عمار سيد أحمد شليعة - مركب السراب -قصة قصيرة

القرية التي تنام على حضن النهر, و تصحو في حضنه , أضحت , لا تنام ولا تهجع , ولم تجف الدموع , المترعة , منذ فقدت القرية , عشر فتيات , من أجمل زهرات ربيع الحياة , فأتبعهن الأسى و الحزن ,بفقد عشر زهرات أخر , ما عرف لفقدهن أثر, إن كان للفقد أثر , و لا طافت بسماء القرية , الرمادية , شائعة , تشفي الغليل , و تخفف من وقع المصيبة, و الفاجعة القاسية , ألا يعرف المصاب ,أين ذهب مفقوده , و المفقودات في شرع القرية , لا عدّة لهن , إلا أن يِؤتى , بدليل , أنهن فقدن , من وراء ستر و حجاب , الغيب , يقنع الأحياء , فيسقطونه ,غائباً على شاهد , أو يؤتى بدليل , أنهن متن , د ليل , مدرك , ملموس ,فتطمئن القلوب , و تذهب الأحزان , و الدموع , إلى المقابر , المنبوشة , مراراً , بحثاً عن دليل , مفرح , يعلن موت المفقودات , إذ أن التيقّن بالموت , حزن , ثم يقين , أنه مصير الأولين و الآخرين .
بين النهر , وبين ديار القرية , مساحة للحياة الخضراء , الزراعة , التي تتبدل , خلال فصول السنة , و الحيوانات , التي تشارك أهلها , مشقة الحياة , و طبيعتها , المتقلبة , في إذعان , و خنوع , و إطمئنان , كما طيور القماري . من قلب نخلة , تطير , إلى قلب نخلة , و تنزل لتشرب , ماء الجداول , مع الحيوان و الإنسان , و كل في شربه حياة .
الشريط الزراعي يوازي طبيعة الجروف , التي , تداعب ماء النهر , لثماً , و صدوداً, و الفتيات يردن النهر , بصوّان الجمال , لجلب , ماء الشرب , على رؤوسهن , بعد الإستحمام , خلسة , و السباحة , بإحساس الخجل , من تلصص , عيون الشباب ,بين , الغصون , منفذ الرؤيا , السارقة , مفاتن عارية ,في دغدغة الماء , و الرغبة , و التحايل , والشباب , في مرحلة , يتجه فيها السلوك المراهق, نحوالآخر بصورة واعية و سليمة . لكنها الخلسة , تختلس الظنون .
نفس الرغبة عند الفتيات , أن يريْن , و يدّعين , و ينكرن ,و الكل في نشوة ,و رغبة و براءة , حتى في الخيال و هدوء النهرين , غارق.
تحيط بالمنازل , سلسلة من التلال الرمادية , و الجبال السوداء, و تنحدر الوديان , نحو النهر ,بطبيعة , طبوغرافية ,إرتضاها , الناس و منذ خلق الله السموات و الأرض و الجبال , تسيَّر الجبال , و تَسير ,و تنزلق الأرض , و تنفلق , و تنفتق ,و تولد الأودية , فتسيل الأودية , بقدر, معلوم ,بما يُرى , و ما لا يُرى , من ماء و سراب , و السراب , ظنه , أنه يُرى , في تباين , قوة الجذب ,بين السماء و الأرض , و الجبال و النهر .
نهار يوم , من أيام الصيف الحار,الخانقة ,لجأ فريق من شباب القرية , و رجالاتها ,لمشاطأة الجرف , و السباحة , هرباً من شدة الحر ,لماء النهر المنعش , المتجدد , ماء جارِ , لحتمية المرج , ببحر من بحار الدنيا , الأجاج .
لمح الجمع , مركباً , ذا شراع , مشرع , يشق طريقه , عكس التيار , و عكس إتجاه الرياح , فكانت دهشة , ألجمت الأفواه و الألسن , و تسمّرت العيون على المركب , حتى إذا تبينته , زال التوتّر وعاد التوازن , بين الجمع , و المظهر الماثل , فقفز الجميع , للنهر . ثلاثون شاباً , يحاولون اللحاق , بالمركب , والإمساك به , و قد علمتهم البيئة ,كيف يقيسون المسافة , و الزمن , و معامل التقدير , و الإرتباك الحسابي ,بلا أدوات , و لا مؤقتات , بل يرسمون بهندسة البيئة و الفطرة , مثالية خط التلاقي بالهدف المقصود .
أمسك القوم بالمركب , من كل جانب , فلم يجدوا على متنه أحداً , بل وجدوا , مقاومة , خارقة . سحبهم المركب , و سحبوه , بمساعدة التيار , شدّ و جذب , هروب و هجوم , و توقّف المركب .
هاج ماء النهر, و علا و هبط , و تحطم المركب , أشلاءاً , و تطايرت , الألواح الخشبية وتناثرت بين الماء الهائج ,و بين الشباب , الخائر القوى. تعلو المياه ,فيعلو اللوح , و يهبط , و بين الهُوي , و الهَوي ,تسقط على رؤوس الشباب , بقوة , ضربات إثر ضربات , من موجع الألواح الخشبية .
قاوم الشباب , الخَوَر , و الذهول , و سبحوا قافلين , من حيث أتوا, و لم يصدقوا أن المركب بلمح بالبصر ,عاد , كما كان . نفس المركب, يشق الماء ,مشرع الشراع , عكس إتجاه الرياح , و عكس جريان التيّار , و تابعوه , بأبصارهم ,حتى رسا , على جرف رملي ,بشبه الجزيرة ,التي تعترض , جزءاً من مجرى النهر , و تلتصق , منذ القدم , بجروف القرية , علاقة طبيعية , إنتقائية . وسمّوها بالجزيرة .
صاحب الجزيرة , من أعيان البلدة , و هو واحد من الذين فقدوا , بنتين , من بين المفقودات , و ظل مثل أهل القرية , يبحث , و قال إنه , رأى رؤية , بمنامه , أن البنات عدن , و لم تجد الرؤيا , لها مجالاً , لمسح الدموع و الأحزان .
بجزيرته , إسترق النظر , فرأى خمسين فتاة , عاريات , و العقود الذهبية , و الحلى, تجمّل أعناقهن , و أيديهن . رقصن , و رقصن , و تمايلن , في غنج , و دلال , كعروسات , بعد زفافهن , جئن , يشهدن , زفافاً , آخر , رأى من بين الفتيات , بنتيه , و تبين وجوه , كثير من المفقودات , فاستشهد بنته و زوجته , و إبنه , و جرى و الشهود, يخبر, القرية المذهولة .
حضرت كل القرية للجزيرة , فما رأوا , شيئاً , مما يقول الشاهدين , لا مركب , و لا فتيات , بل مزارع البطيخ , و الجوافة , و الخضر , و سرير , الشاهد , صاحب الجزيرة , تحت ظلال شجرات النخيل .
حين تواجه الذات , الطبيعة , قد لا يكون تناغم , بين , السلطة , و الطغيان ,و لا إنسجام ,خطوط الأمل الخضراء مع , خطوط الموت الحمراء .
تجددت الأحزان , و أقيم سرادق للعزاء , في فقد , عشرين فتاة , و ثلاثين شاباً , تم دفنهم , دون الفتيات , في يوم الحرورالمشهود , بمقابر القرية المنبوشة , و جرى المركب , مع جريان التيّار , و إتجاه الرياح , حتى تلاشت ملامحه , باتجاه السير الحتمي , بيد قسرية , يجسدها ماء النهر , المسوق , بين قوة الطبوغرافية , و بطش الجاذبية , لنقطة التلاقي .


عمار سيد أحمد شليعة – بورتسودان
-17-03-2015​




أعلى