محمد علي فقيه - عبد الفتاح الجمل .. صانع أدباء مصر

المؤسف أن الجمل الذي شكّل بمُلحقه الثقافي مصنعاً للأدباء والشعراء والفنانين، لم يبقَ إسمه مغموراً فحسب، بل أن صيت تلامذته الذين تحوّلوا في ما بعد إلى أهم أدباء مصر تعدّوا صيته وبلغوا العالمية وتُرجِمت أعمالهم إلى أهم اللغات العالمية.

ظهر عبد الفتاح الجمل مُشرِفاً على المُلحق الأدبي لجريدة المساء

أدى تأميم الصحف اليومية في مصر في مطلع ستينات القرن العشرين رغم أنه كان محصوراً في "الصحف القومية" وهي أربع: الأهرام، الأخبار، الجمهورية، وصحيفة المساء، وكلها تابعة للاتحاد الاشتراكي التنظيم الوحيد بعد حلّ الأحزاب السياسية عام 1954، إلى صعوبة ظهور كُتّاب ونُقّاد ومُبدعين بحُكم انحصار النشر. إلا أن الأديب والصحافي المصري الراحل والمُشرِف على الصفحة الثقافة في صحيفة "المساء" عبد الفتاح الجمل الذي أتت ذكرى رحيله قبل أيام(18 شباط فبراير 1994) قد لعب دوراً بالغ الأهمية في رعايته لجيل الستينات في الرواية والقصة والشعر والفن التشكيلي الذي شكّل الثقافة المصرية في الأربعين سنة الأخيرة. فهو الأب الشرعي لهم وهو الذي رعاهم وقدّمهم إلى الجمهور المصري والعربي.

ففي تلك الفترة، وباستثناء مجلة «المجلة» التي رأس تحريرها الكاتب الكبير يحيى حقي، ومجلة «الشهر» التي أسّسها ورأس تحريرها سعد الدين وهبه، وبعض المطبوعات الأخرى المحدودة الانتشار، لم تكن هناك منابِر أخرى واسعة الانتشار لنشر كتابات الأدباء والمُبدعين الشباب. وفي تلك الفترة تم إصدار ملحق الأهرام الثقافي تحت إشراف لويس عوض، وضم في الطابق السادس من مبنى الأهرام، كتّاباً مرموقين، كتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وزكي نجيب محمود ويوسف إدريس وبنت الشاطئ وعباس محمود العقّاد ولطفي الخولي. وهذا ما سبّب رهبة كبيرة للكُتّاب الناشئين الذين كانوا يرتعبون من عرض أعمالهم أمام أهم كُتّاب مصر الذين يمتلكون عِلم النقد بكل جوانبه ولا يعجبهم العجب. فما بالك بمقالة لكاتب يكتب لأول مرة.

في هذه الفترة ظهر عبد الفتاح الجمل مُشرِفاً على المُلحق الأدبي لجريدة المساء الذي كان يصدر في أربع صفحات يوم الأربعاء من كل أسبوع بدءاً من أواخر عام 1962. وقد أحدث هذا المُلحق ما يُعدّ ثورة في الصحافة الأدبية والفنية في مصر. واستطاع عبد الفتاح الجمل أن يحوّل مكتبه إلى مصنع للأدباء هدفه الاهتمام بالمواهب الجديدة وتقديمها إلى الجمهور، فكان أول من أعطاهم فرصة النشر في مُلحق نجح في اكتشاف الكنز المخفي من الطاقات الواعِدة. ولو راجعنا هذا المُلحق لوجدنا فيه ليس أهم الكُتّاب وحسب، بل الأغلبية الساحِقة من الأدباء والكُتّاب والشعراء والنقّاد الذين أثروا حياتنا الثقافية على مدار الخمسين عاماً الأخيرة.
PUBLICITÉ

يقول المخرج محمّد كامل القليوبي: "كان عبد الفتاح الجمل يُدرك بحسّه وذوقه الفني العالي، وبآفاق مفتوحة على العالم فناً وثقافة وإبداعاً، أن هناك شيئاً كامِناً في هذا الشعب كما لو كان منجماً للماس عليه أن يُنقّب عنه".

فمن مُلحق "المساء" الثقافي قدّم لنا الجمل أعظم الأدباء الذين لا تزال إنتاجاتهم تتصدّر الساحة الثقافية. وإذا ما أهتم أحد الباحثين برصد الأسماء التي قدّمها لنا المُلحق وصفحة الأدب، لوجد فيها دليلاً لمُعظم الكُتّاب والأدباء والشعراء:

-قصص محمّد البساطي والذي تحوّل في ما بعد إلى أهم مَن تناولوا تجربة القرية من خلال عمله الأشهَر في رواية "صخب البحيرة" ثم "في "أصوات الليل" ثم "الجوع".

- تقول أمينة النقّاش عن زوجها الكاتب والصحافي صلاح عيسى إنه "عندما كان مفصولاً من عمله، نشر الأديب الجميل عبد الفتاح الجمل قصصاً له وهو لا يعرفه، في مُلحق المساء الثقافي الذي كان مسؤولاً عنه. وهذا ما دعم جيل صلاح".

- محمّد حافظ رجب بدأ حياته الأدبية في ريعان الشباب في عُمر 19 عاماً يدفعه التمرّد على واقعه كبائِع فستق. اعتبره قاموس أكسفورد كأهم مُجدّد في القصة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين والذي تُرجِمت أعماله إلى لغات عدّة.

- يحيى الطاهر عبد الله: أولى قصصه القصيرة "محبوب الشمس"، وأعقبها "جبل الشاي الأخضر" التي نشرها الجمل في الملحق الأدبي لجريدة المساء، ليبزغ بعدها نجمه كواحدٍ من أبرز كُتّاب القصة القصيرة وتلتفت إليه الأوساط الثقافية والأدبية.

- إبراهيم أصلان بدأ حياته "بوسطجي" في هيئة البريد. وهو صاحب رواية "مالك الحزين" التي اعتُبِرت ضمن أهم مئة رواية عربية. وفي عام 1967 قرّر الجمل أن يحوّل المُلحق الثقافي الأسبوعي إلى صفحة يومية في جريدة المساء ودعا إبراهيم أصلان والبساطي ومحمّد كامل القليوبي وفتحي فرغلي إلى تحرير هذه الصفحة معه.

- جمال الغيطاني الذي نشر له الجمل في مُلحق "المساء" أول قصة ظهر فيها تأثّره بذلك العالم السردي الرحب هي قصة «هداية أهل الورى لبعض ما جرى في المقشرة" التي تتحدّث عن العهد المملوكي. وقد تحوّلت روايته "الزيني بركات" إلى أهم الروايات العالمية التي تصف عالم الطغيان.

- صاحب رواية "الحرب في بر مصر" يوسف القعيد، الذي قال للميادين نت في حديث خاص، إن "الجمل نشر له أولى مجموعاته القصصية في مُلحق المساء. فقد كان مكتبه مُلتقى لكل الأدباء من جيلي وهناك تعرّفت إلى محمّد البساطي ويحيى الطاهر عبدالله". وأضاف القعيد "الجمل قدّم لنا فُرَص النشر والرعاية والعناية عندما كنا في أمسّ الحاجة إليها‏.‏ طوال عقد ستينات القرن الماضي‏".

‏- يروي محمود الورداني أنه قرأ قصة جديدة على أصدقائه بعنوان «كرنفال»، فنصحوه بأن يذهب بها إلى عبد الفتاح الجمل، المُشرِف على مُلحق «المساء» الأدبي. فذهب اليه ولم يجده، فترك له القصة التي فوجئ بها منشورة بعد ثلاثة أيام.

-كانت أشعار العامية المصرية شبه مطرودة من الصحافة القومية فظهرت أشعار عبد الرحمن الأبنودي وسيّد حجاب ومحمّد سيف ونجيب شهاب الدين، وقصائد أمل دنقل وعزّت عامر وفتحي فرغلي ومدحت قاسم وزين العابدين فؤاد.

يقول زين العابدين فؤاد عن أول لقاء له مع الجمل: "حين ذهبت بشكل خجول إليه ووضعت قصيدة على مكتبه من دون أن أتحدّث أومأ إليّ فمشيت، كان ذلك يوم الإثنين وفوجئت يوم الأربعاء بالقصيدة منشورة بطول الصفحة كلها، أذهلني ذلك الرجل. وبعد أن نشرت قصيدة "ولسا الحرب في أول السكة" صدر قرار بمنعي من النشر وكان الوحيد الذي أقدم على نشر قصائدي هو عبدالفتاح الجمل".

-يقول الشاعر فتحي فرغلي: "تعرّفت إلى الجمل عن طريق صديقي المخرج محمّد كامل القليوبي، وقتها كنت أكتب بعض القصائد على استحياء في نوتة صغيرة أحملها دائماً في جيبي، شجّعنى القليوبي أن أقصد الجمل لينشر لي قصائدي ولم أكن متحمّساً للفكرة وقتها لكني ذهبت إليه في مكتبه، وطلب مني أن أتلو بعضاً من أشعاري، كنت أرتجف من الخوف، ابتسم وقال لي "سيب(أترك) النوتة" وفوجئت بعد أيام بقصائدي في جريدة المساء" .

أما الأديب سعيد الكفراوي فيتذكّر أول لقاء جمعه بـ"الجمل"، قائلا:ً "دخلت عليه المكتب لابساً جلابية فلاحي، شاب صغير جاء من القرية ولا يفقه شيئاً عن القاهرة.. استقبلني بحنوّ ومحبة باذِخة وإحساس بأن الكاتب الجيّد قيمة لا بد من رعايتها، داعبني وقال لي: أقعد يا فلاح، قرأت عليه القصة التي أتيته بها فكانت ابتسامته سابقة، أما تقييمه لها فكتبه أسفلها وقد نشرها في الصفحة الثقافية.. شعرت ساعتها بسعادة غامِرة".

وأضاف: "شكّل هو ويحيى حقي أعظم البنّائين في جيل الستينات، ولا أبالغ إن قلت إن هذا الجيل خرج من معطف الجمل. فأنا أصف نفسي بأني كاتب فلاح من تلامذة الجمل. عندما أكتب عن القرية كنت أراه وأسمع رنّة صوته تشكّل إحساسي وأشعر به على أطراف أصابعي يُنبّهني إلى هوامش المشهد القروي الذي التقطها ببراعة في أعماله".

اعتُبِرت أعمال عبد الفتاح الجمل مُتميّزة في الأدب العربي المُعاصِر رغم قلّتها وهي: رواية «الخوف» عام 1972، و«آمون وطواحين الصمت» وتنتمي إلى أدب الرحلات عام 1974، ورواية «وقائع عام الفيل كما يرويها الشيخ نصر الدين جحا» عام 1979، و«حكايات شعبية من مصر» عام 1985، ورواية «محب» عام 1992، التي تُعدّ من أهم ما كُتِب عن القرية والريف المصري. وقد أحدث صدورها في أول طبعة لها ضجّة في الأوساط الثقافية. وهي سيرة قرية في دمياط إسمها "محب" ولِدَ وعاش فيها الجمل. ويقول سعيد كفراوي عن هذه الرواية إنها من أروع ما كتب رواية "محب" جمع فيها عالم القرية الثريّ، وجسّده في مزج بديع بين الفُصحى والعامية التي تقترب من الشعر".

وحتى الآن لم يتم تجميع كل أعماله وطبعها، فهناك كتاباته المنشورة في جريدة «المساء» في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي تحت عنوان «يوميّات شعب»، وكتاباته تحت عنوان «مع الناس»، وكتاباته تحت عنوان «كلمة». وهناك كذلك كتاباته تحت عنوان «سيما أوَنطة» في جريدة السينما والفنون عام 1977، وتتمتّع كلها بلغة ذات رونق خاص.

ولعبد الفتاح الجمل أيضاً كتاب لم يصدر، وهو «خرافات أيوب المصري» الذي نشره على حلقات في جريدة «الأهالي»، وقدّمه إلى إحدى دور النشر، إلا أن مستشارها د. عبد المحسن طه، كتب تقريراً بمقاييسه الأكاديمية التقليدية، يرفض فيه نشر هذا الكتاب، في الوقت الذي اعتبر فيه الكاتب الكبير أحمد بهجت مقالات «خرافات أيوب المصري» كأفضل ما كُتِب خلال عام نشرها في منتصف الثمانينات.

كان الجمل من أشدّ الناس تواضعاً. يقول كفراوي "حين أصدر "محب" شغفت بها ونظّمت لها احتفالية كبرى وأخذتها للناقدَين جابر عصفور وصلاح فضل ليكتبا عنها، ويومها فوجئت به يتصل بي الساعة الثانية صباحاً، ويطلب مني أن ألغي كل ما فعلت لأنه لا يُجيد الظهور الإعلامي ولا يُحبه، فعرفت قيمة هذا الرجل".

المؤسّف أن الجمل الذي شكّل بمُلحقه الثقافي مصنعاً للأدباء والشعراء والفنانين، لم يبقَ إسمه مغموراً فحسب، بل أن صيت تلامذته الذين تحوّلوا في ما بعد إلى أهم أدباء مصر تعدّوا صيته وبلغوا العالمية وتُرجِمت أعمالهم إلى أهم اللغات العالمية.
أعلى