د. أماني فؤاد - ليضرب موجُها في صخور الحياة.. قصة قصيرة

وضعَ رقعة شطرنج عاجية القطع فوق طاولة مربعة على يمين مكتبه منذ زمن، لا يُجهد نفسه في اختيار اللون الذي سيلعب به، فهو من يتناوب الجلوس على المقعدين طرفي الطاولة، يحلو له هذا.
في أحد الصباحات المسحورة لمحت عيناه امرأة، بدا له أن الشمس تنثر من أجلها قطع الحلوى المذهبة، فتتوهج على سطح الفرح الأمنيات، يقول: “وقتها رأيت ربات الشعر تتراقص على قمم النخيل”. و”في وثبات من البهجة أطلقتُ من بين أصابعي سرب طيور بيضاء لتحلق فوق رأسها”. “كما اشتهت أوتار قلبي عودا لأدندن لها ما ينساب في قلبي من أغنيات”. قال: “إن للمعة أسنانها البيضاء المنضّدة أبخرة فواكه تعيد ترتيب غضباته من الحياة”. وجاء في أقواله أيضا: “إن لأناقة أصابع قدميها وطلاء أظافرها ملمحٌ كأوراق الورد الندي حين يعانقه فجر الصباح”. صار لقهوته مذاق التوق مذ تخيل جسدها المرمري، رغم الوشاح الملون الذي ناوش أعلى نهديها ليغازل بحيرات عطرها الرقراق.
دعاها تحت لفحة السحر للجلوس على طاولته، حين همت تأخذ موضعها تعثرت شفتاها بين شفتيه فانتبه لدفئهما الشاسع الذي ذوب جليدا كان قد غلّف كيانه لسنوات. ومن خطفة حياء غضة بعينيها تراءت له الحياة وعدا من السماء.
تركها تتناوب معه تحريك القطع العاجية، استهواه أنها امرأة خُلقت ليضرب موجُها في صخور الحياة. لم تتلعثم وانطلقت ..، ألهاه الشغف عن أسئلة من قبيل: هل بإمكانه أن يحتمل تدافع موجاتها، وماذا يفعل لو أنها أخطأت تحريك قطعة في أحد المرات، إلى متى يدوم الرحيق الذي تفرزه براعم العشق الخضراء، أبإمكانه أن يسقط تاريخ الهيمنة والاستحواذ، تقويض ما توارثته الأذهان!؟
انتبهتْ تدريجيا لكتل دائرية تتحرك من حولها، كرات من النار يتسع قطرها كل آن، كلما نقلت قطعة على رقعة الشطرنج كانت عيناه الكبيرتان تجحظان ويتبدد بداخلهما الأمان.
دون أن تسأله حركت بيدقا من موضعه في إحدى النقلات، صرخ بأعلى صوته يأمرها أن تكف، ألا تأتي بحركة واحدة فوق رقعته، كأنها صدقت أنها بمفردها كيان!! تطايرت الجمرات المشتعلة من عينيه، وفي لحظة خاطفة سحب طاقم هراوات كان خلف مقعده مباشرة، انتقى واحدة وهوى بها فوق معصمها، سقطت يدها على الأرض تنزف، التقطها وقذف بها إلى قبو المهملات، بهراوة أخرى فصل أصابع يدها الثانية لئلا يظهر لها أثر فوق رقعته.
في استنكار همت تنقل إحدى القطع بأسنانها، فإذا به يقبض على شعرها ويدق وجهها في الحائط عدة مرات إلى أن تحطّم فكها. لملم أسنانها وما تبقى من ملامحها وقذف بهما بعيدا، لم ينس بالطبع أن يدهس قلبها بقدمه، كما ثقب عظام رأسها واعتصر مخها في قبضته فتناثرت أشلاؤه مفتتة من بين أصابعه. طبقات من الظلام العميق هي ما تليق بالنساء.
دفع بقدمه مقعدها فهوت، وظل رأسه المرتج بالأوهام يتضخم. وصفها لذاته بالبلهاء، فهي على الأرجح لم تفهم. كان عليها فقط أن تعبر عن دهشتها الدائمة بما يأتيه من نقلات، وألا تكف يداها عن التصفيق حين يهم يحرك الأحداث.
فراشة بلا ألوان كان يفضلها، ولذا فرك جناحيها بسبابته وإبهامه. فليعلو موجها الآن بالقبو، ولتضرب برأسها في الصخور السوداء، كأنها توهمتْ أن تتمدد أوسع من قماش اللوحة الذي حدده سلفا لرسمها.
دون ندم تناوب الجلوس على المقعدين ثانية، في أعماق حدقتيه يربض صلف ممزوج بالاستغناء.




د. اماني فؤاد

أعلى