إن صفة "جميل"- ومعها "حَسَنَ" و"جذاب"، أو "عظيم"، و"روعة"، و"مدهش"، وألفاظ أخرى متشابهة- جميعها نعوت نلجأ إليها -في الغالب للإشارة إلى ما يعجبنا. ويبدو أننا نعرف الشيء الجميل على أنه الشيء الجيد. وفي الواقع، إن التاريخ أثبت في عصور مختلفة ذلك الارتباط بين ما هو جميل وجيد.
وإذا ما أردنا أن نحكم على أساس خبراتنا المستمدة من تجاربنا اليومية، فأننا نميل إلى الجيد؛ بأنه ليس فقط ما يعجبنا وإنما ما نريد أن يكون ملكًا لنا. فهناك العديد من الأشياء التي نراها جيدة، ونحب أمتلاكها منها الحب المنشود، وثروة ننالها بشرف.. إلخ، وفي كل هذه الحالات نوّد ولو امتلكنا ذلك الجيد. فالأشياء الجيدة هي التي تثير في داخل أنفسنا الرغبة، حتى عندما نعترف أن هذا العمل جيد، نتمنى أن يكون ذلك الفعل من عملنا، أو نقرر وبحزم على فعل شيء يحصل على ذات القدّر من الاستحسان. وكل هذا يخضع تحت تأثير ما نعدّه مثالًا على أنه جيد.
في بعض الأحيان، نضع الشيء على أنه جيد، عندما يتفق مع واقعنا وما يستلزمه، بالرغم ما يسببه من معاناة، مثل الموت المجيد للأبطال أو إخلاص مَن يعالجون المصابين بمرض الجذام، أو مَن يضحون بحياتهم من الآباء من أجل إنقاذ أطفالهم. ونحن في مثل تلك الحالات نصف هذه الأفعال بأنها جيدة، لكن بسبب الخوف أو الأنانية، لا نريد أن نجد أنفسنا في موقف مشابه. نتعرف عليه بوصفه جيدًا، لكن كفعل خاص بالآخرين. إنه عمل نسعى إليه بقدر من التجرد، حتى وإن داخلتنا العاطفة تجاهه دون أن نستشعر أي رغبة فيه. وفي أكثر الأحيان، عندما نصف اعمالًا جيدة نفضل أن نعجب بها بدلًا من القيام بها، فنحن نتحدث عن القيام بعمل "جميل".
وإذا كنا نملك القدرة على التفكر في موقف متجرد يسمح لنا بأن نتعرّف على شيءٍ جيد لا يثير فينا أية رغبة بأنه جميل، ندرك أننا نتحدث عن الجمال عند استمتاعنا بشيء على ما هو عليه بصرف النظر عن امتلاكنا له من عدمه. فلو اعجبتنا كعكة الزفاف المتقنة الصنع بإحدى محلات الخبز، قد يستوقفنا جمالها، لكننا لا نرغب فيها بوصفها شيئًا جميلًا يمكن الحصول عليه بسهولة، لأن ذلك ربما، يرجع إلى مراعاة الاسباب الصحية أو لأننا لا نشتهيها.
فالشيء الجميل هو ما يجعلنا سعداء لو ظفرنا به، وهو يبقى جميلًا حتى وإن كان ملكًا لشخص آخر. وبطبيعة الحال، نحن هنا لا نتحدث عن مواقف من يرغبون في امتلاك الشيء الجميل، مثل الذين لوحة ذائعة الصيت لرسام مشهور. وغالبًا ما يكون ذلك لغرض إن يتباهون بامتلاكها، أو لكي يتمكنوا من تأملها يومًا بعد يوم أو لقيمتها الإقتصادية الضخمة. إن هذه الأشكال من المشاعر العاطفية، كالغيرة وشهوة الامتلاك والحسد والطمع لا علاقة لها بالإحساس بالجمال.
عندما يسرع شخصٌ عطشانُ إلى ينبوع وقع عليه ليروي ظمأه، فهو لا يفكر في جماله. ويمكنه التفكير بعد الارتواء. وهذا يفسر الإختلاف بين الإحساس بالجمال والرغبة به. ويمكننا أن نشعر بالجمال نحو الناس على الرغم من أننا لا نرغب بهم جنسيًا أو من الصعب أن يكونوا ملكنا. لكن إذا رغبنا في إنسان (وقد يكون قبيحًا)، لا تتحقق العلاقة التي نريدها وقد تنتهي بالمأساة.
ومن خلال عرض الأفكار حول الجمال، عبر العصور، سنحاول أولًا وقبل كل شيء تحديد الحالات التي أدركت معها ثقافة ما أو حقبة تاريخية أن هناك أشياء تُعجب الناس بغض النظر عمّا نضمره تجاهها من رغبة. وبهذا، لن نبدأ بأي فكرة مسبقة عن الجمال: بل نستعرض ما عدهُ الإنسان جميلًا عبر الآلاف السنين.
هناك معيار آخر سوف يهدينا إلى طريق الجمال، ألا وهو حقيقة أن ما نربطه في الوقت الحاضر من علاقة بين الجمال والفن ليس له أية علاقة بالجمال مثلما سوف ترون. في حين لا تعترف بعض النظريات الحديثة سوى بجماليات الفن، فإنها تقلل من قدر جمال الطبيعة، والعكس صحيح في بعض المراحل التاريخية: حين كان الجمال صفة يمكن الاستعارة عنه أو الإشارة إليه من خلال الطبيعية مثل (ضوء القمر، والفاكهة الشهية، واللون الجميل)، في حين انحصرت مهمة الفن في القيام بجميع الأعمال الذي يؤدي الهدف المراد منه- إلى الحد الذي كان فيه الفن مصطلح مجرد يطلق على أعمال الرسامين والنحاتين وبناة القوارب والنجارين والحلاقين على حد سواء. ولم يستخدم مفهوم الفنون الجميلة للأعمال الفنية إلا بعد مضي وقت طويل وذلك لتمييز بين الرسم والنحت والمعمار وما نسميه اليوم بالحرف اليدوية. ومع ذلك، نجد أن التعبير عن العلاقة بين الجمال والفن جاء -في الغالب- مشوبًا بالغموض، فعلى الرغم من تفضيل جمال الطبيعة، هناك اعتراف بأن الفن يمكنه تصوير الطبيعة تصويرًا جميلًا، حتى وإن انطوت الطبيعة المصورة نفسها على المخاطر أو البغض.
على أية حال، هذا ما يبحث عنه هذا الكتاب "تاريخ الجمال" وليس "تاريخ الفن" (ولا عن تاريخ الأدب أو الموسيقى)، وعليه سوف ننوه بالأفكار التي عبّرت من وقت لآخر عن الفن، فقط عندما تتعاطى هذه الأفكار مع الصلة بين الفن والجمال.
وهناك ذلك السؤال: لماذا إذن وثّق تاريخ الجمال عن طريق الأعمال الفنية وحدها؟ لأن الفنانين والشعراء والروائيين، هم من تعاملوا مع الأشياء الجميلة، وهم من كتبوا عبر القرون عن هذه الأشياء الجميلة، وهم من خلفوا لنا الأمثلة.
على الرغم من أنَّ الفلاحين والبناة والخبازين والخياطين رأوا أشياءَ جميلة، لكن عدد أقل من القليل قد بقي (المزهريات، والمباني المشيدة لإيواء الحيوانات، وبعض الملابس). وفوق هذا كله، لم يكتبوا شيئًا ليقولوا لنا لماذا قد عدّوا مثل هذه الأشياء جميلة، أو لتوضيح لنا ما طبيعة الجمال الذي يعني لهم. عندما يصوّر الفنان الحظائرَ أو الأدواتَ أو أناسا يرتدون ثيابًا، نستطيع تخمين أنهم ربما يريدون أن يقولوا شيئا حول هذه الأشياء، منها المثل العليا للجمال التي اعتقد فيها الحرفيون بعصرهم، ولكننا لا نستطيع أن نتيقن من هذا كل اليقين. أحيانًا عندما يريد الفنانون أن يشخص أناس يعيشون في أحد العصور، يستلهمون أفكار الموضة من العصور الإنجيلية أو أيام هوميروس، وعلى العكس عند تصوير شخصيات من الإنجيل أو من عصر هومر، يستلهمون الموضة مما هو سائد في ذلك الزمن.
ولا يسعنا على الإطلاق التأكد مما نبني عليه أراءنا من مراجع، بيد أننا نستطيع المخاطرة ببعض الاستنتاجات مع توخي الحرص والحذر الواجبين. حيث يمكننا دراسة أعمال الفنانين أو الحرفيين القدماء، بالعودة إلى النصوص الأدبية والفلسفية المكتوبة في تلك المدة. على سبيل المثال، لسنا متأكدين من أن الذين نحتوا الوحوش على أعمدة الكنائس الرومانية، رأوا فيها جمالًا، إلا أننا نستطيع تطبيق نصًا كتبه القديس برنارد (الذي لم يجد تلك التماثيل جميلة)، والذي يكشف في شجبه لها أنه قد تأثر بجاذبيتها على نحو طفيف. وفي هذه اللحظة التي نشكر فيها السماوات على هذه الشهادات التي جاءت إلينا من مصدر لا يقبل الشك، يمكننا أن نذكر-على ضوء صوفية القرن الثاني عشر- أن تصوير الوحوش كان جميلًا (وأن كان مستهجنًا على المستوى الأخلاقي).
ولهذه الأسباب فإن هذا الكتاب يتعامل فقط مع فكرة الجمال في الثقافة الغربية. أما فيما يتعلق بما يعرف بالشعوب البدائية، فهناك مواد فنية غنية منها الأقنعة والكتابة على الجدران والمنحوتات، غير أننا لا نملك نصوص نظرية تخبرنا اذا ما كانت هذه الأعمال مخصصة للجمال أم مجرد أعمال لطقوس دينية أو حتى للاستعمال اليومي. أما بخصوص الثقافات الاخرى، والتي تملك ثروة كبيرة من النصوص الشعرية والفلسفية مثل (الثقافات الهندية، والصينية)، فمن الصعب الوصول للمفاهيم التي تتقاطع مع ثقافتنا الغربية، حتى لو كانت ترجمتها بناءً على أفكارنا الغربية مثل "جميل" أو "صحيح". على أية حال، أي حديث عن هذا الموضوع هو خارج سياق الكتاب.
أشرنا سابقًا إلى أننا سوف نستخدم مراجع من عالم الفن. لكننا، ولا سيما ونحن ندرس المدد الزمنية الحديثة، وجب علينا أن نستعمل مراجع تفتقر إلى المغزى الفني ولا غاية لها سوى الترفيه أو الإعلان أو إرضاء الدوافع الشهوانية مثلها مثل الصور التي تخرج إلينا من السينما التجارية والتلفزيون والإعلانات. ومن حيث المبدأ، فإن الأعمال الفنية العظيمة والمراجع ذات القيمة الجمالية البسيطة لها ذات المكانة في هذا الكتاب، عسى ولعل أن تساعدنا في الوصول إلى المثل الأعلى للجمال.
وبذكر هذا، قد يصادف أن يوجه لكتابنا تهمة أنه يستند على النسبية، كما لو أن الكتاب يريد الوصول إلى أن ما يعتبر جميلًا يعتمد على المراحل التاريخية والثقافات المختلفة. وهذا صحيح، وهو تحديدًا ما أريد أن أوصله من خلال هذا الكتاب. هناك فقرة شهيرة للفيلسوف زينوفانيس من مدينة كولوفون، وهو أحد الفلاسفة الذين ظهروا قبل سقراط، يقول فيها: "لو كان للثيران والأسود أيدٍ مثلنا، وكان في وسعها أن ترسم وتصنع صورًا كما يفعل الآدميون، لرسمت لآلهتها صورا وصنعت لها تماثيل على صورتها هي؛ ولو استطاعت الخيل لصورت آلهتها في صورتها، ولصورت الثيران آلهتها في صورة الثيران". (القديس أكليمنتس، ستروماتا، 110.5). من المحتمل-بالإضافة إلى مفاهيم الجمال المتعددة- أنه كانت هناك بعض العوامل المشتركة بين الشعوب خلال الزمن.
يبدأ هذا الكتاب من مبدأ أن الجمال لم يكن مطلقًا، وغير قابل للتغيير. وأنه على جوانب مختلفة من الحياة، كان يعتمد على المدة التاريخية والبلد الذي خرج منه. وهذا لا ينطبق فقط على الجوانب الفسيولوجية للرجال والنساء ولا على الطبيعة، وإنما يشمل جمال الله، القديسين أو الأفكار.
إن مخطط هذا الكتاب وأفكاره واضحان من البداية، وذلك حتى تكون لدى القارئ الفضولي فكرة عن صنف هذا العمل. فالعمل يبدأ بأحد عشر جدولًا للمقارنة، الغرض منها أن يتصور القارئ، على الفور، كيف عادت أفكار الجمال المتباينة وتطورت، (وربما اختلفت) خلال العصور المختلفة بأعمال الفلاسفة والكتاب والفنانين التي كانت أحيانًا بعيدة تمامًا بعضها عن بعض. وعليه سيرفق النص -عند الحديث عن كل عصر أو نموذج جمالي- بصور واستشهادات تتصل بالموضوع المتناول، وسيصحبها -في بعض الأحيان- إسناد واضح داخل النص.
في بعض الأحيان، نضع الشيء على أنه جيد، عندما يتفق مع واقعنا وما يستلزمه، بالرغم ما يسببه من معاناة، مثل الموت المجيد للأبطال أو إخلاص مَن يعالجون المصابين بمرض الجذام، أو مَن يضحون بحياتهم من الآباء من أجل إنقاذ أطفالهم. ونحن في مثل تلك الحالات نصف هذه الأفعال بأنها جيدة، لكن بسبب الخوف أو الأنانية، لا نريد أن نجد أنفسنا في موقف مشابه. نتعرف عليه بوصفه جيدًا، لكن كفعل خاص بالآخرين. إنه عمل نسعى إليه بقدر من التجرد، حتى وإن داخلتنا العاطفة تجاهه دون أن نستشعر أي رغبة فيه. وفي أكثر الأحيان، عندما نصف اعمالًا جيدة نفضل أن نعجب بها بدلًا من القيام بها، فنحن نتحدث عن القيام بعمل "جميل".
وإذا كنا نملك القدرة على التفكر في موقف متجرد يسمح لنا بأن نتعرّف على شيءٍ جيد لا يثير فينا أية رغبة بأنه جميل، ندرك أننا نتحدث عن الجمال عند استمتاعنا بشيء على ما هو عليه بصرف النظر عن امتلاكنا له من عدمه. فلو اعجبتنا كعكة الزفاف المتقنة الصنع بإحدى محلات الخبز، قد يستوقفنا جمالها، لكننا لا نرغب فيها بوصفها شيئًا جميلًا يمكن الحصول عليه بسهولة، لأن ذلك ربما، يرجع إلى مراعاة الاسباب الصحية أو لأننا لا نشتهيها.
فالشيء الجميل هو ما يجعلنا سعداء لو ظفرنا به، وهو يبقى جميلًا حتى وإن كان ملكًا لشخص آخر. وبطبيعة الحال، نحن هنا لا نتحدث عن مواقف من يرغبون في امتلاك الشيء الجميل، مثل الذين لوحة ذائعة الصيت لرسام مشهور. وغالبًا ما يكون ذلك لغرض إن يتباهون بامتلاكها، أو لكي يتمكنوا من تأملها يومًا بعد يوم أو لقيمتها الإقتصادية الضخمة. إن هذه الأشكال من المشاعر العاطفية، كالغيرة وشهوة الامتلاك والحسد والطمع لا علاقة لها بالإحساس بالجمال.
عندما يسرع شخصٌ عطشانُ إلى ينبوع وقع عليه ليروي ظمأه، فهو لا يفكر في جماله. ويمكنه التفكير بعد الارتواء. وهذا يفسر الإختلاف بين الإحساس بالجمال والرغبة به. ويمكننا أن نشعر بالجمال نحو الناس على الرغم من أننا لا نرغب بهم جنسيًا أو من الصعب أن يكونوا ملكنا. لكن إذا رغبنا في إنسان (وقد يكون قبيحًا)، لا تتحقق العلاقة التي نريدها وقد تنتهي بالمأساة.
ومن خلال عرض الأفكار حول الجمال، عبر العصور، سنحاول أولًا وقبل كل شيء تحديد الحالات التي أدركت معها ثقافة ما أو حقبة تاريخية أن هناك أشياء تُعجب الناس بغض النظر عمّا نضمره تجاهها من رغبة. وبهذا، لن نبدأ بأي فكرة مسبقة عن الجمال: بل نستعرض ما عدهُ الإنسان جميلًا عبر الآلاف السنين.
هناك معيار آخر سوف يهدينا إلى طريق الجمال، ألا وهو حقيقة أن ما نربطه في الوقت الحاضر من علاقة بين الجمال والفن ليس له أية علاقة بالجمال مثلما سوف ترون. في حين لا تعترف بعض النظريات الحديثة سوى بجماليات الفن، فإنها تقلل من قدر جمال الطبيعة، والعكس صحيح في بعض المراحل التاريخية: حين كان الجمال صفة يمكن الاستعارة عنه أو الإشارة إليه من خلال الطبيعية مثل (ضوء القمر، والفاكهة الشهية، واللون الجميل)، في حين انحصرت مهمة الفن في القيام بجميع الأعمال الذي يؤدي الهدف المراد منه- إلى الحد الذي كان فيه الفن مصطلح مجرد يطلق على أعمال الرسامين والنحاتين وبناة القوارب والنجارين والحلاقين على حد سواء. ولم يستخدم مفهوم الفنون الجميلة للأعمال الفنية إلا بعد مضي وقت طويل وذلك لتمييز بين الرسم والنحت والمعمار وما نسميه اليوم بالحرف اليدوية. ومع ذلك، نجد أن التعبير عن العلاقة بين الجمال والفن جاء -في الغالب- مشوبًا بالغموض، فعلى الرغم من تفضيل جمال الطبيعة، هناك اعتراف بأن الفن يمكنه تصوير الطبيعة تصويرًا جميلًا، حتى وإن انطوت الطبيعة المصورة نفسها على المخاطر أو البغض.
على أية حال، هذا ما يبحث عنه هذا الكتاب "تاريخ الجمال" وليس "تاريخ الفن" (ولا عن تاريخ الأدب أو الموسيقى)، وعليه سوف ننوه بالأفكار التي عبّرت من وقت لآخر عن الفن، فقط عندما تتعاطى هذه الأفكار مع الصلة بين الفن والجمال.
وهناك ذلك السؤال: لماذا إذن وثّق تاريخ الجمال عن طريق الأعمال الفنية وحدها؟ لأن الفنانين والشعراء والروائيين، هم من تعاملوا مع الأشياء الجميلة، وهم من كتبوا عبر القرون عن هذه الأشياء الجميلة، وهم من خلفوا لنا الأمثلة.
على الرغم من أنَّ الفلاحين والبناة والخبازين والخياطين رأوا أشياءَ جميلة، لكن عدد أقل من القليل قد بقي (المزهريات، والمباني المشيدة لإيواء الحيوانات، وبعض الملابس). وفوق هذا كله، لم يكتبوا شيئًا ليقولوا لنا لماذا قد عدّوا مثل هذه الأشياء جميلة، أو لتوضيح لنا ما طبيعة الجمال الذي يعني لهم. عندما يصوّر الفنان الحظائرَ أو الأدواتَ أو أناسا يرتدون ثيابًا، نستطيع تخمين أنهم ربما يريدون أن يقولوا شيئا حول هذه الأشياء، منها المثل العليا للجمال التي اعتقد فيها الحرفيون بعصرهم، ولكننا لا نستطيع أن نتيقن من هذا كل اليقين. أحيانًا عندما يريد الفنانون أن يشخص أناس يعيشون في أحد العصور، يستلهمون أفكار الموضة من العصور الإنجيلية أو أيام هوميروس، وعلى العكس عند تصوير شخصيات من الإنجيل أو من عصر هومر، يستلهمون الموضة مما هو سائد في ذلك الزمن.
ولا يسعنا على الإطلاق التأكد مما نبني عليه أراءنا من مراجع، بيد أننا نستطيع المخاطرة ببعض الاستنتاجات مع توخي الحرص والحذر الواجبين. حيث يمكننا دراسة أعمال الفنانين أو الحرفيين القدماء، بالعودة إلى النصوص الأدبية والفلسفية المكتوبة في تلك المدة. على سبيل المثال، لسنا متأكدين من أن الذين نحتوا الوحوش على أعمدة الكنائس الرومانية، رأوا فيها جمالًا، إلا أننا نستطيع تطبيق نصًا كتبه القديس برنارد (الذي لم يجد تلك التماثيل جميلة)، والذي يكشف في شجبه لها أنه قد تأثر بجاذبيتها على نحو طفيف. وفي هذه اللحظة التي نشكر فيها السماوات على هذه الشهادات التي جاءت إلينا من مصدر لا يقبل الشك، يمكننا أن نذكر-على ضوء صوفية القرن الثاني عشر- أن تصوير الوحوش كان جميلًا (وأن كان مستهجنًا على المستوى الأخلاقي).
ولهذه الأسباب فإن هذا الكتاب يتعامل فقط مع فكرة الجمال في الثقافة الغربية. أما فيما يتعلق بما يعرف بالشعوب البدائية، فهناك مواد فنية غنية منها الأقنعة والكتابة على الجدران والمنحوتات، غير أننا لا نملك نصوص نظرية تخبرنا اذا ما كانت هذه الأعمال مخصصة للجمال أم مجرد أعمال لطقوس دينية أو حتى للاستعمال اليومي. أما بخصوص الثقافات الاخرى، والتي تملك ثروة كبيرة من النصوص الشعرية والفلسفية مثل (الثقافات الهندية، والصينية)، فمن الصعب الوصول للمفاهيم التي تتقاطع مع ثقافتنا الغربية، حتى لو كانت ترجمتها بناءً على أفكارنا الغربية مثل "جميل" أو "صحيح". على أية حال، أي حديث عن هذا الموضوع هو خارج سياق الكتاب.
أشرنا سابقًا إلى أننا سوف نستخدم مراجع من عالم الفن. لكننا، ولا سيما ونحن ندرس المدد الزمنية الحديثة، وجب علينا أن نستعمل مراجع تفتقر إلى المغزى الفني ولا غاية لها سوى الترفيه أو الإعلان أو إرضاء الدوافع الشهوانية مثلها مثل الصور التي تخرج إلينا من السينما التجارية والتلفزيون والإعلانات. ومن حيث المبدأ، فإن الأعمال الفنية العظيمة والمراجع ذات القيمة الجمالية البسيطة لها ذات المكانة في هذا الكتاب، عسى ولعل أن تساعدنا في الوصول إلى المثل الأعلى للجمال.
وبذكر هذا، قد يصادف أن يوجه لكتابنا تهمة أنه يستند على النسبية، كما لو أن الكتاب يريد الوصول إلى أن ما يعتبر جميلًا يعتمد على المراحل التاريخية والثقافات المختلفة. وهذا صحيح، وهو تحديدًا ما أريد أن أوصله من خلال هذا الكتاب. هناك فقرة شهيرة للفيلسوف زينوفانيس من مدينة كولوفون، وهو أحد الفلاسفة الذين ظهروا قبل سقراط، يقول فيها: "لو كان للثيران والأسود أيدٍ مثلنا، وكان في وسعها أن ترسم وتصنع صورًا كما يفعل الآدميون، لرسمت لآلهتها صورا وصنعت لها تماثيل على صورتها هي؛ ولو استطاعت الخيل لصورت آلهتها في صورتها، ولصورت الثيران آلهتها في صورة الثيران". (القديس أكليمنتس، ستروماتا، 110.5). من المحتمل-بالإضافة إلى مفاهيم الجمال المتعددة- أنه كانت هناك بعض العوامل المشتركة بين الشعوب خلال الزمن.
يبدأ هذا الكتاب من مبدأ أن الجمال لم يكن مطلقًا، وغير قابل للتغيير. وأنه على جوانب مختلفة من الحياة، كان يعتمد على المدة التاريخية والبلد الذي خرج منه. وهذا لا ينطبق فقط على الجوانب الفسيولوجية للرجال والنساء ولا على الطبيعة، وإنما يشمل جمال الله، القديسين أو الأفكار.
إن مخطط هذا الكتاب وأفكاره واضحان من البداية، وذلك حتى تكون لدى القارئ الفضولي فكرة عن صنف هذا العمل. فالعمل يبدأ بأحد عشر جدولًا للمقارنة، الغرض منها أن يتصور القارئ، على الفور، كيف عادت أفكار الجمال المتباينة وتطورت، (وربما اختلفت) خلال العصور المختلفة بأعمال الفلاسفة والكتاب والفنانين التي كانت أحيانًا بعيدة تمامًا بعضها عن بعض. وعليه سيرفق النص -عند الحديث عن كل عصر أو نموذج جمالي- بصور واستشهادات تتصل بالموضوع المتناول، وسيصحبها -في بعض الأحيان- إسناد واضح داخل النص.
غاستون باشلار Gaston Bachelard
تاريخ الجمال: المقدمة أمبرتو إيكو ترجمة: سارة محسن إن صفة "جميل"- ومعها "حَسَنَ" و"جذاب"، أو "عظيم"، و"روعة"، و"مدهش"، وألفاظ أ...
gastonbachelard1.blogspot.com