إن كانت الرواية الكلاسيكية التقليدية قد اقتصر اهتمامها في بناء الشخصية، على زمنها الخارجي، وهو الزمن الموضوعي الذي يحتوي على الموضوعات الاجتماعية المرتبطة بنمو الشخصية وعلاقاتها بالآخرين، فان الرواية الحديثة راحت تبحث في ذاتية الزمن، اي الزمن الذاتي للشخصية، الغني بالحياة الداخلية ومتغيراتها النفسية، فالشخصية هنا، باتت تمتلك ذاكرة بفضاء واسع تتداخل فيه الازمنة والامكنة المختلفة المنضوية على احداث مجتمعية وذكريات أنوية، تشكل في دواخل الشخصية منظومة وعي بالغة التعقيد وتُعد احدى مكونات بنيتها، انها تكتنز بذخائر الماضي لتحميها من الطمر المتقادم بطمي النسيان، الامر الذي اثار الاهتمام المتزايد بالحالات الشعورية والذهنية للشخوص، ولهذا ظّلت على الدوام حلقة وصل تلك الازمان بعالم السرد الروائي، والذاكرة السردية بما انها نشاط تأليفي، وسياحة في عوالم ما مضى، فانها تمارس فاعليتها في تفكيك الازمنة من خلال اعادة تشكيلها للأحداث، لخلق زمنها الروائي الخاص بها، ما يجعل الشخصية الروائية تتجاوز بعمقِ رؤاها طبيعة زمنها الكرونولوجي، اذ تنثال الاحداث بمزيد متلاحق من التأملات ،التي تعمل على تماهي عالمها الداخلي مع العالم الخارجي و بذلك كله تلغي فاعليةُ الذاكرةِ الحدودَ الزمنية التي عيّنها التاريخ وتتخطاها، فـ ( الزمن أزمنة، والذاكرة تجوال يهدم الحدود كلما رسمها التاريخ)(1) ، ومن هنا لن يكون الزمن الا ذاكرة وما الذاكرة الاّ متن سردي..
وتأتي فاعلية التخييل الروائي، مع ما للكاتب من قدرة على توسعة مجال رؤيته ،اضافة الى ما تتيح له الاساليب الفنية الحديثة في طرائق السرد، تأتي لتجعل من الشخصية ذاتا متخلقة، ومعادلاً موضوعيا للواقع، بأبعاد جمالية جديدة ومغايرة، لان استعادة الذاكرة لأحداث زمن مضى بغية تجسيدها “تخييلا” في العمل الادبي لن تظل كما كانت عليه في واقعها بصورها الخام المشوشة الملامح ، بل ستخضع لعملية صياغة جديدة تمليها عملية التذكر، بما لها من مقدرة على النفاذ الى عالم الخيال الذي تنتجه فاعلية التخييل، ومن هنا يتجلى الاختلاف الجوهري بين الذاكرة والخيال فـ (قصدية الخيال تتجه نحو الوهمي، القصصي،غير الواقعي، والممكن اليوتوبي، وقصدية الذاكرة ، تتجه نحو الحقيقة السابقة، الواقع السابق، وتشكل السمة الزمنية بامتياز – للشيء المتذكر-)(2) وبهذا تُستدعى زمنية الذاكرة المركونة في الماضي، الى ادراك الحاضر واستشراف المستقبل. كما (تتحول الذاكرة الى اداة لنبش الاسئلة الممكنة المستفزة للحاضر، ليبقى السرد بعد ذلك اشتغالا على الكتابة بوصفها لحظة تخييلية قائمة بذاتها)(3
و ذاكرة الكاتب عبد الكريم العبيدي الروائية في روايته (كم اكره القرن العشرين) هي ذاتها في كل رواياته السابقة، لم تزل منشغلة بما كان مسكوتا عنه خلال عهد النظام الديكتاتوري السابق، تتحرى الحقائق المستترة وراء الانكار او المتنكَر لها، تنتقي ما يخدم رسالته ككاتب بعيدا عن ما روته تلك السلطة وابواقها ليفند رؤيتها المبنية على الزيف والتشويه والتخوين، في روايته هذه، يبحث في الحكايات المضمرة في ذاكرة “مولو” المطارد والمأزوم وما ترسب فيها وتراكم مكبوتا بفعل التماضي المقترن بالاضطهاد واستلاب الذات في زمن الحرب والاستبداد خلال حقبة تسلط الديكتاتورية في العراق, حيث شكلت تقنية الاسترجاع منصة لانطلاق “حكاياته”، محددةً مديات مساراتها التي راحت تتدفق لتضيء اللحظات الزمنية المنطفأة، المنتخبة من سيرورة الاوقات اليومية، ليجد المتلقي نفسه في مواجهة ذهن الأنا الساردة، بفعل هيمنة السرد الاستذكاري واستئثاره بمساحات واسعة من المتن السردي بصوت “مولو”- الشخصية المحورية في الرواية – وكأنه يحتفي بإيقاظها من سباتها ، عبر فعل التذكر, مدركاً عدم يقينية الذاكرة بتعاطي الزمن معها، فالزمن يخلّف الذاكرة وراءه في محاولة لمحوها، لهذا تحول بيقينه الى فاعلية التأليف، “النص الروائي” وكأنه الاكسير الذي سيعود به الى الحياة ، فعهد بمذكراته الى ” الملك الضليل” صاحبه الكاتب:
(لم اترك شيئا لأوصيكم به. فقط سلموا دفاتري واوراقي الى الملك الضليل” هو يعرف عائلة البلوش. يعرفنا اكثر مما نعرفه ، وما زال متشوقا ومتحمسا لكتابة رواية عن الشماريخ،،، قولوا “للضليل” هذه وصية ميت فلا تفرط بها.) الرواية ص410
: وهي عبارة عن
((ثلاثة دفاتر شبه بالية، من فئة مائتي ورقة، لم يبق على اغلفتها الامامية والاخيرة لون ولا زخرفة ولا نقش) الرواية ص37
وإن كان “مولو” قد دوّن حكاياته الغنية بالأحداث والتجارب والمواقف والرؤى، في دفاتر وكاسيتات صوتية ،على شكل متواليات حكائية، فان الكاتب عبد الكريم العبيدي، الذي توارى خلف الراوي” الملك الضليل“ قد سعى الى استحداث شكل تخييلي مختلف، شيّد منه معمارية لسرد استمد حيويته من خزين تلك الحكايات الماضوي، اي انه حّله محل الحكي المدون في دفاتر “مولو”، فاغتنى النص الروائي بكثافة زمنية مُعَبر عنها بلغة سردية احتفت بالسرد والشعر معا، مترجمة خواطر “مولو” المتشظية وايحاءاتها ومناجاته الانفعالية ،فتجاوز بها النسيج التقليدي للروي،اذ انه لم يُبقِ زمن ما هو مدون على صراطه النمطي التعاقب، بل جعل من ازمنة الأحداث السردية تشطّ عن ازمنة الحكايات، منتظمة بأنساق زمنية تتسم بالتداخل والتشظي، ليتحول الزمن من طبيعته الكورنولوجية الى مستوياته المعقدة المتمثلة بتداخل مساراته خلال عملية السرد التي تنتج مشاهد انتقالية تتحرك في بنية السرد و تفيد في تقديم المعلومات والافكار وتحديثها ايضا، فان (من وسائل الذاكرة ايضا، المونتاج الزماني الذي يتطلب من الشخصية أن تظل ثابتة في المكان على حين يتحرك وعيها في الزمان)( 4) وهي تماثل تقنية المونتاج السينمائي الا انه يعتمد على حركة الكاميرا والمشاهد المرئية والمسموعة، وقد تمكن الكاتب من انضاج ذلك التعقيد من خلال استثماره لطبيعة تقنية الاسترجاع بأنواعها (الداخلي والخارجي والمزجي اضافة الى تقنية الاستباق) .
وقد غطت استرجاعات “مولو” وحدها، الصفحات من46 وحتى الصفحة 392 ،بينما بلغ مجموع صفحات الرواية 435 صفحة، وبذلك استحقت تلك الاسترجاعات ان تحتوي ذاكرة العمل الروائي برمته. ويُعرَّف الاسترجاع بأنه: عملية سردية تقوم على ( ذِكرٍ لاحق لحدث سابق للنقطة الزمنية التي بلغها السرد(5) ، من خلال تجسيد صورة الماضي، والكشف عنه بغية تمرّي الحاضر بذلك الماضي المسترجع خدمة للسرد، ويحدد بُعد او قُرب ماضي الحدث المسترجع تنوعَ الاسترجاع الى ماض قريب واخر بعيد، الا انها ليست عملية زمنية مجردة بل (تكشف في جوهرها عن وعي الذات بالزمن في ضوء تجربة الحاضر الجديد، حيث تتّخذ الوقائع الماضية مدلولات وأبعاد جديدة نتيجة لمرور الزمن، إنّ رؤية الإنسان للحدث الماضي في وقت لاحق تتعرّض لكثير من التغييرات بفضل مرورها عبر بوتقة العقل، فحركة الزمن وما تحدثه من تغيرات جسدية ونفسية تجعل رؤية الإنسان لأحداث مضت تتغيّر مع تغيّر معطيات الحاضر وتطوّره).(6)
ويمكن تقسيم الاسترجاعات الى:
استرجاع خارجي 1.
استرجاع داخلي 2.
استرجاع مزجي(مختلط 3.
4.الاستباق
1. الاسترجاع الخارجي : ويعني استعادة الاحداث التي وقعت قبل بدء الحاضر السردي، فهي تأتي خارج زمن القص منفتحة على اتجاهات زمنية حكائية اخرى، ويلجأ اليه الكاتب كلما قام بدفع شخصية جديدة الى فضاءه السردي بغية تعريفنا بها واستكمال سماتها وطبيعة الحدث المرتبط بها معا،فـ (الاسترجاعات الخارجية- لمجرد انها خارجية- لاتوشك في اي لحظة ان تتداخل مع الحكاية الاولى، لان وظيفتها هي اكمال الحكاية الاولى عن طريق تنوير القاريء بخصوص هذه “السابقة” او تلك)(7) وبما يحقق اضفاء تفسير جديد على ضوء المواقف المتغيرة، لأنه( كلما ابتعدت الأحداث اختلف معناها، ومن ثم تصبح المطابقة والمقارنة بين الإسترجاع الخارجي والحاضر الروائي إشارة وعلامة على مسار الزمن وفاعليته)(8).
وتَمَثّلت الاسترجاعات الخارجية ،على سبيل المثال لا الحصر، في ارتدادات ذاكرة”مولو” الى تاريخ الحياة اليومية للبصرة، الى ما قبل فترة الحرب العراقية الايرانية عام 1980-1988 وهو زمن الحكاية، مستطلعها طبيعة العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة ، ومسميات – البصرة- هذه المدينة التاريخية القديمة ومدينة الفاو (ريبو سلامو) ايضا:
(في شتاء1914 اصبحت ريبو سلامو اول قطعة هاربة من كبد العراق، او سطر في زحف الانكليز لأبتلاع بقية المدن العراقية) الرواية ص127
في حين كان قد استرجع خلال مناجاته لجدّه”بالاجاني”مفضيا (اليه بما يشبه حشرجة الموت ) ما آلت اليه اوضاع بل حياة مدينته البصرة مدركا احتضارها:
(هل تدرك ماذا يعني اقترابك من موت مدينتك!؟ انه دنو مهول مسحور، مشارقة ملموسة كبرى…) الرواية ص 159-160،
ان “مولو” يقابل ذينك المقطعين، بحاضره من خلال استرجاعه لصور منسية عن طُهر الانفس المطمئنة، في عهود زمنية ابعد، غير منتمية الى زمن او موضوع حكايته، لكنه مصمم على نقلها من عتمتها الى فضاء السرد المنير، لربما تنتمي الى حقبة الاحتلال العثماني وما بعده الانكليزي، لانه يشير الى اسماء العملات النقدية المتداولة في ذينك الحقبتين،( الشاهية، والروبية ،العانة والبيزة، قرش وقمري) ،تلك الحقب التي كان فيها ضمير المجتمع يتماهى مع طيبة مكوناته اجمع، التي فُطرت عليها، فالضمير آنذاك هو من ينظم، بل يضبط ايقاع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، فيستذكر “مولو” كيف تتم مبادلة (مقايضة) سلع ما، وفواكه وحلوى بين مواطني ضفتي شط العرب العراقية والايرانية، ويكون الساعي بالتوصيل هو موج شط العرب:.
(وعلى الضفاف، وفي عيون الاهالي أُلفة بلا حدود يا “بالاجاني” تجاوزت الرسوم الكمركية، والمحاذيرالامنية، وشروط منافذ الحدود، وغدت “خوة على حب الله”…. يملأ “الكَفة” برطب تمر البرحي، ويودعها في ذمة الموج ،تهتز الكَفة قليلا، ثم تبتعد ببطء ببطء باتجاه امراة ايرانية.)الرواية ص161
(هي أُلفة لا تفصلها حدود، أيُّ حدود!؟ انكفأت حدود البلدين غائمة خلف سورها الرسمي، لاعوائق تفصل بين كتفي الشط…. تعايشهم يخترق الخطوط الحمر، ويوحدهم في تقاسم الزاد والأمن،…. تلك هي شريعة البدائيين المنسيين يا “بالاجاني”بياض ناموسهم الفطري،..) الرواية ص162-163
كما تفتق ذهن “مولو” ليسترجع ماضيه البعيد، ما كانت تحكيه له “بيبي سليكه” عن ذكريات سنين غبرت، ليعيد انطلاقها تدوينا في مذكراته ثم سردا في هذه الرواية (..ها هي الان تتكئ على شفة الذاكرة تنزلق في هرب مريح، في دوامة نبش قبورها المكتظة برفات حوادث صاخبة…. فتنسل حذرة ،شبه متنكرة مع “جاروك” باتجاه بيت العجوز”ام عبودي” تطلب من امي ان تستلقي على ظهرها، في غرفة الجدة تقترب “ام عبودي” تجلس لصقها، تنحني قليلا وتهز ببطنها، تحركه ذات اليمين وذات الشمال، تسألها، في كل مرة عن احساسها بالجهة الاثقل، وحالما تتاكد انها اليمنى ، تهمس قائلة “مبروك” الجنين ذكر)الرواية ص164 ولم يكن ذلك الجنين الا هو “مولود” ذاته.
وكأن “مولو” لم يلجأ الى تلك الاسترجاعات الا ليلوذ بصور ذهنية من ذلك الماضي الجميل الذي صادره قبح حاضره المرير،متوسلا تهوين وطأة خيبات حاضره وضبابية مستقبله، فـالماضي، يقول :”ويليام فوكنر” (ابدا لم يًمت،،هوحتى بعدُ لم يمض.)
-الاسترجاع الداخلي: وهو الصيغة المعاكسة للاسترجاع الخارجي، يُوظَف الاسترجاع الداخلي من اجل استكمال حدث ما منسي او متأخر في سياق السرد من خلال رجوعه الى احداث ماضية لاحقة لها علاقة بالأحداث الرئيسية لثيمة الرواية وشخصياتها، بغية ربط تلك الحوادث مع سلسلة من الحوادث السابقة لها، واشغال الثغرات التي خلفها السارد وراءه ، على ان لا يتجاوز مداها حدود زمن الحكاية الاولى ليصل لما هو اقدم واسبق، و(الاسترجاع الداخلي يتطلّب ترتيب القص في الرواية وبه يعالج الكاتب الأحداث المتزامنة حيث يستلزم تتابع النص ان يترك الشخصية الأولى ويعود إلى الوراء ليصاحب الشخصية الثانية)(9)
وعود على بدء، الى رواية كم اكره القرن العشرين، والبحث عن كيفية توظيف الكاتب لتقنية الاسترجاع، نكتشف ان تقنية الاسترجاع الداخلي بتنوعاتها(جزئي وكلي،واسترجاع ماض بعيد وماض قريب) هي الأهم من بين كل تقنيات هذه الرواية، فقد استحصلت على سعات سردية كبيرة ،ومن تلك الاسترجاعات (مثالا لاحصرا) هي ما استرجعه”مولو” من حكاية”ايوب الروّاف الفرار” ليعرفنا الكاتب به بتواضع وبمحدودية من خلال حكايات قصيرة عنه، تناثرت في الروي،اي ان الراوي استعاد جزء من ما يتعلق بماضي الشخصية للتعرف على تجاربها الحياتية المرتبطة بزمن الحكاية وثيمتها، فالراوي يخبرنا عن طبيعة مهنة الريافة التي يعتاش منها، وعن تغييب ابي “ايوب” في معتقلات الامن بسبب سخريته من خبر اسقاط طائرة حربية ايرانية، فما كان من احد (البعثيين المخبرين) الاّ الإبلاغ عنه ليختفي بعدها اثر بعد عين!، ودون ان يجرؤ “ايوب” بعدها على الحديث عن حادثة التغييب تلك :
(ثم تطوق المحل خلال ساعات، داهمته مفرزة مسلحة قادرة على القاء القبض على مائة روّاف عجوز مثل ابيك، اقتيد الحاج المسكين الى دائرة الامن، فاختفى اثره)الرواية ص63
كم استحصلت استرجاعات “مولو”عن حكاياته مع اصدقاءه(عصبة الشماريخ) على سعات سردية واسعة من فضاء الرواية، وهي بمثابة جزء من سيرهم الشخصية بما فيها سيرته هو:
فمن “عزام” الذي صاحبه طيلة فترة الهروب وعاضده، منقذا حياته في اكثر موقف حتى اخراجه من العراق، فهو الذي كان ( يغيب فجأة، يختفي عن الأنظار. لن أجده في أي مخبأ، وبعد شهر أو أكثر يعود ويظهر دون أن يأبه بحيرتي.. يعود محملا بنماذج اجازات وهويات مزوّرة وكتب رسمية، وكان لا يبخل في تزويدي ببعض ٍ منها)الرواية ص(80)، حتى استحق لان يكون شخصية محورية في الرواية بجانبه، الى”سكراب “(ابن الهرب والحرب معا، احد البارعين في لعبة الهارب والزنبور،والطرف الغامض في صحبتنا التي صنعتها بشاعة الحرب) الرواية ص87 وقد وضع حدا لحياته بالانتحار شنقا، بعدما استنفد كل حجج البقاء، كذلك- صبار -عامل المقهى الحزين، الذي اعتقل :(… ثلاثة افندية من افراد الامن توجهوا بسرعة نحو صبار وسألوه :”هل انت صبار؟” حدق المسكين في وجوههم، لم يتفوه بكلمة، عقد الخوف لسانه فسقطت من كفه “الأستكانات”) الرواية ص201– وشكيب وعجلان، ومضر ضابط الامن. وغيرهم ، اولئك جميعا تجمعهم حكايات دوامة الهروب والتسكع وحلقات السمر والمناقشات (الغلاسنوست) فأولئك هم “الشماريخ” أو(الصعاليك) الذين شدوا من ازر صديقهم “مولو” وإزر بعضهم بعضا من اجل تجاوز محنة الفرار، والخلاص من ضيم الملاحقة المتأبدة، متوسلين النجاة من الموت قتلا في الحرب، فـ”مضر ضابط الامن”، تسبب في نقل”صارم”الذي لم يكلّ ولم يملّ الا ليلحق الاذى بهم و بـ”ـمولو” خصوصا ،الى جبهات القتال فيقتل هناك، فيما كانت مهمة “الباشا” ابن (الحيدرخانه) ببغداد ، بما يتصف به من مهارات فردية في التزوير، واختراق اجهزة الامن والمخابرات، هي اخراجهم من العراق (لكي لا تنطفيء شعلتهم الوهاجة)، وتلك تنتمي الى (الاسترجاع الداخلي-الكلي) وهي احداث استغرقت ازمنة اطول من الجزئي بطبيعة الحال.
وكان لابد للكاتب من ان يحمل “مولو” على استرجاع ماضي أسرته فمن انتماءها الى اقلية عرقية (البلوش) وتاريخ استيطانها في البصرة ونظرة المجتمع العشائري البصري القاصرة اليهم الذي (اعتبرهم ) دون جذور نسبٍ او حَسَب،(فجأة غدا “شاه مراد” لا أصل له ولا فصل، فهو بلوشي ابن بلوشي لا غير نبت شيطاني مشؤوم) الرواية ص167 ،فالى مهنة الاسرة- الريافة- المتوارثة ،وكان قد تسبب ذلك في شعور هذه الاسرة بالإذلال والضعف، بل والتعايش معهما بقدر ما امكنهم، ضمن تلك البيئة القبلية المتعصبة المعادية، حتى ان “مولو” ناله نصيب كثير من الاضطهاد والاذى ، حتى اوصله ذلك الى الاعدام، بعد القاء القبض عليه بيديّ”صارم”، وكذلك خسارته لحبيبته “رواء”
(توسلت لأبيها ان يقبلني “ذاب جرش” لأغدو احد افراد عشيرتهم، صمت الرجل قليلا، قال سأفاتح ابناء عمومتي، ربما توافق العشيرة على طلبك، ولكن لن ازوج ابنتي لـ”ذَبّاب جرش!”) الرواية ص171-172
وبذلك ربطت السلسة الاسرية الممثلة بافرادها (الجَدّة سليكه، الاخوات، والاب، والجَدّ بالاجاني) التي استرجعتها ذاكرة “مولو”، علاقات هذه الاسرة مع شخوص الرواية الاخرين وحتى أولئك الشخوص الهامشيين من امثال زوج “ميا”وهي احدى اخوات”مولو”، والاخت الثانية “ريا”، اضافة الى ان ذلك الاسترجاع نسج وشائج العلاقة مع عائلة صارم نفسها، ما اسهم ذلك في تسليط الضوء على طبيعة العلاقات الاجتماعية والقبلية والسياسية، التي كانت سائدة ومدى تحكمها في مصائر الافراد.
لقد افادت تلك الحكاياتُ المسترجعة النصًّ، ليس فقط في مليء فجوة ما فيه، او لغـرض إضاءة حاضر القصة وربطه بالزمن الماضي ،او التعريف ببعض خصائص تجاربهم الحياتية، أو منح كل اولئك فرصة الحضور والاستمرارية في زمن السرد محققا لهم تاثير بيّن في بنية النص، بل في الكشف ايضا، عن السخط الكامن في نفوس شخوصها من الحاضر لافتقادهم الامان الشخصي، والحرية كأفراد، ما ولّد لديهم وعيا جماعيا وموقفا موحدا في مقارعة حكم الديكتاتورية، ان اولئك سواءٌ عصبة (الشماريخ) أم الذين قضوا رميا بالرصاص في ساحات الاعدام، وكانوا قد صمدوا امام طغيان النظام الغاشم ،ليسوا بقديسين ولا منزهين عن ارتكاب خطايا ما، بل كانوا فقط مختلفين، او هكذا اختاروا لأنفسهم، فسلكوا دروب الالام المغايرة في مقارعة الديكتاتورية من خلال رفض المشاركة في حروبها العبثية. انهم صعاليك مدينة”الجمهورية”( ادركوا شعارهم السري هذا مبكرا، منهم من لاذ بالعدم كصورة للخلاص، ومنهم من رفع شعار “الحياة ليس لها معنى” ومنهم من ظل يثرثر في جدوى الانسان المتمرد والسوبرمان واللامنتمي,…) الرواية ص97
4ـ الاستباق او الاستشراف: هو تقنية سردية يعمد الكاتب فيها الى اغفال مبدأ السببية لنظام تسلسلية المتواليات السردية، ليسرد احداثا ماضية قبل اوان وقوعها، أي (القفز على فترة من الرواية وتجاوز النقطة التي وصل اليها الخطاب لاستشراف مستقبل الأحداث، والتطلع إلى ما سيحصل من مستجدات) (10) الامر الذي ينتج تداخلا سرديا في مجمل احداث الرواية ذلك انه( في الوقت الذي يلعب فيه الاستباق دورا في تشكيل بنية الزمن الروائي، فانه كتقنية يقوم بوظائف تخدم تشكيل البنية السردية في امتزاجه) (11) ، اذ يكون( الاستشراف مجرد استباق زمني، الغرض منه التطلع الى ماهو متوقع او محتمل الحدوث في العالم المحكي، وهذه هي الوظيفه الاصلية والاساسية للاستشرافات بانواعها المختلفة)(12)
وتعمل الاستباقات اما على التمهيد ،او على الاعلان عن حدث بإشارة صريحة لما سيؤول اليه
والتمهيدي: (يتمثل في احداث او اشارات او ايحاءات ، يكشف عنها الراوي ليمهد لحدث سياتي لاحقا، واهم ما يميزه هو اللا يقينية، بمعنى انه يمكن استكمال الحدث الاولي واتمامه او يظل الحدث الاولي مجرد اشارات لم تكتمل زمنيا في النص ) و( نقطة انتظار مجردة من كل التزام تجاه القاريء)(13)
اما الاستباق الاعلاني فـ (يقوم بوظيفة الاعلان عندما يخبر صراحة عن سلسلة الاحداث التي سيشهدها السرد في وقت لاحق، ونقول “صراحة” لانه اذا أخبر عن ذلك بطريقة ضمنية يتحول توا الى استشراف تمهيدي اي الى مجرد اشارة لا معنى لها في حينها ونقطة انتظار مجردة من كل التزام تجاه القاريء لتقبل ما سيأتي من الاحداث،) (14)
وتفتتح رواية ( كم اكره القرن العشرين) احداثها بصوت السارد”الملك الضليل” على استباقات تمهيدية عن سلسلة من الاحداث ستتنامى خلال سفر السرد بأسلوب استرجاعي لاحق من مثل:
– ان شقيقة”مولو”(الطبيبة ميا) كانت قد(رزقت بطفل جميل اطلقت عليه اسم “مولود” تيمَّنا باسم شقيقها الشهيد)الرواية ص22 وهذا ما يوحي ان “مولو” الشقيق قد مات ( شهيدا).
– نبأ استشهاد “مولو”، ووصول جثته ومتعلقاته الشخصية الى عائلته ثم دفنه، تزامنا مع خبر فقدان صارم””
– استلام ” الدكتورة ميا” دفاتر مذكرات “مولو” من” شخص مشرد”- ربما كان هو”مولو” حقا
– مشهد”الجثة” امام مرآى “الجدة” باعتبارها تعود لـ”مولو” ومعاينتها لها :(لاحظت العجوز بروز العينين من جوف الحجاج، وعتم القرنية، مع تلين مقلة العين، وانتفاخ البطن … بدا شبيها بجلد دجاجة منزوعة الريش) الرواية ص31
ان الكاتب سيعمد اخيرا الى تحويل نبأ (الاستشهاد والفقدان)غير اليقيني او غير المؤكد حقا، الى حادثة تصحح مسار حقيقة الحدث لتكتسب اليقين، حين يعثرعلى جثة “صارم” قتيلا في ساحة الحرب بمعركة الشلامجة)، كانت حالة الجثة امام ناظريه في ساحة المعركة مختلفة عن ملاحظات الجدة لها إذ فقدت ملامحها كليا، بسبب تعفنها، لكنه لاحظها قبل ان يفتك بها العفن: (جثة رثّة مشوهة مثيرة للاشمئزاز، تعود لشاب عشريني انيق، نحيف البنية،…هي جثة هامدة..)الرواية ص280-281، ، والمقارنة بين التوصيفين يكشف ان هناك زمن قد مر فعلا على حادثة الموت، كما انه برهنة على عائدية الجثة. حيث
يقوم”مولو” بـ ( تقليد الجثة قرصيّ هويته وساعته، وخاتمه الفضي ومحفظته الجلدية) فيجعل من “صارم القتيل” يبدو (رسمياً)،او ليحوله الى “مولو” البلوشي دون لبس او شك، فيما يبقى “مولو” هذه المرة دون اسم اوهوية انه الـ”بلا” بعد ذلك، وتلك هي ثيمة الرواية التي بدأت من حاضر الحدث (الاستشهاد)، لتتجه صوب الماضي، فقد شكّلت التمهيدات (بذرة دالة لن تصبح ذات معنى الا في وقت لاحق وبطريقة ارجاعية)(15) و-الاعلان غير اليقيني- هو حيلة سردية- لاستدراج المتلقي الى شراك الشك كأحد اساليب التشويق الذي يجعل من المتلقي جزء من عملية السرد حيث يستشعر اختزالا في الزمن واختصار رؤيته للأحداث، من خلال تمكينه من الاستدلال على بؤر السرد والتنبؤ بما سيأتي، وهذا ما يشدّ رغبته على متابعة السرد وكأنه يرغب في الوثوب الى نهاية سرد الحدث المستبق.
وفي معرض حادثة ايجاد مولو للجثة، ، فليست الصدفة المجردة وحدها المرتهنة بالحظ هي من (قادته اليها)، ففي الحرب يصبح كل شيء متوقع الحدوث وما لا يمكن حدوثه او تصديق حدوثه في الحياة العادية ،يصبح حدوثه كما البديهة ممكنٌ تصديقها في الحرب، و (ان الإنباء بمستقبل حدث ما من خلال الاشارات والايحاءات والصور الاولية ، تمنح القاريء احساسا. بأن ما يحدث داخل النص من حياة وحركة وعلاقات، لا يخضع للصدفة، ولا يتم بصورة عرضية، وانما يمتلك الراوي خطة وهدفا يسعى الى بلورتهما في النص.)(16)
وتلك الاحداث والاخبار سابقة لزمن الاستشهاد الذي كان قد حدث في معركة الشلامجة (وقعت خلال عام 1986)، اذ يشير السارد” الملك الضليل” الى ان”سكرتيرة ميا” قد عملت لديها خلال عام غزو الكويت عام 1990( لاعانة اسرتها في غمرة نهارات وليال تغلي بأخبار غزو الكويت واقتراب وقوع حرب تحريرها، ساعة إثر ساعة)( الرواية ص 19) وهي التي سلّمها “المشرد” الكيس الاسود الذي يحوي دفاتر المذكرات، وبهذا فالراوي يكون قد قفز بالسرد على زمن الحكاية، ذلك ان هناك اربع سنوات تقريبا قد مرت لتفصل بين زمن نبأ الاستشهاد وفقدان صارم، وبين استلام شقيقته الدكتورة لمذكراته وولادتها لطفلها “مولود”
لقد ادت تقنيات الاسترجاع والاستباق في هذه الرواية، وظائفها في تحريرالنص السردي من قيود الشخصية المحورية وحركتها، التي تقسر الكاتب على تضييق الزمن السردي وحصره بها، وهو ما( دفعه الى تجاوز هذا الحصر الزمني، بالانفتاح على اتجاهات زمنية حكائية ماضية، لعبت دورا اساسيا في استكمال صورة الشخصية والحدث وفهم مسارهما)(17) مثلما ادت وظيفتها في ترميم الثغرات التي خلّفها النص الروائي والتي نشأت جراء ذلك التقييد، كما اسهمت ايضا في تباطؤ او تسكين سير زمن الحدث المحوري، ومن ثم اتساقه ضمن بنيات زمنية متباينة، لتمحى المسافة الفاصلة بين زمن الحكاية وزمنها السردي، ذلك ان عملية السرد تقوم على الدوام بعملية مزج للأفكار في ارتدادها اللانهائي، ووفقا لضرورات جمالية وفنية تمليها رؤية الكاتب وخبرته وهما من يؤهل الكاتب لإتقان المراوغة السردية والتنقل بسلاسة ويسر بين ازمنة نصه السردي، وبهذا فقدت تجسدت دلالات تلكم الحكايات بشكل رموز وصور على ضفة الوعي كلما آن لها التفاعل مع الواقع بأمكنته : احياء، شوارع واسواق، وشط العرب، اقبية السجون وبيوتات البصرة وأهليها، ومع أزمنة المخاوف في ظل النظام الاستبدادي، واهوال حروبه التي وطّنت في نفس “مولو” كوابيسها ، وعليه فان تداخل الازمنة في الرواية ، لا يعكس احوال شخوصها فحسب، بل هو محاولة على البرهنة، ان احداث الرواية قائمة فعلا على التباعد الزمني للأحداث وتشظيها، فانتقال الكاتب من مسار زمن الى اخر، انما يسلط الضوء على ثيمة الرواية ككل، ليزيد من وضوح تعالق احداثها وتشابكها ببعضها، وبذا، انتقلت الرواية من خطاب يعرض الوقائع الى خطاب يتمتع بجمالية الفن وسحره.
بعد ان استهل “الملك الضليل” الروي وهو يوجز (اتفاقية هولير) وهي الاتفاق الشفاهي المبرم بينه وبين عائلة البلوشي”مولود” لصياغة رواية من خامات “المذكرات”،ثم سرده لفحوى (الصندوق الاسود الاول) مستندا على ما روته له “ميا”، ممهدا للأحداث، استدرك مبكرا، احقية “مولو” في تصدر مسؤولية الروي والتعبير عن ذاته (بضمير المتكلم) ابتداءا من فصل (الصندوق الاسود الثاني) ليتركه في مواجهة المتلقي مباشرة دون الحاجة الى وساطته، فـ (من وسائل التذكر بالاسترجاع تنحية صوت السارد وإظهار صوت الشخصية في التعبير عن العالم الواقعي كنوع من الاعتراف بأحقيتها في السرد ، وقد يدفع التفكير في استرجاع الماضي الى مغادرته استباقا للمستقبل ثم الارتداد منه الى اللحظة الحاضرة بوساطة تيار الوعي(18) وذاك اجراء تقني أدركه الكاتب عبد الكريم العبيدي حين أحال انثيالات الذاكرة سرداً وفق رؤية “مولو” في محاولة للبرهنة على ان الوقائع التي ستحدث انما كانت قد حدثت فعلا، بالرغم من استهلال الكاتب (ان الرواية من نسج الخيال).
ان الجوهري في “معلقة مولو” ليست الحرب كمرحلة تاريخية ،لم يتمكن من التعايش معها،او مهادنتها، وليس بإمكانية احالة شخصه الى شخص واقعي، بل هو عتمة تلك المرحلة المرعبة، بما يسمها من استلاب للذات الانسانية ومسخها، المرحلة التي حولت الامكنة والنفوس معا الى بوار، التخوف المزمن من عيون الديكتاتورية الذي كان يطعن كبرياء الناس، وهي تتفرس فيهم حتى الاعماق، وتنصّت (البعثيين) وعدّهم للأنفاس، والمطاردات الهاربين اليومية من سطح بيت الى اخر، فجائع رؤية مشاهد تقاطر الجثث التي لفظتها جبهات القتال على مر عقود من الزمن، التوجس المشوب بالهلع لو ان صورة “القائد الضرورة” قد مسّها تشوه بسيط في الكتب المدرسية(!)، فتمكنت بشاعة تلك المرحلة، حتى من لغة “مولو” فتسلطت عليها وهو يسرد انكساراته و(سياحته في العدم) ،في الاماكن التي يتجول فيها او يلوذ بها وهي تتعرض للقصف اليومي وهجرة ساكنيها منها، وحتى اخيرا،غرف الاعدام الباردة والكئيبة التي زُجّ فيها، التي ستتحول الى عدمٍ فعلا ، لانها امكنة مفرغة من الجمال والحياة ككل.
لم يكن “مولو” بطلا” بما يعنيه التعبير المثالي عن حلم الفرد بالتفوق على اقرانه من خلال حيازته الامكانيات والقدرات غير المحدودة، لم يكن ليمتلك مؤهلات او قدرات استثنائية. فهو، ( كائن مسلوب الهوية) متذبذب، نتيجة لحالات انفصام متعددة، حتى ان اسمه الشخصي، وهو يمثل هوية أي فرد، كان دائم التبدل: (مولود – مولو -مولود الهولندي- بلا- واخيرا عزت مظلوم)، الا انه كان يخوض بجسارة صراعا من نوع اخر مع زمنه، ولأنه بلا فاعلية فيه، ولان زمنه خصما قوياّ لا يعرف الرحمة، أدرك أنه يخوض صراعا خاسرا أمامه، فآثر الهروب امام جبروته، غدا هاربٌ (فرار مخضرم) بامتياز، الا انه رغم ذلك ،رغم هزائمه وخيباته، برغم خساراته المزدوجة للأهل والصحبة وعشقه الاول، كان يميل الى التمسك بفلسفة الرفض التي انتجت موقفه وجذرته في وجدانه، انه وبأسمائه كلها التي اكسبته اياه انكسارات معاركه، لم يُهزم بعد، كان يرفض الموت الرخيص، في جحيم الحرب، وبالتالي فهو يرفض التوافق او مهادنة النظام السياسي الذي تسبب له بكل تلك المآسي، بما يعني ان هروبه ما هو الا تمرد على السلطة، وما المقبرة التي دفن فيها اخيرا في( امستردام – هولندا) الا فرارا بجسده ،وانقاذا لما تبقى من ذاته، كي لا يقعا بين براثن الزنابير ،”السلطة” ناشدا الحرية ومتطلعا الى عالمه الحلمي المغاير حلم صباه الذي ورثه عن عمه ابي عزام:
(ورحت اهرب اليه خيالا، اسرد كل ما سمعته عن معالم بلد “الدام” للهاربين حتى ثُلمت بلوشيتي في نهاية الامر، صرت “مولو الهولندي”)الرواية ص82
ذاك الحلم الذي تشبث به بعنادِ سعيه الحثيث لتحقيقه، فيهرب اليه متجاوزا حدود العراق وقد اومأ له ايماءة الوداع الاخيرة ،ليحتويه أخيرا، قبرا في امستردام بحفاوة، آملا ان يضع حدا لنهاية معلقته التي شكّلت سمات هويته واسطورته الشخصية، وعسى ان يمكنه الانتهاء من حكايتها، تلك هي دوامة حياته (الفرار والزنبور)
الا ان الهروب ليس حلا يفضي الى الاحساس بالطمأنينة المستدامة، بل انه ( يسكّن من القلق الذي لا يطاق ويجعل من الحياة ممكنة بتجنب الخطر، ومع هذا لا يحل المشكلة الواردة ويُدفع له الثمن بنوع من الحياة التي لا يتألف في الأغلب الا من النشاطات الالية والاضطرارية) (20).
وانا اختتم قراءة (الاسطورة الشخصية لمولو) أحسب اني اتسمّع صدى من الـ (هناك) ،من ذاك القبر البعيد كلمات فان كوخ التي نطقها قبيل انتحاره بخمسة عشر يوما، تنسل الى الـ (هنا):
(يبدو لي أني خسرت موعدي مع الحياة ، و أشعر اليوم كأن هذا منتهـاي الذي عليّ أن اقبل به)
وأحسب ايضا ان “مولو” قد ادرك في النهاية (ان كل تعاسة مهما قست يمكننا ان نتحملها إن نحن رويناها كقصة أو اخبرنا عنها كقصة)(21)
الهوامش
* صدرت رواية ( كم اكره العشرين ) للروائي عبدالكريم العبيدي – دار قناديل ، ط1- 2017
يمنى العيد – ذاكـرة الزمـن وإيقـاع الحيـاة ، مقالة.1
2.بول ريكور – الذاكرة ، التاريخ الانسان – ت، د جورج زيناتي- – دار الكتاب الجديدة 2009 ص34
3. بناء الرواية سيزا احمد قاسم- دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ ، القاهرة
. 4. روبرت همفري تيار الوعي في الرواية الحديثة،ص72
5. 5. جيرارجينيت ،خطاب الحكاية، ص51
مها قصراوي ،الزمن في الرواية العربية- ص193.6
7. جيرار جينيت م. ن ، ص60-61
. 8. هلدكتور:صادق خشاب- البنية الزمنية في رواية “قبل البدء حتى ” للروائي محمد – مقالة
9. سيزا قاسم م. سابق، ص61
. 10.حسن بحراوي بنية الشكل الروائي، ص132
11. مها قصراوي ص 208
حسن بحراوي م. ن ، ص133.12
حسن بحراوي م. ن ،ص137.13
14. حسن بحراوي م. ن، ص 132
15. حسن بحراوي. م. ن ،ص 137
16. مها قصراوي م. سابق، ص209
مها قصراوي – م.ن، ص 189.17
18.أ.د. نادية هناوي سعدون تمظهر الذاكرة سرديا ،مقالة
19. د. مرسل العجمي ،الرواية العربية ممكنات السرد, ص74
20. أريك فروم ، الخوف من الحرية .ت مجاهد عبد المنعم مجاهد- المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت1972 – ص116
21. بول ريكور – الذاكرة ، التاريخ الانسان – ت، د جورج زيناتي- – دار الكتاب الجديدة 2009 ص24
_____
غازي سلمان
وتأتي فاعلية التخييل الروائي، مع ما للكاتب من قدرة على توسعة مجال رؤيته ،اضافة الى ما تتيح له الاساليب الفنية الحديثة في طرائق السرد، تأتي لتجعل من الشخصية ذاتا متخلقة، ومعادلاً موضوعيا للواقع، بأبعاد جمالية جديدة ومغايرة، لان استعادة الذاكرة لأحداث زمن مضى بغية تجسيدها “تخييلا” في العمل الادبي لن تظل كما كانت عليه في واقعها بصورها الخام المشوشة الملامح ، بل ستخضع لعملية صياغة جديدة تمليها عملية التذكر، بما لها من مقدرة على النفاذ الى عالم الخيال الذي تنتجه فاعلية التخييل، ومن هنا يتجلى الاختلاف الجوهري بين الذاكرة والخيال فـ (قصدية الخيال تتجه نحو الوهمي، القصصي،غير الواقعي، والممكن اليوتوبي، وقصدية الذاكرة ، تتجه نحو الحقيقة السابقة، الواقع السابق، وتشكل السمة الزمنية بامتياز – للشيء المتذكر-)(2) وبهذا تُستدعى زمنية الذاكرة المركونة في الماضي، الى ادراك الحاضر واستشراف المستقبل. كما (تتحول الذاكرة الى اداة لنبش الاسئلة الممكنة المستفزة للحاضر، ليبقى السرد بعد ذلك اشتغالا على الكتابة بوصفها لحظة تخييلية قائمة بذاتها)(3
و ذاكرة الكاتب عبد الكريم العبيدي الروائية في روايته (كم اكره القرن العشرين) هي ذاتها في كل رواياته السابقة، لم تزل منشغلة بما كان مسكوتا عنه خلال عهد النظام الديكتاتوري السابق، تتحرى الحقائق المستترة وراء الانكار او المتنكَر لها، تنتقي ما يخدم رسالته ككاتب بعيدا عن ما روته تلك السلطة وابواقها ليفند رؤيتها المبنية على الزيف والتشويه والتخوين، في روايته هذه، يبحث في الحكايات المضمرة في ذاكرة “مولو” المطارد والمأزوم وما ترسب فيها وتراكم مكبوتا بفعل التماضي المقترن بالاضطهاد واستلاب الذات في زمن الحرب والاستبداد خلال حقبة تسلط الديكتاتورية في العراق, حيث شكلت تقنية الاسترجاع منصة لانطلاق “حكاياته”، محددةً مديات مساراتها التي راحت تتدفق لتضيء اللحظات الزمنية المنطفأة، المنتخبة من سيرورة الاوقات اليومية، ليجد المتلقي نفسه في مواجهة ذهن الأنا الساردة، بفعل هيمنة السرد الاستذكاري واستئثاره بمساحات واسعة من المتن السردي بصوت “مولو”- الشخصية المحورية في الرواية – وكأنه يحتفي بإيقاظها من سباتها ، عبر فعل التذكر, مدركاً عدم يقينية الذاكرة بتعاطي الزمن معها، فالزمن يخلّف الذاكرة وراءه في محاولة لمحوها، لهذا تحول بيقينه الى فاعلية التأليف، “النص الروائي” وكأنه الاكسير الذي سيعود به الى الحياة ، فعهد بمذكراته الى ” الملك الضليل” صاحبه الكاتب:
(لم اترك شيئا لأوصيكم به. فقط سلموا دفاتري واوراقي الى الملك الضليل” هو يعرف عائلة البلوش. يعرفنا اكثر مما نعرفه ، وما زال متشوقا ومتحمسا لكتابة رواية عن الشماريخ،،، قولوا “للضليل” هذه وصية ميت فلا تفرط بها.) الرواية ص410
: وهي عبارة عن
((ثلاثة دفاتر شبه بالية، من فئة مائتي ورقة، لم يبق على اغلفتها الامامية والاخيرة لون ولا زخرفة ولا نقش) الرواية ص37
وإن كان “مولو” قد دوّن حكاياته الغنية بالأحداث والتجارب والمواقف والرؤى، في دفاتر وكاسيتات صوتية ،على شكل متواليات حكائية، فان الكاتب عبد الكريم العبيدي، الذي توارى خلف الراوي” الملك الضليل“ قد سعى الى استحداث شكل تخييلي مختلف، شيّد منه معمارية لسرد استمد حيويته من خزين تلك الحكايات الماضوي، اي انه حّله محل الحكي المدون في دفاتر “مولو”، فاغتنى النص الروائي بكثافة زمنية مُعَبر عنها بلغة سردية احتفت بالسرد والشعر معا، مترجمة خواطر “مولو” المتشظية وايحاءاتها ومناجاته الانفعالية ،فتجاوز بها النسيج التقليدي للروي،اذ انه لم يُبقِ زمن ما هو مدون على صراطه النمطي التعاقب، بل جعل من ازمنة الأحداث السردية تشطّ عن ازمنة الحكايات، منتظمة بأنساق زمنية تتسم بالتداخل والتشظي، ليتحول الزمن من طبيعته الكورنولوجية الى مستوياته المعقدة المتمثلة بتداخل مساراته خلال عملية السرد التي تنتج مشاهد انتقالية تتحرك في بنية السرد و تفيد في تقديم المعلومات والافكار وتحديثها ايضا، فان (من وسائل الذاكرة ايضا، المونتاج الزماني الذي يتطلب من الشخصية أن تظل ثابتة في المكان على حين يتحرك وعيها في الزمان)( 4) وهي تماثل تقنية المونتاج السينمائي الا انه يعتمد على حركة الكاميرا والمشاهد المرئية والمسموعة، وقد تمكن الكاتب من انضاج ذلك التعقيد من خلال استثماره لطبيعة تقنية الاسترجاع بأنواعها (الداخلي والخارجي والمزجي اضافة الى تقنية الاستباق) .
وقد غطت استرجاعات “مولو” وحدها، الصفحات من46 وحتى الصفحة 392 ،بينما بلغ مجموع صفحات الرواية 435 صفحة، وبذلك استحقت تلك الاسترجاعات ان تحتوي ذاكرة العمل الروائي برمته. ويُعرَّف الاسترجاع بأنه: عملية سردية تقوم على ( ذِكرٍ لاحق لحدث سابق للنقطة الزمنية التي بلغها السرد(5) ، من خلال تجسيد صورة الماضي، والكشف عنه بغية تمرّي الحاضر بذلك الماضي المسترجع خدمة للسرد، ويحدد بُعد او قُرب ماضي الحدث المسترجع تنوعَ الاسترجاع الى ماض قريب واخر بعيد، الا انها ليست عملية زمنية مجردة بل (تكشف في جوهرها عن وعي الذات بالزمن في ضوء تجربة الحاضر الجديد، حيث تتّخذ الوقائع الماضية مدلولات وأبعاد جديدة نتيجة لمرور الزمن، إنّ رؤية الإنسان للحدث الماضي في وقت لاحق تتعرّض لكثير من التغييرات بفضل مرورها عبر بوتقة العقل، فحركة الزمن وما تحدثه من تغيرات جسدية ونفسية تجعل رؤية الإنسان لأحداث مضت تتغيّر مع تغيّر معطيات الحاضر وتطوّره).(6)
ويمكن تقسيم الاسترجاعات الى:
استرجاع خارجي 1.
استرجاع داخلي 2.
استرجاع مزجي(مختلط 3.
4.الاستباق
1. الاسترجاع الخارجي : ويعني استعادة الاحداث التي وقعت قبل بدء الحاضر السردي، فهي تأتي خارج زمن القص منفتحة على اتجاهات زمنية حكائية اخرى، ويلجأ اليه الكاتب كلما قام بدفع شخصية جديدة الى فضاءه السردي بغية تعريفنا بها واستكمال سماتها وطبيعة الحدث المرتبط بها معا،فـ (الاسترجاعات الخارجية- لمجرد انها خارجية- لاتوشك في اي لحظة ان تتداخل مع الحكاية الاولى، لان وظيفتها هي اكمال الحكاية الاولى عن طريق تنوير القاريء بخصوص هذه “السابقة” او تلك)(7) وبما يحقق اضفاء تفسير جديد على ضوء المواقف المتغيرة، لأنه( كلما ابتعدت الأحداث اختلف معناها، ومن ثم تصبح المطابقة والمقارنة بين الإسترجاع الخارجي والحاضر الروائي إشارة وعلامة على مسار الزمن وفاعليته)(8).
وتَمَثّلت الاسترجاعات الخارجية ،على سبيل المثال لا الحصر، في ارتدادات ذاكرة”مولو” الى تاريخ الحياة اليومية للبصرة، الى ما قبل فترة الحرب العراقية الايرانية عام 1980-1988 وهو زمن الحكاية، مستطلعها طبيعة العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة ، ومسميات – البصرة- هذه المدينة التاريخية القديمة ومدينة الفاو (ريبو سلامو) ايضا:
(في شتاء1914 اصبحت ريبو سلامو اول قطعة هاربة من كبد العراق، او سطر في زحف الانكليز لأبتلاع بقية المدن العراقية) الرواية ص127
في حين كان قد استرجع خلال مناجاته لجدّه”بالاجاني”مفضيا (اليه بما يشبه حشرجة الموت ) ما آلت اليه اوضاع بل حياة مدينته البصرة مدركا احتضارها:
(هل تدرك ماذا يعني اقترابك من موت مدينتك!؟ انه دنو مهول مسحور، مشارقة ملموسة كبرى…) الرواية ص 159-160،
ان “مولو” يقابل ذينك المقطعين، بحاضره من خلال استرجاعه لصور منسية عن طُهر الانفس المطمئنة، في عهود زمنية ابعد، غير منتمية الى زمن او موضوع حكايته، لكنه مصمم على نقلها من عتمتها الى فضاء السرد المنير، لربما تنتمي الى حقبة الاحتلال العثماني وما بعده الانكليزي، لانه يشير الى اسماء العملات النقدية المتداولة في ذينك الحقبتين،( الشاهية، والروبية ،العانة والبيزة، قرش وقمري) ،تلك الحقب التي كان فيها ضمير المجتمع يتماهى مع طيبة مكوناته اجمع، التي فُطرت عليها، فالضمير آنذاك هو من ينظم، بل يضبط ايقاع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، فيستذكر “مولو” كيف تتم مبادلة (مقايضة) سلع ما، وفواكه وحلوى بين مواطني ضفتي شط العرب العراقية والايرانية، ويكون الساعي بالتوصيل هو موج شط العرب:.
(وعلى الضفاف، وفي عيون الاهالي أُلفة بلا حدود يا “بالاجاني” تجاوزت الرسوم الكمركية، والمحاذيرالامنية، وشروط منافذ الحدود، وغدت “خوة على حب الله”…. يملأ “الكَفة” برطب تمر البرحي، ويودعها في ذمة الموج ،تهتز الكَفة قليلا، ثم تبتعد ببطء ببطء باتجاه امراة ايرانية.)الرواية ص161
(هي أُلفة لا تفصلها حدود، أيُّ حدود!؟ انكفأت حدود البلدين غائمة خلف سورها الرسمي، لاعوائق تفصل بين كتفي الشط…. تعايشهم يخترق الخطوط الحمر، ويوحدهم في تقاسم الزاد والأمن،…. تلك هي شريعة البدائيين المنسيين يا “بالاجاني”بياض ناموسهم الفطري،..) الرواية ص162-163
كما تفتق ذهن “مولو” ليسترجع ماضيه البعيد، ما كانت تحكيه له “بيبي سليكه” عن ذكريات سنين غبرت، ليعيد انطلاقها تدوينا في مذكراته ثم سردا في هذه الرواية (..ها هي الان تتكئ على شفة الذاكرة تنزلق في هرب مريح، في دوامة نبش قبورها المكتظة برفات حوادث صاخبة…. فتنسل حذرة ،شبه متنكرة مع “جاروك” باتجاه بيت العجوز”ام عبودي” تطلب من امي ان تستلقي على ظهرها، في غرفة الجدة تقترب “ام عبودي” تجلس لصقها، تنحني قليلا وتهز ببطنها، تحركه ذات اليمين وذات الشمال، تسألها، في كل مرة عن احساسها بالجهة الاثقل، وحالما تتاكد انها اليمنى ، تهمس قائلة “مبروك” الجنين ذكر)الرواية ص164 ولم يكن ذلك الجنين الا هو “مولود” ذاته.
وكأن “مولو” لم يلجأ الى تلك الاسترجاعات الا ليلوذ بصور ذهنية من ذلك الماضي الجميل الذي صادره قبح حاضره المرير،متوسلا تهوين وطأة خيبات حاضره وضبابية مستقبله، فـالماضي، يقول :”ويليام فوكنر” (ابدا لم يًمت،،هوحتى بعدُ لم يمض.)
-الاسترجاع الداخلي: وهو الصيغة المعاكسة للاسترجاع الخارجي، يُوظَف الاسترجاع الداخلي من اجل استكمال حدث ما منسي او متأخر في سياق السرد من خلال رجوعه الى احداث ماضية لاحقة لها علاقة بالأحداث الرئيسية لثيمة الرواية وشخصياتها، بغية ربط تلك الحوادث مع سلسلة من الحوادث السابقة لها، واشغال الثغرات التي خلفها السارد وراءه ، على ان لا يتجاوز مداها حدود زمن الحكاية الاولى ليصل لما هو اقدم واسبق، و(الاسترجاع الداخلي يتطلّب ترتيب القص في الرواية وبه يعالج الكاتب الأحداث المتزامنة حيث يستلزم تتابع النص ان يترك الشخصية الأولى ويعود إلى الوراء ليصاحب الشخصية الثانية)(9)
وعود على بدء، الى رواية كم اكره القرن العشرين، والبحث عن كيفية توظيف الكاتب لتقنية الاسترجاع، نكتشف ان تقنية الاسترجاع الداخلي بتنوعاتها(جزئي وكلي،واسترجاع ماض بعيد وماض قريب) هي الأهم من بين كل تقنيات هذه الرواية، فقد استحصلت على سعات سردية كبيرة ،ومن تلك الاسترجاعات (مثالا لاحصرا) هي ما استرجعه”مولو” من حكاية”ايوب الروّاف الفرار” ليعرفنا الكاتب به بتواضع وبمحدودية من خلال حكايات قصيرة عنه، تناثرت في الروي،اي ان الراوي استعاد جزء من ما يتعلق بماضي الشخصية للتعرف على تجاربها الحياتية المرتبطة بزمن الحكاية وثيمتها، فالراوي يخبرنا عن طبيعة مهنة الريافة التي يعتاش منها، وعن تغييب ابي “ايوب” في معتقلات الامن بسبب سخريته من خبر اسقاط طائرة حربية ايرانية، فما كان من احد (البعثيين المخبرين) الاّ الإبلاغ عنه ليختفي بعدها اثر بعد عين!، ودون ان يجرؤ “ايوب” بعدها على الحديث عن حادثة التغييب تلك :
(ثم تطوق المحل خلال ساعات، داهمته مفرزة مسلحة قادرة على القاء القبض على مائة روّاف عجوز مثل ابيك، اقتيد الحاج المسكين الى دائرة الامن، فاختفى اثره)الرواية ص63
كم استحصلت استرجاعات “مولو”عن حكاياته مع اصدقاءه(عصبة الشماريخ) على سعات سردية واسعة من فضاء الرواية، وهي بمثابة جزء من سيرهم الشخصية بما فيها سيرته هو:
فمن “عزام” الذي صاحبه طيلة فترة الهروب وعاضده، منقذا حياته في اكثر موقف حتى اخراجه من العراق، فهو الذي كان ( يغيب فجأة، يختفي عن الأنظار. لن أجده في أي مخبأ، وبعد شهر أو أكثر يعود ويظهر دون أن يأبه بحيرتي.. يعود محملا بنماذج اجازات وهويات مزوّرة وكتب رسمية، وكان لا يبخل في تزويدي ببعض ٍ منها)الرواية ص(80)، حتى استحق لان يكون شخصية محورية في الرواية بجانبه، الى”سكراب “(ابن الهرب والحرب معا، احد البارعين في لعبة الهارب والزنبور،والطرف الغامض في صحبتنا التي صنعتها بشاعة الحرب) الرواية ص87 وقد وضع حدا لحياته بالانتحار شنقا، بعدما استنفد كل حجج البقاء، كذلك- صبار -عامل المقهى الحزين، الذي اعتقل :(… ثلاثة افندية من افراد الامن توجهوا بسرعة نحو صبار وسألوه :”هل انت صبار؟” حدق المسكين في وجوههم، لم يتفوه بكلمة، عقد الخوف لسانه فسقطت من كفه “الأستكانات”) الرواية ص201– وشكيب وعجلان، ومضر ضابط الامن. وغيرهم ، اولئك جميعا تجمعهم حكايات دوامة الهروب والتسكع وحلقات السمر والمناقشات (الغلاسنوست) فأولئك هم “الشماريخ” أو(الصعاليك) الذين شدوا من ازر صديقهم “مولو” وإزر بعضهم بعضا من اجل تجاوز محنة الفرار، والخلاص من ضيم الملاحقة المتأبدة، متوسلين النجاة من الموت قتلا في الحرب، فـ”مضر ضابط الامن”، تسبب في نقل”صارم”الذي لم يكلّ ولم يملّ الا ليلحق الاذى بهم و بـ”ـمولو” خصوصا ،الى جبهات القتال فيقتل هناك، فيما كانت مهمة “الباشا” ابن (الحيدرخانه) ببغداد ، بما يتصف به من مهارات فردية في التزوير، واختراق اجهزة الامن والمخابرات، هي اخراجهم من العراق (لكي لا تنطفيء شعلتهم الوهاجة)، وتلك تنتمي الى (الاسترجاع الداخلي-الكلي) وهي احداث استغرقت ازمنة اطول من الجزئي بطبيعة الحال.
وكان لابد للكاتب من ان يحمل “مولو” على استرجاع ماضي أسرته فمن انتماءها الى اقلية عرقية (البلوش) وتاريخ استيطانها في البصرة ونظرة المجتمع العشائري البصري القاصرة اليهم الذي (اعتبرهم ) دون جذور نسبٍ او حَسَب،(فجأة غدا “شاه مراد” لا أصل له ولا فصل، فهو بلوشي ابن بلوشي لا غير نبت شيطاني مشؤوم) الرواية ص167 ،فالى مهنة الاسرة- الريافة- المتوارثة ،وكان قد تسبب ذلك في شعور هذه الاسرة بالإذلال والضعف، بل والتعايش معهما بقدر ما امكنهم، ضمن تلك البيئة القبلية المتعصبة المعادية، حتى ان “مولو” ناله نصيب كثير من الاضطهاد والاذى ، حتى اوصله ذلك الى الاعدام، بعد القاء القبض عليه بيديّ”صارم”، وكذلك خسارته لحبيبته “رواء”
(توسلت لأبيها ان يقبلني “ذاب جرش” لأغدو احد افراد عشيرتهم، صمت الرجل قليلا، قال سأفاتح ابناء عمومتي، ربما توافق العشيرة على طلبك، ولكن لن ازوج ابنتي لـ”ذَبّاب جرش!”) الرواية ص171-172
وبذلك ربطت السلسة الاسرية الممثلة بافرادها (الجَدّة سليكه، الاخوات، والاب، والجَدّ بالاجاني) التي استرجعتها ذاكرة “مولو”، علاقات هذه الاسرة مع شخوص الرواية الاخرين وحتى أولئك الشخوص الهامشيين من امثال زوج “ميا”وهي احدى اخوات”مولو”، والاخت الثانية “ريا”، اضافة الى ان ذلك الاسترجاع نسج وشائج العلاقة مع عائلة صارم نفسها، ما اسهم ذلك في تسليط الضوء على طبيعة العلاقات الاجتماعية والقبلية والسياسية، التي كانت سائدة ومدى تحكمها في مصائر الافراد.
لقد افادت تلك الحكاياتُ المسترجعة النصًّ، ليس فقط في مليء فجوة ما فيه، او لغـرض إضاءة حاضر القصة وربطه بالزمن الماضي ،او التعريف ببعض خصائص تجاربهم الحياتية، أو منح كل اولئك فرصة الحضور والاستمرارية في زمن السرد محققا لهم تاثير بيّن في بنية النص، بل في الكشف ايضا، عن السخط الكامن في نفوس شخوصها من الحاضر لافتقادهم الامان الشخصي، والحرية كأفراد، ما ولّد لديهم وعيا جماعيا وموقفا موحدا في مقارعة حكم الديكتاتورية، ان اولئك سواءٌ عصبة (الشماريخ) أم الذين قضوا رميا بالرصاص في ساحات الاعدام، وكانوا قد صمدوا امام طغيان النظام الغاشم ،ليسوا بقديسين ولا منزهين عن ارتكاب خطايا ما، بل كانوا فقط مختلفين، او هكذا اختاروا لأنفسهم، فسلكوا دروب الالام المغايرة في مقارعة الديكتاتورية من خلال رفض المشاركة في حروبها العبثية. انهم صعاليك مدينة”الجمهورية”( ادركوا شعارهم السري هذا مبكرا، منهم من لاذ بالعدم كصورة للخلاص، ومنهم من رفع شعار “الحياة ليس لها معنى” ومنهم من ظل يثرثر في جدوى الانسان المتمرد والسوبرمان واللامنتمي,…) الرواية ص97
4ـ الاستباق او الاستشراف: هو تقنية سردية يعمد الكاتب فيها الى اغفال مبدأ السببية لنظام تسلسلية المتواليات السردية، ليسرد احداثا ماضية قبل اوان وقوعها، أي (القفز على فترة من الرواية وتجاوز النقطة التي وصل اليها الخطاب لاستشراف مستقبل الأحداث، والتطلع إلى ما سيحصل من مستجدات) (10) الامر الذي ينتج تداخلا سرديا في مجمل احداث الرواية ذلك انه( في الوقت الذي يلعب فيه الاستباق دورا في تشكيل بنية الزمن الروائي، فانه كتقنية يقوم بوظائف تخدم تشكيل البنية السردية في امتزاجه) (11) ، اذ يكون( الاستشراف مجرد استباق زمني، الغرض منه التطلع الى ماهو متوقع او محتمل الحدوث في العالم المحكي، وهذه هي الوظيفه الاصلية والاساسية للاستشرافات بانواعها المختلفة)(12)
وتعمل الاستباقات اما على التمهيد ،او على الاعلان عن حدث بإشارة صريحة لما سيؤول اليه
والتمهيدي: (يتمثل في احداث او اشارات او ايحاءات ، يكشف عنها الراوي ليمهد لحدث سياتي لاحقا، واهم ما يميزه هو اللا يقينية، بمعنى انه يمكن استكمال الحدث الاولي واتمامه او يظل الحدث الاولي مجرد اشارات لم تكتمل زمنيا في النص ) و( نقطة انتظار مجردة من كل التزام تجاه القاريء)(13)
اما الاستباق الاعلاني فـ (يقوم بوظيفة الاعلان عندما يخبر صراحة عن سلسلة الاحداث التي سيشهدها السرد في وقت لاحق، ونقول “صراحة” لانه اذا أخبر عن ذلك بطريقة ضمنية يتحول توا الى استشراف تمهيدي اي الى مجرد اشارة لا معنى لها في حينها ونقطة انتظار مجردة من كل التزام تجاه القاريء لتقبل ما سيأتي من الاحداث،) (14)
وتفتتح رواية ( كم اكره القرن العشرين) احداثها بصوت السارد”الملك الضليل” على استباقات تمهيدية عن سلسلة من الاحداث ستتنامى خلال سفر السرد بأسلوب استرجاعي لاحق من مثل:
– ان شقيقة”مولو”(الطبيبة ميا) كانت قد(رزقت بطفل جميل اطلقت عليه اسم “مولود” تيمَّنا باسم شقيقها الشهيد)الرواية ص22 وهذا ما يوحي ان “مولو” الشقيق قد مات ( شهيدا).
– نبأ استشهاد “مولو”، ووصول جثته ومتعلقاته الشخصية الى عائلته ثم دفنه، تزامنا مع خبر فقدان صارم””
– استلام ” الدكتورة ميا” دفاتر مذكرات “مولو” من” شخص مشرد”- ربما كان هو”مولو” حقا
– مشهد”الجثة” امام مرآى “الجدة” باعتبارها تعود لـ”مولو” ومعاينتها لها :(لاحظت العجوز بروز العينين من جوف الحجاج، وعتم القرنية، مع تلين مقلة العين، وانتفاخ البطن … بدا شبيها بجلد دجاجة منزوعة الريش) الرواية ص31
ان الكاتب سيعمد اخيرا الى تحويل نبأ (الاستشهاد والفقدان)غير اليقيني او غير المؤكد حقا، الى حادثة تصحح مسار حقيقة الحدث لتكتسب اليقين، حين يعثرعلى جثة “صارم” قتيلا في ساحة الحرب بمعركة الشلامجة)، كانت حالة الجثة امام ناظريه في ساحة المعركة مختلفة عن ملاحظات الجدة لها إذ فقدت ملامحها كليا، بسبب تعفنها، لكنه لاحظها قبل ان يفتك بها العفن: (جثة رثّة مشوهة مثيرة للاشمئزاز، تعود لشاب عشريني انيق، نحيف البنية،…هي جثة هامدة..)الرواية ص280-281، ، والمقارنة بين التوصيفين يكشف ان هناك زمن قد مر فعلا على حادثة الموت، كما انه برهنة على عائدية الجثة. حيث
يقوم”مولو” بـ ( تقليد الجثة قرصيّ هويته وساعته، وخاتمه الفضي ومحفظته الجلدية) فيجعل من “صارم القتيل” يبدو (رسمياً)،او ليحوله الى “مولو” البلوشي دون لبس او شك، فيما يبقى “مولو” هذه المرة دون اسم اوهوية انه الـ”بلا” بعد ذلك، وتلك هي ثيمة الرواية التي بدأت من حاضر الحدث (الاستشهاد)، لتتجه صوب الماضي، فقد شكّلت التمهيدات (بذرة دالة لن تصبح ذات معنى الا في وقت لاحق وبطريقة ارجاعية)(15) و-الاعلان غير اليقيني- هو حيلة سردية- لاستدراج المتلقي الى شراك الشك كأحد اساليب التشويق الذي يجعل من المتلقي جزء من عملية السرد حيث يستشعر اختزالا في الزمن واختصار رؤيته للأحداث، من خلال تمكينه من الاستدلال على بؤر السرد والتنبؤ بما سيأتي، وهذا ما يشدّ رغبته على متابعة السرد وكأنه يرغب في الوثوب الى نهاية سرد الحدث المستبق.
وفي معرض حادثة ايجاد مولو للجثة، ، فليست الصدفة المجردة وحدها المرتهنة بالحظ هي من (قادته اليها)، ففي الحرب يصبح كل شيء متوقع الحدوث وما لا يمكن حدوثه او تصديق حدوثه في الحياة العادية ،يصبح حدوثه كما البديهة ممكنٌ تصديقها في الحرب، و (ان الإنباء بمستقبل حدث ما من خلال الاشارات والايحاءات والصور الاولية ، تمنح القاريء احساسا. بأن ما يحدث داخل النص من حياة وحركة وعلاقات، لا يخضع للصدفة، ولا يتم بصورة عرضية، وانما يمتلك الراوي خطة وهدفا يسعى الى بلورتهما في النص.)(16)
وتلك الاحداث والاخبار سابقة لزمن الاستشهاد الذي كان قد حدث في معركة الشلامجة (وقعت خلال عام 1986)، اذ يشير السارد” الملك الضليل” الى ان”سكرتيرة ميا” قد عملت لديها خلال عام غزو الكويت عام 1990( لاعانة اسرتها في غمرة نهارات وليال تغلي بأخبار غزو الكويت واقتراب وقوع حرب تحريرها، ساعة إثر ساعة)( الرواية ص 19) وهي التي سلّمها “المشرد” الكيس الاسود الذي يحوي دفاتر المذكرات، وبهذا فالراوي يكون قد قفز بالسرد على زمن الحكاية، ذلك ان هناك اربع سنوات تقريبا قد مرت لتفصل بين زمن نبأ الاستشهاد وفقدان صارم، وبين استلام شقيقته الدكتورة لمذكراته وولادتها لطفلها “مولود”
لقد ادت تقنيات الاسترجاع والاستباق في هذه الرواية، وظائفها في تحريرالنص السردي من قيود الشخصية المحورية وحركتها، التي تقسر الكاتب على تضييق الزمن السردي وحصره بها، وهو ما( دفعه الى تجاوز هذا الحصر الزمني، بالانفتاح على اتجاهات زمنية حكائية ماضية، لعبت دورا اساسيا في استكمال صورة الشخصية والحدث وفهم مسارهما)(17) مثلما ادت وظيفتها في ترميم الثغرات التي خلّفها النص الروائي والتي نشأت جراء ذلك التقييد، كما اسهمت ايضا في تباطؤ او تسكين سير زمن الحدث المحوري، ومن ثم اتساقه ضمن بنيات زمنية متباينة، لتمحى المسافة الفاصلة بين زمن الحكاية وزمنها السردي، ذلك ان عملية السرد تقوم على الدوام بعملية مزج للأفكار في ارتدادها اللانهائي، ووفقا لضرورات جمالية وفنية تمليها رؤية الكاتب وخبرته وهما من يؤهل الكاتب لإتقان المراوغة السردية والتنقل بسلاسة ويسر بين ازمنة نصه السردي، وبهذا فقدت تجسدت دلالات تلكم الحكايات بشكل رموز وصور على ضفة الوعي كلما آن لها التفاعل مع الواقع بأمكنته : احياء، شوارع واسواق، وشط العرب، اقبية السجون وبيوتات البصرة وأهليها، ومع أزمنة المخاوف في ظل النظام الاستبدادي، واهوال حروبه التي وطّنت في نفس “مولو” كوابيسها ، وعليه فان تداخل الازمنة في الرواية ، لا يعكس احوال شخوصها فحسب، بل هو محاولة على البرهنة، ان احداث الرواية قائمة فعلا على التباعد الزمني للأحداث وتشظيها، فانتقال الكاتب من مسار زمن الى اخر، انما يسلط الضوء على ثيمة الرواية ككل، ليزيد من وضوح تعالق احداثها وتشابكها ببعضها، وبذا، انتقلت الرواية من خطاب يعرض الوقائع الى خطاب يتمتع بجمالية الفن وسحره.
بعد ان استهل “الملك الضليل” الروي وهو يوجز (اتفاقية هولير) وهي الاتفاق الشفاهي المبرم بينه وبين عائلة البلوشي”مولود” لصياغة رواية من خامات “المذكرات”،ثم سرده لفحوى (الصندوق الاسود الاول) مستندا على ما روته له “ميا”، ممهدا للأحداث، استدرك مبكرا، احقية “مولو” في تصدر مسؤولية الروي والتعبير عن ذاته (بضمير المتكلم) ابتداءا من فصل (الصندوق الاسود الثاني) ليتركه في مواجهة المتلقي مباشرة دون الحاجة الى وساطته، فـ (من وسائل التذكر بالاسترجاع تنحية صوت السارد وإظهار صوت الشخصية في التعبير عن العالم الواقعي كنوع من الاعتراف بأحقيتها في السرد ، وقد يدفع التفكير في استرجاع الماضي الى مغادرته استباقا للمستقبل ثم الارتداد منه الى اللحظة الحاضرة بوساطة تيار الوعي(18) وذاك اجراء تقني أدركه الكاتب عبد الكريم العبيدي حين أحال انثيالات الذاكرة سرداً وفق رؤية “مولو” في محاولة للبرهنة على ان الوقائع التي ستحدث انما كانت قد حدثت فعلا، بالرغم من استهلال الكاتب (ان الرواية من نسج الخيال).
ان الجوهري في “معلقة مولو” ليست الحرب كمرحلة تاريخية ،لم يتمكن من التعايش معها،او مهادنتها، وليس بإمكانية احالة شخصه الى شخص واقعي، بل هو عتمة تلك المرحلة المرعبة، بما يسمها من استلاب للذات الانسانية ومسخها، المرحلة التي حولت الامكنة والنفوس معا الى بوار، التخوف المزمن من عيون الديكتاتورية الذي كان يطعن كبرياء الناس، وهي تتفرس فيهم حتى الاعماق، وتنصّت (البعثيين) وعدّهم للأنفاس، والمطاردات الهاربين اليومية من سطح بيت الى اخر، فجائع رؤية مشاهد تقاطر الجثث التي لفظتها جبهات القتال على مر عقود من الزمن، التوجس المشوب بالهلع لو ان صورة “القائد الضرورة” قد مسّها تشوه بسيط في الكتب المدرسية(!)، فتمكنت بشاعة تلك المرحلة، حتى من لغة “مولو” فتسلطت عليها وهو يسرد انكساراته و(سياحته في العدم) ،في الاماكن التي يتجول فيها او يلوذ بها وهي تتعرض للقصف اليومي وهجرة ساكنيها منها، وحتى اخيرا،غرف الاعدام الباردة والكئيبة التي زُجّ فيها، التي ستتحول الى عدمٍ فعلا ، لانها امكنة مفرغة من الجمال والحياة ككل.
لم يكن “مولو” بطلا” بما يعنيه التعبير المثالي عن حلم الفرد بالتفوق على اقرانه من خلال حيازته الامكانيات والقدرات غير المحدودة، لم يكن ليمتلك مؤهلات او قدرات استثنائية. فهو، ( كائن مسلوب الهوية) متذبذب، نتيجة لحالات انفصام متعددة، حتى ان اسمه الشخصي، وهو يمثل هوية أي فرد، كان دائم التبدل: (مولود – مولو -مولود الهولندي- بلا- واخيرا عزت مظلوم)، الا انه كان يخوض بجسارة صراعا من نوع اخر مع زمنه، ولأنه بلا فاعلية فيه، ولان زمنه خصما قوياّ لا يعرف الرحمة، أدرك أنه يخوض صراعا خاسرا أمامه، فآثر الهروب امام جبروته، غدا هاربٌ (فرار مخضرم) بامتياز، الا انه رغم ذلك ،رغم هزائمه وخيباته، برغم خساراته المزدوجة للأهل والصحبة وعشقه الاول، كان يميل الى التمسك بفلسفة الرفض التي انتجت موقفه وجذرته في وجدانه، انه وبأسمائه كلها التي اكسبته اياه انكسارات معاركه، لم يُهزم بعد، كان يرفض الموت الرخيص، في جحيم الحرب، وبالتالي فهو يرفض التوافق او مهادنة النظام السياسي الذي تسبب له بكل تلك المآسي، بما يعني ان هروبه ما هو الا تمرد على السلطة، وما المقبرة التي دفن فيها اخيرا في( امستردام – هولندا) الا فرارا بجسده ،وانقاذا لما تبقى من ذاته، كي لا يقعا بين براثن الزنابير ،”السلطة” ناشدا الحرية ومتطلعا الى عالمه الحلمي المغاير حلم صباه الذي ورثه عن عمه ابي عزام:
(ورحت اهرب اليه خيالا، اسرد كل ما سمعته عن معالم بلد “الدام” للهاربين حتى ثُلمت بلوشيتي في نهاية الامر، صرت “مولو الهولندي”)الرواية ص82
ذاك الحلم الذي تشبث به بعنادِ سعيه الحثيث لتحقيقه، فيهرب اليه متجاوزا حدود العراق وقد اومأ له ايماءة الوداع الاخيرة ،ليحتويه أخيرا، قبرا في امستردام بحفاوة، آملا ان يضع حدا لنهاية معلقته التي شكّلت سمات هويته واسطورته الشخصية، وعسى ان يمكنه الانتهاء من حكايتها، تلك هي دوامة حياته (الفرار والزنبور)
الا ان الهروب ليس حلا يفضي الى الاحساس بالطمأنينة المستدامة، بل انه ( يسكّن من القلق الذي لا يطاق ويجعل من الحياة ممكنة بتجنب الخطر، ومع هذا لا يحل المشكلة الواردة ويُدفع له الثمن بنوع من الحياة التي لا يتألف في الأغلب الا من النشاطات الالية والاضطرارية) (20).
وانا اختتم قراءة (الاسطورة الشخصية لمولو) أحسب اني اتسمّع صدى من الـ (هناك) ،من ذاك القبر البعيد كلمات فان كوخ التي نطقها قبيل انتحاره بخمسة عشر يوما، تنسل الى الـ (هنا):
(يبدو لي أني خسرت موعدي مع الحياة ، و أشعر اليوم كأن هذا منتهـاي الذي عليّ أن اقبل به)
وأحسب ايضا ان “مولو” قد ادرك في النهاية (ان كل تعاسة مهما قست يمكننا ان نتحملها إن نحن رويناها كقصة أو اخبرنا عنها كقصة)(21)
الهوامش
* صدرت رواية ( كم اكره العشرين ) للروائي عبدالكريم العبيدي – دار قناديل ، ط1- 2017
يمنى العيد – ذاكـرة الزمـن وإيقـاع الحيـاة ، مقالة.1
2.بول ريكور – الذاكرة ، التاريخ الانسان – ت، د جورج زيناتي- – دار الكتاب الجديدة 2009 ص34
3. بناء الرواية سيزا احمد قاسم- دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ ، القاهرة
. 4. روبرت همفري تيار الوعي في الرواية الحديثة،ص72
5. 5. جيرارجينيت ،خطاب الحكاية، ص51
مها قصراوي ،الزمن في الرواية العربية- ص193.6
7. جيرار جينيت م. ن ، ص60-61
. 8. هلدكتور:صادق خشاب- البنية الزمنية في رواية “قبل البدء حتى ” للروائي محمد – مقالة
9. سيزا قاسم م. سابق، ص61
. 10.حسن بحراوي بنية الشكل الروائي، ص132
11. مها قصراوي ص 208
حسن بحراوي م. ن ، ص133.12
حسن بحراوي م. ن ،ص137.13
14. حسن بحراوي م. ن، ص 132
15. حسن بحراوي. م. ن ،ص 137
16. مها قصراوي م. سابق، ص209
مها قصراوي – م.ن، ص 189.17
18.أ.د. نادية هناوي سعدون تمظهر الذاكرة سرديا ،مقالة
19. د. مرسل العجمي ،الرواية العربية ممكنات السرد, ص74
20. أريك فروم ، الخوف من الحرية .ت مجاهد عبد المنعم مجاهد- المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت1972 – ص116
21. بول ريكور – الذاكرة ، التاريخ الانسان – ت، د جورج زيناتي- – دار الكتاب الجديدة 2009 ص24
_____
غازي سلمان