محمد خضير - وراء الظهر..

أساساً، يمكن وصف ما يجري الآن في شوارع بغداد والمحافظات من حركة غاضبة بأنه فعلٌ مضموم منذ وقت طويل وراء الظهر.
كل شيء كان مخفياً، مؤجلاً ، مثلما هي أفعالنا التاريخية كلها: احتلال بغداد ١٩١٧، حرب فلسطين، القضاء على الملك، الانقلاب على الزعيم، حرب الخليج، الاحتلال الثاني، الانتفاضات الجماهيرية: أشياء عجيبة كان أولياؤنا يخفونها عنا وراء ظهورهم. وعندما يبرزونها لعيوننا في وقت لاحق من حدوثها نكون قد مللنا هذه اللعبة الصبيانية وبلغنا سن الرشد. بينما يأتي من يتطلع الى ما تخفيه الظهور المنتصبة كجدار عال ويتحرق للنظر قبل أن يدركه الضجر وتنهكه الحياة بأعباء أخرى اكثر خفاء واستتاراً عن العيون.
من تلك الأشياء العجيبة حرائق كانت تلتهم البيوت المسماة (صرائف) في وقت مبكر من صبانا. وبعد سنوات طويلة حدث الحريق الأكبر الذي التهمَ المكتبةَ الوطنية مع دخول الحلفاء بغداد المسبية، وقت أن ضعفت أبصارُنا وعشيت من النور القوي. ولم يكن هذا الحريق ليدهشنا او يصدمنا، فقد شهدنا حرائق الصبا الصغيرة وعددناها تجربة أولى حصنتنا ضد المفاجأة الكبرى الجديدة. أيُّ فعل من ماضٍ عجيب ومدمر، يضيف تاريخاً أضافياً للعبة الاخفاء وراء الظهور، يفاجئنا فنقول: عِش رجباً ترَ عجباً. أو بلغة أفصح: وهل بقي في القوس من منزع؟ وهل كان الحريق الأخير للبناية التي كانت مكتبة مكنزي ركناً فيها حادثاً عجيباً؟ أم أنه من نوع الحرائق المخزية التي اعتاد شارع الرشيد اخفاءها وراء ظهره، (هو) الذي علًمنا السحر وأصابنا بالدوار مدى تاريخ الاحتلال والاستقلال، ثم الاحتلال والاعتلال، ثم الصحوة والانتفاض... هكذا دواليك مثل لعبة اخفاءٍ تجاوزها رشدُنا المصاب بعمى الألوان وفصام الأدوار وخرَف السنين؟
قبلا، كانت اللعبة قد سمحت باستغلال البناية ذات الطراز الاستعماري مخازنَ تجارية بدلاً من المكتبة، وفاتَ البغداديَّ اليافع ما فاته من تاريخ هذا الشارع العجيب. بعدئذ، وقد تحولت خطوط الباص الأحمر ذو الطابقين من شارع الرشيد الى شارع موازِ له يمرّ بسوق الشورجة وجامع سوق الغزل، أصبح الخداع متوالياً، وانحنت الظهور مع خرَف الذاكرة واخفاء ألعاب جديدة (لو كان الشيخ جلال الدين الحنفي، متولّي جامع الخلفاء، المجاور لسوق الغزل، حياً، لأيّدني على قولي هذا) وظهر الانترنت بدلاً من قفشات المقاهي ونداءات باعة الطيور، وأدرك الجيلُ الأخير من حمّالي الشورجة وسائقي التكسي والستوتات والتكتك حريقَ بناية مكتبة مكنزي، لكنه عدّه حادثاً متأخراً شأنه شأن حريق المكتبة الوطنية. فقد شبّ هذا الجيل على فصلٍ جديد من ألعاب الحرائق، وهو يتطلع إلى صدمة أقوى وزلزال أشد من تلك الألعاب المخفية وراء الظهور.
ربما كذلك، فإن لعبة الحرائق ستظل في أعيننا، شأناً من شؤون أولياء الأمر الذين أبهرهم كثرة المتدافعين عليهم. سنراها بعين الكرنفال التاريخي العجيب تكراراً مأساوياً اعتيادياً، كما نرى في مياه دجلة ترديداً يومياً لترنيمة الجواهري عن شهداء وثبة الجسر قبل عقود. عُقِدت فصول، وانحلّت عقود، والمياه تجري لشأنٍ لها يختلف عن شأن حريق المكتبات. الخدعة تستمر، والجسور ثابتة، وفي غد لن يتذكر المتدافعون على اللعبة أسماء شهداء الوثبة، إذ سيعود أولياء الأمر يخفون شأناً جديداً وراء ظهورهم. غدت الظهور منحنية بسبب الانهاك التاريخي المستمر، لكن شباباً يتسلقونها، كما يتسلقون حاجزاً كونكريتياً على جسر ليعرفوا ماذا تخفي وراءها. يا للمأساة!
أعلى