1- مقدمة :
هذا الموضوع - على كثرة ما كتب فيه - لا يزال جديداً -، أو متجددا، مثل الحياة الإنسانية التي يعد سرَّ أسرارها، فلولا الحب، في مستوياته المختلفة، ما كانت أسرة، ولا مجتمعات، ولا أوطان ولا فن أيضاً.
إن الغاية التي يعمل في دائرتها هذا الملتقى، وهى التواصل مع التراث العربي، تفرض إطلالة معينة، هي في جوهرها أدبية، مع أن موضوع الحب - في ذاته - يمكن أن يكون مهماً بالنسبة لعلم النفس، ولعلم الاجتماع، وربما لعلم الجريمة أيضا. ولكننا بهذا التوسع لا ننصف الحب، لأن علاقته بالانفعال المبدع، بالرغبة في التفوق، بقوة التفاعل مع الحياة، بشحن إرادة العمل، بالرغبة في تجميل الوجود.. هذه الشرائح المبهجة تظل أقوى حضوراً وتأثيرا فى تشكيل الضمير وتوجيه العمل أكثر مما يفعل حادث يمكن أن يوصف بأنه " عابر " مهما كانت قسوته، على نحو ما ينسب إلى الشاعر العباسي عبد السلام بن رغبان المعروف بلقبه " ديك الجن الحمصي" الذي شغف بجارية جميلة اسمها ورد، وقد تزوجها، فلما تدهور وضعه المالي رحل إلى بعض الكبراء يطلب عونه وترك " ورد " وحيدة في بيته، وقد أتاح هذا لحساده أن يحسنوا تلفيق التهمة لورد بأنها عشقت غلاما من غلمانه، وهنا عاد ديك الجن معجلا، وكما حدث في مسرحية"عطيل"، فإن العاشق الانفعالي أقرب إلى الشك والعنف، وهكذا قتل الشاعر زوجته الجميلة وغلامه البريء، وتذكر الأخبار أنه أحرق جثة ورد وصنع من ترابها كأساً كان يشرب فيه الخمر وهو يبكى وينشد :
وجنى لها ثمر الردى بيديها = يا طلعة طلع الحمام عليها
روّى الهوى شفتيّ من شفتيها = رويت من دمها الثرى ولطالما
ومدا معي تجرى على خديها = مكنت سيفي من مجال خناقها
شئ أعزّ علىّ من نعليْها = فوحق نعليها وما وطئ الحصى
أبكى إذا سقط الغبار عليها = ما كان قتليها لأني لم أكن
وأنفت من نظر الغلام إليها = لكن بخلت على سواي بحبها
هذه درجة من العشق تصل حد الجنون، وقد عرف الحب عند العرب من يدعون مجانين العشق، أي الذين ذهب الهوى بعقولهم، وقد اهتم بهم السّراج القارئ في كتابه " مصارع العشاق "، ولكننا نستطيع أن نؤكد أن الحب عند العرب ظل في مستوى التعلق البشرى البناء، الذي يجعل من المحب رجلا سويا، نظيفا، ظريفا، مهذبا، رقيقا، لبيبا، دون أن تحوله عواطفه تجاه المرأة إلى قاتل لها، أو مجنون بسببها.
لقد جاء إلينا روائي ناقد في أواسط القرن العشرين، وهو " إ.م. فورستر" – في كتابه: " أركان الرواية " ليفسر لنا أسباب إقبال كتاب الرواية على موضوع الحب. إنه يبدأ بعملية حصر للحقائق الرئيسية في حياة الإنسان، وهى فى رأيه خمس، يتفق فيها كل البشر: الولادة، والطعام، والنوم، والحب، والموت.إن فورستر، بعد أن يتمهل عند كل عنصر أو حقيقة من هذه الحقائق ليبين أثره وحجمه في تصورات كتاب الرواية يدخر الحديث عن " الحب " إلى الختام، وبعد أن يفلسف العلاقة بين الحب والجنس يرى أن الكائن البشرى عند ما يحب فإنه يسعى إلى التوصل إلى شئ ما، كما أنه يحاول إعطاء شئ ما ، وهذا الهدف المزدوج يجعل الحب أكثر تعقيدا من العناصر(الحقائق) الأخرى كالطعام أو النوم مثلا. ويلاحظ فورستر بحق أن الحب يستولي على مساحة كبيرة في الروايات ، ويرى – بحق أيضا- أن أى كاتب يفكر فى تأليف رواية فإن أول الخيوط التي تبدوا له تبدأ بأشواق الحب بين رجل وامرأة يريدان الاتحاد، وهنا ينبهنا فورستر إلى مفارقة طريفة ولاذعة حين يقول إن الحب لا يشغل فى حياتنا الواقعية مثل هذا الحجم الذي ينبسط عليه في الروايات من ثم، فإن علينا أن نفكر فى الأسباب، وليس في سبب واحد، ومن أهمها المساعدة على تمكين الحبكة الروائية، وتيسير بلوغ نهاية الرواية بانتصار الحب أو بموته بالضربة القاضية. ليست " الحبكة " كل شئ، إذ ينبغي أن ندرك أن موضوع الحب قادر على استيعاب أي موضوع آخر، ومنحه تشويقا لم يكن متاحا له بغير الحب، سأعطى أمثلة على ذلك: يستطيع الحب أن يمتزج بموضوع الحرب، وبموضوع الصراع الطبقي، وبموضوع اختلاف الدين، وبموضوع الغنى والفقر، وبموضوع الانحراف النفسي، وبموضوع صراع الأجيال، وبموضوع السوية الخلقية .. الخ. وهو موضوع مشترك يتعلق به كل البشر، ويتوقون للقراءة عنه، حتى أولئك الذين غلبت عليهم المادة، أو الجلافة، أو الجريمة ، وهنا أتذكر عبارة لابن قتيبة في تسويغه للمقدمة الغزلية فى القصيدة التراثية، تقول إن الشاعر القديم كان يلجأ إلى النسيب فيشكو شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق، ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، وليستدعى به إصغاء الأسماع إليه، لأن التشبيب قريب من النفوس والقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقا منه بسبب، وضاربا فيه بسهم حلال أو حرام!!
2- زوايا ورؤى :
لقد بدأ فورستر بتعليل أسباب انتشار الحب في الروايات، ولكن الحب نفسه قبل الروايات، وقبل الشعر والشعراء، وهو إلى الشعر أقرب، وفى الفلسفة أقدم. من ثم تتعدد زوايا الدخول إلى موضوع الحب، وهذا يدل على غنى الفكر العربي، وعلى إيمانه بحرية السلوك الإنساني، ونسبية المكونات للماهية، فالفكر العربي لم يفرض قالبا واحدا جامدا للسوية أو للمثالية أو للشذوذ والانحراف.. وأقدم على هذا براهين من مؤلفات هي موضوع تقدير واحترام فى كل العصور، وقد يكفى فى هذا السياق أن أشير إلى ثلاثة كتب رسم كل منها صورة للحب مزج فيها بين تجربته الخاصة، وثقافته، وطبائع مجتمعه. أولها كتاب " الزهرة " الذي ألفه محمد بن داود الفقيه الظاهري(توفى 296هـ) وفيه نجد التصور الأساسي – إن صح القول – للحب فى التراث العربي، وهو أنه عاطفة سامية، وأنها قدر مقدر، وأنه ابتلاء يجب أن ينجح فيه الإنسان، بأن يحافظ على نقائه وعفته، وأن – وهذا مهم جدا – يحب من يهواها دون أن يطالبها بأن تهواه بالمقابل ، فإذا حدث هذا وتلاقيا فلا تثريب عليهما، ولكن حبه لها غير ملزم لها بأن تجاوبه حبا بحب. إن ابن داود لا يجافى الواقع، فقد عقد فصولاً لآفات الحب، وفى مقدمتها العاذل والرقيب. فإذا كان قد عرض لأطوار الحب وحالاته، فإنه تحدث عن آداب الحب، وأولها العفة. إن المحب قد يصل حد "الوله" بمحبوبه، " ولكن هذا التعلق الشديد والتفكر الدائم الذي يبلغ مدى الهيام ينبغي أن يكون بريئا من الاشتهاء أو الرغبة الجنسية. وهنا يبدو ابن داود حريصا على استدامة الحب، وفى رأيه - وهو الرأي الصواب - أن التعلق الجنسي أو اشتهاء الجسد ينهى علاقة الحب، وكذلك فإن عاشق الجسد مهما تظاهر بالعفة والترفع لابد أن يزل لسانه وتعثر قدمه، فيتساقط الطلاء الزائف ليبدو " الحيوان" تحت قشرة " الإنسان" !! ينبغي أن ندرك - حتى لا نظلم ابن داود - أنه لا ينكر الجنس ولا يستنكر الرغبة، كيف وهما مفتاح الوجود الإنساني، وسر الاستمرار، ولكنه لا يريد أن يكون الحب والجنس فى وعينا بمثابة المقدمة والنتيجة، أو أنهما شئ واحد. إن الحب عاطفة راقية تسمو بها النفس وتتهذب الطبائع، والزواج شركة بين ذكر وأنثى توافقا على تكوين أسرة وخوض تجربة حياة. إن ابن حزم صاحب كتاب " طوق الحمامة في الألفة والألاّف" (توفى 456هـ) يقدم الصورة الأخرى للحب عند العرب، وهى صورة أندلسية نستطيع أن نرى فيها قدراً من المادية، قدرا من الحرية، قدرا من الواقعية، قدرا من التعليل العلمي، ليس في تلك الصورة التي سبق إليها ابن داود ، على الرغم مما بين الرجلين من المعاني المشتركة، فكلاهما فقيهان، ظاهريان، ولكن ابن داود كان في بغداد حيث الفقهاء وأهل المجون يتواجهان بالخصومة أو الاستهجان، في حين كان ابن حزم في قرطبة، في زمن اختلطت فيه الأوراق، واشتبكت الثقافات !! يرى ابن حزم أن التجاوب بين الذكر والأنثى له أساس قدري أيضا، ولكن دافعه الحاضر هو الميل الجسدي، التجاذب والاستحسان، والتوافق النفسي/العصبي، وفى هذا الاتجاه يذكر من أخبار العشاق في زمانه ما يدل على مساحة واسعة من حرية السلوك بين أبناء العلية بصفة خاصة، ويستطيع من خلال هذا الطرح أن يتوصل إلى الكشف عن طبائع فطرية في المرأة، كما فى الرجل، تكاد تجعل من كتابه " طوق الحمامة " أساسا مبكرا لبحوث تطبيقية في علم نفس السلوك والطبائع. ثم يأتي العالم الثالث، وقد وزع فكرته فى أكثر من مكان في كتبه الكثر، وهو الجاحظ (توفى 255هـ) - وبخاصة مقالته عن النساء ورسالته عن القيان، ورسالته الأخرى عن المفاخرة بين الجواري والغلمان . لقد تحدث عن الجنس وليس عن الحب، وتحدث عن واقع مشاهد في القرن الثالث الهجري في البيئة العراقية المترفة، ولكنه - مع هذا - كان يرسم طبائع إنسانية - وسلوكيات اجتماعية، ويحدد مبادئ وميولا فطرية ذات أسانيد من الوراثة ومن المجتمع . ومن طبائع الطبقة. إن ما كتبه الجاحظ عن " القيان" - الجواري المغنيات - يرسم أمامنا صورا ترويها صحفنا فى هذا العصر عن حياة الليل في الملاهي وفى سهرات الوارثين وأشباههم.
هذه قسمة تكاد تكون منطقية، استوعبها التراث العربي، وعمق قنوات البحث فيها، وهى قسمة ثلاثية، ولكنها لا تحول دون الهبوط عنها، أو الارتفاع، فهناك الحب الشاذ(أو الجنس الشاذ) وفى مقابله الحب الإلهي، والحب في تصور كوني يشمل كل جوانب الوجود.
3- المستوى الكوني للحب :
لا نتوقع أن يختلف العرب عن غيرهم من الأمم أو الأجناس في فهم الحب، أو في معايشته، ومع هذا نستطيع أن نجد في أدبهم المبكر (الشعر بصفة خاصة) حفاوة بهذه العاطفة ربما تتجاوز ما تدل عليه إبداعات حضارات أخرى، ولا نستعبد أن يرجع هذا إلى ما كان عليه العرب في حياتهم قبل الإسلام من بساطة وبداوة واتساع في المكان وأنهم بهذا كانوا أقرب إلى قوانين الطبيعة المعتدلة التي تعرف كيف توازن بين الحاجات وكيف تكبح دوافع الأثرة التي يمكن أن تفضي إلى المهالك، فلما جاء الإسلام أضاف العنصر الديني إلى جانب ما تزكيه الفطرة، فلما نشطت الترجمة عن الفلسفات الأخرى(اليونانية خاصة) أضافت توسعا آخر في تشريح النفس الإنسانية وفلسفة الدوافع وتأصيل الميول .إننا نذكر هنا بأن ظاهرة الحب العذري عرفت حتى في العصر قبل الإسلام، الذي اصطلح على نعته بأنه العصر الجاهلي، فهناك عشاق عذريون بعضهم شعراء سجلوا تجاربهم بقصائد تروى إلى اليوم، ثم اتسعت الظاهرة في نور الإسلام وامتداحه للعفة وإلزامه للإنسان بتجنب الخطيئة. وهكذا تكاثر المحبون العذريون فى بادية الحجاز خاصة في القرن الأول الهجري، وأرجح أن الحب العذري غير قابل للتوقف مهما أوغلت الطبائع البشرية في ماديتها، لأنه جزء من الطبيعة، ومن إرادة التفوق الكامنة في الإنسان، ومن الاختلاف الفطري بين البشر، إن هذا الحب العذري يجد له مكانا لدى كثير منا في صورة الحب الأول الذي لا ينتهي (عادة) إلى زواج، ويقنع بأن يظل حاضرا في الذاكرة يدافع عن النقاء والجمال المجرد من الحاجة. تجمعت عناصر مختلفة من الدين، والفلسفة، والعلم، ليوجد الحب الصوفي ممثلا الدرجة الأعلى من الحب العذري، ثم يأتي الحب في صورته الشاملة، فإذا كان الحب الصوفي يكتفي بأن يصور الصوفي (رجلا كان أو امرأة) متوحدا في حب الله سبحانه، كما يذكر عن رابعة العدوية، وبشر الحافى، ومعروف الكرخى وأمثالهم، يرون في ذاته العلية الحقيقة الكاملة، ويستغنون بذاته عن كل موجود، وإذا نظروا إلى بشر فإنما لأنه مجلي الجمال الإلهي.. فإن من المتصوفين من رأى أن مظاهر الكون كلها يحفظها الحب، وينظم علاقاتها الحب، فالحب ليس عاطفة مقصورة على الإنسان، إن الحيوان يحب، والنبات يعشق ، وقد صور ابن السراج في " مصارع العشاق" مشاهد لعشق بين نخلتين ( ذكر وأنثى ) وبين أنواع من الطيور – وهناك من تجاوز هذا المدى إلى ما هو كوني بأن فسر قوانين الجاذبية الكونية بالحب أيضا، إذ لم يجد معنى أو قانونا علميا يفسر به بقاء كوكب في حالة انجذاب ودوران لا يتوقف حول كوكب آخر دون أن يكون بينهما نوع من العشق.
وتبقى إضافة أخيرة تتصل بمستويات الحب، وسنجد فيها دلالة إنسانية وعلمية عميقة،تتجاوز ما درج عليه بعض منا في الفصل القاطع بين الطبائع، وإسباغ ألوان متضادة لا تقبل التحول أو المشاركة، فالأبيض والأسود بينهما تضاد حولناه إلى خصومة، ومن حيث أننا بشر فإن طبائعنا إما أن تكون أرضية أو سماوية ، وأنت إما أن تكون حسيا أو عذريا في عواطفك تجاه النوع الآخر!! إن العرب لم يقروا هذا النوع من القسمة القاطعة، وفى تصويرهم للعشاق العذريين وجدنا من يشكك في عذريتهم، ويرى فيها مبالغة، وقد طرح كتاب " الأغاني" كل الاحتمالات الممكنة تجاه شخصية " قيس" وتعرفه واستمرار تعلقه بليلى ، ومن يتفحص بدايات هؤلاء العشاق الموصوفين بالعذرية وكيف كانت تجرى على سنن المألوف الخ . وهنا تأتى إضافة رائعة ونبيلة بكل المعاني، إذ تقرر أن النفوس القادرة على الحب البشرى هي بذاتها القادرة على الارتقاء به إلى مستوى الحب الإلهي. وهكذا لا يقيد باليأس أشواق الخطاة ولا تطلعهم إلى السمو وتحطيم قيود المادة التي تعوقهم في مرحلة من حياتهم. إن المحبة الإلهية غاية، وعن طريق اكتمال الإخلاص شفى المحبة تشرق القلوب بالمعرفة، وهذه غاية ما بعدها غاية بالنسبة للتراث الصوفي، وبهذا يكون الفناء فى ذات الله سبحانه هو الوجود الحق.
4- ببليوجرافيا مختارة لمصادر الحب في التراث العربي :
1- الأبشيهي : المستطرف من كل فن مستظرف.
2- الإنطاكي : تزيين الأسواق فى أخبار العشاق.
3- ابن الجوزي : ذم الهوى.
4- ابن أبى حجلة : ديوان الصبابة .
5- ابن حزم : طوق الحمامة فى الألفة والألاف.
6- ابن الخطب : روضة التعريف بالحب الشريف.
7- ابن داود : النصف الأول من كتاب الزهرة .
8- ابن الدباغ : مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب .
9- الديلمى : عطف الألف المألوف على اللام المعطوف.
10- السراج القارئ : مصارع العشاق.
11- السيوطى : نزهة الجلساء فى أشعار النساء.
12- الغزولى: مطالع البدور فى منازل السرور .
13- ابن قيم الجوزية: روضة المحبين ونزهة المشتاقين .
14- المرزبانى : أشعار النساء.
15- الوشاء : الموشى أو الظرف والظرفاء.
ونختم هذه اللمحة عن موضوعنا المهم بأن نذكر، ونتذكر أن موضوع الحب اكتسب عند القدماء جلالة وأهمية لا نملك اليوم بعضا منها، فقد ألف فيه الفقهاء، بل كبار الفقهاء، ويكفى أن نذكر فى هذا المجال ابن داود الأصفهاني، وهو فقيه على المذهب الظاهري، وكان أبوه مؤسس المذهب، كما كان ابن حزم فقيها وإماما ظاهريا كذلك، ولعل الوضوح " الظاهري" هنا يقرب إلينا منهج الظاهراتية في الدراسات الحديثة، ولكن الفقيهين الظاهريين يمثلان البداية في اتجاهين، أما الاهتمام الواضح والمستمر فقد كان من الفقهاء الحنابلة، وقد تنبهت إلى هذا بعض الدراسات الاستشراقية، ولعل هذا الكشف يرفع عن المذهب (الفقهي) الحنبلي ما يوصف به في حياتنا العامة من تزمت.
وأخيراً يلاحظ أن المؤلفات التراثية في موضوع الحب تكاد تردد القصص والأخبار والأشعار والنوادر والأقوال، هي بذاتها، وأحيانا بلفظها تقريبا - ترحل من كتاب إلى كتاب، وكأنها قافلة مستمرة تشق طريقها عبر الزمان، وليس عبر المكان. وهذه الملاحظة تنبه إليها بعض المستشرقين أيضا، وقد ساقها في صورة مأخذ على العقل العربي، أو الجمود، أو الترديد وعدم القدرة على تجاوز القديم!!
إن هذا ليس صحيحا على إطلاقه، فإذا كانت الملاحظة صحيحة فإن تفسيرها قاصر وكأنه يتعمد تحريفها ليتوافق مع الادعاءات الغربية المأثورة عن الشرق (العربي خاصة) كما يريدونه وليس كما هو في الواقع، فقد رأينا كيف تعددت الرؤى، ما بين مادية، وروحية، وصوفية، وكونية، وكيف ربط الفكر العربي بين الحب والمعرفة، وبين الإنسان وخالقه، وكيف انتهى إلى قوانين تبدأ من البشر وتهيمن على حركة الكواكب أو تفسرها، وكأن الكوكب الدائر في محوره الكوني عاشق لا يملك إلاّ أن يدور – دون توقف – حول بيت محبوبته.
على أننا يمكن (بل لعله يجب) أن ننظر إلى ارتحال هذه الأخبار التراثية والقصص والنوادر والأشعار، عبر رحلتها الزمانية على أنها نوع من الحفاظ على الجذور، ورعاية الأصول، ونوع من حماية الشخصية الثقافية وأعرافها السلوكية وآدابها، ولعلنا لو تساهلنا فى الحفاظ عليها لم نكن لنجد في أيدينا شيئا منها اليوم، ونحن أحوج ما نكون إليها فى عصر تتهم فيه القيم العربية والمبادئ الإسلامية ويفسر فيه التاريخ العربي تفسيرا تعسفيا ليجعل من ماضينا زمنا دمويا قاسيا فظا، وكأنه لم يكن حارسا ومبدعا لأرقى ما تسعى إليه الإنسانية من السلام وإيمان وجمال. على أن هذا التراث المتسع المتنوع الذي يوفر الغذاء الشهي المعرفي لكل من يسعى إليه ويجتهد فى تحصيله يستطيع أن يلهم مبدعينا اليوم وغدا وإلى ما شاء الله الأساليب الرفيعة، والصور الجمالية الراقية، فضلا عن درجات من المشاعر وألوان من السلوكيات، وقوالب وحبكات ما أحوجنا إلى استعادتها، ودمجها في حياتنا العصرية، لينهض الحاضر والمستقبل على أسس متينة واعية وأصيلة.
هامش :
هذا البحث من أمتع ما قدم في جلسات المؤتمرـ مؤتمر إقليم شرق الدلتا الثقافي ـ حيث استطاع أستاذنا الدكتور محمد حسن عبد الله أن يلتقط لحظات مدهشة من تراثنا العربي ، مسلطا الضوء على زوايا جديدة فيها ، ليعيد اكتشاف مناطق رهيفة من هذا التراث البديع فكأننا نعيش لحظات رائعة استحضرها الباحث المعلم من زمن مضى .
والدكتور محمد حسن عبد الله أستاذ جامعي له تلاميذ كثر على امتداد الوطن العربي ، ويشرف على عشرات الرسائل الجامعية في مصر والكويت وكل أنحاء وطننا العربي .
أ. د. محمد حسن عبد الله
هذا الموضوع - على كثرة ما كتب فيه - لا يزال جديداً -، أو متجددا، مثل الحياة الإنسانية التي يعد سرَّ أسرارها، فلولا الحب، في مستوياته المختلفة، ما كانت أسرة، ولا مجتمعات، ولا أوطان ولا فن أيضاً.
إن الغاية التي يعمل في دائرتها هذا الملتقى، وهى التواصل مع التراث العربي، تفرض إطلالة معينة، هي في جوهرها أدبية، مع أن موضوع الحب - في ذاته - يمكن أن يكون مهماً بالنسبة لعلم النفس، ولعلم الاجتماع، وربما لعلم الجريمة أيضا. ولكننا بهذا التوسع لا ننصف الحب، لأن علاقته بالانفعال المبدع، بالرغبة في التفوق، بقوة التفاعل مع الحياة، بشحن إرادة العمل، بالرغبة في تجميل الوجود.. هذه الشرائح المبهجة تظل أقوى حضوراً وتأثيرا فى تشكيل الضمير وتوجيه العمل أكثر مما يفعل حادث يمكن أن يوصف بأنه " عابر " مهما كانت قسوته، على نحو ما ينسب إلى الشاعر العباسي عبد السلام بن رغبان المعروف بلقبه " ديك الجن الحمصي" الذي شغف بجارية جميلة اسمها ورد، وقد تزوجها، فلما تدهور وضعه المالي رحل إلى بعض الكبراء يطلب عونه وترك " ورد " وحيدة في بيته، وقد أتاح هذا لحساده أن يحسنوا تلفيق التهمة لورد بأنها عشقت غلاما من غلمانه، وهنا عاد ديك الجن معجلا، وكما حدث في مسرحية"عطيل"، فإن العاشق الانفعالي أقرب إلى الشك والعنف، وهكذا قتل الشاعر زوجته الجميلة وغلامه البريء، وتذكر الأخبار أنه أحرق جثة ورد وصنع من ترابها كأساً كان يشرب فيه الخمر وهو يبكى وينشد :
وجنى لها ثمر الردى بيديها = يا طلعة طلع الحمام عليها
روّى الهوى شفتيّ من شفتيها = رويت من دمها الثرى ولطالما
ومدا معي تجرى على خديها = مكنت سيفي من مجال خناقها
شئ أعزّ علىّ من نعليْها = فوحق نعليها وما وطئ الحصى
أبكى إذا سقط الغبار عليها = ما كان قتليها لأني لم أكن
وأنفت من نظر الغلام إليها = لكن بخلت على سواي بحبها
هذه درجة من العشق تصل حد الجنون، وقد عرف الحب عند العرب من يدعون مجانين العشق، أي الذين ذهب الهوى بعقولهم، وقد اهتم بهم السّراج القارئ في كتابه " مصارع العشاق "، ولكننا نستطيع أن نؤكد أن الحب عند العرب ظل في مستوى التعلق البشرى البناء، الذي يجعل من المحب رجلا سويا، نظيفا، ظريفا، مهذبا، رقيقا، لبيبا، دون أن تحوله عواطفه تجاه المرأة إلى قاتل لها، أو مجنون بسببها.
لقد جاء إلينا روائي ناقد في أواسط القرن العشرين، وهو " إ.م. فورستر" – في كتابه: " أركان الرواية " ليفسر لنا أسباب إقبال كتاب الرواية على موضوع الحب. إنه يبدأ بعملية حصر للحقائق الرئيسية في حياة الإنسان، وهى فى رأيه خمس، يتفق فيها كل البشر: الولادة، والطعام، والنوم، والحب، والموت.إن فورستر، بعد أن يتمهل عند كل عنصر أو حقيقة من هذه الحقائق ليبين أثره وحجمه في تصورات كتاب الرواية يدخر الحديث عن " الحب " إلى الختام، وبعد أن يفلسف العلاقة بين الحب والجنس يرى أن الكائن البشرى عند ما يحب فإنه يسعى إلى التوصل إلى شئ ما، كما أنه يحاول إعطاء شئ ما ، وهذا الهدف المزدوج يجعل الحب أكثر تعقيدا من العناصر(الحقائق) الأخرى كالطعام أو النوم مثلا. ويلاحظ فورستر بحق أن الحب يستولي على مساحة كبيرة في الروايات ، ويرى – بحق أيضا- أن أى كاتب يفكر فى تأليف رواية فإن أول الخيوط التي تبدوا له تبدأ بأشواق الحب بين رجل وامرأة يريدان الاتحاد، وهنا ينبهنا فورستر إلى مفارقة طريفة ولاذعة حين يقول إن الحب لا يشغل فى حياتنا الواقعية مثل هذا الحجم الذي ينبسط عليه في الروايات من ثم، فإن علينا أن نفكر فى الأسباب، وليس في سبب واحد، ومن أهمها المساعدة على تمكين الحبكة الروائية، وتيسير بلوغ نهاية الرواية بانتصار الحب أو بموته بالضربة القاضية. ليست " الحبكة " كل شئ، إذ ينبغي أن ندرك أن موضوع الحب قادر على استيعاب أي موضوع آخر، ومنحه تشويقا لم يكن متاحا له بغير الحب، سأعطى أمثلة على ذلك: يستطيع الحب أن يمتزج بموضوع الحرب، وبموضوع الصراع الطبقي، وبموضوع اختلاف الدين، وبموضوع الغنى والفقر، وبموضوع الانحراف النفسي، وبموضوع صراع الأجيال، وبموضوع السوية الخلقية .. الخ. وهو موضوع مشترك يتعلق به كل البشر، ويتوقون للقراءة عنه، حتى أولئك الذين غلبت عليهم المادة، أو الجلافة، أو الجريمة ، وهنا أتذكر عبارة لابن قتيبة في تسويغه للمقدمة الغزلية فى القصيدة التراثية، تقول إن الشاعر القديم كان يلجأ إلى النسيب فيشكو شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق، ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، وليستدعى به إصغاء الأسماع إليه، لأن التشبيب قريب من النفوس والقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقا منه بسبب، وضاربا فيه بسهم حلال أو حرام!!
2- زوايا ورؤى :
لقد بدأ فورستر بتعليل أسباب انتشار الحب في الروايات، ولكن الحب نفسه قبل الروايات، وقبل الشعر والشعراء، وهو إلى الشعر أقرب، وفى الفلسفة أقدم. من ثم تتعدد زوايا الدخول إلى موضوع الحب، وهذا يدل على غنى الفكر العربي، وعلى إيمانه بحرية السلوك الإنساني، ونسبية المكونات للماهية، فالفكر العربي لم يفرض قالبا واحدا جامدا للسوية أو للمثالية أو للشذوذ والانحراف.. وأقدم على هذا براهين من مؤلفات هي موضوع تقدير واحترام فى كل العصور، وقد يكفى فى هذا السياق أن أشير إلى ثلاثة كتب رسم كل منها صورة للحب مزج فيها بين تجربته الخاصة، وثقافته، وطبائع مجتمعه. أولها كتاب " الزهرة " الذي ألفه محمد بن داود الفقيه الظاهري(توفى 296هـ) وفيه نجد التصور الأساسي – إن صح القول – للحب فى التراث العربي، وهو أنه عاطفة سامية، وأنها قدر مقدر، وأنه ابتلاء يجب أن ينجح فيه الإنسان، بأن يحافظ على نقائه وعفته، وأن – وهذا مهم جدا – يحب من يهواها دون أن يطالبها بأن تهواه بالمقابل ، فإذا حدث هذا وتلاقيا فلا تثريب عليهما، ولكن حبه لها غير ملزم لها بأن تجاوبه حبا بحب. إن ابن داود لا يجافى الواقع، فقد عقد فصولاً لآفات الحب، وفى مقدمتها العاذل والرقيب. فإذا كان قد عرض لأطوار الحب وحالاته، فإنه تحدث عن آداب الحب، وأولها العفة. إن المحب قد يصل حد "الوله" بمحبوبه، " ولكن هذا التعلق الشديد والتفكر الدائم الذي يبلغ مدى الهيام ينبغي أن يكون بريئا من الاشتهاء أو الرغبة الجنسية. وهنا يبدو ابن داود حريصا على استدامة الحب، وفى رأيه - وهو الرأي الصواب - أن التعلق الجنسي أو اشتهاء الجسد ينهى علاقة الحب، وكذلك فإن عاشق الجسد مهما تظاهر بالعفة والترفع لابد أن يزل لسانه وتعثر قدمه، فيتساقط الطلاء الزائف ليبدو " الحيوان" تحت قشرة " الإنسان" !! ينبغي أن ندرك - حتى لا نظلم ابن داود - أنه لا ينكر الجنس ولا يستنكر الرغبة، كيف وهما مفتاح الوجود الإنساني، وسر الاستمرار، ولكنه لا يريد أن يكون الحب والجنس فى وعينا بمثابة المقدمة والنتيجة، أو أنهما شئ واحد. إن الحب عاطفة راقية تسمو بها النفس وتتهذب الطبائع، والزواج شركة بين ذكر وأنثى توافقا على تكوين أسرة وخوض تجربة حياة. إن ابن حزم صاحب كتاب " طوق الحمامة في الألفة والألاّف" (توفى 456هـ) يقدم الصورة الأخرى للحب عند العرب، وهى صورة أندلسية نستطيع أن نرى فيها قدراً من المادية، قدرا من الحرية، قدرا من الواقعية، قدرا من التعليل العلمي، ليس في تلك الصورة التي سبق إليها ابن داود ، على الرغم مما بين الرجلين من المعاني المشتركة، فكلاهما فقيهان، ظاهريان، ولكن ابن داود كان في بغداد حيث الفقهاء وأهل المجون يتواجهان بالخصومة أو الاستهجان، في حين كان ابن حزم في قرطبة، في زمن اختلطت فيه الأوراق، واشتبكت الثقافات !! يرى ابن حزم أن التجاوب بين الذكر والأنثى له أساس قدري أيضا، ولكن دافعه الحاضر هو الميل الجسدي، التجاذب والاستحسان، والتوافق النفسي/العصبي، وفى هذا الاتجاه يذكر من أخبار العشاق في زمانه ما يدل على مساحة واسعة من حرية السلوك بين أبناء العلية بصفة خاصة، ويستطيع من خلال هذا الطرح أن يتوصل إلى الكشف عن طبائع فطرية في المرأة، كما فى الرجل، تكاد تجعل من كتابه " طوق الحمامة " أساسا مبكرا لبحوث تطبيقية في علم نفس السلوك والطبائع. ثم يأتي العالم الثالث، وقد وزع فكرته فى أكثر من مكان في كتبه الكثر، وهو الجاحظ (توفى 255هـ) - وبخاصة مقالته عن النساء ورسالته عن القيان، ورسالته الأخرى عن المفاخرة بين الجواري والغلمان . لقد تحدث عن الجنس وليس عن الحب، وتحدث عن واقع مشاهد في القرن الثالث الهجري في البيئة العراقية المترفة، ولكنه - مع هذا - كان يرسم طبائع إنسانية - وسلوكيات اجتماعية، ويحدد مبادئ وميولا فطرية ذات أسانيد من الوراثة ومن المجتمع . ومن طبائع الطبقة. إن ما كتبه الجاحظ عن " القيان" - الجواري المغنيات - يرسم أمامنا صورا ترويها صحفنا فى هذا العصر عن حياة الليل في الملاهي وفى سهرات الوارثين وأشباههم.
هذه قسمة تكاد تكون منطقية، استوعبها التراث العربي، وعمق قنوات البحث فيها، وهى قسمة ثلاثية، ولكنها لا تحول دون الهبوط عنها، أو الارتفاع، فهناك الحب الشاذ(أو الجنس الشاذ) وفى مقابله الحب الإلهي، والحب في تصور كوني يشمل كل جوانب الوجود.
3- المستوى الكوني للحب :
لا نتوقع أن يختلف العرب عن غيرهم من الأمم أو الأجناس في فهم الحب، أو في معايشته، ومع هذا نستطيع أن نجد في أدبهم المبكر (الشعر بصفة خاصة) حفاوة بهذه العاطفة ربما تتجاوز ما تدل عليه إبداعات حضارات أخرى، ولا نستعبد أن يرجع هذا إلى ما كان عليه العرب في حياتهم قبل الإسلام من بساطة وبداوة واتساع في المكان وأنهم بهذا كانوا أقرب إلى قوانين الطبيعة المعتدلة التي تعرف كيف توازن بين الحاجات وكيف تكبح دوافع الأثرة التي يمكن أن تفضي إلى المهالك، فلما جاء الإسلام أضاف العنصر الديني إلى جانب ما تزكيه الفطرة، فلما نشطت الترجمة عن الفلسفات الأخرى(اليونانية خاصة) أضافت توسعا آخر في تشريح النفس الإنسانية وفلسفة الدوافع وتأصيل الميول .إننا نذكر هنا بأن ظاهرة الحب العذري عرفت حتى في العصر قبل الإسلام، الذي اصطلح على نعته بأنه العصر الجاهلي، فهناك عشاق عذريون بعضهم شعراء سجلوا تجاربهم بقصائد تروى إلى اليوم، ثم اتسعت الظاهرة في نور الإسلام وامتداحه للعفة وإلزامه للإنسان بتجنب الخطيئة. وهكذا تكاثر المحبون العذريون فى بادية الحجاز خاصة في القرن الأول الهجري، وأرجح أن الحب العذري غير قابل للتوقف مهما أوغلت الطبائع البشرية في ماديتها، لأنه جزء من الطبيعة، ومن إرادة التفوق الكامنة في الإنسان، ومن الاختلاف الفطري بين البشر، إن هذا الحب العذري يجد له مكانا لدى كثير منا في صورة الحب الأول الذي لا ينتهي (عادة) إلى زواج، ويقنع بأن يظل حاضرا في الذاكرة يدافع عن النقاء والجمال المجرد من الحاجة. تجمعت عناصر مختلفة من الدين، والفلسفة، والعلم، ليوجد الحب الصوفي ممثلا الدرجة الأعلى من الحب العذري، ثم يأتي الحب في صورته الشاملة، فإذا كان الحب الصوفي يكتفي بأن يصور الصوفي (رجلا كان أو امرأة) متوحدا في حب الله سبحانه، كما يذكر عن رابعة العدوية، وبشر الحافى، ومعروف الكرخى وأمثالهم، يرون في ذاته العلية الحقيقة الكاملة، ويستغنون بذاته عن كل موجود، وإذا نظروا إلى بشر فإنما لأنه مجلي الجمال الإلهي.. فإن من المتصوفين من رأى أن مظاهر الكون كلها يحفظها الحب، وينظم علاقاتها الحب، فالحب ليس عاطفة مقصورة على الإنسان، إن الحيوان يحب، والنبات يعشق ، وقد صور ابن السراج في " مصارع العشاق" مشاهد لعشق بين نخلتين ( ذكر وأنثى ) وبين أنواع من الطيور – وهناك من تجاوز هذا المدى إلى ما هو كوني بأن فسر قوانين الجاذبية الكونية بالحب أيضا، إذ لم يجد معنى أو قانونا علميا يفسر به بقاء كوكب في حالة انجذاب ودوران لا يتوقف حول كوكب آخر دون أن يكون بينهما نوع من العشق.
وتبقى إضافة أخيرة تتصل بمستويات الحب، وسنجد فيها دلالة إنسانية وعلمية عميقة،تتجاوز ما درج عليه بعض منا في الفصل القاطع بين الطبائع، وإسباغ ألوان متضادة لا تقبل التحول أو المشاركة، فالأبيض والأسود بينهما تضاد حولناه إلى خصومة، ومن حيث أننا بشر فإن طبائعنا إما أن تكون أرضية أو سماوية ، وأنت إما أن تكون حسيا أو عذريا في عواطفك تجاه النوع الآخر!! إن العرب لم يقروا هذا النوع من القسمة القاطعة، وفى تصويرهم للعشاق العذريين وجدنا من يشكك في عذريتهم، ويرى فيها مبالغة، وقد طرح كتاب " الأغاني" كل الاحتمالات الممكنة تجاه شخصية " قيس" وتعرفه واستمرار تعلقه بليلى ، ومن يتفحص بدايات هؤلاء العشاق الموصوفين بالعذرية وكيف كانت تجرى على سنن المألوف الخ . وهنا تأتى إضافة رائعة ونبيلة بكل المعاني، إذ تقرر أن النفوس القادرة على الحب البشرى هي بذاتها القادرة على الارتقاء به إلى مستوى الحب الإلهي. وهكذا لا يقيد باليأس أشواق الخطاة ولا تطلعهم إلى السمو وتحطيم قيود المادة التي تعوقهم في مرحلة من حياتهم. إن المحبة الإلهية غاية، وعن طريق اكتمال الإخلاص شفى المحبة تشرق القلوب بالمعرفة، وهذه غاية ما بعدها غاية بالنسبة للتراث الصوفي، وبهذا يكون الفناء فى ذات الله سبحانه هو الوجود الحق.
4- ببليوجرافيا مختارة لمصادر الحب في التراث العربي :
1- الأبشيهي : المستطرف من كل فن مستظرف.
2- الإنطاكي : تزيين الأسواق فى أخبار العشاق.
3- ابن الجوزي : ذم الهوى.
4- ابن أبى حجلة : ديوان الصبابة .
5- ابن حزم : طوق الحمامة فى الألفة والألاف.
6- ابن الخطب : روضة التعريف بالحب الشريف.
7- ابن داود : النصف الأول من كتاب الزهرة .
8- ابن الدباغ : مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب .
9- الديلمى : عطف الألف المألوف على اللام المعطوف.
10- السراج القارئ : مصارع العشاق.
11- السيوطى : نزهة الجلساء فى أشعار النساء.
12- الغزولى: مطالع البدور فى منازل السرور .
13- ابن قيم الجوزية: روضة المحبين ونزهة المشتاقين .
14- المرزبانى : أشعار النساء.
15- الوشاء : الموشى أو الظرف والظرفاء.
ونختم هذه اللمحة عن موضوعنا المهم بأن نذكر، ونتذكر أن موضوع الحب اكتسب عند القدماء جلالة وأهمية لا نملك اليوم بعضا منها، فقد ألف فيه الفقهاء، بل كبار الفقهاء، ويكفى أن نذكر فى هذا المجال ابن داود الأصفهاني، وهو فقيه على المذهب الظاهري، وكان أبوه مؤسس المذهب، كما كان ابن حزم فقيها وإماما ظاهريا كذلك، ولعل الوضوح " الظاهري" هنا يقرب إلينا منهج الظاهراتية في الدراسات الحديثة، ولكن الفقيهين الظاهريين يمثلان البداية في اتجاهين، أما الاهتمام الواضح والمستمر فقد كان من الفقهاء الحنابلة، وقد تنبهت إلى هذا بعض الدراسات الاستشراقية، ولعل هذا الكشف يرفع عن المذهب (الفقهي) الحنبلي ما يوصف به في حياتنا العامة من تزمت.
وأخيراً يلاحظ أن المؤلفات التراثية في موضوع الحب تكاد تردد القصص والأخبار والأشعار والنوادر والأقوال، هي بذاتها، وأحيانا بلفظها تقريبا - ترحل من كتاب إلى كتاب، وكأنها قافلة مستمرة تشق طريقها عبر الزمان، وليس عبر المكان. وهذه الملاحظة تنبه إليها بعض المستشرقين أيضا، وقد ساقها في صورة مأخذ على العقل العربي، أو الجمود، أو الترديد وعدم القدرة على تجاوز القديم!!
إن هذا ليس صحيحا على إطلاقه، فإذا كانت الملاحظة صحيحة فإن تفسيرها قاصر وكأنه يتعمد تحريفها ليتوافق مع الادعاءات الغربية المأثورة عن الشرق (العربي خاصة) كما يريدونه وليس كما هو في الواقع، فقد رأينا كيف تعددت الرؤى، ما بين مادية، وروحية، وصوفية، وكونية، وكيف ربط الفكر العربي بين الحب والمعرفة، وبين الإنسان وخالقه، وكيف انتهى إلى قوانين تبدأ من البشر وتهيمن على حركة الكواكب أو تفسرها، وكأن الكوكب الدائر في محوره الكوني عاشق لا يملك إلاّ أن يدور – دون توقف – حول بيت محبوبته.
على أننا يمكن (بل لعله يجب) أن ننظر إلى ارتحال هذه الأخبار التراثية والقصص والنوادر والأشعار، عبر رحلتها الزمانية على أنها نوع من الحفاظ على الجذور، ورعاية الأصول، ونوع من حماية الشخصية الثقافية وأعرافها السلوكية وآدابها، ولعلنا لو تساهلنا فى الحفاظ عليها لم نكن لنجد في أيدينا شيئا منها اليوم، ونحن أحوج ما نكون إليها فى عصر تتهم فيه القيم العربية والمبادئ الإسلامية ويفسر فيه التاريخ العربي تفسيرا تعسفيا ليجعل من ماضينا زمنا دمويا قاسيا فظا، وكأنه لم يكن حارسا ومبدعا لأرقى ما تسعى إليه الإنسانية من السلام وإيمان وجمال. على أن هذا التراث المتسع المتنوع الذي يوفر الغذاء الشهي المعرفي لكل من يسعى إليه ويجتهد فى تحصيله يستطيع أن يلهم مبدعينا اليوم وغدا وإلى ما شاء الله الأساليب الرفيعة، والصور الجمالية الراقية، فضلا عن درجات من المشاعر وألوان من السلوكيات، وقوالب وحبكات ما أحوجنا إلى استعادتها، ودمجها في حياتنا العصرية، لينهض الحاضر والمستقبل على أسس متينة واعية وأصيلة.
هامش :
هذا البحث من أمتع ما قدم في جلسات المؤتمرـ مؤتمر إقليم شرق الدلتا الثقافي ـ حيث استطاع أستاذنا الدكتور محمد حسن عبد الله أن يلتقط لحظات مدهشة من تراثنا العربي ، مسلطا الضوء على زوايا جديدة فيها ، ليعيد اكتشاف مناطق رهيفة من هذا التراث البديع فكأننا نعيش لحظات رائعة استحضرها الباحث المعلم من زمن مضى .
والدكتور محمد حسن عبد الله أستاذ جامعي له تلاميذ كثر على امتداد الوطن العربي ، ويشرف على عشرات الرسائل الجامعية في مصر والكويت وكل أنحاء وطننا العربي .
أ. د. محمد حسن عبد الله