محمد خضير - سومريات معاصرة..

ليس سهلاً أن تتعامل مع موضوعات قديمة بأدوات فنية حديثة. فثمة تهيّب يقف وراء أشكال "السومريات" المجتلَبة من الماضي البعيد، وثمة تحديقة متسائلة تطل من العيون وتنفرش على مساحة الحاضر الملغومة بالاحتمالات والتغيرات المفاجئة. ولقد انتبه الفنان صبري المالكي الى هذه الإشكالية الموضوعية حين عنون معرضه السادس عشر بعنوان (عيون سومرية، يناير ٢٠٢٠) فكأنه يحفز المتلقّين على التفاعل من خلال هذه الجزئية (العيون) فهي أصدق من غيرها في سبر الحقيقة التشكيلية والتاريخية. الحدقات تتقابل، والنظرات تتقاطع، والمدى ينفسح حتى التخوم البعيدة. ثمة شعاع يخترق الغيب ويصل الحاضر بهيبة لونية، عانى الفنان من أجل إثباتها وتثبيتها. فاللون الذي ولع الفنان بطرحه إسرافاً في التغطية والتورية، يأبى أن يعوض عن الحضور الحقيقي لسلطة الرمز المجهَّزة بعيون خارقة، وأسئلة محيِّرة. لذلك فإن الأشكال الإنسانية المشخّصة في اللوحات تميل وتنحني الى الجانب تحت ضغط هذه السلطة الطاغية. إن الصراع يختفي وراء هذا السرف اللوني والتلطيخ الجزافي، كأنّ الفنان يبالغ في تقديم قرابين مجازية نادرة لافتداء تجربته الفنية.
من ناحية ثانية، فقد تخلّى الفنان عن حريته في فسح السطح التصويري، وتشبيح أشكاله الإنسانية وسط لوحات بقياسات كبيرة (كما كانت عادته التشكيلية في المعارض السابقة)، واتجه في معرضه هذا الى تقليص الخلفيات لتكثيف الرؤية وحصرها في بؤرة بصرية مصغّرة. أي إنه حصرَ متلقّيه معه في زاوية النظر المركزة من دون تشتيت نظرته، أو إنه شدّه الى محور نظرته. كلاهما أمام التجربة (تجربة العيون المتقابلة) في موقف متكافئ. لا سبيل للهروب من سلطة الرمز المغلّفة بأوشحة لونية متراكمة، ولا مجال يتسع لتأويل مجازف، يذهب بعيداً وراء الفسحة اللونية.
أمام هذه السبل التشكيلية ومفترقاتها المعاصرة، يواجه الفنان التجريدي اغتراباً عميقاً في صلب تجربته المعتادة على سلوك سبيل واحدة دون غيرها. تراكمُ اللون لا يعني إلا شيئاً واحداً: طمس الآثار التي خلّفها الفنان من سيره الحثيث الى نقطة في أفق الواقع المتغيّر، المأزوم بمشكلاته الوجودية. ليس الفنان وحده، فالمشاهد الواقف أمام العين المحدقة يواجه أيضاً لحظة الوقوف المضطرب أمام بوابة الاحتمالات الوجودية المحيّرة مع الفنان الواقف خلف البوّابة نفسها. (وهنا نفترض أنها بوابة زجاجية تسمح بتقابل الفنان ومشاهده). ما المدة التي يستغرقها الوجهان المتقابلان لمعرفة حقيقة الاتجاه؟ مَن الواقف على هذه الجهة، ومَن الواقف على الجهة الثانية؟ هنا نعود الى المشكلة التي تطرقتُ اليها في المقطع السابق: لا هروب ولا تراجع أمام الصراع المتسلّط على وعي الفنان ومقابله المشاهد، خاصة إذا كانا من منشأ واحد، وتربية عقلية ونفسية متقاربة المصادر والتأثيرات. (نفترض ثانية أنه باب زجاجي دوّار يسمح بتبادل الأدوار).
ما من تجربة تشكيلية عراقية، حبست نفسَها في محور الباب الدوّار للواقع، إلا وتقع في هذا الالتباس: أن تتفحص موقعها، وتتبين حقيقة اقترابها أو ابتعادها من هدفها الوجودي، بين حين وآخر. وبسبب هذا الإشكال يكرر الفنان صبري معارضه بدورات سنوية ثابتة. إنه على وعي شديد بمشكلته الفنية المرتبطة بعقدٍ وثيق مع الواقع والحياة وإمكانياتهما الشحيحة. يستعمل الرسمَ لاختبار وجوده المتمرحل عبر سنوات الشك والثبات؛ مواجهة الاحتمالات المتغيرة لتجربة محاصرة بوجود محليّ خانق؛ الذبذبة الواسعة لفرشاة تعمل كبندول ساعة متحرك بين الماضي والحاضر من دون توقف. وليس من خلاص إلا بتكرار التجربة.
أعلى