محمد خضير - النفق.. قصة قصيرة

انسحبَ المتظاهرون أمام قوات الشّرطة، وتفرّقوا جماعات وأفراداً في الأزقة المتفرّعة من ساحة التظاهر، وانحدر آخرون منهم في مداخل النفق الدائري الذي يتوسط الساحة. وما أن أحكمت القوات المزوَّدة بالهراوات ودروع الزجاج الطوقَ حول منافذ الساحة، حتى بات الانسحاب المتأخّر صعباً على فئة ظلّت تناور للبقاء والهتاف وقذف الطوق الزجاجي بالأحجار. ووجد أحد المتظاهرين نفسه ينحدر في المدخل الشماليّ للنفق، والانحصار في قاعدته المنتهية برواق الحديقة الداخلية. كان المتظاهر الأخير شابّاً، يرتدي سترة جلدية وحذاء مطاطياً، ويقنّع وجهه بقناع واقٍ للغازات، ذي خرطوم قصير. ورويداً غطّت الأدخنةُ الشارعَ الدائري وقِمم الأبنية العالية، والكائنات البرونزية لجدار نُصب الحرية المواجه للنفق. أصبح معزولاً، وهدأت الحركة التي اندلعت في ساعات الصباح الأولى، وتباعدت الأكتاف المتلاحمة كموج بشري متلاطم. إلا أنّ تدفق أرتال مكافحة الشغب، وإطلاقها قنابلَ الغاز، شقّت سبيلها الى الصدور والأفواه والعيون، وتمكّنت من شقّ الصفوف وتفريقها.
أنصت الشابّ المقنّع فلم يسمع إلا دبيباً خافتاً، واحتكاكاً غامضاً، لكائنات زاحفة في الدخان، أو لطيور هاوية من الاختناق. انحدر في مدخل النفق المغطّى باللوحات الجدارية، التي رسمها المتظاهرون، وبانَ له الرواقُ الداخلي مضاء بمصابيح سقفية واهنة. حاذى الرسمَ الجداري المعنوَن "طقس الخريف"، وتأمل هيئات الشخوص المتحلّقين حول جسدٍ نصف عارٍ ممدّد على الأرض، ينبعث من فوهة في جبهته خيطُ دخان. صورّت اللوحةُ أحد القرابين التي ظلّ المتظاهرون التضحية بهم يوماً بعد يوم، طيلة الشهرين الماضيين من نهاية العام. كانوا يتساقطون كأوراق الخريف، وظلّت أعماق النفق تبتلع بقيّتهم المصرّة على الاندفاع نحو الجدار الزجاجي لذوي البزّات السُّود، بلا هوادة أو استسلام. لكنّهم واجهوا اليومَ أصعب الجولات وأشرس المكافحات وأُحِيطوا بجدار من نار وغاز، فتسللوا وغابوا فجأة بلا آثار دالّة على اختفائهم.
كانت فتحة النفق الدائرية تسمح بضوء قليل، وتهوية شحيحة، واستكانت شجيرات الحديقة الوسطى لكِسفات الدخان الساقطة من السماء. دارَ المتظاهر المقنّع حول الحديقة المكشوفة، وأبواب المحلات التجارية المغلقة، بخطى سريعة، فاكتشف أمراً غريباً لم يلحظه في الأيام السابقة. باتَ بضع ليالٍ في رواق النفق، واستمتع بضوء النجوم الهابط من الفتحة الدائرية، لكنه لم يكتشف إلا هذا النهار انخلاع بعض الأبواب وانكشاف مخارج سرّية للنفق على محيطه الدائري الأسفل. انفتحت له أغوارٌ طويلة، غير مخارج النفق الأربعة، المتدرّجة نحو سطحه المتصل برصيف الشارع الأعلى. رهبَهُ هذا الاكتشاف واحتسبَ لمفاجآت قادمة. ظنَّ مجموعتَه المتظاهرة قد سبقته الى هذه الأنفاق المتفرعة في محيط النفق السفلى، وانحشرتْ في واحدٍ منها تباعاً. أم إنّه كان أوّلَ المكتشفين؟
أسرعَ في دورته التالية، وهرولَ محتسِباً لظلٍّ يتبعه، يرتدي قناع الغاز مثله، ويحضّه على الدخول في أحد المخارج الأرضية التي تصادفه في جهات النفق السفلى. خطا متوغّلاً في المخرج الذي يشير سهمٌ مرسوم على حائطه الداخلي الى جهة "النهر"، إذ ظنَّ أنه أقصر المخارج التي ستقوده الى ضفة دجلة، لكنّه انسحب وعاد إلى الرواق. سار الى المخرج التالي المؤشَّر بسهمٍ نحو جهة "القصر" وولجَ بضع خطوات، لكن خاطراً مفاجئاً دعاه الى التراجع. كان المخرج الثالث يشير سهمُهُ إلى مكان لم يسمع به من قبل، إلى موقع "السُّور" الذي ظنّه أبعدَ المخارج مسافةً وغموضاً. توقف في دورته المتواصلة في الرّواق أمام المخرج السرّي الرابع، وسهمُه يشير الى "المقبرة". هالَهُ أن يذهب في هذا الاتجاه، فهو يؤدي إلى موقع بعيد أيضاً، وخمّن أنّه سيصل مع غروب الشمس، وقد عمَّ الظلام الأضرحة والقبور. كان قد استأنس في إحدى الليالي بضوء صادر من مرقد قديم لأحد العارفين، تعلوه قبّة مخروطية، عقدَها بُناةٌ من العصر السلجوقي. كانت القبّة تتهاوى وتميل عاماً إثر عام، إلا أنّ حارس المرقد ظلَّ مرابطاً في ذلك المكان القريب من بقايا السّور القديم.
في ماضي الأيام، قبل ابتداء الاحتجاجات على فساد الحكومات المتعاقبة، غادر الشابُّ بيته وقرر اكتشاف المحيط المجهول من المدينة، حتى انتهى الى ذلك المرقد الذي يتوسّط مقبرة، سمّيت بالمقبرة "الوردية"، نسبة الى الشيخ المتصوّف عمر السَّهروردي. أما اليوم فهو يواجه الوصول إلى ذلك المكان من خلال الممرّ المتوغّل تحت شوارع المدينة وبناياتها وأسواقها. ناقشَ الفكرة وغادر الفتحة الغامضة في جوف النفق، وهرول نحو المخرج الأول، مخرج "النهر"، فهذا أقصر الاحتمالات للحرية. نظر الى حافة الفتحة العليا للنفق، وتصوّر أنّه يرى خلال الدخان المنعقد فوق الشارع الأعلى رؤوسَ الشّرطة المخوَّذة، تطلّ على الرّواق الأسفل، متربّصة اختناقَ المتظاهر الأخير بالغازات التي تقذفها بنادقُها من فوهة النفق العليا.
توقّف أمام مخرج "النهر" برهة، ثم غادره عائداً الى مخرج "المقبرة". ربما خامره شعور بأنّ الأسهم المشيرة للأماكن المسمّاة، تخفي خدعةً مضلِّلة، وأنّ الأنفاق الفرعية قد ابتلعت شركاءه في التظاهرة الى جوف غير معلوم، بعكس إشارات أسهمِها. سيذهب الى النهر لو توغّل في نفق المقبرة، أو إنّ نفق القصر قد يأخذه الى السُّور، على عكس الاتجاه. لا سبيل يهديه الى حقيقة الخروج من هذه المتاهة الأرضية التي حصرته الشّرطةُ في ممرّاتها. لو كان قريباً من ضريح "صاحب الحقيقة"، الشيخ السّهرورديّ لكان آمناً من الضلال والتيه؛ لكنّه الآن يبحث عن نور حقيقي في نهاية الأنفاق المضلِّلة. لا بدَّ أنّ مهندساً متأخراً أدخل هذه التعديلات على التصميم الأصلي لنفق الساحة الشهير بنفق التحرير، ليخدم بفعلته الشيطانية هذه سلطاتِ القمع والارهاب المتجدّدة. لقد خدع السكانَ الآمنين، وتحسّبَ لمستقبل غير آمن، حين اقترح على الحكومات المتعاقبة تضليلهم.
قطع المتظاهرُ المقنّع أفكاره المحتدمة، كسطور يقرؤها في كتاب العارف السّهرورديّ، وقرر الولوجَ في الفرع الأرضيّ المشار إلى موقع الخلاص باسم "النهر"، وحدسُهُ العرفانيّ يشير إلى أنّه يتجه إلى "المقبرة". اختار الحلَّ الأصعب، فيما استأنس خاطرُهُ بنور ينوس في آخر النفق، نافذاً من قبّة المرقد المخروطية. كان النفق الفرعي مضاءً بمصابيح سقفية متجاورة، وبدلاً من السَّير ومواصلة التفكير، تحوّلت قدماه الى أجنحة تحفُّ مصابيحَ السقف تارة، وتنخفض عنها تارة أخرى. وفي أحيان من الجري المتواصل يقِفُ ليُنصِت، عسى أن يسمع إشارة تسبقه أو تتبعه، إلا أنّ الصمت ساد وضيّق السبيلَ والتوى ونفذَ في الأعماق، كثعبان عمره مئات الأعوام. وظنَّ المتظاهر أنّه سيسبق نهاية العام العشرين من عمره لو انتهى من النفق وأبصر الضوءَ البعيد قبل غيره من المتظاهرين المتوارين قبله في أحد الانفاق. جرى بأقصى ما تسَعَهُ الجدرانُ المتقاربة والصمت الثقيل. كان يسمع ارتطام حذائه المطاطيّ المتلاحق بأرض النفق، كأنّه صفعات سوطٍ على ظهرٍ عارٍ، أو خفقات جوانح متطلّعةٍ للنور...


22 كانون الأول 2019


محمد خضير
أعلى