سمر عبدالعاطي - أثقلت قلبي بالخوف ومن أمامي يكمن المجهول…

أقف وسط الحكاية متردداً..تفصلنى بضع خطوات عن خط النهاية،هل أتقدم أم أعود أدراجى؟
من ورائى تكمن كل الوحوش التى أثقلت قلبى بالخوف ..ومن أمامى يكمن المجهول
أقف حائراً بين البداية والنهاية…ضباب كثيف يخفى معالم الصورة.. وحيدٌ أنا فى معركة لا أبصرُ ملامحها.

مازلت أذكر جدى فى آخر أيامه حينما بدأ يردد أحاديث لا معنى لها ،وكان دوماً يتطلع إلى السماء ويقول” شايف يا واد الحمام اللى طاير بعيد،فوق ده…فارد جناحاته ولا كأنه ملك زمانه..الهوا شايله على كفوف الراحة،مش همه يقع ولا خايف… اهو الحمام ده يبقى أنا يا واد يا على!” كان يؤمن حقاً بأنه طائرٌ حر ،وأن أحداً ما قيده فى هذه الحياة منذ زمن ،حتى سُلبت منه أجنحته

الغريب فى حكاية جدى،أن يوماً ما وقع طائرٌ من السماء فوق سطح بيتنا.. جثة هامدة،فطلب منى أن أجلبه إليه..وحاول أن ينعش قلبه مرة تلو الأخرى..لكنه كان قد رحل ..حينها حزن جدى وأغلق بابه لأيامٍ طوال حتى مات….ليلحق بطائره فى السماء.

لا أذكر كم عدد المرات التى عدوت فيها هرباً من الألم،بحثاً عن مكان آمن يريح جسدى المرتعش

ولكنى أذكر أبى ..إبتسامته وجسده الخفيف، الذى لم يكن يهرب من أمام الوحوش حينما يصرخون بوجهه ،بل كان يحاربهم بضحكاته..بخفة وجوده..يقفز بخطوات حرة من بقعة إلى أخرى ،يتسلق كل ما تصل إليه يده ويرقص فوق الحبال بساقٍ واحدة ليريهم كم ساذجتهم …لأنهم لم يدركوا قواعد اللعبة بعد..ولا فن المعركة

قبل رحيله ، حملنى فوق كتفه ورفع رأسه إلى وجهى ليسألنى “تفتكر أبوك بيخاف ياد يا على؟” فهززت رأسى نفياً وأنا أضحك “ليه يا خويا مفكرنى مازنجر! ده وأنا متشعلق فوق برقص على الحبل ،ببقى عارف إنى بين خطوة والتانية ممكن أقع..لكن هيجرى أيه؟ ما أقع..طالما لعبنا يا واد يا على يبقى نكمل اللعبة لآخرها ،هى كده! الحكاية كلها على بعضها حبة رقص وسوكسية عالى..وبعدين؟؟ قول يا واد بعد السوكسيه بيحصل أيه؟ ” “..ب..بتوطى؟” فيضحك من قلبه وهو يجيبنى “إسمها بنحيي..بنحيى الجمهور يا علوه”

ولكنى لم أشبهه،كانت خطواتى ثقيلة لا تجارينى فى الرقص ولا التسلق ،بل كانت تجذبنى لنهرولة سوياً بعيداً عن صراخهم وإلحاحهم المستمر!

ولكنى أبداً لم أستطع…..لم يكن مقدر لى أن أبهرهم..

كانت الحياة بالنسبة لى تشبه مرآة صغيرة أعتادت أمى أن تحتفظ بها فى حقيبتها..قديمة،يغطيها التراب والأوساخ ، مشروخة من منتصفها،لا يكاد المرء يتبين ملامح وجهه بها..إلا عينه

كنت أتبين عينى جيداً…يكمن بها حزن جدى وخفة أبى وحنان أمى….التى لا أذكر منها إلا لقطة واحدة ،حينما ضمتنى فى حضنها ونمنا سوياً فى الليل..ومع الصباح كانت قد رحلت… وجدت نفسى فى العراء..

حكاية لا تروى! نسيجها من رحيلٍ يتلو رحيلٍ يتلو رحيل..خطوطها تجتمع عند قدمى،تنتظر حركتى التى سأبدأ منها طريقٌ واحد من الطريقين..فإذا حركت قدمى اليسرى،عدت للوراء ..وإذا حركت قدمى اليمنى سبحتُ فى الضباب..لكنى تسمرتُ مكانى! وحينما تردد إلى أذنى صراخهم ..جذبتنى قدمى إلى اليمين ..

إخترت هدوء الضباب.. لعلى أجدُ فيه المكان الآمن الذى طالما بحثت عنه..



أعلى