نورالدين أحمد عبد الرحمن - أمبراطورية حبيب الله.. قصة قصيرة

طيلة سنواته التي تخطت السبعين عاما بستة كاملة، لم يترك السيد حبيب الله تجارته التي ارتضاها لنفسه منذ أمد بعيد، فقد باءت كل محاولات أبنائه لجعله يتركها بالفشل الذريع، ففضلا عن أن الحمير كانت وسيلة الأهالي الوحيدة للتنقل وترحيل بضاعتهم كما يقول، فقد كانت كذلك مصدرا فريدا للترفيه أيضا، وهو لا يفتأ يذكرهم بتلك العصرية التي زار فيها مفتش المشروع قريتهم، وكيف أنه نظم سباقا إشترك فيه تسعة وخمسون حمارا، وكيف أن المفتش قد أفرد نصف كلمته للحديث حول ذلك السباق، والأهم من ذلك أنه شخصيا قد ربح المركز الأول والثاني والثالث، لأن كل حمير السباق كانت ملكه.

بني حبيب الله زريبة ضخمة من الشوك شغلت مساحة خمسة عشر فدانا، توسعت لتأخذ حيزا أكبر عجز هو شخصيا عن تحديد مساحتها لإستيعاب كمية الحمير التي يغتنيها عن طريق الشراء، وتلك التي تولد سنويا وتضاف (للمراح)

يأخذ حبيب الله دورة حول نفسه ويعيد أفضال الحمير وتجارتها، ويشدد علي أنه لولا هذه الحمير لما صار إبنائه جميعا أطباء بشريين، ثم يقف برهة مستدركا:

- إلا حسان الذي اختار طريق الطب (البطري) ورغم إغرائي له إلا أنه فضل العمل لدي الحكومة .

يتنقل حبيب الله في دكاكين القرية مستغلا تجمع الناس هناك مستمعا لأحاديثهم، ثم يتسلل رويدا رويدا للحديث حول الحمير وأهميتها، يصمت الجميع غير قادرين علي مجاراته في ذلك ، وفي النهاية يستمر في حديثه الذي لا ينتهي أبدا ، حتي ينسحب آخر فرد من الحضور ولا يبقي إلا هو و صاحب الدكان الذي لا يجد طريقة للفكاك من كلامه المتجدد عن الحمير إلا بحضور زبون لشراء سلعة ما، فيلوذ صاحب المتجر داخل دكانه محصنا نفسه عن تلك الحمير المجنونة.

إنضم لحبيب الله السيد سعيد عبد الله جبير، وسعيد هذا كان أحسن من (ينجد) المراتب و (اللحافات) فقد حول صنعته بكاملها لصناعة (البرادع) ووظف معه ثلاثة شبان احدهم أتي من المدينة، وفي قمة رواج هذه التجارة ، كان يصنع إثنان وعشرون بردعة في اليوم وما لبث بعد قليل أن إنضم إليه خلف الله النجار الذي حوًل كل أشجار السدر والهجليج والسنط في المنطقة إلي سروج بديعة الصنع ذات مظهر مصقول، أما وداعة الله فقد سافر لمدينة الأبيض خصيصا وتتلمذ علي يدي أحد حدادي (الواطة) وعاد بعد شهرين ليبرع في صناعة (اللجامات) وقد إجتهد حبيب الله شخصيا في إستغلال جلود الأبقار المذبوحة وتحويلها (للبابات) وهو نوع من الأحزمة الجلدية يستخدم في تثبيت السرج علي ظهر الحمار، وكان يعاونه ثلاثة صبية في دبغها وتوضيبها ولم يستمر فيها طويلا فعهد بها إلي أحد (تلاميذه) الذي سرعان ما أجادها وتفنن في صنعها مستخدما أدوات صنعها بنفسه لتسريع عملية الإنتاج يعاونه الإثنان الآخران، فبالإضافة لهؤلاء النفر المجيدين، استقطبت تجارة حسب الله خمسة وعشرون شابا يؤدون أعمالا مختلفة مرتبطة بهذه التجارة، منهم عشرة شبان تخصصوا في حلاقة الحمير وتزيينها، وسبعة منهم لتشذيب (الأضلاف) أما البقية فيقومون بأعمال أخري مساعدة، مثل تقديم السقاية والعلف للحمير وترويضها وغير ذلك .

علي أن الشئ الاكثر إنتاجية والأشد رواجا من تجارة الحمير نفسها والتي جني منها حبيب الله ثروة طائلة، فكانت بيع الزبالة، حيث تصطف ثلاثة لواري يوميا لنقل الزبالة لمصانع الطوب، وما تبقي منها في آخر الموسم يبيعه لبنائي المنازل أو النسوة اللائي يستخدمنها في (لياسة القطاطي)

توفي السيد حبيب الله بما سعته يداه، فقد تدخل لمساعدة أحد صبيانه في ترويض احد الجحوش، فتلقي رفسة قوية أصابته في مقتل، فمكث في المستشفي لمدة يومين وبعدها اسلم روحه لبارئها قبل يوم من وصول أبنائه الأطباء من المدن البعيدة، وقبل رفع الفراش احتد النقاش بينهم في إقتسام تلك الثروة الطائلة، فوصل بهم الأمر للتعدي علي بعضهم البعض بالسباب والشتائم التي وصلت لحد الضرب ثم وصولهم للمحاكم، لقد أخذ فيهم الطمع أي مأخذ وسط إستغراب وتعجب أهل القرية ولسان حالهم يقول:

مساكين أبناء حبيب الله، جمعتهم الحمير وفرقت بينهم الحمير.



نورالدين أحمد - سنار 1980
أعلى