في فصل بعنوان ” الإنسان ـ الريشة ” ) El hombre – pluma) من كتابه عن رواية ” مدام بوفاري ” لجوستاف فلوبير ، يستعرض الكاتب الروائي البيروفي ماريو فاركاس يوسا ، المراحل التي قطعها فلوبير في كتابة روايته ، والمعاناة التي قاساها في نحت كلماتها وتجويد أسلوبها ورسم شخوصها وبناء أحداثها ، وذلك خلال ما يقرب من خمس سنوات ( من ليلة الجمعة 19 شتنبر 1851 إلى 30 أبريل 1856 )
وقد بين لنا يوسا في جزء من هذا الفصل حرص فلوبير الشديد على تجويد ما يكتبه ، وعدم نشره على الملأ إلا بعد أن يعرضه على بعض أصدقائه الخلصاء الذين يثق في معرفتهم وذوقهم الأدبي. فحين فرغ من كتابة مخطوط روايته ” تجربة القديس أنطوان ” ، استدعى صديقيه Louis Bouilhet و Maxime Du Camp إلى بيته ليقرأ عليهما عمله ، وليدليا برأيهما فيه. واستمرت القراءة أربعة أيام حسب جدول زمني محدد صارم . وحين قرأ فلوبير آخر جملة في الرواية ، طلب من صديقيه أن يصارحاه برأيهما ، فجاءه الحكم من لدن صديقه الخجول Louis Bouilhet الذي لا يتسامح ولا يرحم حينما يتعلق الأمر بالأدب حسب صديقه Du Camp ، هكذا ” رأينا هو أن تلقي بمخطوطك إلى ألسنة النار لتلتهمه ، ولا تعود أبداً إلى الحديث عنه “. كان رد فعل فلوبير عنيفاً مثل حيوان جريح . وظل الأصدقاء الثلاثة طوال بقية الليلة يناقشون الكتاب . فلوبير يدافع عن كتابه ، وصديقاه ينقدانه ، وأخيراً يقول لهما : ” قد تكونان على صواب. لقد انسقت مع الموضوع ، وتحمست له ، لم أعد أرى الأمر بوضوح . أعترف بأن الكتاب يتضمن العيوب التي أشرتما إليها ، ولكن هذه العيوب هي في طبيعتي . ما ذا أستطيع فعله ؟ ” ( )
ويعتبر يوسا هذه الحادثة نقطة الانطلاق لكتابة ” مدام بوفاري “. ( ) الكتاب الذي ” يظل على الدوام رواية الروايات التي لا يمكن للنقد الروائي أن يتجاوزها . وفي وقت نتحدث فيه عن أصول الفن ، فإننا لابد وأن نكون على استعداد للبحث عن فلوبير. ” ( )
سنتناول فيما يلي بعض ملامح الكتابة الروائية عند فلوبير في رواية ” مدام بوفاري ” من خلال الفصل التاسع من الجزء الأول ، مركزين على مكونات الخطاب الروائي التالية : طرائق السرد ـ الفضاء الروائي ـ الشخصيات .
1 ـ طرائق السرد :
أ ـ امتزاج السرد بالوصف :
إذا كان السرد يطلق القصة في الزمن ، فإن الوصف يوقفها في المكان ويجعلها مجموعة من المشاهد ( ) ، وكثيراً ما يلجأ السارد إلى إيقاف عملية الحكي ، فيوقف بالتالي تدفق الزمن ، وتتابع الحدث ليصف الأشياء أو الأشخاص أو ا لأماكن.
إن أول ما يمكن ملاحظته لدى قراءة هذا الفصل هو المزج بين السرد والوصف. وهذا ما نجده في الفقرات السردية التالية :
ـ السرد ووصف الشيء :
نقرأ في بداية الفصل ” كثيراً ما كانت إيما تسعى إلى الصوان إذا ما غادر شارل المنزل ، فتخرج حافظة السيجار الحريرية الخضراء من ثنايا الثياب التي دستها بينها وتروح تتأملها وتفتحها .. بل إنها كانت تتنسم رائحة بطانتها التي جمعت بين العطر والتبغ .. ترى لمن كانت تلك الحافظة ؟ .. أتراها كانت للفيكونت ؟ .. ” ( ) . يتوقف السرد الخالص هنا ليبدأ وصف الشيء ولكنه وصف ممزوج بالسرد . يصف السارد حافظة السيكار من حيث مكان صنعها ـ طريقة صنعها ـ زمنه ـ ملابساته. : ” لعلها هدية من عشيقته نسجتها وطرزتها على إطار من خشب الورد لتكون تحفة صغيرة … ولعل الحائكة شغلت بصنعها ساعات طوالاً كانت خصل من شعرها تتهدل خلالها على النسيج ، ولابد أن نسمة من الحب سرت بين خيوط الرقعة ، والفتاة تثبت في كل غرزة من إبرتها أملاً أو ذكرى . كانت الخيوط الحريرية في امتدادها وتقاطعها ، انعكاساً لما كان في فؤادها من هيام صامت ” ( ). والملاحظ أننا نتلقى ما يروى ويوصف هنا من خلال “إيما” . يقول برسي لوبوك : ” أحياناً يتحدث المؤلف بصوته وأحياناً أخرى يتحدث من خلال أحد شخصيات الكتاب ، وهو في هذا الكتاب يتحدث من خلال إيما نفسها في معظم الحالات.” ( )
ـ السرد ووصف المكان :
نقرأ في مكان آخر من الفصل ” على أن ألوان الحياة المصطخبة في هذا الخضم ، كانت عند “إيما” مقسمة إلى أجزاء مرتبة في لوحات متباينة ، ولم تكن تتبين من العوالم التي تضمها باريس سوى اثنين أو ثلاثة تطغى على ما عداها ، كما لو كانت الإنسانية برمتها تتمثل فيها وحدها ” ، هي : دنيا السفراء ـ عالم الدوقات ـ قاعات المطاعم .
يتوقف الراوي ليصف هذه الفضاءات بكل مكوناتها وأدواتها وأثاثها وملامح شخوصها النفسية والاجتماعية . ففي دنيا السفراء مثلا : أرض لامعة ـ صالونات كسيت جدرانها بالمرايا ـ موائد مغطاة بمفارش من المخمل المزركش بالقصب ـ أثواب ذات ذيول جرارة ـ أسرار خطيرة ـ مآسي تختفي وراء الابتسامات. ( ) وترى د. سيزا قاسم أن للوصف في الرواية الواقعية وظيفة تفسيرية ، ” ذلك أن مظاهر الحياة الخارجية من مدن ومنازل وأثاث وأدوات وملابس الخ .. تُذْكَرُ لأنها تكشف عن حياة الشخصية النفسية وتشير إلى مزاجها وطبعها ” ( ) ، فبعد التوقف المنوه إليه أعلاه ، يعود الراوي إلى السرد من جديد ، غير أنه لا يسرد أحداثاً ، وإنما يرسم حالة ” إيما ” النفسية وتبرمها من حياتها المملة في الريف. ( )
ـ السرد ووصف الشخصية :
نقرأ في موضع آخر من الفصل : ” وكان السائس يفد كل صباح ليعنى بالفرس فيعبر المدخل.. ” ( ) ، يتوقف السرد ليصف الراوي السائس في “حذاءيه الخشبيين الكبيرين،وقدميه العاريتين وسترته التي تتخللها الثقوب ، وسرواله القصير الذي لم تكن ثمة حيلة سوى الاكتفاء به ” ( )
إن هذا الحدث لا قيمة له بالنسبة لتطوير القصة ونموها. ويبدو أن الراوي أورده ليتخذه ذريعة لوصف عناصر الفضاء الروتيني الرث غير الأنيق الذي تحيا فيه إيما حياة الضيق والتبرم والملل ، وليقابله بفضاء باريس البورجوازي المبهر . ويرى د. عبداللطيف محفوظ أن الوصف في رواية ” مدام بوفاري ” يحضر “في كل فقرة ، في كل فصل ، من البداية إلى النهاية ، مرافقاً للسرد والحوار ومندمجاً معهما . ولعل هذه الحقيقة هي التي فرضت على بعض دارسي أعمال فلوبير ( جنييف بوليم على سبيل المثال ) القول إن الوصف في مدام بوفاري هو الحدث. ” ( )
ب ـ تنوع طرائق السرد :
من الملاحظ أن السارد ينوع طرائق السرد ، فيستخدم الخلاصة ( Sommaire ) والحذف ( Ellipse ) والوقف ( Pause )
أ ـ الخلاصة : حيث يلخص القائم بالسرد أسابيع أو شهوراً في فقرة واحدة : ” ووفد الربيع مرة أخرى ، فغشيتها انقباضات من موجات الحر الأولى التي تهب حين تزهر أشجار الكمثري حتى إذا بدا شهر يوليو ، أخذت تعد الأسابيع على أصابعها في ارتقاب شهر أكتوبر راجية أن يقيم الماركيز ( دي أندفيلييه ) حفلاً راقصاً آخر في فوبيسار ، بيد أن شهر سبتمبر انصرم عن آخره دون خطابات أو زيارات ” ( ) ، فثمة فترة زمنية طويلة تمتد من الربيع وتمر بشهر يوليو ثم بشهر سبتمبر .
ب ـ الحذف : ويتمثل في إشارات محددة أو غير محددة للفترات الزمنية التي تقع فيها الأحداث : ” ثم أقبل الشتاء قارساً .” ( ) / ” وفي ساعة معينة من كل يوم كان ناظر المدرسة ذو الطاقية الحريرية السوداء يفتح نوافذ منزله .. ” ( ) / ” وعندما غادر الزوجان ( توست ) في شهر مارس كانت إيما حاملاً . ” ( )
ج ـ أما تقنية الوقف ، فقد رأينا بعض نماذجها لدى الحديث عن ظاهرة اختلاط السرد بالوصف آنفاً .
د ـ السرد عبر حواس الشخصية ( إيما )
ومن الملاحظ كذلك أن القارئ لا يتلقى ما يروى بطريقة مباشرة ، وإنما يتلقاه عبر بصر “إيما” أو سمعها أو مخيلتها. فعن طريق حاسة البصر يصلنا المشهد التالي ” فتخرج حافظة السيجار الحريرية الخضراء … وتروح تتأملها. ” ( ) ، وعن طريق حاسة السمع ، نتلقى المشهد : وكان صيادو السمك يمرون في الليل تحت نوافذ الدار ، وهم يرددون أناشيدهم ، فكانت تستيقظ من نومها ، وتصغي إلى قرقعة العجلات الحديدية حتى يتلاشى ضجيجها في النهاية ، بعد أن تبارح العربات البلدة. ” ( ) . أما عبر مخيلتها ، فنقرأ ما يلي : ” وكانت تتابعهم ( الصيادين ) بخيالها ، وهم يصعدون الربا ، ويهبطون الوهاد ، ويجتازون القرى ، وينسابون في الطريق العريض الممتد تحت أضواء النجوم. ” ( )
إن القارئ لا يتلقى عن طريق مباشر إلا حالة نفسية “إيما” ، أي حينما يصور الراوي ضيقها وتبرمها ومللها من حياتها في ” توست . ”
2 ـ الفضاء الروائي :
يمكن أن نقسم الفضاء الروائي في هذا الفصل إلى قسمين :
أ ـ فضاء الريف :
يتجلى في العناصر التالية :
ـ غرفة الطعام في الطابق السفلي من البيت الريفي.
ـ المخدع في الطابق العلوي.
ـ المدفأة.
ـ دكان الحلاق في الشارع الرئيسي.
ـ مبنى قائم في مواجهة بين إيما .
ـ الحديقة .
إن هذه العناصر الفضائية كلها يسربلها الراوي بأوصاف توحي بالضيق والانغلاق والرتابة ، فجلها مغلق : غرفة الطعام ـ المخدع ـ الكنيسة ـ المبنى المواجه لنافذة البيت. بل إن الحديقة نفسها ودكان الحلاق ، كلاهما يبدو أكثر انغلاقاً وضيقاً ، ذلك أن الراوي يحيطهما بما يثير مشاعر الضيق والقنوط والرتابة والوحشة في نفس إيما. ففي الحديقة عصافير لا تتردد شقشقتهاـ كل شيء يخلد للنوم ـ الكروم تمتد كثعبان كبير مريض تحت أقبية الجدران المليئة بالخنافس الزاحفة ـ تمثال القس فقد قدمه اليمنى. ( ) وفي الشارع الرئيسي حيث دكان الحلاقة : ” يقضي الحلاق نهاره جيئة وذهاباً بين دار البلدية والكنيسة يرتقب العملاء في اكتئاب ، وكلما أطلت مدام بوفاري ألفته في سيره كديدبان في نوبته . ” ( )
ب ـ فضاء باريس :
هو فضاء الحلم الذي تتوق ” إمأ ” إلى تحقيقه ، حيث قاعات الطعام ودنيا السفراء والمخادع ذات الستائر الحريرية والمسارح والمراقص … والملاحظ أن اهتمام السارد بوصف فضاء باريس يطغى على اهتمامه بوصف فضاء الريف .
إن المخدع في الفضاء المملول هو مخدع في الطابق العلوي بداخله مدفأة ، دون إضافة أوصاف أو عناصر تأثيثية أخرى . أما في الفضاء الذي تحلم به ، فإن المخدع ينقل إلينا بكل عناصره بصيغة الجمع دلالة على ثرائه وفخامته : ” المخادع ذات الستائر الحريرية والطنافس السميكة وأحواض الزهور ، والأسرة المقامة على منصات مرتفعة عن سطح الأرض ، وبريق الأحجار الكريمة وأشرطة أزياء الخدم . ” ( )
إنهما فضاءان متقابلان :
ـ فضاء الريف ، وهو فضاء مغلق : البيت ـ الغرفة ـ المخدع ـ غرفة الطعام ، وكلها توحي بأجواء الانغلاق والسجن والرتابة والقنوط .
ـ فضاء باريس المحلوم به : هو فضاء مفتوح ، مفعم بالحركة والحياة ، ويتمثل في المراقص والمسارح والحفلات ودنيا السفراء وقاعات المطاعم والمخادع ذات الشرفات المزركشة.. ، وهي رموز للحرية والانطلاق والانفتاح والتجدد وحياة الرفاهية والنعيم.
والملاحظ أن اهتمام الكاتب بوصف الفضاء المحلوم به ، يعكس اهتمام البطلة به وتوقها إلى تحقيق الوصول إليه.
3 ـ الشخصيات :
إن الشخصيتين البارزتين في هذا الفصل هما الشخصيتان الرئيستان في الرواية : “إيما” و ” شارل بوفاري “. ويبدو أن الفصل مخصص للمقارنة بينهما ؛ فـ”إيما” شخصية حالمة ، طموح ، تواقة إلى تحقيق صبواتها اللامحدودة ، فهي تحلم بباريس وحياتها البورجوازية ، وتتوق إلى تحقيق علاقة غرامية مع ” الفيكونت ” ، ويتمثل ذلك في عدة مواقف صدرت عنها :
أ ـ حين أخذت تردد اسم باريس في تلذذ ومتعة.
ب ـ حين تتابع بسمعها وخيالها العربات في رحلتها إلى باريس.
ج ـ حين تبتاع خريطة للمدينة المنشودة , وتتابع معالمها بأصبعها وتقوم بجولات وهمية في أحيائها.
د ـ حين تشتري الصحف والمجلات التي تصور الحياة في باريس ، وتقرأ لبلزاك وجورج صاند.
هـ ـ حين أصبحت ترى باريس أكثر اتساعاً من المحيط.
ويتقد في دواخلها لهيب الشوق إلى عوالم باريس الساحرة ، حين تذكر حفلة ” فوبيسار ” حيث التقت بالعالم الراقي وبالفيكونت من جهة ، وحين تشعر بحياة الملل والقنوط في ” توست ” من جهة أخرى. ” كانت تنتظر في أعماق نفسها حدثاً ما ، كانت كالملاح المكروب ، تسرح بصرها القانط في وحشة حياتها بحثاً عن شراع أبيض في ضباب الأفق البعيد. ” ( )
أما ” شارل بوفاري ” فيتصف بالخمول والبلادة والرضى بحياته. وهو يمثل بالنسبة لإيما باعتباره زوجاً ، عاملاً معاكساً يحول دون تحقيق أحلامها وطموحاتها ومغامراتها. إنهما زوجان ، ولكن لا يجمع بينهما أي انسجام أو تواصل حميم .
يصف فلوبير ” شارل ” و” إيما ” جالسين إلى مائدة واحدة. إن الزوج ليس لديه أدنى علم بما يدور في ضمير زوجته. فكل منهما يعيش في عالمه الخاص. أما هي ففي خيبتها وقنوطها وأحلامها الغامضة، وأما هو ففي خموله وبلادته ورضاه. ” ( )
إن ” شارل ” يمثل السكون والثبات ، أما ” إما ” ، فتمثل الحركة والتطور ، ولذلك يمكن اعتبار هذا الفصل بداية تحولها تحت وطأة رتابة الحياة الزوجية وملل حياة الريف.
يصور فلوبير قمة الرتابة والملل والقنوط التي تعانيها ” إيما ” في الفقرة السردية التالية التي اهتم بدراستها ” اويرباخ ” في كتابه ” Mémisis ” ( ) باعتبارها تمثل في نظرهذا الأخير المحاكاة الجادة للحياة اليومية ( Imitation sérieuse de la vie quotidienne ) ،فـ”إيما” بعد ذلك سيعرف مزاجها تغيراً واضطراباً ، وسينتهي بها الحال إلى المرض مما جعل “شارل” يفكر في الانتقال إلى مكان آخر من أجل تغيير الجو : ” وكان جلدها يغدو أقرب إلى النفاد والانهيار في أوقات الوجبات ، في تلك القاعة الصغيرة بالطابق الأرضي ، حيث الموقد الذي لا ينفك عن إرسال الدخان ، والباب الذي يبعث صريراً والجدران المنداة، والأرضية الرطبة .. كان يخيل لها إذ ذاك أن مرارة الحياة بأسرها تخالط طعامها ، ومع بخار الحساء ، كانت تتصاعد من روحها نفثات الإعياء والضيق. ولما كان ” شارل ” بطيئاً في الأكل ، فقد كانت تنفق الوقت في قرض بندقة أو تعتمد بمرفقيها على المائدة وتتسلى برسم خطوط بسن سكينها في المفرش.” ( )
يقول إرخ أويرباخ ( ERICH AUERBACH ) ” إن هذا المقطع يمثل نقطة القمة في وصف خيبة ” إيما “.. إنه يقدم مشهداً : زوجين يتناولان طعاماً ، غير أن هذا المشهد لم يقدم لذاته ، إنه تابع للموضوع الرئيس الذي هو قنوط إيما ” ، ويرى ” أن فلوبير يصنع لوحة متلاحمة ، غير أنه لا يسرد ـ إلا نادراً ـ الحوادث التي تضطلع بعملية تطوير الحدث دفعة واحدة. إن المشاهد التي تحول فراغ الحياة اليومية إلى حالة أليمة مفعمة بالمرارة والملل والقنوط التي تختلط فيها الأماني الغرارة بخيبات الأمل والمخاوف المقلقة ، تجعلنا نرى مصيراً إنسانياً كئيباً يتقدم شيئاً فشيئاً نحو نهايته. ” ( )
يمكننا أن نعتبر هذا الفصل مؤشراً على التحول المؤدي إلى هذا المصير. ألا يدل إحراق “إيما” باقة زواجها الذابلة في ختامه ، على بداية قطع صلتها بالحياة الزوجية الرتيبة ، وعلى قرارها الحاسم النهائي المتمثل في الانطلاق نحو تحقيق مطامحها ورغباتها وأحلامها اللامحدودة ؟
_________
*شاعر وباحث من المغرب
_______
الهوامش :
ـ الكاتب هو الإنسان- الريشة L’homme-plume على حد تعبير غوستاف فلوبير الذي يقول في إحدى رسائله: ” Je suis un homme – plume. Je sens par elle, à rapport à elle et beaucoup plus avec elle” ، وقد ترجم الأستاذ حسن المودن هذه العبارة كما يلي : ” أنا إنسان- ريشة. عن طريقها أحس وبسببها وفي علاقة بها وأحس كثيرا معها”. ( عن دراسة بعنوان ” كتابة الألم ، ألم الكتابة ” ، موقع جهة شعر الإلكتروني ) ، والرسالة كتبها فلوبير إلى Louise Colet بتاريخ 1 فبراير 1852 . انظر ، ص : 65 من كتاب La orgia perpetua , Flaubert y Madame Bovary , SEIX BARRAL , Barcelona , 1981 .
ـ La orgia perpetua ، مرجع مذكور ، ص : 69 .
ـ نفسه ، ص : 65 .
ـ صنعة الرواية ، برسي لوبوك ، ترجمة عبدالستار جواد ، منشورات وزارة الثقافة والإعلام ـ الجمهورية العراقية ، 1981 ، ص : 64 .
ـ موريس أبو ناضر ، الألسنية والنقد الأدبي ، دار النهار للنشر ، بيروت ، 1979 ، ص : 67 .
ـ مدام بوفاري ، ج. فلوبير ، ج. 1 ، ترجمة محمد مندور ، روايات الهلال ، أبريل 1977 ، ص : 67 .
Madame Bovary , FLAUBERT. COLLECTION FOLIO ? Gallimard ,1972 , p. 89
ـ الطبعة العربية ، ت , مندور ، ص : 67 ـ الطبعة الفرنسية ، ص 89 .
ـ صنعة الرواية ، برسي لوبوك ، ص : 70
ـ الطبعة العربية ، ص : 69 ـ الفرنسية ، ص : 91 .
ـ بناء الرواية ، دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ ، ط . 1 ، دار التنوير للطباعة والنشر ، بيروت ـ لبنان ، 1975 ، ص : 111 .
ـ الرواية ، ص : 69 ـ نفسه ، ص : 91 وما بعدها .
ـ الرواية ، ط. ع ، ص : 70 ـ ط. فر ، ص 91 وما بعدها .
ـ نفس الصفحة.
ـ وظيفة الوصف في الرواية ، ط. 1 ، دار النايا للدراسات والنشر والتوزيع ، 2014 ، ص : 72 .
ـ الطبعة العربية ، ص : 73 .
ـ نفسها ، ص : 74 .
ـ نفسها ، ص : 75 .
ـ نفسها ، ص : 79 .
ـ نفسها ، ص : 67 .
ـ نفسها ، ص : 67 .
ـ نفسها ، ص : 68 .
ـ الطبعة العربية ، ص : 74 وما بعدها.
ـ نفسها ، ص : 75 .
ـ نفسها ، ص : 70 .
ـ الرواية ، ص : 73 .
ـ انظر : Mémisis ,Erich Auerbach, Tel Gallimard , 1968 , p484 .
ـ نفسه ، ص : 478 .
ـ الرواية ، ص : 76 .
ـ , p: 484 Mémisis
د. عبدالجبار العلمي
* نقلا عن ملامح من الكتابة الروائية في ” مدام بوفاري ” لفلوبير من خلال الفصل التاسع ( ج 1 ) - ثقافات
وقد بين لنا يوسا في جزء من هذا الفصل حرص فلوبير الشديد على تجويد ما يكتبه ، وعدم نشره على الملأ إلا بعد أن يعرضه على بعض أصدقائه الخلصاء الذين يثق في معرفتهم وذوقهم الأدبي. فحين فرغ من كتابة مخطوط روايته ” تجربة القديس أنطوان ” ، استدعى صديقيه Louis Bouilhet و Maxime Du Camp إلى بيته ليقرأ عليهما عمله ، وليدليا برأيهما فيه. واستمرت القراءة أربعة أيام حسب جدول زمني محدد صارم . وحين قرأ فلوبير آخر جملة في الرواية ، طلب من صديقيه أن يصارحاه برأيهما ، فجاءه الحكم من لدن صديقه الخجول Louis Bouilhet الذي لا يتسامح ولا يرحم حينما يتعلق الأمر بالأدب حسب صديقه Du Camp ، هكذا ” رأينا هو أن تلقي بمخطوطك إلى ألسنة النار لتلتهمه ، ولا تعود أبداً إلى الحديث عنه “. كان رد فعل فلوبير عنيفاً مثل حيوان جريح . وظل الأصدقاء الثلاثة طوال بقية الليلة يناقشون الكتاب . فلوبير يدافع عن كتابه ، وصديقاه ينقدانه ، وأخيراً يقول لهما : ” قد تكونان على صواب. لقد انسقت مع الموضوع ، وتحمست له ، لم أعد أرى الأمر بوضوح . أعترف بأن الكتاب يتضمن العيوب التي أشرتما إليها ، ولكن هذه العيوب هي في طبيعتي . ما ذا أستطيع فعله ؟ ” ( )
ويعتبر يوسا هذه الحادثة نقطة الانطلاق لكتابة ” مدام بوفاري “. ( ) الكتاب الذي ” يظل على الدوام رواية الروايات التي لا يمكن للنقد الروائي أن يتجاوزها . وفي وقت نتحدث فيه عن أصول الفن ، فإننا لابد وأن نكون على استعداد للبحث عن فلوبير. ” ( )
سنتناول فيما يلي بعض ملامح الكتابة الروائية عند فلوبير في رواية ” مدام بوفاري ” من خلال الفصل التاسع من الجزء الأول ، مركزين على مكونات الخطاب الروائي التالية : طرائق السرد ـ الفضاء الروائي ـ الشخصيات .
1 ـ طرائق السرد :
أ ـ امتزاج السرد بالوصف :
إذا كان السرد يطلق القصة في الزمن ، فإن الوصف يوقفها في المكان ويجعلها مجموعة من المشاهد ( ) ، وكثيراً ما يلجأ السارد إلى إيقاف عملية الحكي ، فيوقف بالتالي تدفق الزمن ، وتتابع الحدث ليصف الأشياء أو الأشخاص أو ا لأماكن.
إن أول ما يمكن ملاحظته لدى قراءة هذا الفصل هو المزج بين السرد والوصف. وهذا ما نجده في الفقرات السردية التالية :
ـ السرد ووصف الشيء :
نقرأ في بداية الفصل ” كثيراً ما كانت إيما تسعى إلى الصوان إذا ما غادر شارل المنزل ، فتخرج حافظة السيجار الحريرية الخضراء من ثنايا الثياب التي دستها بينها وتروح تتأملها وتفتحها .. بل إنها كانت تتنسم رائحة بطانتها التي جمعت بين العطر والتبغ .. ترى لمن كانت تلك الحافظة ؟ .. أتراها كانت للفيكونت ؟ .. ” ( ) . يتوقف السرد الخالص هنا ليبدأ وصف الشيء ولكنه وصف ممزوج بالسرد . يصف السارد حافظة السيكار من حيث مكان صنعها ـ طريقة صنعها ـ زمنه ـ ملابساته. : ” لعلها هدية من عشيقته نسجتها وطرزتها على إطار من خشب الورد لتكون تحفة صغيرة … ولعل الحائكة شغلت بصنعها ساعات طوالاً كانت خصل من شعرها تتهدل خلالها على النسيج ، ولابد أن نسمة من الحب سرت بين خيوط الرقعة ، والفتاة تثبت في كل غرزة من إبرتها أملاً أو ذكرى . كانت الخيوط الحريرية في امتدادها وتقاطعها ، انعكاساً لما كان في فؤادها من هيام صامت ” ( ). والملاحظ أننا نتلقى ما يروى ويوصف هنا من خلال “إيما” . يقول برسي لوبوك : ” أحياناً يتحدث المؤلف بصوته وأحياناً أخرى يتحدث من خلال أحد شخصيات الكتاب ، وهو في هذا الكتاب يتحدث من خلال إيما نفسها في معظم الحالات.” ( )
ـ السرد ووصف المكان :
نقرأ في مكان آخر من الفصل ” على أن ألوان الحياة المصطخبة في هذا الخضم ، كانت عند “إيما” مقسمة إلى أجزاء مرتبة في لوحات متباينة ، ولم تكن تتبين من العوالم التي تضمها باريس سوى اثنين أو ثلاثة تطغى على ما عداها ، كما لو كانت الإنسانية برمتها تتمثل فيها وحدها ” ، هي : دنيا السفراء ـ عالم الدوقات ـ قاعات المطاعم .
يتوقف الراوي ليصف هذه الفضاءات بكل مكوناتها وأدواتها وأثاثها وملامح شخوصها النفسية والاجتماعية . ففي دنيا السفراء مثلا : أرض لامعة ـ صالونات كسيت جدرانها بالمرايا ـ موائد مغطاة بمفارش من المخمل المزركش بالقصب ـ أثواب ذات ذيول جرارة ـ أسرار خطيرة ـ مآسي تختفي وراء الابتسامات. ( ) وترى د. سيزا قاسم أن للوصف في الرواية الواقعية وظيفة تفسيرية ، ” ذلك أن مظاهر الحياة الخارجية من مدن ومنازل وأثاث وأدوات وملابس الخ .. تُذْكَرُ لأنها تكشف عن حياة الشخصية النفسية وتشير إلى مزاجها وطبعها ” ( ) ، فبعد التوقف المنوه إليه أعلاه ، يعود الراوي إلى السرد من جديد ، غير أنه لا يسرد أحداثاً ، وإنما يرسم حالة ” إيما ” النفسية وتبرمها من حياتها المملة في الريف. ( )
ـ السرد ووصف الشخصية :
نقرأ في موضع آخر من الفصل : ” وكان السائس يفد كل صباح ليعنى بالفرس فيعبر المدخل.. ” ( ) ، يتوقف السرد ليصف الراوي السائس في “حذاءيه الخشبيين الكبيرين،وقدميه العاريتين وسترته التي تتخللها الثقوب ، وسرواله القصير الذي لم تكن ثمة حيلة سوى الاكتفاء به ” ( )
إن هذا الحدث لا قيمة له بالنسبة لتطوير القصة ونموها. ويبدو أن الراوي أورده ليتخذه ذريعة لوصف عناصر الفضاء الروتيني الرث غير الأنيق الذي تحيا فيه إيما حياة الضيق والتبرم والملل ، وليقابله بفضاء باريس البورجوازي المبهر . ويرى د. عبداللطيف محفوظ أن الوصف في رواية ” مدام بوفاري ” يحضر “في كل فقرة ، في كل فصل ، من البداية إلى النهاية ، مرافقاً للسرد والحوار ومندمجاً معهما . ولعل هذه الحقيقة هي التي فرضت على بعض دارسي أعمال فلوبير ( جنييف بوليم على سبيل المثال ) القول إن الوصف في مدام بوفاري هو الحدث. ” ( )
ب ـ تنوع طرائق السرد :
من الملاحظ أن السارد ينوع طرائق السرد ، فيستخدم الخلاصة ( Sommaire ) والحذف ( Ellipse ) والوقف ( Pause )
أ ـ الخلاصة : حيث يلخص القائم بالسرد أسابيع أو شهوراً في فقرة واحدة : ” ووفد الربيع مرة أخرى ، فغشيتها انقباضات من موجات الحر الأولى التي تهب حين تزهر أشجار الكمثري حتى إذا بدا شهر يوليو ، أخذت تعد الأسابيع على أصابعها في ارتقاب شهر أكتوبر راجية أن يقيم الماركيز ( دي أندفيلييه ) حفلاً راقصاً آخر في فوبيسار ، بيد أن شهر سبتمبر انصرم عن آخره دون خطابات أو زيارات ” ( ) ، فثمة فترة زمنية طويلة تمتد من الربيع وتمر بشهر يوليو ثم بشهر سبتمبر .
ب ـ الحذف : ويتمثل في إشارات محددة أو غير محددة للفترات الزمنية التي تقع فيها الأحداث : ” ثم أقبل الشتاء قارساً .” ( ) / ” وفي ساعة معينة من كل يوم كان ناظر المدرسة ذو الطاقية الحريرية السوداء يفتح نوافذ منزله .. ” ( ) / ” وعندما غادر الزوجان ( توست ) في شهر مارس كانت إيما حاملاً . ” ( )
ج ـ أما تقنية الوقف ، فقد رأينا بعض نماذجها لدى الحديث عن ظاهرة اختلاط السرد بالوصف آنفاً .
د ـ السرد عبر حواس الشخصية ( إيما )
ومن الملاحظ كذلك أن القارئ لا يتلقى ما يروى بطريقة مباشرة ، وإنما يتلقاه عبر بصر “إيما” أو سمعها أو مخيلتها. فعن طريق حاسة البصر يصلنا المشهد التالي ” فتخرج حافظة السيجار الحريرية الخضراء … وتروح تتأملها. ” ( ) ، وعن طريق حاسة السمع ، نتلقى المشهد : وكان صيادو السمك يمرون في الليل تحت نوافذ الدار ، وهم يرددون أناشيدهم ، فكانت تستيقظ من نومها ، وتصغي إلى قرقعة العجلات الحديدية حتى يتلاشى ضجيجها في النهاية ، بعد أن تبارح العربات البلدة. ” ( ) . أما عبر مخيلتها ، فنقرأ ما يلي : ” وكانت تتابعهم ( الصيادين ) بخيالها ، وهم يصعدون الربا ، ويهبطون الوهاد ، ويجتازون القرى ، وينسابون في الطريق العريض الممتد تحت أضواء النجوم. ” ( )
إن القارئ لا يتلقى عن طريق مباشر إلا حالة نفسية “إيما” ، أي حينما يصور الراوي ضيقها وتبرمها ومللها من حياتها في ” توست . ”
2 ـ الفضاء الروائي :
يمكن أن نقسم الفضاء الروائي في هذا الفصل إلى قسمين :
أ ـ فضاء الريف :
يتجلى في العناصر التالية :
ـ غرفة الطعام في الطابق السفلي من البيت الريفي.
ـ المخدع في الطابق العلوي.
ـ المدفأة.
ـ دكان الحلاق في الشارع الرئيسي.
ـ مبنى قائم في مواجهة بين إيما .
ـ الحديقة .
إن هذه العناصر الفضائية كلها يسربلها الراوي بأوصاف توحي بالضيق والانغلاق والرتابة ، فجلها مغلق : غرفة الطعام ـ المخدع ـ الكنيسة ـ المبنى المواجه لنافذة البيت. بل إن الحديقة نفسها ودكان الحلاق ، كلاهما يبدو أكثر انغلاقاً وضيقاً ، ذلك أن الراوي يحيطهما بما يثير مشاعر الضيق والقنوط والرتابة والوحشة في نفس إيما. ففي الحديقة عصافير لا تتردد شقشقتهاـ كل شيء يخلد للنوم ـ الكروم تمتد كثعبان كبير مريض تحت أقبية الجدران المليئة بالخنافس الزاحفة ـ تمثال القس فقد قدمه اليمنى. ( ) وفي الشارع الرئيسي حيث دكان الحلاقة : ” يقضي الحلاق نهاره جيئة وذهاباً بين دار البلدية والكنيسة يرتقب العملاء في اكتئاب ، وكلما أطلت مدام بوفاري ألفته في سيره كديدبان في نوبته . ” ( )
ب ـ فضاء باريس :
هو فضاء الحلم الذي تتوق ” إمأ ” إلى تحقيقه ، حيث قاعات الطعام ودنيا السفراء والمخادع ذات الستائر الحريرية والمسارح والمراقص … والملاحظ أن اهتمام السارد بوصف فضاء باريس يطغى على اهتمامه بوصف فضاء الريف .
إن المخدع في الفضاء المملول هو مخدع في الطابق العلوي بداخله مدفأة ، دون إضافة أوصاف أو عناصر تأثيثية أخرى . أما في الفضاء الذي تحلم به ، فإن المخدع ينقل إلينا بكل عناصره بصيغة الجمع دلالة على ثرائه وفخامته : ” المخادع ذات الستائر الحريرية والطنافس السميكة وأحواض الزهور ، والأسرة المقامة على منصات مرتفعة عن سطح الأرض ، وبريق الأحجار الكريمة وأشرطة أزياء الخدم . ” ( )
إنهما فضاءان متقابلان :
ـ فضاء الريف ، وهو فضاء مغلق : البيت ـ الغرفة ـ المخدع ـ غرفة الطعام ، وكلها توحي بأجواء الانغلاق والسجن والرتابة والقنوط .
ـ فضاء باريس المحلوم به : هو فضاء مفتوح ، مفعم بالحركة والحياة ، ويتمثل في المراقص والمسارح والحفلات ودنيا السفراء وقاعات المطاعم والمخادع ذات الشرفات المزركشة.. ، وهي رموز للحرية والانطلاق والانفتاح والتجدد وحياة الرفاهية والنعيم.
والملاحظ أن اهتمام الكاتب بوصف الفضاء المحلوم به ، يعكس اهتمام البطلة به وتوقها إلى تحقيق الوصول إليه.
3 ـ الشخصيات :
إن الشخصيتين البارزتين في هذا الفصل هما الشخصيتان الرئيستان في الرواية : “إيما” و ” شارل بوفاري “. ويبدو أن الفصل مخصص للمقارنة بينهما ؛ فـ”إيما” شخصية حالمة ، طموح ، تواقة إلى تحقيق صبواتها اللامحدودة ، فهي تحلم بباريس وحياتها البورجوازية ، وتتوق إلى تحقيق علاقة غرامية مع ” الفيكونت ” ، ويتمثل ذلك في عدة مواقف صدرت عنها :
أ ـ حين أخذت تردد اسم باريس في تلذذ ومتعة.
ب ـ حين تتابع بسمعها وخيالها العربات في رحلتها إلى باريس.
ج ـ حين تبتاع خريطة للمدينة المنشودة , وتتابع معالمها بأصبعها وتقوم بجولات وهمية في أحيائها.
د ـ حين تشتري الصحف والمجلات التي تصور الحياة في باريس ، وتقرأ لبلزاك وجورج صاند.
هـ ـ حين أصبحت ترى باريس أكثر اتساعاً من المحيط.
ويتقد في دواخلها لهيب الشوق إلى عوالم باريس الساحرة ، حين تذكر حفلة ” فوبيسار ” حيث التقت بالعالم الراقي وبالفيكونت من جهة ، وحين تشعر بحياة الملل والقنوط في ” توست ” من جهة أخرى. ” كانت تنتظر في أعماق نفسها حدثاً ما ، كانت كالملاح المكروب ، تسرح بصرها القانط في وحشة حياتها بحثاً عن شراع أبيض في ضباب الأفق البعيد. ” ( )
أما ” شارل بوفاري ” فيتصف بالخمول والبلادة والرضى بحياته. وهو يمثل بالنسبة لإيما باعتباره زوجاً ، عاملاً معاكساً يحول دون تحقيق أحلامها وطموحاتها ومغامراتها. إنهما زوجان ، ولكن لا يجمع بينهما أي انسجام أو تواصل حميم .
يصف فلوبير ” شارل ” و” إيما ” جالسين إلى مائدة واحدة. إن الزوج ليس لديه أدنى علم بما يدور في ضمير زوجته. فكل منهما يعيش في عالمه الخاص. أما هي ففي خيبتها وقنوطها وأحلامها الغامضة، وأما هو ففي خموله وبلادته ورضاه. ” ( )
إن ” شارل ” يمثل السكون والثبات ، أما ” إما ” ، فتمثل الحركة والتطور ، ولذلك يمكن اعتبار هذا الفصل بداية تحولها تحت وطأة رتابة الحياة الزوجية وملل حياة الريف.
يصور فلوبير قمة الرتابة والملل والقنوط التي تعانيها ” إيما ” في الفقرة السردية التالية التي اهتم بدراستها ” اويرباخ ” في كتابه ” Mémisis ” ( ) باعتبارها تمثل في نظرهذا الأخير المحاكاة الجادة للحياة اليومية ( Imitation sérieuse de la vie quotidienne ) ،فـ”إيما” بعد ذلك سيعرف مزاجها تغيراً واضطراباً ، وسينتهي بها الحال إلى المرض مما جعل “شارل” يفكر في الانتقال إلى مكان آخر من أجل تغيير الجو : ” وكان جلدها يغدو أقرب إلى النفاد والانهيار في أوقات الوجبات ، في تلك القاعة الصغيرة بالطابق الأرضي ، حيث الموقد الذي لا ينفك عن إرسال الدخان ، والباب الذي يبعث صريراً والجدران المنداة، والأرضية الرطبة .. كان يخيل لها إذ ذاك أن مرارة الحياة بأسرها تخالط طعامها ، ومع بخار الحساء ، كانت تتصاعد من روحها نفثات الإعياء والضيق. ولما كان ” شارل ” بطيئاً في الأكل ، فقد كانت تنفق الوقت في قرض بندقة أو تعتمد بمرفقيها على المائدة وتتسلى برسم خطوط بسن سكينها في المفرش.” ( )
يقول إرخ أويرباخ ( ERICH AUERBACH ) ” إن هذا المقطع يمثل نقطة القمة في وصف خيبة ” إيما “.. إنه يقدم مشهداً : زوجين يتناولان طعاماً ، غير أن هذا المشهد لم يقدم لذاته ، إنه تابع للموضوع الرئيس الذي هو قنوط إيما ” ، ويرى ” أن فلوبير يصنع لوحة متلاحمة ، غير أنه لا يسرد ـ إلا نادراً ـ الحوادث التي تضطلع بعملية تطوير الحدث دفعة واحدة. إن المشاهد التي تحول فراغ الحياة اليومية إلى حالة أليمة مفعمة بالمرارة والملل والقنوط التي تختلط فيها الأماني الغرارة بخيبات الأمل والمخاوف المقلقة ، تجعلنا نرى مصيراً إنسانياً كئيباً يتقدم شيئاً فشيئاً نحو نهايته. ” ( )
يمكننا أن نعتبر هذا الفصل مؤشراً على التحول المؤدي إلى هذا المصير. ألا يدل إحراق “إيما” باقة زواجها الذابلة في ختامه ، على بداية قطع صلتها بالحياة الزوجية الرتيبة ، وعلى قرارها الحاسم النهائي المتمثل في الانطلاق نحو تحقيق مطامحها ورغباتها وأحلامها اللامحدودة ؟
_________
*شاعر وباحث من المغرب
_______
الهوامش :
ـ الكاتب هو الإنسان- الريشة L’homme-plume على حد تعبير غوستاف فلوبير الذي يقول في إحدى رسائله: ” Je suis un homme – plume. Je sens par elle, à rapport à elle et beaucoup plus avec elle” ، وقد ترجم الأستاذ حسن المودن هذه العبارة كما يلي : ” أنا إنسان- ريشة. عن طريقها أحس وبسببها وفي علاقة بها وأحس كثيرا معها”. ( عن دراسة بعنوان ” كتابة الألم ، ألم الكتابة ” ، موقع جهة شعر الإلكتروني ) ، والرسالة كتبها فلوبير إلى Louise Colet بتاريخ 1 فبراير 1852 . انظر ، ص : 65 من كتاب La orgia perpetua , Flaubert y Madame Bovary , SEIX BARRAL , Barcelona , 1981 .
ـ La orgia perpetua ، مرجع مذكور ، ص : 69 .
ـ نفسه ، ص : 65 .
ـ صنعة الرواية ، برسي لوبوك ، ترجمة عبدالستار جواد ، منشورات وزارة الثقافة والإعلام ـ الجمهورية العراقية ، 1981 ، ص : 64 .
ـ موريس أبو ناضر ، الألسنية والنقد الأدبي ، دار النهار للنشر ، بيروت ، 1979 ، ص : 67 .
ـ مدام بوفاري ، ج. فلوبير ، ج. 1 ، ترجمة محمد مندور ، روايات الهلال ، أبريل 1977 ، ص : 67 .
Madame Bovary , FLAUBERT. COLLECTION FOLIO ? Gallimard ,1972 , p. 89
ـ الطبعة العربية ، ت , مندور ، ص : 67 ـ الطبعة الفرنسية ، ص 89 .
ـ صنعة الرواية ، برسي لوبوك ، ص : 70
ـ الطبعة العربية ، ص : 69 ـ الفرنسية ، ص : 91 .
ـ بناء الرواية ، دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ ، ط . 1 ، دار التنوير للطباعة والنشر ، بيروت ـ لبنان ، 1975 ، ص : 111 .
ـ الرواية ، ص : 69 ـ نفسه ، ص : 91 وما بعدها .
ـ الرواية ، ط. ع ، ص : 70 ـ ط. فر ، ص 91 وما بعدها .
ـ نفس الصفحة.
ـ وظيفة الوصف في الرواية ، ط. 1 ، دار النايا للدراسات والنشر والتوزيع ، 2014 ، ص : 72 .
ـ الطبعة العربية ، ص : 73 .
ـ نفسها ، ص : 74 .
ـ نفسها ، ص : 75 .
ـ نفسها ، ص : 79 .
ـ نفسها ، ص : 67 .
ـ نفسها ، ص : 67 .
ـ نفسها ، ص : 68 .
ـ الطبعة العربية ، ص : 74 وما بعدها.
ـ نفسها ، ص : 75 .
ـ نفسها ، ص : 70 .
ـ الرواية ، ص : 73 .
ـ انظر : Mémisis ,Erich Auerbach, Tel Gallimard , 1968 , p484 .
ـ نفسه ، ص : 478 .
ـ الرواية ، ص : 76 .
ـ , p: 484 Mémisis
د. عبدالجبار العلمي
* نقلا عن ملامح من الكتابة الروائية في ” مدام بوفاري ” لفلوبير من خلال الفصل التاسع ( ج 1 ) - ثقافات