سلمى الشيخ - الطير المهاجر.. قصة قصيرة

كنت وما زلت طيرا مهاجرا " ساكت " فما تزال معرفتى لاتتعدى ناقص واحد فى كل الامور الحياتية ، مازلت اشبه " حمار الحواشة " اعرف سكة " الشغل " والبيت ، مازلت تحت رحمة الاخرين ، سواء الباص الذى اعرف عوالمه وناسه ، او اهل بيتى فيما خص المواصلات ، فلا صداقات تجمعنى باحد سوى صديقتى الامريكية الوحيدة سيسيل ، فهى ايضا من اهل التوصيل ان احتجت اليها ، وصديق وحيد ايضا يعيننى على بلوغ اماكن اجهلها فى المدينة ...
فى المدينة التى اعيش فيها منذ عقدين تقريبا ، رغم انها قياسا بالمدن الاخرى الكبيرة ، صغيرة جدا وفى عداد القرى ، الا انها فى نظر اهل الولاية "ايوا " كبيرة ، حدثتنى شابة التقيتها فى احد الندوات انها من مدينة لا يتجاوز تعداد سكانها "200 فردا ، وحين كان اهلهم يزمعون زيارة مدينة ايوا ، قالت انهم يلبسون ملابس " الكريسماس" ويتجملون بطاقة تفوق طاقتهم لانهم سينزلون الى مدينة ايوا "؟ ذلك انها مدينة كبيرة فى تصوراتهم ، واضافت ضاحكة "كنانظل ساهرين طوال الليل لاننا فى الصباح سنزور مدينة ايوا .. كانت دهشتها تعادل دهشة زميلاتى فى السكن ايام كنت فى كلية الاعلام فى مينسوتا ، كانت رفيقتى فى الغرفةِ شابة فى عشرينات العمر ، افريقية امريكية من نيويورك ، كانت ترهقنى بطريقتها فى الكلام ، حيث بالكاد افهم ماتقول ، حيث لديها طريقة فى الحياة مرمية فى حضن الفوضى بلا حدود ، فى الامسيات ، احيانا كنا نجتمع نحن النزيلات فى ذاك البيت "اربعة نساء " كن من ويسكنسون اثنتان منهما ، وكنت ورفيقتى النيويوركية ، البيت كان مقسما الى ثلاثة غرف ، غرفة تحتلها مليسا ،وهى من ويسكنسون ، واخرى تحتلها اميلى من مدينة فى مينسوتا ، وكنت رفقة النيويوركية نتشارك غرفة ، مطبخ واحد ، لكل واحدة منا "رف " تضع عليه اغراضها ، وكذا كانت الثلاجة مقسمة ارففها الى اربعة ، فى الغرفة كان لدى نصف الدولاب الذى يتسع بطول الحائط بالتساوى مع رفيقتى ، وحمام واحد نتشاركه اربعتنا ، مما كان يستدعينا ان نصحو باكرا ، نحن اللاتى نعتمد على الباص فى ترحيلنا قبل ان اتعرف الى خديجة .. حيث كانت محطة الباص تبعد حوالى عشرة دقائق من السكن ، لاحظت حينها حرص رفيقات السكن على الحمام وغسل الاسنان صباحا ومساءا .. كنا نجلس فى غرفة الجلوس يومها ، جاءت رفيقتى لتنضم الينا وتلك عادة نادرة فهى دوما مشغولة بالكلام فى التلفون حيث كان "السيلفون جديدا ايامها ولم يكن بوسع الكثيرات منا امتلاكه .. كان الحديث من طرفى حين بادرت للقول انى بالكاد استطيع فهم "همهمة رفيقتى فى الغرفة " والغموض الذى يلف طريقتها فى الكلام ، وكنت بينى وبينى عزوت ذلك الى صغر سنها ، لكنى لم اعزيه لكونها من نيويورك ،لاحظت انهن بالكاد يعرفنها لانها لم تكن حميمة مع اى واحدة منا ، حين جاءت لتجلس معنا فى غرفة الجلوس، بادرنها بالسؤال عن المدينة التى جاءت منها ، وحين قالت لهن انها من نيويورك ، شهقن فى لحظة واحدة باجمعهن "واو ، نيويورك ؟" وبدأت كل واحدة تستدعى احلامها بالتحليق فى سماوات نيويورك ، وكأنى بهن يحلمن بالعنقاء والخل الوفى ، استدعيت لحظتها تلك الاغنية التى راجت فى السبعينات من القرن الماضى ربما " احى متين نزور الخرطوم " فيما كانت كل واحدة من رفيقاتى تتغنى بحلمها لزيارة نيويورك ..! حين سالتهن عن سر تلك الاشواق الى السفر الى نيويورك قالت احداهن " نحن نعيش فى الوسط الغربى لامريكا لكننا مزارعين ، اكبر مدينة زرناها كانت عاصمة مينسوتا ... وذلك قبل عدة ابام حين وصلنا الى مينسوتا للدراسة هنا ، لكم كان امرا مدهشا لنا ، وحكت الاخرى ان اهلها حين اعتزمت الدراسة فى مينسوتا كانوا يبكون يوم سافرت لاول مرة لانها كانت المرة الاولى التى تسافر فيها خارج حدود مدينتها الصغيرة التى تبعد عن العاصمة عدة اميال ، رفيقة السكن مليسا من اسرة غنية جدا ، داب اهلها على زيارتها كل يوم سبت ، حاملين معهم كل ما وقعت عليه ايديهم ، لدرجة ان مقتنياتها فاضت عن الثلاجة فجلبوا لها فى احد ايام السبت "ديب فريزر " وكأنى بها ستبقى الى الابد فى تلك المدرسة ، فى الامسيات وحين تكون وطأة الواجبات المدرسية اخف ، وحين نعود من الشغل وفينا متبق من العروق تنبض ، نندس الى غرفة مليسا ، حيث كل ادوات الترفيه متاحة خاصة الافلام التى تم رفعها مؤخرا من دور العرض ، كانت مليسا كريمة ولطيفة ، تحب الحكايات ، وتحكى عن نفسها بأسى حيث كانت تواعد شابا افريقيا امريكيا ، وهى بيضاء ، جميلة لم تتجاوز النصف الاخير من ال"طاشرات " تصنع لنا القهوة وتحكى ، كانت تخصنى بحكاياتها ، ربما لانها كما قالت "احس انك امى " وتمنيت ان تكون ابنة لى لما لها من دماثة ولطف ورقة وكرم ، كانت تمتلك قوام عارضة ازياء ، وخطوة حمام مغرورحين تمشى ، شعرها اسود وطويل تسدله ليسد المسافة بين ساقيها وظهرها بارتياح ، تزيحه لتجلس ، عيناها زرقاوان وممتلئتان بالخبايا ، كانت تحكى عن ما اسمته ماساتها الحقيقية ، دموعها تسبق لسانها بالكلام حين تحكى عن صديقها الاسود "كانت اسرتها محافظة لدرجة التزمت ، قالت انهم طلبوا اليها ان تتوقف عن مواعدة ذلك الاسود ، لانهم كما قالت " انه رجل ربته امرأة ! ولا يعرفون له والد ، وفوق كل ذلك لا يمشى للكنيسة ايام الاحاد " لذلك لن يكون زوجا جيدا لها ، بل انها حدثتنى انهم اختاروا لها زوجا من اسرة كبيرة وغنى بطبيعة الحال ، بكت يومها حتى اشفقت عليها ، مسحت لها ادمعها وحاولت الى تخفيف وطأة الأسى عليها ، قلت لها وكنت اعلم تصلب اهلها وعنتهم كما حكت لى قلت لها ان عليها ان تدافع عن حبها لاخر لحظة ، قالت انى احبه لكنى بالمقابل سافقد ثروة والدى حيث انى الابنة الوحيدة ،وفى المقابل سافقد من احب ..!
تذكرت تلك المسرحية التى درسناها عن الحب والواجب ، وطغيان واحد على الاخر ، وايهما سيختار المرء ، لكنى ما زلت اؤمن رغم تعسف الفكرة اؤمن ان الانسان عليه ان يتبع قلبه ، فالقلب احيانا يقودك الى حيث يجب ، اقول احيانا وليس دائما ، لكم انى متشوقة لمعرفة ما حل بها الان بعد كل هذه السنوات ...!
ايام الدراسة اتى على حين من الدهر تعرفت الى شابة من ديترويت ، كان اسمها خديجة ، سالتها عن سرتسميتها بهذا الاسم العربى ؟ قالت ان والدها هو من اسماها خديجة لانه كان مسلما من جماعة "مالكوم اكس " بل و كل اخوتها واخوانها اسماؤهم عربية ..!رغم انهم فى مجملهم مسيحيون .. كانت خديجة شابة فى منتصف العشرينات ، سمراء كما يجب ان تكون السمرة ، نحيلة حتى تكاد تخاف عليها مر النسيم ، انيقة دائما تحس انها باتجاه حفل ما ، كانت سيارتها صغيرة ومنهكة ، مع ذلك نندس نحن فى متنها دون ان تمنحنا احساس بانها متعبة ، لكنها حين تتعطل لن تجدى معها كل الحيل ، فنتحول الى سيارة صديق خديجة اندريا ، ذلكم الفتى المرعب كما كنت اسميه ، فهو حين تجيش عواطفه اثناء سماعه اغنية طالعة من المسجل الخاص بالسيارة يترك العنان ليديه فى الهواء راقصات مع تحريك وسطه وهو فى مقعد السائق ، كنت اصيح واحيانا ابكى لفرط الخوف ، فيجيبنى " اسمعى سلمى لقد كنت سائق باص فى ديترويت وهى اكبر من اى مدينة تعرفينها فى الوسط الامريكى ، استرخى واستمتعى باللحظة " مع ذلك كان اندريا لطيفا ، صغير الحجم ، ضخم الصوت ، حتى اننا جميعنا اقترحنا عليه ان يشتغل مذيعا .. اعجبته الفكرة فبات يقلد المشاهير من المذيعين كلما كان فى حضرة الاصدقاء والزملاء من معارفه ...
فى بعض الاحيان حين تكون خديجة فى مدينتها ، او يكون اندريا مرتبط بموعد ما ، اعود لصديقى الازلى " الباص "ولان الموقف الخاص بالباصات كان مرتبطا بما يعرف باكبر مركز تسوق فى امريكا.. او هكذا اسماه اهل مينسوتا ، كنت حين انزل عن الباص ابحث عن علامة اجترحها حتى لااضيع فى متاهة تلك المحطة الضخمة ، او حين يغلبنى النعاس خاصة حين اصحو عند الرابعة صباحا ، لالحق بالباص حيث تبدأ الدراسة فى السابعة صباحا وتنتهى عند منتصف النهار ، اضافة الى طول المسافة بين مسكنى ومحطة الباص حيث تصل الى نصف ساعة كاملة .. كنت اجلس فى مكان محدد بانتظار الباص كل يوم فى نفس المقعد حتى لااضل ولا اتوه ، ثمة شاب افريقى ظل يقعد كل يوم الى جوارى فى مكانى المجترح ، لاحظت انه يحاول ان يكلمنى كل يوم ، وكنت ليس بدواعى التجاهل بقدرما بدواعى النوم المتقطع لحظتها ، حتى كان ذات صباح حين وجدته ينزل من الباص ويتجه مباشرة الى حيث اجلس ، وقف فى البداية متصلبا كخشبة ، ثم جلس مرتعبا كما اوضحت ملامحه الدقيقة ، كان له وجه دقيق الملامح ، وجسد ضئيل نوعا ، يداه ناعمتان ، دائما متانق بطريقة باريسية ملفتة ، هذا الصباح البارد من اكتوبر للعام 2001 كان قد اقترب مافيه الكفاية لاتعرف الى ملامحه عن قرب ، ولونه المائل للبنفسجى ، وعطره الباريسى الذى يشع مالئا المكان بفوحه ، حيانى ثم جلس ، سالنى من اين اصلا ؟ قلت من السودان .. مد يده مصافحا قال : انا من بوروندى ، قلت له : اهلا وسحبت يدى التى شاء ان يحتفظ بها لمدة طالت فى حساباتى ، قلت محتدة : تشرفنا ، والتفت الى حقيبتى اعيد وضع الكتاب الذى كان يرهق يدى ، جلس وكان يزمع ان يجلس الى الابد فيما كنت اشتهى وصول الباص فى اى لحظة لاخرج من ذاك المأزق ، قال : اعيش وحيدا هنا ، قلت له : ومن الذى لايفعل ؟ قال: اعرف ان الحرب فى بلادكم طال امدها ، قلت : اتمنى ان تنتهى سريعا لاعود ، قال : لكنى لن اعود ، وكلى امل ان انشئ اسرة هنا ، قلت له : افعل .. حينها وصل الباص ، ودعته باقتضاب وانصرفت، تنفست الصعداء حين وصل الباص ، اسرع الخطى خلفى ، كان محمولا على جناح عصفورة ، او هكذا تخيلته ، قال وانفاسه لاهثة : اتمنى ان تقبلى هذه الهدية ، ومد الى بمظروف كبير وثقيل الوزن حين جسته يدى ، اخذت المظروف والهدية وهرولت الى داخل الباص فيما رايته وهو يرنو ناحية الباص ربما كان يلعن وصول الباص .. حين قعدت الى مقعدى ، فتحت المظروف وبدأت اقرأه ، ضحكت فى سرى ، حين كنت اطالع ما خطه الرجل ، كان يسالنى ان اتزوجه ..؟ كنا نلتقى كل يوم قبل ان يبوح برغبته تلك ، نتحدث عن صعوبة الحياة ، ورهقها ، ونعلن اشواقنا لاوطان باتت بعيدة عن القلب بعض الشئ ، قلت له ذات مرة ربما لن نعود ابدا الى تلك القارة ؟ قال لماذا لانبقى هنا ونبدأ حياتنا معا ؟ يومها لم اكن احسب ان الكلام الذى باح به كان يعنينى شخصيا ؟ حتى كان ان قرأت ما خطه فى تلك الرسالة الطويلة المكتوبة بلغة انجليزية دقيقة ومحددة التعبيرات ، يومها طلب منى ان لااتعجل الرد عليه ، وان امنحه فرصة لتفسير كل شئ .. ولم اشأ ان اقول شيئا له بعد ذلك لانى التقيت خديجة فى مصادفة غريبة ، كنت ابدو مريضة ، كنت احس دوارا يومها ، كان الجوع يطوينى ، ما لسبب سوى ان ولاية مينسوتا لاتقبل الا بطاقاتها المستخرجة من مينسوتا ، وكان لدى ما يكفينى ويزيد ، لكن البطاقة كانت عائقا لان اسحب اى مبلغ مهما كان ، ولم يكن من احد من الطلاب معى من مينسوتا ، جميعنا ، كنا من انحاء متفرقة من الولايات من نيويورك ، الى ميسسبى ، الى ويسكنسون ، الى ميتشجان ، وكنت لثلاثة ايام لم اجد طعاما سوى الماء ، حين طاح جسدى تلقفتنى خديجة ، وصاحت باحد الطلاب ان يحملنى معها ، اجلستنى خديجة الى كرسى قريب ، سالتنى من اين ؟ قلت لها من ايوا ، قالت : هل انتى مريضة ؟ قلت جائعة ، قالت ماذا ؟ قلت جائعة لم اذق طعاما منذ ثلاثة ايام ، قالت كيف ؟ لماذا ؟ لم اكن املك مقدرة على الكلام ، اخذت على عاتقها اطعامى ، جرت ناحية الكافتريا واشترت لى سندوتشا وزجاجة عصير ، وقعدت تنتظرنى انهى طعامى ، سالتنى عن الداخلية التى اسكن فيها ؟ اشهدتها عليها ، قالت اننا جيران اذن ، ستذهبين معى الى غرفتى ، وسنرى ماذا يحدث بعد ذلك ، خرجنا من المدرسة معا ، وكانت تلك اول مرة اصل البيت فى ميقات باكر ، وصلنا الى غرفتها ، افسحت لى ان اجلس ، فتحت دولاب الطعام حيث تحتفظ بدوزن من الاطعمة ، وعبأت عدد من الاكياس الصغيرة بمواد مختلفة " ارز ، عدس ، ومعلبات ولبن وشاى " واوصلتنى حتى سكنى .. ولحسن الصدف كان اليوم التالى قد تم استدعائى للعمل فى كافتريا حيث الطعام مجانى ، وحيث التقيت ما ثيو " الكافر " وماثيو فيتنامى قصير القامة ، اسمر كما القمح ، ولطيف كما لو مفطوم بالدعابة ، كريم حتى لتظن انه من قالوا عنه "حاتم الطائى " التقينا اول يوم فى الكافتريا ، كان قد وصل لتوه ليبدأ الوردية التى كانت نفس ورديتى ، تغدينا معا ، تعارفنا بتنا اصدقاء من اول لحظة ، كان شخصا ضيئل الحجم ، لكنه واسع القلب فلقد كان اكثر العاملين شعبية بقفشاته اللاذعة ، كان يتعهدنى وكثيرا بالتوصيل الى البيت او المدرسة ، يسعى لحل مشاكلى مهما كانت كبيرة او صغيرة كأنه ولى حميم ، حدثنى عن ماساته وكيف ان اسرته تم اغتيالها امام ناظريه فى سايجون ، واستطاع الوصول الى امريكا وحيدا ، تاركا كل ذكرياته وماضيه قيد النسيان فى فيتنام ، كان يسخر من كل شئ ، سالنى ذات يوم اى الاديان اتدين بها ؟ قلت الاسلام ، قال قرأته كله واعرف كل ما حدث فيه ، وقرأت المسيحية واليهودية ، والكونفوشيوسية ، البوذية ، كل دين سماوى او ارضى ، لكنى انتظر دين لارجال فيه ، كونى نبية وساكون اول اتباعك ، ضحكنا يومها واسميته الكافر من يومها حتى تفارقنا ، ولم يعد يكلمنى عقب رحيلى عن مينسوتا ، وكنت قد اعتدت على ذلك ، فمعظم من تعرفت اليهم هنا ، ينهون معرفتهم بك اللحظة التى تفترق فيها دروبكم ...!
اليوم التالى مع الرواندى كان يوما حزينا ، جاء فى الصباح محملا بكل الاشواق التى يمكن ان يراها بشر فى بشر ، قعد بعد السلام الى المقعد الطويل الاسمنتى الذى كنت اجلس فيه ، قال : هل طالعتى رسالتى ؟ قلت : فعلت ، قال: وماهو ردك ، استجمعت كل شجاعتى ،وتسلحت بكل طاغوت الانثى لاقول له " اسفة " لحظتها رايت رجفة على خده الايمن ، ورفة فى حاجبه ، لا اعرف كيف واتتنى الجرأة ان انظر فى ذلك الوجه الذى تحول فى لحظة الى ما يشبه الجثة .. حين نهض رايت رعشة فى ساقيه، مشى بخطوات مكهربة ربما ، وترك لى هدية ملفوفة ، حملتها وكنت حزينة لانى لم استطع ان اكون زوجة له .. يا له من قرار قاسى عليه ، لكنه جعلنى احس راحة ..
كنت اقول اننى ما زلت "طيرا مهاجرا " واعنى طيرا بالمعنى الحرفى الذى يستفزنا حين نقول " بت طيرة" او " زول طيرة " فهى ما بت اعرفه عنى ، لانى احس احيانا بالفشل ، لم اشأ ان اكون حرة كما ينبغى ان يكون المرء، فشلت ان اتعلم قيادة السيارة " عربية الله والرسول دى " وتركت الحديد " للنبى داؤود" خوفا ورهبة ما تعترينى لمجرد خاطر ان اتعلم القيادة ، ورددت ذلك للطفولة يوم كنا نلعب خارج البيت فى امدرمان ، كان بيتنا مجاورا لمحطة توتال للبنزين ، وكنا نلعب فى كوم رمل تصادف وجوده يومها ، سائق السيارة كان يريد ان يرجع للخلف ، فاذا به يلفنى تحت عجلات سيارته ، لم ينقذنى سوى انسحابى الجرئ من تحت العجلات ، ومن يومها كلما رايت سيارة ترجع للخلف ، ترتجف اوصالى ، حتى هذا اليوم
طيرة اخرى ، ما زلت اجهل كيف اصل لاماكن لم اكن فيها يوما ، افشل فى قراءة الخرائط رغم انى كنت فى عداد المتفوقات فى الجغرافيا ايام الدراسة ، لا اعرف كيف اعيد ترتيب كومبيترى ان تعثرت خطواته ، او تركيب ابسط المعدات التقنية ، احس غبنا احيانا حد البكاء ، لكنى اتمسك بحبل الكتابة عن تلك المأساة التى اعيشها ، واردها بقول قاطع " ما خلقت لمثل هذه الاعباء " فلها ناسها الذين يعرفون تفكيك لوغراثيماتها ، ربما لاننى لم احاول كفاية.. مع ذلك اعد نفسى طيرة كبيرة تجهل ابسط التقنيات وتعرف اشياء ربما لايعرفها الاخرون ، واحمد لنفسى انى تلكم المراة

ايوا سبتمبر 16 2015
أعلى