محمد خضير - سرد الأحلام

[SIZE=26px] [/SIZE]يُعد سرد الأحلام من أقدم الأنواع السردية في التاريخ: «وعندما نام أنكيدو رأى حلما، فنهض أنكيدو وقص رؤياه على صاحبه» (ملحمة جلجامش/ فصل 3). وفي هذا النوع من الأحلام ترى الذات الساردة نفسها في مركز العالم (مركز الكون السردي): «يا أبتِ إني رأيتُ أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين» (يوسف/4).
كما يحدث أن تستبدل الذات الساردة موقعها مع موضوعها: «يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى» (الصافات/102) فتسعى في البحث عن شعيرة ذرائعية: «وفديناه بذبح عظيم» (الصافات/107). ولعل الأهم في هذه الرؤى جميعها دلالتها على وجود الإنسان الحالم (السارد) في مركز الرؤيا والانفعال الشديد بها: «كنت في الروح في يوم الرب وسمعت ورائي صوتاً عظيمًا كصوت البوق» (سفر الرؤيا/ إصحاح الأول). لكن الأثر الأعظم يكمن في انتقال نصوص الأحلام من مستواها الخطابي الذرائعي إلى مستواها الخطابي التأويلي، حيث تنحل النصوص إلى عناصرها الأولية، وتصبح النفس الحالمة مهبط الأسرار ومقصد السرد: «هبطت إليك من المحل الأرفع/ ورقاء ذات تعززٍ وتمنعِ» (ابن سينا).
ولطول ارتباط السرد بالأحلام، اقترضت بنيته منها خاصياتها وثيماتها، تنتفع بها على وجه مختلف، أهمها خاصيتا الانتظار والتحول. فالنوم الذي هو راحة بين فترتين، وسكنة بين حركتين، قد يمتد عشرات السنين (أهل الكهف) أو يستغرق لمحات قصيرة (الإسراء والمعراج). فيما تستغرق الأحلام مدتها حتى تلامس الأبدية. ولا تتطابق أزمان الحالمين مع أزمان الأيقاظ، فأصوات أولئك ليست كأصوات هؤلاء، فهي أصوات خافتة ومدوية كالأبواق، وأماكنهم ليست أماكنهم، فهي ضيقة وفسيحة، والوجوه ليست الوجوه، فهي مجهولة ومعروفة، والحوادث والأحوال قد تتلبس الحقيقة والوهم؛ وكل ذلك بسبب المقايضة الواسعة لثيمتي الانتظار والتحول، وانتقالهما من عالم الطبيعة الماورائي إلى عالم الحلم الأرضي الطارئ. فقد انتقل الحلم من فضائه المطلق وهبط إلى عالم المدن الأرضية، ومشى بين الجموع الكبيرة التي تملؤها، ودخل أغوار كل نفس فيها.
إضافة إلى ثيمة (الانتظار) الماورائية، اقترض السرد ثيمة (التحول) من بنيات الأحلام الأصلية، ليطعم رؤاه وتعبيراته باختراعات خرافية كالطيران والتخفي والتحول إلى صور غير آدمية وغيرها من اختراعات النفس المتحولة خلال فترات النوم اللمحية والطويلة. ولا يقتصر اقتراض الثيمات على بنيات السرد القديمة، وإنما يشمل كذلك بنيات السرد الحديثة، فيتجه الحالمون أجمعهم إلى قارة الأحلام المجهولة عبر السبيل ذاته الذي دل عليه الروائي العربي نجيب محفوظ بطويته السليمة، وسليقته التعبيرية الناضجة، في نهاية أشواط حياته المتحولة.
أعتقد أن تأليف كتب الأحلام حق مشروع لكل حالم وطئت قدماه أرض القارة المجهولة، وإن قيمة الاكتشاف تزداد بتعدد الجهات التي تفد منها الكائنات الحالمة. وإذ يعود الفضل في كشف السبيل أمام السرد العربي الحديث إلى أحلام نجيب محفوظ، التي نشر منها مئتين وستة أحلام، فما زالت السبل مفتوحة لإضافة أحلام إلى الرصيد المحفوظي من أماكن مختلفة. نبعتْ أحلام نجيب محفوظ من زحام أكبر مدن مصر (القاهرة والإسكندرية)، ولذّ لي أن أخترع إلى جانبهما مدينة (باصورا) وأن أنتقي من أحلام سكانها ما يطمح قلمي إلى الصعود به إلى مقام أحلام الحالمين العظام السابقين. وبهذا الخطو المتجاور، تستعين أحلامي بفترات الناقهين، السائرين في الدهليز النفسي التحليلي العربي القديم والحديث؛ وتلتحم أحلام باصورا المقيدة بالخوف والكبت، بأحلام القارات المجهولة لتساعدها على الخروج إلى فضاء سردي متعال، يخلص التجربة الواقعية، الفردية والاجتماعية، من عُقدها الأيديولوجية، العرقية والدينية.
تحافظ أحلام باصورا على فورية اتصالها، وتوطد علاقتها الوثيقة بالواقع الاجتماعي المتشابك الجذور والمصادر، ولا تتوانى عن الإحالة الصريحة إلى التجربة الشخصية أساساً للتأويل، ولا تتوانى في استدعاءالسير الغائبة لشخصيات التاريخ العراقي المعروفة، لإسنادها بالخبر والوثيقة والصورة والتحليل. وبهذا التعاضد بين الذات والتاريخ، تباشر الأحلام سرديتها باقتصاد تعبيري، وتنوع تصويري، وتوثيق يلتبس لباس الترميز والإشارة المقنعة. ولا أنكر هنا أن إحالاتي السردية على حالمين سابقين، قد أعانتني في السير إلى أماكن لم تطأها قدماي من قبل، وهم يشاركونني مهمة الاستدلال والتحليل.
كل أملي أن تؤول أحلام باصورا على مذهب المقايضة السردية مع نصوص الحالمين الكبار، لكي أشعر أن كتابتي كسبت رضاهم، بنص طرفي يخلصها من عناء الخوض في التفسير والتأويل الخاطئين، ولم تتجن على ممالكهم. لقد صعدت هذه الأحلام من طبقات باصورا السفلى إلى السطح الزاخر بالحركة والتغيير، بفضل هذه المقايضة السردية العادلة مع نماذج من كوميديات العصر القديم (كوميديات أرستوفان الإغريقية على سبيل المثال) واكتسبت حرية التسريد طبقاً لنماذج من طراز (المقامات والمنامات) العربية. لكنها وصلت في النهاية، إلى سرديات الحال الواقعية الراهنة، بقوتها الدلالية وتأويلاتها الذاتية.


* عن الصباح الجديد
أعلى