عائشة المراغي - زينب الكردي: الصديق الذي كرهته

زينب الكردي هي زوجة رسام الكاريكاتير الفنان حاكم، وهي حسبما جاء على الغلاف الخلفي لمجموعتها القصصية «عيوني الليلة لا تعطي دمعًا» (دار العربي للنشر والتوزيع، 1985): «سودانية من وادي حلفا. أنجبت ثلاث بنات: منى، ياسمين، رباب. مارست العمل الصحفي بالكويت منذ 1968. كتبت العديد من المسلسلات للإذاعة والتليفزيون. حاصلة على ليسانس الآداب في التاريخ عام 1975 من جامعة الإسكندرية».
أهدت عبد الفتاح الجمل مجموعتها الأولى تلك، وكتبت له: «الأخ والصديق الرائع عبد الفتاح، أعترف أنه لولاك لما كانت استمراريتي بهذه الجدية، ولما تأخر صدور هذا الكتاب 15 سنة بسبب خوفي ورعبي من الجادين أمثالك، فشكرًا من أعماقي لك».
لم يظهر في الإهداء سبب خوفها ورعبها منه، لكنها روت ذلك تفصيلًا في مقالها (كم كرهته بشدة، مجلة الثقافة الجديدة، 1992) إذ تقول: «كان أول لقاء حقيقي لي معه في الخمسينيات، وكان وقتها مسئولًا عن الصفحة الأدبية، وكنت أنا مجرد موظفة بسيطة في إدارة جريدة المساء.. أيامها كنت صبية صغيرة تحاول – في السر – أن تكتب الشعر لنفسها فقط، أما القصة القصيرة فقد كنت أقرؤها لمن أعرفهم من الأدباء والكتاب.. وكانوا يمتدحونها بالطبع من باب المجاملة لا أكثر، إلا أنني صدقتهم، وبدأت أعيش أجواء «الكاتبة الكبيرة»، ومن هذا المنطلق أعطيت إحدى قصصي لزوجي حسن حاكم رسام الكاريكاتير في الصحيفة، وطلبت منه أن ينشرها لي في الصفحة الأدبية، وعندما نشرت لي فعلًا دخل في روعي أنني «الطفلة المعجزة»، وأنني.. وأنني!! حتى كانت مكالمته التي يطالبني فيها بأن أدعوه هو ومصطفى حسين وجمال عزام على العشاء، ولأن الطلب غريب سألته دون أن أقصد لماذا؟!.. رد قائلًا ألم ننشر لك قصتك؟! تساءلت وأنا أحاول أن أكظم غيظي: ثمن؟! رد بسرعة: طبعًا!!….. تساءلت بهدوء: ولماذا الثمن؟! ألم تقتنع بها وقمت بنشرها؟ ورد هو على السؤال بسؤال آخر فقال: كيف أقتنع بعمل لم تقتنعي أنت نفسك به، وبدلًا من أن تتحملي مسئوليته وتواجهي العالم به، أرسلته مع زوجك، وتواريت خجلة!! ولعلمك النشر لا يعني بالضرورة جودة العمل!».
قضت هذه الكلمات على زهو زينب وغروها، فكرهت عبد الفتاح الجمل بشدة، رغم أنها مع مرور الوقت اعتبرته درسًا واقتنعت أنه في الفن بالذات على الوسطاء أن يمتنعوا، إلى أن كان اللقاء الثاني بعد عشر سنوات، تقول: «كنت قد تمرست على كتابة القصة، وخيل إليَّ أنني انتهزت فرصة زيارته لنا، وقدمت له مجموعة القصص التي كتبتها.. هو ابتسم لي ابتسامة مشاكسة وتناولها مني قائلًا: لا تتوقعي مني أية مجاملات!!….. لم يأكل يومها، وظل منكبًا على مجموعتي يقرؤها باهتمام بالغ، ثم نهض واتجه إلى الباب، وعندما سأله زوجي أن يبقى ويأكل مد يده لي بالمجموعة وهو يقول: كيف آكل وقد أفسدت امرأتك شهيتي!! يا بنتي شوفي لك حاجة تانية اعميلها.. مالك انت ومال الفن!، ثم أردف قائلًا: الفن ليس لقبًا يضاف إلى اسمك، ولا هو «وجاهة».. الفن عذاب!! جزء من فؤادك يحترق مع كل كلمة.. الفن مش لعبة يا ست زنوبة!!».
أعاد ذلك اللقاء مشاعر الغضب إليها من جديد، وصار تحديًا بالنسبة لها أن تسمع منه كلمة «برافو» ذات يوم. لكنها بعد سفرها إلى الكويت بأسبوع وجدت «طردًا صغيرًا» منه يحوي كتابًا عن فن القصة القصيرة، ومعه رسالة يخبرها فيها أنها تمتلك موهبة حقيقية، وإلا ما اهتم بالكتابة إليها، مضيفًا «يجب أن تنمي هذا الحس الفني كل دقيقة وكل ثانية من ثواني عمرك، بالثقافة الجادة الواعية، بأن تحبي الناس وأن تتأمليهم بحب، وأن تنحازي لهم». وأخبرها في النهاية «ما قلته يومذاك كان مجرد مشاغبة لا تخلو من شبهة التعمد، لأنني أردت أن أكسر حدة غرورك، فالفنان الحقيقي ينبغي أن يخاف ويرتعد عندما يقرر مواجهة الناس ليقولوا كلمتهم فيه، وأن لا يرضى أبدًا عن نفسه حتى لو صفقت له الدنيا بأسرها، فالفنان الحقيقي يزداد تواضعه كلما ازدادت عظمته!!».
بعد عودة زينب الكردي إلى مصر ونشرها لأول مقال بمجلة «كاريكاتير» تحقق حلمها ووقع الجمل على شهادة نجاحها، إذ هاتفها ليقول لها «هايل.. هايل.. أنتِ الآن كاتبة فعلًا».


أعلى