ينتمي الروائي اللبناني ربيع جابر الى الجيل الجديد من الشباب العربي الذي دخل غمار الكتابة الروائية بأسلوب جديد، ولغة سلسة، وحكايات من نسيج التاريخ، ومن الزمن الماضي المستعاذ بالصور الذهنية، وتراكم القراءة في طيات الاحداث التاريخية التي ما فتئ الروائي يعيد ترميمها من جديد في قالب حكائي يبدأ من النهاية وينتهي بدون أجوبة سريعة، وأحكام قطعية. لعل القارئ يدرك بالتمام مرامي الحكاية، والعودة للزمن القريب والبعيد، للقول الفصل في أجزاء من تاريخ لبنان والتاريخ العربي، من زمن الاندلس، ومرحلة الحكم العثماني، وزمن الحرب الاهلية اللبنانية، وتجارب أخرى يسكب عليها الروائي ميزة الخيال والابداع في عملية مستمرة، تغذي مخيال الشعوب، وتزيد المناطق لهيبا، فتصيب النسيج الاجتماعي وتعطل من التنمية والتقدم . المكان والزمان في تداخل مستمرين، وقوة السرد في العمل على تحطيم العلاقة بين المرئي واللامرئي، وبين المتخيل والواقعي، من اولويات المرامي التي تميز أعماله، "بيروت مدينة العالم"، منها عبر الانسان العربي نحو بلدان عدة، واليها يعود في سفر طويل بين أمكنة متباينة . الحرب الاهلية اللبنانية والمخلفات النفسية ،
كدمات وجروح غائرة في نفسية المبدع، حيث تحولت الحرب الشرسة الى لوحة تعبيرية وفنية، رسم منها الروائي صورا للحالات المأساوية، من القتل على الهوية، والتدمير الذي طال العلاقات الانسانية، والفكرة التي وحدت الشعب اللبناني، تهاوت بفعل المدافع وحالة الطبيعة في هيمنة القتل . رواية "الاعترافات " وحكاية الطفل مارون الصغير عن أفعال الاب التي تركت بصمة في اعماق اللاوعي، وتركت اسئلة حائرة عن اسباب القتل، والاندفاع في تصفية الاخر القريب . الذي نتقاسم معه الوطن والانسانية واللغة. خطف الطفل مارون الصغير يحول الاب الى شخص اخر . وجوه مقنعة بأقنعة مزدوجة الافعال في البيت وخارجه. انتقام من الكل بسبب الحرب التي لا ترحم، وبسبب أخطاء البشر في اقامة كيانات مسالمة . الابرياء ضحايا الحروب والهويات القاتلة. جنون الحرب الاهلية اللبنانية جعلت من مارون الصغير الذي تربى في حضن الاسرة التي ينتمي اليها الاب بالتبني، نتائجها كانت قاسية على الاطفال الذين ولدوا في مدتها، وعاشوا على أصوات البنادق وثقافة التصفية والانتقام . أرشيف من الزمن القريب، وذاكرة تأبى النسيان، ومن مميزات الحكاية إلمام ربيع جابر بالأجزاء التي أغفلها المؤرخ قصدا أو سهوا. وفي العودة للماضي البعيد، يحكي الروائي عن حكاية حنا يعقوب في رواية "دروز بلغراد حكاية حنا يعقوب "، هذا الرجل المسيحي من بيروت، بائع البيض الذي ساقته الاقدار الى بلاد بعيدة تاركا زوجته وابنته . هذا الحظ العاثر ، قرار الرحيل جاء بفعل قرار من السلطة العثمانية نتيجة حرب بين المسيحيين الموارنة والدروز في جبل لبنان . قرار ترحيل 550 درزيا الى سجون بلغراد وبلاد اخرى في البلقان. يستعيد الروائي ربيع جابر الحكاية في عملية تكسير الزمن، وتقريب الحدث من الجمهور عن السياسة والتبعية، والحروب القديمة على الهوية، وقضية نسف التعايش بين مكونات المجتمع ، حنا يعقوب رجل بسيط وشريف،
شاءت الاقدار أن يجد نفسه في سجون متنوعة، ويعود بعد 12 سنة مغتربا في سجون الاخر . الامل في العودة للوطن والانعتاق من الاغلال، وعتمة السجون زادت في عزيمة حنا يعقوب المسيحي الذي تم ترحيله قسرا دون معرفة التهمة الموجهة اليه، عقاب جماعي على جريمة لم يفعلها أو يشارك فيها، نُفي بدون محاكمة ، وكان بالأحرى أن تكون المعاقبة قانونية في البلد الاصلي، دون اللجوء الى سياسة النفي القسري، حتى أحس حنا يعقوب بالنهاية الحتمية، ولا أمل في العودة من جديد الى بلده . هذا الالتفاف على الحكاية وتحويرها في تقليص الزمن، وتقريب المكان من ذهن القارئ دون اغفال الجزئيات، ينم عن خيال الروائي في تحميل الرواية التاريخية كل المضامين، وتمكين القارئ العربي من معرفة الاسباب التي ساهمت في الشقاق والانتكاسة والتراجع التي يعاني منها الانسان العربي عند العودة للماضي البعيد والقريب. يطول السرد ويتباطئ بدرجات متفاوتة . في انزواء الروائي للخلف، وترك الشخصيات النامية تعبر عن شجون وافكار في صيحة مستمرة لأجل الحقيقية ،وبناء رؤى ذاتية من عالم الامس، من خلال غمار التجارب الشخصية في عالم الحكايات التي لا تنتهي . يقلب ربيع جابر صفحات الكتب، وينبش في الارشيف، وفي المسكوت عنه، ويعيد كتابة التاريخ من جديد. ويرمي بذلك الى ترميم الذاكرة، من معاناة الماضي في الحروب والاستعمار، والهروب القسري من البلد نحو بلدان اخرى. يذكر القارئ كالعادة دائما ببيروت مدينة العالم في 1860 والحرب بين المسيحيين والدروز، وفرار الناس نحو المدينة حيث تغيرت معالمها .فكل من سكن المدينة أصبح بيروتيا بالميلاد والعيش . شخصية عبد الجواد احمد البارودي الذي جاء هاربا ما بين 1820 و1822 من دمشق، واستقر به المقام في بيروت. سكن المدينة، وسكنت جوارحه كذلك، تزوج من بناتها وأنجب كثير من الابناء. تحولت الحارة باسمه .
المدينة البديلة التي عشقها الراوي وهام بدروبها وازقتها . والمدينة التي نمت وازدهرت وسكنت كل من فضل العيش والاستقرار بها. عائلة البارودي وغيرها . تاريخها مدون في صفحات الحكاية . سيرة عائلة البارودي طويلة في ثلاثية ربيه جابر عن المدينة . لقاء فريد بين الروائي والمؤرخ دون ان يكون على طينة المؤرخين القدماء. يمنحك الروائي فرصة اخرى للتأمل في عالم الامس ، في الجزئيات والتفاصيل الصغيرة عن المكان الذي تشكل من الناس الحالمين، والفارين والنازحين، ويقنعك بسحر هذا المكان الذي سكن الذات. وهذا التفاعل الذي تحقق في المدينة، ويترك للقارئ الحرية في اعادة تصويب الفكر نحو الماضي. ويترك الشخصيات تعلو صوتها على صوت الروائي، وتلك ميزة الرواية المعاصرة. في اسلوب سردي شيق، سريع وممتع. جمل قصيرة، وغنى الاحداث وتسارعها. اسلوب التصوير السينمائي، والبداية من النهاية والعودة للبدايات، وترك الاحداث تنمو بذاتها. ففي رواية " أمريكا "رصد معاناة اخرى للمغتربين العرب، واشكالية الانا والاخر. حكاية جو حداد وزوجته الشابة التي تركها وحيدة في الانتظار حتى يعود لأجل حياة جديدة في الوطن الام. الاغراء المادي لم يبق الزوج على الوفاء الاول، حيث فضل الزواج من امريكية، ولما استشعرت الزوجة الغياب الطويل. عزمت الامر في الذهاب الى هناك، والتعرف على خبايا الامور. فكانت رحلة "مارتا حداد" طويلة وشاقة من لبنان مرورا بمدن ودول. تحكي عن مغامرة المرأة العربية في بيئة أخرى غير مبالية بالتقاليد والعادات بصدد خروجها. وللضرورة احكام، ومنطق الفعل يعني معاينة وضعية الزوج، ونقل الاخبار الصحيحة عن ظروفه، هنا يصور ربيع جابر الظروف القاسية للجيل الاول في المهجر. زمن الحرب العالمية الثانية والازمة الاقتصادية وعجلة الصناعة والتطور في العالم الجديد، وحاجة امريكا لليد العاملة، والجابب الانساني وقوة الكرامة في صلابة المرأة العربية على التحدي، ومغادرة المكان في امل العودة. المهاجر العربي حمل معه القيم الشرقية من صراعات طائفية ومذهبية. يترك الروائي الشخصيات تتحرك وتنمو في ظل وقائع ونتائج غير محسومة، وتخمينات القارئ في النهاية الحتمية لانتصار الابطال وهزيمة الشر. هذا النوع من السرديات غير موجود في الادبيات المعاصرة .
الخيال والواقعية تبيح للقارئ المتأمل في مرامي الحكاية، والماضي المنفلت من القول. والمسكوت عنه بقالب حكائي متشظي . بل حتى العودة للتاريخ لا يعني بالأساس السرد الخطي للوقائع، بل استلهام قصص من صنع الخيال، وشخصيات غير واقعية كما يقول ربيع جابر في بداية كل رواية، يبقى التشابه دليل على صدق جزء من الحكاية. أما في رواية " الغرناطي" هناك عودة للزمن الماضي البعيد. صوب الفردوس المفقود (الاندلس) زمان الوصل وحلم الكرى، ومغادرة المكان بعد زمن طويل من العيش والبناء والصراع. عام 1091 ميلادية. يفقد محمد أخاه الربيع، رحلة شاقة للبحث عنه في اماكن عدة، من انطاكية ومصر والشام دون جدوى . لا شيء يعود كما كان. والتيه في عملية البحث نوع من الامل والتأمل في مرامي الحياة. في الممكن والمستحيل. لذلك يمنح ربيع جابر حبكة منسوجة من الزمن الماضي، دون أن تكون الرواية تاريخية، أو نوع من السرد الخطي، وكل ما يروج في ذهنك من البداية أيها القارئ، بكل ذكاء يترك القارئ أمام تأملات الواقع بالعودة الى زمن الماضي البعيد والقريب .هناك توجد تفاصيل الازمات وخيوطها .