قال الراوي في عصورٍ سيطر عليها بالحكايات: سأحكي لكم عن الازمنة الكلبية والذاكرة الخربة عصور الحيض على الارشيف وفساد المدن التي وأدت نسائها.
(1)
في زمن النكران وعصر الزهايمر،وآن شفق أو غسق ؛ تغطت المدينة بالتعب في تلك الشتاءات القارسة ، وبدأت الحكايا لتدفئة جسدها ونكران ذاكرتها ،كانت المدينة تحاول ردم هوتها السحيقة بالنسيان لحفظ ملفات ارشيف نسوتها السري من التلف.
هجست سماء ذلك اليوم بسحب رمادية محايدة ، الطيور التي خلقها الرب ضحى كانت تنشد في ترتيل عظيم " مع الصبح راحلين * في وهدة الامسيات نزرع الحصى وتستبين الشمس ناضجة * في كهف الشفق نلامس رعشة المساء * نحن راحلين" ، استلّ سيف حزنه من غمده ، واتكأ على حافة ذاكرته ، وخلف الباب الموارب كانت كتبه وسجائره ولوحات اشتراها من كادحين يتلمسون طريقهم نحو الرسم تنتظره على مهل ، فهي ليست في عجلة من أمرها ، انها ذاكرته التي يتّكئُ عليها الان ؛ فعشرون عاماً لاتفسد فيها الذاكرة بل تصير خربة وحينها الاماكن وحدها من تنقذنا.
في ذلك الغروب الذي تتذكره جيداً ، كانت تغسل جسدها على الضفة الثالثة للنهر، وكان شفق الانحاء يمسد على شعرها بحنو ، والعصافير نعم نفس العصافير التي كانت راجعة الى اعشاشها وقفت على الحافة في صف مرصوصٍ بنيانه ،عازفة موسيقى الدانوب الازرق أو ثلاثية الارشيدوق، لم تكن ألحاناً جنائزية ، بل كانت خليط من روح فينوس وأدونيس ، موسيقى مشبعة بالنوستالجيا الى أمرأة مستحيلة ؛ هل تذكر ذلك ؟ انها نفس المساءات التي حاولت فيها تلك المرأة أن تتخلص من أمطار الغابات، فاذا بها تخلع ما يغطي عريها الشاهق ، واذا بكتفك ينخلع ، وهأنت تتحسه الان.
كفجر افريقي مشمس هكذا بدت المرأة لك وارخبيل ذاكرتك ملوثٌ بحبر الارشيف السّري للمدينة ، حين جاءك صوتها من النهر .. سمعته وأنت داخل الفضاء الراقص للطيوف الوردية ، هناك كفرس جامحٍ كانت تقف على كف الصخور ممتشقة لواء السمرة وتاريخ الجسد الافريقي وفي صباحات الخريف الافريقي يغسلها المطر وتدثرها الغابات والصخور ،وانت على بعد ثماني قبلات تحتفل احتفالا عذباً لكونك لا تزال عامراً بالحنين للبدائية الاولى، بدائية الجسد الدافق بالدم والشهوة والتاريخ وتصالب اشعة الطبيعة داخل الشرايين.
(2)
عميقاً يأتي صوتها من تلك الاغوار البعيدة، تستكين عيناها على المدى الازرق والمدى حي لا يموت وحين انتصر جرحها على الألم تجشأت مراراة الاحتشاد بك واستبنت لها في ضوء الصباح الخاشع رماد رجل شاحب ليس فيه نفع! وفي وهج النوستالجيا تحت الغمر أو اصيل بخار النيل وأنت في الطرف المعتم من الزمن الحالك والمتوحش تتلو على رصيف ارخبيل الذاكرة الابليسي " أهٍ من قلة الزاد ، وبعد السفر ، ووحشة الطريق" وتحت هذا الضحى المشع باضواء الفسفور شاهدت نفسك تخرج وتقترب من خبل المساءات ، وتحت هذا الضوء المشبع برطوبة الحلم والتوهان والاغتراب ، كنت في قامة المدينة التي سمقت بك حتى طاولت الالهة ،وها أنت تتساءل في هذا الرحم المظلم والمدينة تبتلعك كفتات مائدة متناثرة على مائدة خرافية ،أأنا قزمٍ ؟
(3)
كمذاق القبلة الاولى المرتبكة ورعشتها التي تبدو ازلية حين تتلامس انفان، رغم أنف الازمنة والقبيلة والدهور والمدن التي تراقب العشاق ، حين يسيل لعاب اللحظة في متن الزمن الهارب ، قبل ان تتلاقى الانفاس في براح واسع، زمن ما قبل ان ترسل الشفتان ذبذباتهما في الهواء الساخن، وماقبل ان تغمض الجفون وهي تتهيأ لارتشاف رحيقٍ يتجمّد فيه الزمن برهة، حين ينبض القلب ويقفز ككرة التنس ، وتصاب الارجل بالزلازل ، والارض تتحرك وتميد بما فيها ، حين يصاب رعد بالدهشة لجمال البرق، آن يكون النهدان قد انتصبا ، والحلمتان اللتان تشبهان كروم اسبانيا نافرتان ، حين يرشح حليب مابين الرجلين مبللاً الانحاء، وفي عمق مقلتيك يستكين الضوء برهة ثم ينزوي؛ آنها فقط تدرك أنك عبثيٌّ وعدْميٌّ ، وانها أحبّتك وأتتك قديسة لامعة كحقول الكرم في يافا ،نافرة كالظباء، عيناها مكحولتين بأثمد الحب والحنان ، خلاسية مجبولة من كل الاكوان مغتسلة بمناخات عجائبية وملتفة بإزار من طقس السافنا الغنية ، وعندما تضحك تخضر حقول الأرز في تلك البقاع النائية وتدخل الملائكة في تسبيح " سبحانك ربنا ماخلقت هذا باطلاً" ،وانها حين دخلت في جسدك المرهق من تلك المسامات، بدأت ثورتك وولجت حلمك الماتع والشاهق ، ولكن عصر خيباتها ابتدأ بازمنة التدمير والفتك ، وان حبها لك كان مجرد فتحٍ جديد لتواريخ البكاء .
(4)
وآن بعثرتك الفضاءات السحيقة في غياهب المنافي القصية ، حين كانت روحك باسطة ذراعيها بالوسيط ،متّكأةٌ على باب لايفضي الا الى اللاشئ،وآن كنت ترتق الذاكرة التي فتقت بسبب الصدأ الموسمي من لعنة التكرار وفقدان الدهشة ،كانت الساعة تشير الى السادسة مساءاً بتوقيت الاستواء الغني ، سحبٌ رمادية تغطى تلك السماوات البعيدة ، طيورٌ ملونة تغازل شط النيل ، أسماكُ القرموط تداعب بزعانفها بقايا نباتات ميتة ، طحالب تنمو على يدك الممسكة بكأس البيرة الخارجة لتوها من مصانع الراسمالية المتوحشة ، سيجارٌ ضخم تنفث دخانه الملوث بدخاخين مصانع لانكشير ، سحابة ٌ تائهة تركض خلف سرب من الطيور الجميلة ، خفاش يستعد لنشاطه الليلي ، صبيةٌ قادمون من عمق النيل يمخرون بمراكبهم عباب المياه التي قد كانت تمثل الحضارات الآفلة في سودان الامس ، تحاول بقدر ماتستطيعه ذاكرتك ان تتوغل في المسامات القصية لمواسم افلت ، وانقطع حبلها ، آنها فقط تخرج المرأة وحدها من ارشيف المدينة و من ارخبيل الجزر النائية وهي ممسكة بتلابيب الفيلسوفة هيباتيا متمنطقة برؤى سقراط ناظرة الى الافق المخضر ، وانت تتجشأً تلك البيرة على ضفاف نهر السين مستمعاً الى موسيقى الفصول الاربعة ، قارئاً اوراد حزن الذاكرة و لعناتهتا والدمار والفقد والخيبات التي كتبت في ذات أزمنة تحت السدرة .
(5)
وانا في إنبهاقات العصور الملتاثة ذاكرتها بالنسيان والبحر وفي عراء هذا التوجس والفزع والخوف من المجهول ، "في ذلك الزمن الذي أدرك فيه كل إمرئٍ أنه لم يبق امامه سوى أرض الموت.ولو أنه أسهل عليك أن تموت عندما لايفصلك عن الله غير صدور الاعداء،في ذلك الزمن الذي بلغ فيه الالم شأواً أشدّ من القتال،وهو ان تعيش بلا معركة في انتظار مالا اسم له ، في ذلك الزمن الذي يقوم فيه الطفل بالحراسة وترتجف المرأة من الرجل وهو بين ذراعيها كما لو أن الدم يسيل عليها ، في ذلك الزمن الاسوأ من اليأس فما لاحد بارقة أمل، تظل الكتابة تواطأً مع الذاكرة ودفن مايعتمل في الورق .
جوبا 21-2-2020
(1)
في زمن النكران وعصر الزهايمر،وآن شفق أو غسق ؛ تغطت المدينة بالتعب في تلك الشتاءات القارسة ، وبدأت الحكايا لتدفئة جسدها ونكران ذاكرتها ،كانت المدينة تحاول ردم هوتها السحيقة بالنسيان لحفظ ملفات ارشيف نسوتها السري من التلف.
هجست سماء ذلك اليوم بسحب رمادية محايدة ، الطيور التي خلقها الرب ضحى كانت تنشد في ترتيل عظيم " مع الصبح راحلين * في وهدة الامسيات نزرع الحصى وتستبين الشمس ناضجة * في كهف الشفق نلامس رعشة المساء * نحن راحلين" ، استلّ سيف حزنه من غمده ، واتكأ على حافة ذاكرته ، وخلف الباب الموارب كانت كتبه وسجائره ولوحات اشتراها من كادحين يتلمسون طريقهم نحو الرسم تنتظره على مهل ، فهي ليست في عجلة من أمرها ، انها ذاكرته التي يتّكئُ عليها الان ؛ فعشرون عاماً لاتفسد فيها الذاكرة بل تصير خربة وحينها الاماكن وحدها من تنقذنا.
في ذلك الغروب الذي تتذكره جيداً ، كانت تغسل جسدها على الضفة الثالثة للنهر، وكان شفق الانحاء يمسد على شعرها بحنو ، والعصافير نعم نفس العصافير التي كانت راجعة الى اعشاشها وقفت على الحافة في صف مرصوصٍ بنيانه ،عازفة موسيقى الدانوب الازرق أو ثلاثية الارشيدوق، لم تكن ألحاناً جنائزية ، بل كانت خليط من روح فينوس وأدونيس ، موسيقى مشبعة بالنوستالجيا الى أمرأة مستحيلة ؛ هل تذكر ذلك ؟ انها نفس المساءات التي حاولت فيها تلك المرأة أن تتخلص من أمطار الغابات، فاذا بها تخلع ما يغطي عريها الشاهق ، واذا بكتفك ينخلع ، وهأنت تتحسه الان.
كفجر افريقي مشمس هكذا بدت المرأة لك وارخبيل ذاكرتك ملوثٌ بحبر الارشيف السّري للمدينة ، حين جاءك صوتها من النهر .. سمعته وأنت داخل الفضاء الراقص للطيوف الوردية ، هناك كفرس جامحٍ كانت تقف على كف الصخور ممتشقة لواء السمرة وتاريخ الجسد الافريقي وفي صباحات الخريف الافريقي يغسلها المطر وتدثرها الغابات والصخور ،وانت على بعد ثماني قبلات تحتفل احتفالا عذباً لكونك لا تزال عامراً بالحنين للبدائية الاولى، بدائية الجسد الدافق بالدم والشهوة والتاريخ وتصالب اشعة الطبيعة داخل الشرايين.
(2)
عميقاً يأتي صوتها من تلك الاغوار البعيدة، تستكين عيناها على المدى الازرق والمدى حي لا يموت وحين انتصر جرحها على الألم تجشأت مراراة الاحتشاد بك واستبنت لها في ضوء الصباح الخاشع رماد رجل شاحب ليس فيه نفع! وفي وهج النوستالجيا تحت الغمر أو اصيل بخار النيل وأنت في الطرف المعتم من الزمن الحالك والمتوحش تتلو على رصيف ارخبيل الذاكرة الابليسي " أهٍ من قلة الزاد ، وبعد السفر ، ووحشة الطريق" وتحت هذا الضحى المشع باضواء الفسفور شاهدت نفسك تخرج وتقترب من خبل المساءات ، وتحت هذا الضوء المشبع برطوبة الحلم والتوهان والاغتراب ، كنت في قامة المدينة التي سمقت بك حتى طاولت الالهة ،وها أنت تتساءل في هذا الرحم المظلم والمدينة تبتلعك كفتات مائدة متناثرة على مائدة خرافية ،أأنا قزمٍ ؟
(3)
كمذاق القبلة الاولى المرتبكة ورعشتها التي تبدو ازلية حين تتلامس انفان، رغم أنف الازمنة والقبيلة والدهور والمدن التي تراقب العشاق ، حين يسيل لعاب اللحظة في متن الزمن الهارب ، قبل ان تتلاقى الانفاس في براح واسع، زمن ما قبل ان ترسل الشفتان ذبذباتهما في الهواء الساخن، وماقبل ان تغمض الجفون وهي تتهيأ لارتشاف رحيقٍ يتجمّد فيه الزمن برهة، حين ينبض القلب ويقفز ككرة التنس ، وتصاب الارجل بالزلازل ، والارض تتحرك وتميد بما فيها ، حين يصاب رعد بالدهشة لجمال البرق، آن يكون النهدان قد انتصبا ، والحلمتان اللتان تشبهان كروم اسبانيا نافرتان ، حين يرشح حليب مابين الرجلين مبللاً الانحاء، وفي عمق مقلتيك يستكين الضوء برهة ثم ينزوي؛ آنها فقط تدرك أنك عبثيٌّ وعدْميٌّ ، وانها أحبّتك وأتتك قديسة لامعة كحقول الكرم في يافا ،نافرة كالظباء، عيناها مكحولتين بأثمد الحب والحنان ، خلاسية مجبولة من كل الاكوان مغتسلة بمناخات عجائبية وملتفة بإزار من طقس السافنا الغنية ، وعندما تضحك تخضر حقول الأرز في تلك البقاع النائية وتدخل الملائكة في تسبيح " سبحانك ربنا ماخلقت هذا باطلاً" ،وانها حين دخلت في جسدك المرهق من تلك المسامات، بدأت ثورتك وولجت حلمك الماتع والشاهق ، ولكن عصر خيباتها ابتدأ بازمنة التدمير والفتك ، وان حبها لك كان مجرد فتحٍ جديد لتواريخ البكاء .
(4)
وآن بعثرتك الفضاءات السحيقة في غياهب المنافي القصية ، حين كانت روحك باسطة ذراعيها بالوسيط ،متّكأةٌ على باب لايفضي الا الى اللاشئ،وآن كنت ترتق الذاكرة التي فتقت بسبب الصدأ الموسمي من لعنة التكرار وفقدان الدهشة ،كانت الساعة تشير الى السادسة مساءاً بتوقيت الاستواء الغني ، سحبٌ رمادية تغطى تلك السماوات البعيدة ، طيورٌ ملونة تغازل شط النيل ، أسماكُ القرموط تداعب بزعانفها بقايا نباتات ميتة ، طحالب تنمو على يدك الممسكة بكأس البيرة الخارجة لتوها من مصانع الراسمالية المتوحشة ، سيجارٌ ضخم تنفث دخانه الملوث بدخاخين مصانع لانكشير ، سحابة ٌ تائهة تركض خلف سرب من الطيور الجميلة ، خفاش يستعد لنشاطه الليلي ، صبيةٌ قادمون من عمق النيل يمخرون بمراكبهم عباب المياه التي قد كانت تمثل الحضارات الآفلة في سودان الامس ، تحاول بقدر ماتستطيعه ذاكرتك ان تتوغل في المسامات القصية لمواسم افلت ، وانقطع حبلها ، آنها فقط تخرج المرأة وحدها من ارشيف المدينة و من ارخبيل الجزر النائية وهي ممسكة بتلابيب الفيلسوفة هيباتيا متمنطقة برؤى سقراط ناظرة الى الافق المخضر ، وانت تتجشأً تلك البيرة على ضفاف نهر السين مستمعاً الى موسيقى الفصول الاربعة ، قارئاً اوراد حزن الذاكرة و لعناتهتا والدمار والفقد والخيبات التي كتبت في ذات أزمنة تحت السدرة .
(5)
وانا في إنبهاقات العصور الملتاثة ذاكرتها بالنسيان والبحر وفي عراء هذا التوجس والفزع والخوف من المجهول ، "في ذلك الزمن الذي أدرك فيه كل إمرئٍ أنه لم يبق امامه سوى أرض الموت.ولو أنه أسهل عليك أن تموت عندما لايفصلك عن الله غير صدور الاعداء،في ذلك الزمن الذي بلغ فيه الالم شأواً أشدّ من القتال،وهو ان تعيش بلا معركة في انتظار مالا اسم له ، في ذلك الزمن الذي يقوم فيه الطفل بالحراسة وترتجف المرأة من الرجل وهو بين ذراعيها كما لو أن الدم يسيل عليها ، في ذلك الزمن الاسوأ من اليأس فما لاحد بارقة أمل، تظل الكتابة تواطأً مع الذاكرة ودفن مايعتمل في الورق .
جوبا 21-2-2020