مضت .. سلمى .. مسرعة لتفتح السواقي في الأرض القريبة من الدار بعد أن بدأت السحب تتجمع في السماء، وحين عادت إلى الدار كانت أبواب السماء قد تفتحت وانسكب المطر، يروي عطش الأرض .. لم يكن لدى سلمى عمل تؤديه في ذلك العصر، فالسماء تمطر وجميع من في المنزل يغطون في نوم عميق .. فلم تجد إلا أن تخلو إلى نفسها في غرفتها وأن تتمدد على سريرها مولية وجهها الصغير شطر النافذة المفتوحة على الحقول .. ورأت مياه المطر تندفع من السواقي إلى الأرض العطشى.
لكن خيال سلمى انطلق بها بعيداً عن الأرض والمطر إلى أشياء لم تكن لتفكر بها، وسمعت صوتاً كأنه همسات رقيقة يقول: "سلمى .. أخيراً ها أنت تواجهين نفسك .. يجب أن تقولي الحقيقة، لا تحاولي التهرب من نفسك، فلن ينفعك ذلك يجب أن تقولي أن الانتظار قد طال وأنك لن تستطيعي التحمل أكثر من ذلك، حاولي أن تتذكري منذ كم غاب عنك "درهم" زوجك .. من خمس سنوات كاملة يا سلمى، وها أنت في السنة السادسة من الانتظار، وكم عمرك؟ احسبي دون تعجل؟!.. أنت الآن في السادسة والعشرين .. نعم لقد بدأت تشعرين بأنك قد كبرت .. وبسرعة دون أن تدركي ودون أن تحسي بالحياة وتتمتعي بها.
هل أذكرك يا سلمى أنك قد تزوجت منذ عشر سنوات؟ .. نعم، عشر سنوات .. وذهب زوجك بعد أن تركه في أحشائك، دون أن يعلم، لم تخبريه كعادة الكثيرات في القرية، وظننت أنه لن يغيب كثيراً .. ولكنه غاب أكثر من المرات السابقة .. مهلاً يا سلمى لا تجعلينا نسابق الأحداث .. لم لا نبدأ من البداية، منذ أن ولدت، أعني منذ أن تزوجت .. ألست على حق؟ .. نعم إن ذلك ظاهر على وجههك .. لقد كنت صغيرة عندها، في السادسة عشرة من عمرك تعيشين في بيت والدك .. وذات يوم سمعت همسات كثيرة .. ونظرات مصوبة نحوك .. وأحسست بما يدور حولك وشعرت بالسعادة ككل طفلة تفرح بعرسها .. ولم تظهري فرحك ذلك للناس حتى لا تلوك الألسنة سيرتك ولكنك أبديتها لي .. أنا .. كنت أعرف كل شيء – لقد كنت سعيدة لأن ستتزوجين "درهم".
وحين أقبلت عمتك وغطت وجهك "بالمقرمة" قائلة: "ثبت زواجك على درهم قاسم" أبديت مقاومة شديدة، وجعلت تقذفين بالشتائم كل من حولك ولكنك في أعماقك كنت فرحة، وسالت الدموع .. دموع الفرح في عينيك، وظن الذين حولك أن تبكين حزناً على فراق والدك .. ومنزله .. وعندما أتى أهل زوجك لنقلك إلى دارك الجديدة كنت تسرعين في الخطو، لتصلي بسرعة .. ونبهك الذين حولك، وشعرت بالخجل إذ خفت أن يكتشف الآخرون سر تلهفك وسرعتك.
ولكن يا سلمى .. أكنت تحبين درهم حقاً؟ .. كلا – لا أظن!! .. إذن ما سر سعادتك تلك؟ .. ألأنك طفلة؟! أم ظننت أنك ستتخلصين من بيت والدك؟ .. من تلك الأعمال الشاقة التي كنت تقومين بها هناك؟ .. كنت تظنين أنك ستجدين الراحة والهدوء في منزل زوجك، فهل تحقق ذلك؟! .. لنر يا سلمى حياتك الجديدة في منزل زوجك، فبعد الأيام السبعة الأولى .. أيام العرس .. بدأت عملك كزوجة تخدم زوجها وأهله .. كنت تستيقظين من نومك مع أذان الفجر، فتحلبين البقرة ثم تذهبين إلى البئر بعد أن تضعي أمام البقرة بعض الحشائش وبعد أن تمتلئ جرتك بالماء تعودين لإعداد الفطور لزوجك، وعند اقتراب الظهر تذهبين إلى الحقول لتعملي مع والد زوجك في الحرث والبذر والتنقية لتعودي منهوكة القوى لتعدي وجبة الغداء – تطحنين الحبوب ثم تعجنيها كي تطعمي زوجك.
وبعد الغداء يذهب لمضغ القات في حين أنك لم تتناول غداءك، وهو غالباً ما يكون كإفطارك: قليلاً من الخبز مع رشفات من – القشر – أو عصيدة مع لبن .. ويأتي عمل ما بعد الظهر .. غسيل الملابس .. الذهاب إلى الجبل للبحث عن حطب للوقود .. الذهاب إلى البئر مع غروب الشمس لتأتي بماء المساء والتقاط بعض الحشائش للبقرة، وبعدها تعدين العشاء وتقدمينه لزوجك الذي يعود من المسجد بعد أداء الصلاة .. وأنت كم مرة نسيت الصلاة وأنت ترتمين متعبة قرب منتصف الليل، لتعودي مع أذان الفجر إلى العمل .. إلى الإرهاق .. هذه هي حياتك كل يوم، هل فيها شيء جديد؟ إنها نفس الحياة التي كنت تعيشينها في منزل والدك لم يتغير إلا صاحب العمل.
كان في السابق والدك، أما الآن فزوجك .. عشت معه أياماً، تركك بعدها إلى المدينة لكي يعمل ولم تحاولي منعه، بل أنك دفعته للسفر، لأنك تريدين أن يعود إليك ومعه قمصان حرير جديدة .. أدوات نسائية كتلك التي يعود بها أزواج صديقاتك .. ولم يخيب زوجك أملك، عاد إليك بما كنت تحلمين بعد أن غاب عنك سنتين .. لم تتغير حياتك، أثناء وجوده أو في أثناء غيابه: ففي كلا الحالتين كنت تعملين بصمت من أجل أهله ومن أجل الأرض .. يا سلمى عاد زوجك إلى المدينة، وغاب سنتين، ثم عاد مرة أخرى ليتركك بعدها وفي أحشائك طفلك الأول، وانتظرت عودته إليك وإلى طفله ليراه، ومضى عام .. وآخر، فخمسة ولم يعد .. إنها ما زال حياً هناك بعيداً في البحر .. البحر الكبير الذي يقولون إنه بلا نهاية .. بحر كبير في أحضان بحر آخر أكبر يخوضه زوجك كل يوم.
وما أدراك يا سلمى أنه وحيد؟ لا تجعلي وجهك يصفر ولا ترتجفي .. فكل شيء ليس سوى افتراض .. فهو قد يكون وحيداً وقد لا يكون، فالرجال لا أحد يثق بهم .. خاصة حين يكونون بعيداً، لا تراهم عيوننا .. فلم لا يكون زوجك أحدهم؟ أنت تعرفين قصة عمك "زيد" الذي ترك زوجته منذ عشرين عاماً .. ولم يعد .. إنه حي وله زوجة وأولاد يقولون إنه لن يعود وزوجته لا تزال تنتظر هنا .. فلم لا يكون زوجك مثل عمك؟ .. نعم لماذا لا يخونك؟ إنه بشر .. ورجل وهم دائماً ضعفاء كما يدعون.
قلت لك لا ترتجفي .. ولا تدعي الشكوك تساورك فكل شيء افتراض، فالحقيقة مجهولة، هناك وراء البحر مع زوجك .. ثم لا تحاولي أن تفكري أن تفعلي مثله .. أن تخونيه .. إنك لن تستطيعي، فهنا في القرية كل همسة يسمعها جميع الناس .. ألم تلاحظي مثلاً في هذين اليومين الأخيرين أن الجميع يلاحقونك بالنظرات المليئة بالشك؟ ألم تلاحظي ذلك؟ لماذا يقذفونك بنظراتهم الصامتة تلك؟ إنك ذكية سلمى وقد عرفت .. أنك تتجملين .. نعم تتجملين، فهم لم يرونك تتجملين منذ سافر زوجك منذ خمس سنوات .. ولا تحاولي أن تقولي أنك شعرت بكبر سنك فحاولت أن تبدي صغيرة .. كلا فتلك طريقة غير محببة.
فالحقيقة يا سلمى أنك تتجملين من أجل .. من أجل "حسان" لا .. لا.. لا تجعلي قلبك يدق بهذه الشدة ولا تدعي الدعاء يحمر وجنتيك، فهما سيكشفان سرك، أرأيت أنك مغرمة به؟ .. ليس عيباً أن يحب المرء من شاء .. ولكن العيب في أن يخون .. فأنت تخونين زوجك بحبك لآخر .. نعم .. إن الأمر جد خطير .. فالمرأة هنا ليس لها الحق بأن تحب من تشاء ولا أن تتمتع بشبابها فهي مجرد خادمة، يتزوجها الرجل لتخدم أهله .. ويتركها ويمضي بعيداً جداً .. ولا يعود .. وليس من حقها أن تطالب بالطلاق .. الطلاق مكروه .. لا تضعي يديك فوق صدرك .. فالطلاق ليس مكروهاً ما دمت ستتمتعين بحياتك التي سرقها زوجك .. لكنك لن تحصلي عليه .. خاصة بعد أن مات والدك وليس لك من أحد يدافع عنك.
فأنت الآن خادمة، لأهل زوجك، لوالده، لابنه، لأرضه .. إنك لن تجني أية فائدة بحبك "لحسان" إنه شاب طيب تتمناه كل فتاة .. ولكنك لست فتاة – إنك امرأة لك طفل .. وزوج .. ثم هل تظنين أن أيام الطفولة حين كنت تلعبين معه في الجبل ويتخذك دائماً زوجته وأنتم تلعبون لعبة "الزوج والزوجة" تلك الأيام قد ولت .. وأصبحت أنت اليوم كبيرة – خمس سنوات من الانتظار الطويل صعبة يا سلمى ولكن ما هو الحل؟ .. أن تطلبي الطلاق؟ وطفلك أين سيذهب؟ .. ثم من الذي سيتخذك زوجة له؟ .. أنت تعرفين تماماً أن الكثيرات بقين بدون زواج بعد طلاقهن وأن شبان القرية يبحثون فقط عن الفتيات.
وأرضك يا سلمى .. نعم أرضك هذه التي بذلت فيها حياتك .. شبابك .. دمك .. أرضك التي تسكبين عليها طوال الأعوام عرقك .. كيف تدعين أرضك هذه ولمن؟ .. إنك تفكرين يا سلمى .. وهذا شيء طيب – أنت تعرفين أن لا أحد سواك يعرف قيمة هذه الأرض .. فزوجك إن عاد لن يهتم بالأرض .. وابنك عندما يكبر لن تهمه هو أيضاً – سيتركها كما فعل والده ويذهب هناك بعيداً مثل الآخرين .. أرضك يا سلمى ذرفت عليها الدم والجهد ومنها تأكلين طوال الأعوام .. ومنها يأكل ابنك ويترعرع فوق ثراها .. حتى زوجك حين يعود يأكل منها وأنت .. أنت من يخرج خيرات هذه الأرض .. منها حبوبك وحشائش ماشيتك - ولبنك وسمنك .. وكل شيء في هذه القرية .. من الأرض .. أليست الأرض حياتك! .. وحياة ابنك الذي سيعرف عندما يكبر مدى الجهد الذي بذلتيه؟.
أما "حسان" فهو كزوجك تماماً لن يعيش في القرية إلى الأبد .. سيغادرها غداً بعد أن يكون قد ترك امرأة وراءه تخدم أهله وتحرث الأرض وإن كنت أنت هذه المرأة .. فما الفرق بين حياتك هنا وحياتك في بيته؟ .. لا فرق يا سلمى لا فرق.
وغاب الصوت وسلمى تنظر حواليها في ذهول ومياه الأمطار تتساقط في نغمات حالمة على الأرض فتنساب جداول إلى مدرجات الزراعة، وتعانق جذور الزرع الأصفر وتهبه الحياة .. وفتح باب الغرفة .. دخل ابنها الصغير وارتمى في أحضانها وسلمى تهتف بداخلها .. سأعلمه كيف يحب الأرض .. بينما كانت المياه تغوص في أعماق الأرض.
لكن خيال سلمى انطلق بها بعيداً عن الأرض والمطر إلى أشياء لم تكن لتفكر بها، وسمعت صوتاً كأنه همسات رقيقة يقول: "سلمى .. أخيراً ها أنت تواجهين نفسك .. يجب أن تقولي الحقيقة، لا تحاولي التهرب من نفسك، فلن ينفعك ذلك يجب أن تقولي أن الانتظار قد طال وأنك لن تستطيعي التحمل أكثر من ذلك، حاولي أن تتذكري منذ كم غاب عنك "درهم" زوجك .. من خمس سنوات كاملة يا سلمى، وها أنت في السنة السادسة من الانتظار، وكم عمرك؟ احسبي دون تعجل؟!.. أنت الآن في السادسة والعشرين .. نعم لقد بدأت تشعرين بأنك قد كبرت .. وبسرعة دون أن تدركي ودون أن تحسي بالحياة وتتمتعي بها.
هل أذكرك يا سلمى أنك قد تزوجت منذ عشر سنوات؟ .. نعم، عشر سنوات .. وذهب زوجك بعد أن تركه في أحشائك، دون أن يعلم، لم تخبريه كعادة الكثيرات في القرية، وظننت أنه لن يغيب كثيراً .. ولكنه غاب أكثر من المرات السابقة .. مهلاً يا سلمى لا تجعلينا نسابق الأحداث .. لم لا نبدأ من البداية، منذ أن ولدت، أعني منذ أن تزوجت .. ألست على حق؟ .. نعم إن ذلك ظاهر على وجههك .. لقد كنت صغيرة عندها، في السادسة عشرة من عمرك تعيشين في بيت والدك .. وذات يوم سمعت همسات كثيرة .. ونظرات مصوبة نحوك .. وأحسست بما يدور حولك وشعرت بالسعادة ككل طفلة تفرح بعرسها .. ولم تظهري فرحك ذلك للناس حتى لا تلوك الألسنة سيرتك ولكنك أبديتها لي .. أنا .. كنت أعرف كل شيء – لقد كنت سعيدة لأن ستتزوجين "درهم".
وحين أقبلت عمتك وغطت وجهك "بالمقرمة" قائلة: "ثبت زواجك على درهم قاسم" أبديت مقاومة شديدة، وجعلت تقذفين بالشتائم كل من حولك ولكنك في أعماقك كنت فرحة، وسالت الدموع .. دموع الفرح في عينيك، وظن الذين حولك أن تبكين حزناً على فراق والدك .. ومنزله .. وعندما أتى أهل زوجك لنقلك إلى دارك الجديدة كنت تسرعين في الخطو، لتصلي بسرعة .. ونبهك الذين حولك، وشعرت بالخجل إذ خفت أن يكتشف الآخرون سر تلهفك وسرعتك.
ولكن يا سلمى .. أكنت تحبين درهم حقاً؟ .. كلا – لا أظن!! .. إذن ما سر سعادتك تلك؟ .. ألأنك طفلة؟! أم ظننت أنك ستتخلصين من بيت والدك؟ .. من تلك الأعمال الشاقة التي كنت تقومين بها هناك؟ .. كنت تظنين أنك ستجدين الراحة والهدوء في منزل زوجك، فهل تحقق ذلك؟! .. لنر يا سلمى حياتك الجديدة في منزل زوجك، فبعد الأيام السبعة الأولى .. أيام العرس .. بدأت عملك كزوجة تخدم زوجها وأهله .. كنت تستيقظين من نومك مع أذان الفجر، فتحلبين البقرة ثم تذهبين إلى البئر بعد أن تضعي أمام البقرة بعض الحشائش وبعد أن تمتلئ جرتك بالماء تعودين لإعداد الفطور لزوجك، وعند اقتراب الظهر تذهبين إلى الحقول لتعملي مع والد زوجك في الحرث والبذر والتنقية لتعودي منهوكة القوى لتعدي وجبة الغداء – تطحنين الحبوب ثم تعجنيها كي تطعمي زوجك.
وبعد الغداء يذهب لمضغ القات في حين أنك لم تتناول غداءك، وهو غالباً ما يكون كإفطارك: قليلاً من الخبز مع رشفات من – القشر – أو عصيدة مع لبن .. ويأتي عمل ما بعد الظهر .. غسيل الملابس .. الذهاب إلى الجبل للبحث عن حطب للوقود .. الذهاب إلى البئر مع غروب الشمس لتأتي بماء المساء والتقاط بعض الحشائش للبقرة، وبعدها تعدين العشاء وتقدمينه لزوجك الذي يعود من المسجد بعد أداء الصلاة .. وأنت كم مرة نسيت الصلاة وأنت ترتمين متعبة قرب منتصف الليل، لتعودي مع أذان الفجر إلى العمل .. إلى الإرهاق .. هذه هي حياتك كل يوم، هل فيها شيء جديد؟ إنها نفس الحياة التي كنت تعيشينها في منزل والدك لم يتغير إلا صاحب العمل.
كان في السابق والدك، أما الآن فزوجك .. عشت معه أياماً، تركك بعدها إلى المدينة لكي يعمل ولم تحاولي منعه، بل أنك دفعته للسفر، لأنك تريدين أن يعود إليك ومعه قمصان حرير جديدة .. أدوات نسائية كتلك التي يعود بها أزواج صديقاتك .. ولم يخيب زوجك أملك، عاد إليك بما كنت تحلمين بعد أن غاب عنك سنتين .. لم تتغير حياتك، أثناء وجوده أو في أثناء غيابه: ففي كلا الحالتين كنت تعملين بصمت من أجل أهله ومن أجل الأرض .. يا سلمى عاد زوجك إلى المدينة، وغاب سنتين، ثم عاد مرة أخرى ليتركك بعدها وفي أحشائك طفلك الأول، وانتظرت عودته إليك وإلى طفله ليراه، ومضى عام .. وآخر، فخمسة ولم يعد .. إنها ما زال حياً هناك بعيداً في البحر .. البحر الكبير الذي يقولون إنه بلا نهاية .. بحر كبير في أحضان بحر آخر أكبر يخوضه زوجك كل يوم.
وما أدراك يا سلمى أنه وحيد؟ لا تجعلي وجهك يصفر ولا ترتجفي .. فكل شيء ليس سوى افتراض .. فهو قد يكون وحيداً وقد لا يكون، فالرجال لا أحد يثق بهم .. خاصة حين يكونون بعيداً، لا تراهم عيوننا .. فلم لا يكون زوجك أحدهم؟ أنت تعرفين قصة عمك "زيد" الذي ترك زوجته منذ عشرين عاماً .. ولم يعد .. إنه حي وله زوجة وأولاد يقولون إنه لن يعود وزوجته لا تزال تنتظر هنا .. فلم لا يكون زوجك مثل عمك؟ .. نعم لماذا لا يخونك؟ إنه بشر .. ورجل وهم دائماً ضعفاء كما يدعون.
قلت لك لا ترتجفي .. ولا تدعي الشكوك تساورك فكل شيء افتراض، فالحقيقة مجهولة، هناك وراء البحر مع زوجك .. ثم لا تحاولي أن تفكري أن تفعلي مثله .. أن تخونيه .. إنك لن تستطيعي، فهنا في القرية كل همسة يسمعها جميع الناس .. ألم تلاحظي مثلاً في هذين اليومين الأخيرين أن الجميع يلاحقونك بالنظرات المليئة بالشك؟ ألم تلاحظي ذلك؟ لماذا يقذفونك بنظراتهم الصامتة تلك؟ إنك ذكية سلمى وقد عرفت .. أنك تتجملين .. نعم تتجملين، فهم لم يرونك تتجملين منذ سافر زوجك منذ خمس سنوات .. ولا تحاولي أن تقولي أنك شعرت بكبر سنك فحاولت أن تبدي صغيرة .. كلا فتلك طريقة غير محببة.
فالحقيقة يا سلمى أنك تتجملين من أجل .. من أجل "حسان" لا .. لا.. لا تجعلي قلبك يدق بهذه الشدة ولا تدعي الدعاء يحمر وجنتيك، فهما سيكشفان سرك، أرأيت أنك مغرمة به؟ .. ليس عيباً أن يحب المرء من شاء .. ولكن العيب في أن يخون .. فأنت تخونين زوجك بحبك لآخر .. نعم .. إن الأمر جد خطير .. فالمرأة هنا ليس لها الحق بأن تحب من تشاء ولا أن تتمتع بشبابها فهي مجرد خادمة، يتزوجها الرجل لتخدم أهله .. ويتركها ويمضي بعيداً جداً .. ولا يعود .. وليس من حقها أن تطالب بالطلاق .. الطلاق مكروه .. لا تضعي يديك فوق صدرك .. فالطلاق ليس مكروهاً ما دمت ستتمتعين بحياتك التي سرقها زوجك .. لكنك لن تحصلي عليه .. خاصة بعد أن مات والدك وليس لك من أحد يدافع عنك.
فأنت الآن خادمة، لأهل زوجك، لوالده، لابنه، لأرضه .. إنك لن تجني أية فائدة بحبك "لحسان" إنه شاب طيب تتمناه كل فتاة .. ولكنك لست فتاة – إنك امرأة لك طفل .. وزوج .. ثم هل تظنين أن أيام الطفولة حين كنت تلعبين معه في الجبل ويتخذك دائماً زوجته وأنتم تلعبون لعبة "الزوج والزوجة" تلك الأيام قد ولت .. وأصبحت أنت اليوم كبيرة – خمس سنوات من الانتظار الطويل صعبة يا سلمى ولكن ما هو الحل؟ .. أن تطلبي الطلاق؟ وطفلك أين سيذهب؟ .. ثم من الذي سيتخذك زوجة له؟ .. أنت تعرفين تماماً أن الكثيرات بقين بدون زواج بعد طلاقهن وأن شبان القرية يبحثون فقط عن الفتيات.
وأرضك يا سلمى .. نعم أرضك هذه التي بذلت فيها حياتك .. شبابك .. دمك .. أرضك التي تسكبين عليها طوال الأعوام عرقك .. كيف تدعين أرضك هذه ولمن؟ .. إنك تفكرين يا سلمى .. وهذا شيء طيب – أنت تعرفين أن لا أحد سواك يعرف قيمة هذه الأرض .. فزوجك إن عاد لن يهتم بالأرض .. وابنك عندما يكبر لن تهمه هو أيضاً – سيتركها كما فعل والده ويذهب هناك بعيداً مثل الآخرين .. أرضك يا سلمى ذرفت عليها الدم والجهد ومنها تأكلين طوال الأعوام .. ومنها يأكل ابنك ويترعرع فوق ثراها .. حتى زوجك حين يعود يأكل منها وأنت .. أنت من يخرج خيرات هذه الأرض .. منها حبوبك وحشائش ماشيتك - ولبنك وسمنك .. وكل شيء في هذه القرية .. من الأرض .. أليست الأرض حياتك! .. وحياة ابنك الذي سيعرف عندما يكبر مدى الجهد الذي بذلتيه؟.
أما "حسان" فهو كزوجك تماماً لن يعيش في القرية إلى الأبد .. سيغادرها غداً بعد أن يكون قد ترك امرأة وراءه تخدم أهله وتحرث الأرض وإن كنت أنت هذه المرأة .. فما الفرق بين حياتك هنا وحياتك في بيته؟ .. لا فرق يا سلمى لا فرق.
وغاب الصوت وسلمى تنظر حواليها في ذهول ومياه الأمطار تتساقط في نغمات حالمة على الأرض فتنساب جداول إلى مدرجات الزراعة، وتعانق جذور الزرع الأصفر وتهبه الحياة .. وفتح باب الغرفة .. دخل ابنها الصغير وارتمى في أحضانها وسلمى تهتف بداخلها .. سأعلمه كيف يحب الأرض .. بينما كانت المياه تغوص في أعماق الأرض.