د. أماني فؤاد - صَبـــَابة.. قصة قصيرة

جلستْ على ذاتِ الطاولة التي شهدتْ لقاءهما عدة مرات بريستوران أحد الفنادق، تساءلت الأعين عنه.. يتذكرونهما معا، لم تُجب، فقط حبست دمعات حييّة بعينيها.

شعرت ببرودة تسري بكتفيها وأطرافها بالرغم من اشتعال أفكارها التي تخبط بأركانها وتسيل من القلب والعقل معا، انشغلت تلملم شالها وتضم جسدها على وحدتها وخجلها. ودّت لو أنها أسرعت بالمغادرة، لكن يدَ النادل الوقور امتدت لتُشعل شمعة الطاولة وهو يسأل عنه، أرجعت غيابه إلى السفر في مهمة عمل. بمجرد أن استقرت بجلستها بدأ شريط ذكرياتهما المكتنز بفيض الحياة وصخبها يتدافع كأنه خلايا نشطة تتوالد بعضها من البعض، فتصرخ فيها القسوة التي لاقتها طيلة الشهور الماضية:” ابتعدي، حلقي منفردة، وحافظي على خفتك”.

اعترتها بعض دقائق من صلابة رخوة فاعتلت غيمة وجدتها معنونة ب ” لا شيء يهم “. بعد دقائق بحثتْ عن رائحته في المقعد المجاور الذي شغله دائما، لم يكن يستهويها أن يجلس في المقابل اختارت منذ البداية أن تكون بجواره، تعشق قُربَه لتشرب رائحة أنفاسه، يحلو لها صوته العميق مفعما بالعشق حين يقترب من أذنها هامسا: “صبابة”، هذه المفردة التي تجعلها تنتشي، فتمرر أصابعها فوق شفتيه كأنها تلمس كلماته وقت أن ينطق بها، تتدلل برأسها فوق كتفه قائلة:”آخر صبابة”، وربما تقترب منه أكثر لتلتقط قبلة خاطفة في غفلة من الزمن والآخرين، علّمها لغة خاصة لعشقهما، كان قد علّمها أيضا أن حبهما من حقه أن يعلو على ضجيج الحياة.

تُفضّل جواره لتلتقط من بين أصابعه سيجارتها التي يشعلها خصيصا لها، تستطيبها مبللة برضابه، معه على هذه الطاولة نفسها منذ عام مضى كانت إحدى مرات سعاداتها النادرة، شعرت أنها ممتلئة به، لم تعد تريد شيئا من هذا الوجود، هو وكفى.

تعلو بحبه على كل النساء، لم تحلم به قبل أن تراه، فمنذ أن أحبته فقط ارتقت لمقام الرؤية، شعرت حين قابلته كأنما غَمَرها كشفٌ يضيئ حقيقتها، أو كأنها وجدت الأصل الذي إليه تنتمي، عشقت، لمست بيديها ما كانت تقرأه ولم تعشه، غمرها بفيض رجولته المقطرة حبا واهتماما بكل تفاصيلها مهما بدت صغيرة.

طلبتْ الطعامَ نفسه الذي طالما اقتسماه وراق لهما طقس إعداده الناري، خشيت أن تطلب كأس النبيذ الذي يسمح به فقط وهما معا، خافت أن تتمرد عليها دموعها التي قيدتها، وأن تبدد وعودَها له.

بها منطقة شفيفة حاولت كثيرا أن تظللها كي تمنحه انصياعا كاملا، لم يفطن إلى أن بروحها ضوءًا فوق القيد، ليته حلّق معها، كلماتها تطير رغما عنها، هل لكلمة أن تظل بلفائفها!؟ في لحظة انتبهت لسماعها وقع أقدام تعرفها، تعرف إيقاع خطواته.

منطقة بينهما سَكَنَها مَاردُ هواجسه، لم تخف منها في البداية، فمذ عرفته وهو قِبلتها وصلاتها. لكنه سَخِرَ بما تؤمن ووصفها بالسذاجة، ضغط كثيرا حتى تشققت مرآة الحكاية.

لوهلة لمحت يديه فوق الطاولة تُقطّع اللحم صغيرا ثم يرفعه نحو فمها كعادته ليطعمها، رأت أصابعه القوية، فمدت يدها تُسكنها في قبضته تستدفئ بها، فالتقط أنفها رائحة عطره، تتلفت حولها، أهو هنا!؟

تفكر لماذا تتصور أنها خسرت ما لم تمتلكه أبدًا خالصا، لماذا لا تفسح لروحها انعتاقا؟ أي انعتاق هذا الذي تتحدث عنه والعمر دونه يصفعها خاويا، وعلى جبينها انحفرت أخاديد الحنين!!

انتبهت لانسياب الموسيقى، وللطعام الذي تجمد أمامها دون أن تلمسه، تبحث عن هاتفها لتكتب له، فتُباغَت بأصابعه تتخلل خصلات شعرها، وفي استحواذ ــ طالما راق لها ــ يجذب رأسها إلى الوراء، ويقبّل جبينها، أمعنت النظر فيما حولها وتحيرت، في اللحظة ذاتها جاءها النادل بعلبة سجائره التي كان يطلبها وكأسيهما، بدا لها أنها رأته يتجه نحو المطربة يطلب الأغنية ذاتها التي أهداها لها يوم ميلادها منذ عام مضى..

تجاوب صوت المطر على سقف المطعم مع الأغنيات التي عبأتها بالشجن والتباريح، تعبر الأيام دونه مرتعدة، تصطك أسنانها.. فيجذبها من خصرها قائلا:” كيف ترتعشين وأنا بجوارك!؟ أتتذكرين على ضفاف النهر حينما وعدتك أنني سأبقى دوما دفئك.

تنظر في عينيه لتجد ذات اللمعة التي كانت تبدد كل مخاوفها، يلتقط يدها ويجذبها فتتعلق بذراعه ويغادران، على باب الفندق يختل توازنها وتكاد أن تقع، يهمس في أذنها: لا زال حياؤك يُفقِدُ العالمَ اتزانه، تدهشينني أيتها المرأة دائما، رقيقة كفراشة وقوية كمصفحة.

ربما وهو يفتح لها باب السيارة قالت: غيابك لا يبددك بداخلي. فيتردد في أذنها صوته قائلا: صبابة.



أعلى