كي نفهم، فمن اللأزم أن ندقق النظر في "الكعبة" كتاريخ لصرح وثني عصفت به أحوال كثيرة، وتحولات عقائدية، وحروب، وأشعار، وهاجمت سياجه أفيال، وبجلته أفواج من الغرباء.
وإنه لمن المتعذر من كلّ وجه تصورُّ مكة القديمة دون تصور الكعبة معها، ليس لأن الكعبة هي أهم مبانئها التاريخية وأشهرها. بل لكون البناء الوثني العتيق هو المدينة ذاتها، ويمكننا أن نلاحظ بلا عناء قوة إستقطاب الكعبة لجميع العناصر الجامدة والحية من حولها كالبيوت ومواضع الطوبوغرافيا والناس والزوار في كل الأزمنة. ويدلنا الإستقصاء العلمي على أنّ كلمة "مَكّا" بأصلها اللغوي البابلي معناها "البيت"، والبيت في تاريخ مكة القديم لا دلالة أولية أخرى له سوى "الكعبة".
وأفضل إجابة شهيرة بهذا الصَّدَد تُعزز المعنى الذي أوردناه هو ما قاله "عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف" – جد الرسول عليه الصلاة والسلام – أثناء مواجهته أبرهة الأشرم أحد غزاة مكة في ماضيها البعيد قائلاً: "إعطني إبلي... فهي لي!! أمّا البيت فله رب يحميه !".
وكانت كلمة البيت الواردة على لسان جد الرسول عليه الصلاة والسلام تعني "الكعبة". وظلت تلك التسمية عالقة بالصرح القديم حتى مجيء الإسلام وإنتشاره.
وقد تعرضت "الكعبة" – في سياق الأحداث الكثيرة التي مرت بها – إلى السطو، ةإندلعت فيها حرائق مؤذية مثُل حريق سنة 64 هجري، وبشأنه يذكر "أبن هشام" في مدونته أن الكعبة أعيد بناؤها أو رممت، وكان النّجار الذي شيدها من جديد وصان أركانها قبطياً. ويشير "أبن هشام" إلى أن النجار المذكور أقام حينها بمكة، لكنه لم يذكر إسمه.
ومن جهة أخرى كتب العالم "ك. أ. كرزول" المختص بالعمارة الإسلامية وآخرون من علماء الهندسة المعمارية حول إعادة بناء الكعبة على الطراز الحبشي القديم، ويقصدون تقنية البناء سنة 806 ميلادي بإشراف "قريش" كما تردد في الأقاويل المدونة إسم "يا خوم" أو بنطق آخر "أنبا باخوم" لشخص حبشي لَبَّى في الماضي رغبة قائمين على شؤون الكعبة وصيانتها، ونتبين طرائق التشييد والترميم بعد حريق سنة 64 هجري فنراها مزيجاً من الخشب ومواد البناء المكونة لسورها دون أنْ يكون ذلك مقتصراً على صناعة الباب الوحيد الواقع في أحد أضلاعها والذي يتلوه منحدر قصير إستمر الوافيدون يرمون منه النذور والعطايا – طوال الماضي الوثني - إلى داخل الكعبة، وفي هذا ما ييسر فهم إشارة "أبن هشام" إلى النجار المسيحي القادم من مصر القبطية، وعلاقته بالبناء ككل، باعتبار الخشب جزءاً من بنيته العامة.
وقصة الصنم "هُبَل" – أكبر أصنام الكعبة – هي قصة الجزافية في إستيراد الآلهة أو إستعارتها من بقاع الأرض المجاورة أو من أي مكان وصل إليه ترحال الأقدمين.
وكان أمر تلك الإستعارة عادّياً وشائعاً في تاريخ العالم، فحمورابي – مؤسس بابل – إستعار دون تعديلات تذكر الديانة السُّومرية. ومثل ذلك فعل "يوليوس قيصر" عندما إستعار إلهاً من المعتقدات المصرية القديمة البارزة في دهور الفراعنة وإسمه "سرابيس" ثم أقام له صنماً ضخماً في روما قبل ميلاد المسيح.
و"هُبَل" إله العرب الجاهليين الأكبر، وتَمَّ إستراده، حسب المصادر التاريخية العربية وغيرها، على يد رجل يدعى "عمرو بن لحى بن حارثة" وهو أصلاً من اليمن، عاش في مكة، في عائلة ثرية ذات نفوذ بمقياس ما مضى، وكان دائم الأسفار، فأعجبه في إحدى رحلاته رَبّ وثني هو "هُبَل" فأثر إقامة صنم له في مكة.
أما صنم "اللآت" الأنثوي فيُعَدُ أقدم أصنام الكعبة في أطوارها الوثنية، ومعلوم أنّ العرب الجاهليين نقلوا هذا الصنم عن الآشوريين. فبمعنى كلمة "لآت" هو إمرأة باللغة الآشورية. وقد ذكرها المؤرخ والرحالة الكبير "هيرودوت" قبل ميلاد المسيح، هي رَبَّة مصنوعة من حجر أسود لم يكن للدلالة على أيّة أصول زنجية، لعل ذلك بسبب ترميزه الإسطوري.
ويبقى لازماً بعدئذ تقليب حجارة الكعبة القديمة للفرز والإحاطة والفهم.
نشر في صحيفة أويا في عددها 607 الصادر بتاريخ 9- 8- 2009
يوسف القويري
وإنه لمن المتعذر من كلّ وجه تصورُّ مكة القديمة دون تصور الكعبة معها، ليس لأن الكعبة هي أهم مبانئها التاريخية وأشهرها. بل لكون البناء الوثني العتيق هو المدينة ذاتها، ويمكننا أن نلاحظ بلا عناء قوة إستقطاب الكعبة لجميع العناصر الجامدة والحية من حولها كالبيوت ومواضع الطوبوغرافيا والناس والزوار في كل الأزمنة. ويدلنا الإستقصاء العلمي على أنّ كلمة "مَكّا" بأصلها اللغوي البابلي معناها "البيت"، والبيت في تاريخ مكة القديم لا دلالة أولية أخرى له سوى "الكعبة".
وأفضل إجابة شهيرة بهذا الصَّدَد تُعزز المعنى الذي أوردناه هو ما قاله "عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف" – جد الرسول عليه الصلاة والسلام – أثناء مواجهته أبرهة الأشرم أحد غزاة مكة في ماضيها البعيد قائلاً: "إعطني إبلي... فهي لي!! أمّا البيت فله رب يحميه !".
وكانت كلمة البيت الواردة على لسان جد الرسول عليه الصلاة والسلام تعني "الكعبة". وظلت تلك التسمية عالقة بالصرح القديم حتى مجيء الإسلام وإنتشاره.
وقد تعرضت "الكعبة" – في سياق الأحداث الكثيرة التي مرت بها – إلى السطو، ةإندلعت فيها حرائق مؤذية مثُل حريق سنة 64 هجري، وبشأنه يذكر "أبن هشام" في مدونته أن الكعبة أعيد بناؤها أو رممت، وكان النّجار الذي شيدها من جديد وصان أركانها قبطياً. ويشير "أبن هشام" إلى أن النجار المذكور أقام حينها بمكة، لكنه لم يذكر إسمه.
ومن جهة أخرى كتب العالم "ك. أ. كرزول" المختص بالعمارة الإسلامية وآخرون من علماء الهندسة المعمارية حول إعادة بناء الكعبة على الطراز الحبشي القديم، ويقصدون تقنية البناء سنة 806 ميلادي بإشراف "قريش" كما تردد في الأقاويل المدونة إسم "يا خوم" أو بنطق آخر "أنبا باخوم" لشخص حبشي لَبَّى في الماضي رغبة قائمين على شؤون الكعبة وصيانتها، ونتبين طرائق التشييد والترميم بعد حريق سنة 64 هجري فنراها مزيجاً من الخشب ومواد البناء المكونة لسورها دون أنْ يكون ذلك مقتصراً على صناعة الباب الوحيد الواقع في أحد أضلاعها والذي يتلوه منحدر قصير إستمر الوافيدون يرمون منه النذور والعطايا – طوال الماضي الوثني - إلى داخل الكعبة، وفي هذا ما ييسر فهم إشارة "أبن هشام" إلى النجار المسيحي القادم من مصر القبطية، وعلاقته بالبناء ككل، باعتبار الخشب جزءاً من بنيته العامة.
وقصة الصنم "هُبَل" – أكبر أصنام الكعبة – هي قصة الجزافية في إستيراد الآلهة أو إستعارتها من بقاع الأرض المجاورة أو من أي مكان وصل إليه ترحال الأقدمين.
وكان أمر تلك الإستعارة عادّياً وشائعاً في تاريخ العالم، فحمورابي – مؤسس بابل – إستعار دون تعديلات تذكر الديانة السُّومرية. ومثل ذلك فعل "يوليوس قيصر" عندما إستعار إلهاً من المعتقدات المصرية القديمة البارزة في دهور الفراعنة وإسمه "سرابيس" ثم أقام له صنماً ضخماً في روما قبل ميلاد المسيح.
و"هُبَل" إله العرب الجاهليين الأكبر، وتَمَّ إستراده، حسب المصادر التاريخية العربية وغيرها، على يد رجل يدعى "عمرو بن لحى بن حارثة" وهو أصلاً من اليمن، عاش في مكة، في عائلة ثرية ذات نفوذ بمقياس ما مضى، وكان دائم الأسفار، فأعجبه في إحدى رحلاته رَبّ وثني هو "هُبَل" فأثر إقامة صنم له في مكة.
أما صنم "اللآت" الأنثوي فيُعَدُ أقدم أصنام الكعبة في أطوارها الوثنية، ومعلوم أنّ العرب الجاهليين نقلوا هذا الصنم عن الآشوريين. فبمعنى كلمة "لآت" هو إمرأة باللغة الآشورية. وقد ذكرها المؤرخ والرحالة الكبير "هيرودوت" قبل ميلاد المسيح، هي رَبَّة مصنوعة من حجر أسود لم يكن للدلالة على أيّة أصول زنجية، لعل ذلك بسبب ترميزه الإسطوري.
ويبقى لازماً بعدئذ تقليب حجارة الكعبة القديمة للفرز والإحاطة والفهم.
نشر في صحيفة أويا في عددها 607 الصادر بتاريخ 9- 8- 2009
يوسف القويري