchenko, Alexei: The Basic Principles of Soviet Literature, Translated By Keta Cook, In (Problems of Modern Aesthectics - Collection Articles) - Op. Cit - p. 9.
(18) Lenin, V.I.: Collected works, Vol. I P. 531.
Quoted in: Metchenko, A.: Op. Cit. P.9
(19) Metchenko, A.: Op. Cit. P. 12
(20) Lenin, v. I. Collected work, Vol. 10 - p. 48. Quoted In Ibid p. 13
(21) لينين، فلاديمير إبليتش: فى الثقافة والثورة الثقافية - دار التقدم - موسكو - 1968 -ص148.
(22) Metchenko, A.: Op. Cit. P.32
(23) Liezrov, v.: Op. Cit, p. 308.
(24) بوريف، يورى: مصدر سابق - ص97.
(25) Dymshits, A.: Op. Cit. P. 283
(26) Leizrov, v.: Op cit, p. 308.
(27) Suchkove, B.: Op . cit. P.337.
(28) Ibid: p. 342
(29) Ibid: p.p. 342, 343.
(30) Ibid: p. 375.
(31) تورين، آلان: نقد الحداثة(الحداثة المظفرة) القسم الأول - ترجمة صياح الجهيم - منشورات وزارة الثقافة السورية - دمشق - 1998 ص ص38، 39.
(32) أمين، سمير: تجاوز الحداثة أم تطويرها، مجلة الكرمل - ع (51) - ربيع 1997 - مؤسسة الكرمل - رام الله - 1997 - ص25، 26.
(33) تورين، آلان: مصدر سابق -ص45.
(34) نفس المصدر - ص 43.
(35) حسن، إيهاب: نحو مقهوم لما بعد الحداثة - مجلة الكرمل - ع (51) ربيع 1997 - مؤسسة الكرمل - رام الله - 1997 - ص ص14، 15.
(36) تورين آلان: مصدر سابق - ص38.
(37) برادبرى، مالكوم ، ماكفارلن جيمس: مصطلح الحداثة وطبيعته - ضمن (الحداثة 1) تحرير مالكوم برادبرى - ترجمة مؤيد فوزى حسن - مركز الإنماء الحضارى - الطبعة الثانية - حلب - 1995 - ص52.
(38) ماكفارلن، جيمس: عقل الحداثة - ضمن (الحداثة I) تحرير مالكوم برادبرى & ماكفارلن، جيمس: - ترجمة مؤيد فوزى حسن - مركز الإنماء الحضارى - ط2 - حلب - 1995 - ص75
(39) نفس المصدر - ص93.
(40) بوريف، يورى: مصدر سابق - ص ص92، 93.
(41) Borev, Yori: Introduction to Aesthetics p.p. 110, 111
Quoted in: Mozhnyagun, Sergei: Unadorned Modernism - in (Problems of Aesthestics) - Op. Cit, p. 232
(42) بوريف، يورى: مصدر سابق - ص ص92، 93.
(43) المصدر السابق - ص94
(44) نفس المصدر - ص94.
(45) نفس المصدر - ص 95.
(46) Mozhnynyagun, S.: Op. Cit. P. 232
(47) Ibid: p. 233.
(48) Ibid: p. 234.
(49) Ibid: p. 231
(50) Ibid: p. 239.
(51) Ibid: p.p. 240 &242 & 243.
(52) Ibid: p. 228
(53) Ibid: p. 245
(54) بوريف، يورى: مصدر سابق - ص96.
(55) Dynshits, Alexander: Op, cit, p. 261.
لقد كان للفن والأدب، وخصوصا الشعر، والشعر الرمزى بالأخص الدور الجوهرى فى التمهيد للحداثة فى روسيا وتطويرها أكثر مما كان للمناظرات الميتافيزيقية والفلسفية مـن دور. وقد كان كتاب "أسباب أفول الأدب الروسى والتيارات الجديدةفيه) الذى وضعـه الروائى والشاعر (ديمتر ميرزكوفسكى" هو بمثابة (المانفيستو) للاتجاه الحداثى فى روسيا عام 1893. فقد احتج هذا الكتاب على الانتـلجنسيا الروسية ذات الالتـزام السياسى الجـذرى التى كانت مسيطرة على الساحة الأدبية فى روسيا ما يقرب من نصف قرن[راجع: لامبرت، يوجين: الحداثة فى روسيا - ضمن (الحداثة I) تحريرى مالكوم برادبرى جيمس ما كفارلـن: - ترجمة مؤيد فوزى حسن - دار الإنماء الحضارى - الطبعة الثانية - حلب - 1995 - ص ص147، 154.
(56) Dymshits, Alexander: Op, cit. P. 261
وقد كانت الآراء الفلسفية التى تشارك فى بعث الحداثة فى روسيا تهتم بمهاجمة الاعتقاد القائل بأن الإنسان قادر على السيطرة على بيئته وعلى تغييرها، هذا الاعتقاد الذى يقـدم حلوًلا جذرية للمشاكل العسيرة، ويتحدى الحـذر أو يتجاوز حدوده، الاعتقاد الذى رأى الناس غير قادرين على رؤية الأمور اللاعقلانية، وناشد المستقبل قبل الماضى، أو بدلا من العالم العلوى وقد تمثلت هذه الآراء فى مجموعة [علامات بارزة Land Marks] والتى يشار إليها الآن بإسم "الفيكوفستيون" والتى شارك فيها "برد يائيف" - راجع - لامبرت، يوجين: مصدر سابق - ص ص 151 - 153.
(57) Dymsshits, A.: Op. Cit., p. 262.
(58) Ibid: p. 263
(59) Ibid: p.p. 263, 264
(60) Ibid: p. 264.
(61) Gray, C.: The Great Experinemted: Russian Art, 1893 - 1922 - London, 1962 - p 255. Quoted by: Mozhnyagum, s., op cit. P.229.
(62) Dymishits, A.: Op. Cit. P. 268.
(63) Ibid: p.p. 275 & 276.
(64) Ibid.,: p. 278
(65) Ibid: p.p. 287 & 289
(66) Liezrov, N.: Op, cit. P.p. 302 - 304.
(67) Ibied: p. 309.
(68) Ibid: p. 300
(69) Suchkove, B,: Op. Cit p. 347.
(70) Metchenko, A.: Op. Cit. P. 37