رفعت سلام - منيا القمح 1951

لِي أن أقْبِضَ قَبْضَةً مِن طِينِ السَّبْتِ المُوَافِقِ 16 نُوفمْبِر 1951، وَأنْفُخَ فِيهَا مِن رُوحِي المُرَفْرِفَةِ عَلَى شَفَا العَرَاء، فَتَسْتَوِي عَرْشًا وَمَلَكُوتًا مِن ذَاكِرَةٍ يَطْفُو عَلَى مَاء ( صَوْلَجَانٌ، وَحَاشِيَةٌ، وَرَعَايَا غَابِرُون. أيْنَ الجَوَارِي وَالمَحْظِيَّات؟ وَإذ يَنْعَقِدُ الدِّيوَانُ فِي الإيوَانِ، أنْفَجِرُ فِيهم: لِمَن المُلْكُ اليَوْم؟ فَيَخِـرُّون).
فَمِي لاَ يَذْكُرُ الثَّـدْي.
وَأمِّي اخْتِصَارُ سَبْعَةِ آلافِ سَنَةٍ مِن أوْبِئَةٍ وَطَوَاعِينَ وَمَجَاعَاتٍ وَفَاتِحِين. حُقُولٌ مِن عَفَارِيتَ لَيْلِيَّةٍ تُحَاذِي الذَّاكِرَةَ، وَبَيْتٌ مِن رِيحٍ وَشَمْسٍ. جَمَلٌ وقَصَبٌ يَتَهَادَى، يَقُولُ لِي: هيتُ لَك. وَيَقُولُ: لَسْتُ سَفِينَةً. وَيَبْكِي فِي حضْنِي.
تَفْتَحُ أبْوَابَ الفُصُـول.
تُرَبِّيهَا كَدَجَاجَاتٍ يَائِسَة.
وَتَصْنَعُ الحُقُـول.
أعْشَاشُ عَصَافِيرَ سَقْفِي، وَسَمَاءٌ مِن طَائِرَاتٍ وَرَقٍ (مَن يُطْلِقْنِي إَلَيْهَا، وَيَرْبِطْنِي بِالخَيْطِ، كَي لاَ أتُوهَ فِي الفَضَاء). وَالخَلاَءُ يُطْلِقُ غِيلاَنَه فِي اللَّيْلِ وَيُخْفِيهَا فِي النَّهَار.
لِلطَّائِرَاتِ الحَدِيدِ قَضْبَانٌ سَمَاوِيَّة.
وَلِي : الزُّرْقَـة.
قَصَبٌ لِلشِّتَاءِ، وَسَطْحٌ لِلْقَصَب. قُلْتُ: لَيْسَ سِوَى الجَمَل، فَأتَانِي ضَارِعًا إلَى سَطْحٍ وَأبٍ وَطِفْلٍ مُشْمِسِين (جَمَلٌ بِجَنَاحَيْن هَائِلَيْن، وَذَيْلٍ شَجَرَة. فِي الغُرُوبِ، يَمْرُقُ فَوْقَ حُقُولِ الذُّرَة).
أبٌ مَارِدٌ وَسِكِّينٌ وَأعْوَادٌ وَشَمْسٌ أُمُومِيَّة. أجْلِسُ عَلَى سَطْحِ العَالَم. أتَلَقَّفُ مَا تَرْمِيه لِي الأُبُوَّة. وَكُلُّ رَمْيَةٍ رَحِيقٌ مُسْكِرٌ وَدَهْشَةٌ مُرْتَجَلَة.
تَحْتِي: البُوصُ وَالْحَطَبُ، وَالعَصَافِيرُ المُرَفْرِفَةُ فِي أحْلاَمِهَا. تحْتِي: الغُرَبَاءُ المَجْهُولُون، وَغُرَفٌ لاَ تُرِيدُ المَجِيء. تَحْتِي: اهْتِزَازَاتُ الصَّاعِدِين.
بِنْت : شَمْسٌ سَــوْدَاء.
أسْتَدْرِجُهَا ـ أو تَسْتَدْرِجُنِي ـ إلَى ظِلِّ الزِّيرِ الَّذِي يَنَامُ مَبْلُولاً فِي القَيْلُولَة. لاَ يَقُولُ شَيئًا. وَحِينَ يَرَانَا الآخَرُون مَبْلُولَيْن يَضْحَكُون. لاَ نَعْرِف.
مَرَاكِبُ لَهَا أجْنِحَةٌ بَيْضَاءُ تُرَفْرِفُ الهُوَيْنَى، فِي المَاضِي. رَصَاصٌ ذَائِبٌ يَلُوبُ تَحْتَ الأجْنِحَة، وَطُيُورٌ مَا فِي الزُّرْقَةِ النَّحِيلَةِ لاَ تُكَلِّمُنِي.
غُرَبَاءُ يَعِيثُونَ فِي الغُرَفِ وَفِيَّ. يَزْحَمُونَنِي، يَفْعَصُونَنِي، يَسْرِقُونَنِي مَنِّي، لاَ يُوقِفُهُم أحَدٌ، أو يَطرُدُهم. شَخْصٌ مَا قَالَ: هُم أخوَتُك. مِن أيْنَ جَاءُوا؟ لِمَاذَا؟
حَدِيقَةٌ غَامِضَةٌ. خُبْزٌ وعِنَبٌ وجُبْنَةٌ بَيْضَاءُ عَلَى عُشْبٍ أخْضَر. أصِيلٌ غَامِض. هَل الزَّمَنُ مِيرَاثٌ لَنَا؟ أشْجَارٌ مَجْهُولَةٌ تَرْمُقُنَا بِأسْئِلَةٍ صَامِتَة. أحَدِّقُ فِيهَا بُرْهَةً، وَأنْسَى.
مَا الَّذِي جَاءَ بِالغُرَبَـاءِ مَعَنَا؟
أقُولُ إن انْهَارَت السَّمَاءُ (لاَبُدَّ لَهَا مِن أعْمِدَةٍ خَفِيَّة)، فَسَتَهْوِي عَلَى النَّخِيلِ والأشْجَار، وَتَظَلُّ مُعَلَّقَةً فِي مُتَنَاوَلِ أيْدِينَا، لاَ تَسْقُطُ فَوْقَنَا. وَقْتَهَا، يُمْكِنُنِي أن أُطْعِمَهَا وأسْقِيَهَا وَألْعَبَ مَعَهَا. يُمْكِنُنِي أن أقُولَ لَهَا اهْبِطِي قَلِيلاً، دُونَ سُقُوط. وَقْتَهَا، سَأدعُو الجَمَلَ المُجَنَّحَ وَالعَصَافِيرَ وَالشَّمْسَ السَّوْدَاءَ، نَلْعَبُ وَنُغَنِّي حَتَّى مَطْلَعِ الأحْلاَم.
مَرْأةٌ بَيْضَاءُ تَلْعَبُ بِي، وَشَمْسٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَة.
الأُولَى لَهَا ثَدْيٌ مِن طَحِين، وَبَطْنٌ مِن عَجِين. تَضُمُّنِي، فَأنَامَ وَيَصْحُو جُوعِي. وَالثَّانِيَةٌ تُشِعُّ فِي النَّهَارِ ضَوءًا أسْوَد لاَمِعًا، صَقِيلاً، انزَلَقْتُ عَلَيْه ذَاتَ غَسَقٍ، فَانْكَسَرَت ذِرَاعِي.
لِمَـاذَا؟
مِن رِيشِ الدَّجَاجِ المَذْبُوحِ، أصْنَعُ لِي أجْنِحةً فِي ذِرَاعَيَّ وَحُلْمًا، أطِيرُ بِهَا إلَى الفَضَاءِ البَعِيدِ. تُرَفْرِفُ حَوْلِي العَصَافِيرُ وَالهَدَاهِدُ وَأبُو قِرْدَان. تَسْألُنِي: مَن أنْت؟
مَارِدٌ أسْوَدُ نَحِيل (هَلْ كَانَت لَه عَيْنَان ؟)، يَنْسَلُّ إلَى البَيْتِ المُجَاوِرِ فِي المَرْأةِ البَيْضَاء، كُلَّ لَيْلَةٍ يَنْسَلُّ إلَيْنَا غِنَاءٌ مُثِيرٌ، وَتَنْفَجِرُ الصَّرْخَاتُ، كُلَّ لَيْلَة.
آهِ يَا شَمْسِيَ السَّودَاء. هَل يَشْوِيهَا قَبْلَ أن يَأكُلَهَا، أم يَأكُلُهَا نَيِّئَة؟ عِنْدَمَا تُشْرِقُ فِي الصَّبَاح، سَتَقُولُ لِي كُلَّ شَيْء.
ثَدْيُهَا يَتَفَجَّرُ بِالأسْئِلَةِ اليَائِسَة. لاَ أبحَثُ عَن جَوَاب.
إلَى حُقُولِ الذُّرَة.
إلَى نجُومِ السَّمَاء.
إلَى الزِّيرِ المَبْلُول.
لاَ أكثَـر.
أحْصِنَةٌ سَوْدَاءُ وَبَيْضَاءُ وَحَمْرَاءُ تُحَمْحِم، تَمُدُّ أعْنَاقَهَا لِي.
مِن أيْنَ جَاءَت؟ إلَى أيْن؟
انْتَظِرِينِي، أيَّتُهَا الأحْصِنَةُ، إلَى أن أكْبُر.
غَابَةٌ مِن مَخَاوِفَ غَامِضَة. شَمْسٌ سَوْدَاءُ تَتْبَعْنِي خَفِيفَة. ظِلِّي أبْيَض، وَالغُرَبَاءُ غُرَبَاء.
أقُولُ لِلطَّائِرَةِ الحَدِيد: كيْفَ أتَسَلَّقُ قُضْبَانَكِ لأصْعَدَ إلَيْك؟
أقُولُ لِلْعُصْفُورَة: لاَ تَتْرُكِينِي وَحِيدَا.
أقُولُ لِلشَّمْسِ السَّوْدَاءِ: نَفَدَت الأسْئِلَةُ، وَلاَ جَوَاب (كُلُّ إجَابَةٍ قَادِمَةٍ سَتَخْفُرُهَا عَشَرَات الأسْئِلَة).
وَأمِّي خَيْمَةٌ فِي الظَّهِيرَة، سَبْعَةَ آلاَفِ عَام.
تُشْبِهُهَا الطِّيبَةُ، وَأشْجَارُ التُّوتِ، وَالنِّعْنَاع.
مِن يَدَيْهَا، يَلْقُطُ الزَّمَنُ حُبُوبَ الذُّرَةِ وَالشُّوفَان وَالنَّدَم.
إلَيْهَا يَأوِي، وَيَهْجُرُ جَرْيَ الوَحُوش.
كَيْفَ تَنْجِبُ المَرْأةُ البَيْضَاءُ شَمْسًا سَودَاء؟ وَالمَارِدُ يُوَزِّعُ الكِيرُوسِينَ بِالقِسْطَاسِ عَلَى القُرَى وَالنُّجُوع.
لاَ نِيــرَان.
دُخَانٌ يَصَّاعَدُ فِي الغَسَق. لاَ نِيرَان.
نَاسٌ يَتَكَلَّمُون فِي صُنْدُوقٍ خَشَبٍ وَصَفِيحٍ صَغِير. يُغَنُّون. أبْكِي، وَأرْجُمُهُم بِالطُّوبِ؛ لاَ يَخْرُجُون، لاَ يَلْتَفِتُونَ إلَىْ.
فِي اللَّيْل، أضْوَاءٌ صَغِيرَةٌ لَهَا ذَيْلٌ نَحِيلٌ تَصْعَدُ السَّمَاء. هُنَاكَ، تَنْطَفِئُ هُنَاك. أنْوَارُ الشَّوَارِعِ مَاتَت. لاَ مُعَزِّين. الأضْوَاءُ الصَّاعِدَةُ لُعْبَةٌ مُسَلِّيَة.
مَا الَّذِي تَعْنِيه كِلْمَةٌ حَرْب؟
مِن أيْنَ يَجِيءُ الأب؟
عِيدَانُ الذُّرَةِ العَالِيَةُ تُسَوِّرُ العَالَم.
مَحْبُوسٌ، ألْهُو فِي قَفَصِي.
وَالعِيدَانُ قَضْبَانٌ خَلْفَهَا قُضْبَانٌ وَقُضْبَان.
طَعَامٌ عَلَى عُشْبٍ مَعَ الغُرَبَاءِ فِي غَسَقٍ مَا. قَاعَةٌ فَسِيحَةٌ مَسْقُوفَةٌ بِسَمَاءِ المَسَاء، يَحْتَلُّهَا غُرُبَاءٌ آخَرُون، يَتَطَلَّعُون فِي جِدَارٍ أبْيَض. رِجَالٌ وَنِسَاءٌ يَرْقُصُون وَيُغَنُّونَ فِي الجِدَار. أنَام. آخَرُون يَرْكُضُون بِأحْصِنَةٍ شَبَحِيَّة. أنَام.
أصْحُو، وَفِي جَسَدِي السَّنَابِك.
لِمَاذَا تُلَمْلِمُ أمِّي أسْئِلَتِي مِن الأركَانِ وَالزَّوَايَا، وَتَضَعُهَا فِي عَرَبَة؟
إلَى أيـْن؟
لِمَاذَا تَخَلَّى عَنِّي الجَمَلُ المُجَنَّح؟ أيَّتُهَا الشَّمْسُ السَّوْدَاءُ: أيْنَ ذَهَبَ ظِلِّيَ الأبْيَض؟ مَارِدٌ نَحِيلٌ يُقَهْقِه، وَالبَيْضَاءُ تَبْكِي-مَحْلُولَةً- بِلاَ حِيلَة. أحْصِنَةٌ تعْدُو فِي الاتِّجَاهِ المُعَاكِسِ، إلَى الوَرَاءِ، فَمَن يَأتِينِي بِالقَيْلُولَةِ المَبْلُولَةِ، فِي صُنْدُوقٍ خَشَبِيٍّ يُكَدِّسُونَ أوقَاتِي، إلَى العَرَبَةِ الصَّاجِ، قَالَ لِي: لَسْتُ سَفِينَةً، وَأبْحَرَ فِي المَاضِي، وَأمِّي تُطْلِقُ الدَّجَاجَاتِ اليَائِسَةَ مِن يَأسٍ، فَهَل مَاتَ الكَلاَم؟ أيُّهَا اللُّصُوصُ، مَا الَّذِي تَسْرِقُونَه؟ دَخَانٌ دَاخِلِيٌّ، مَن يَحْتَرِق؟ لاَ أجْنِحَةَ لِي، وَطَائِرَاتُ الوَرَقِ مَقْطُوعَةُ الخُيُوط، فَرَّت بِلاَ رُجُوع، وَالقُضْبَانُ تُسَوِّرُنِي، أيْنَ أنَا؟ وَأبُو قِرْدَان يَسْألُنِي: مَن أنْت؟ أبْكِي أم أضْحَك؟ أمِّي- الآنَ- خَيْمَةٌ لَيْسَت لِي، فَانْتَظِرِينِي، سَأكْبُرُ سَرِيعًا مِن أجْلِك. ثَدْيٌ مُتْرَعٌ بِالأسْئِلَةِ، وَفَمِي بِلاَ ذَاكِرَة. فَلِمَاذَا تَخْتَفِي العَفَارِيتُ فِي اللَّحْظَةِ الحَاسِمَة؟ هَل يَتْرُكُونَنِي أحْرُس الفَرَاغَ الرطْبَ وَالأيَّامَ المَاضِيَة؟ السَّمَاءُ تَدِيرُ ظَهْرَهَا لِي، تَمْضِي، وَالأسْئِلَةُ عَالِقَةٌ بِطُوبِ الجُدْرَانِ العَارِي وَخَشَبِ الشَّبَابِيك. شَمْسِيَ السَّوْدَاءُ بِلاَ سُوءٍ تَبْكِي غُرُوبِي. أيُّهَا القَتَلَةُ: مَا الَّذِي تَقْتُلُونَه؟ سَمَاءٌ هَارِبَةٌ، أجْنِحَةٌ بَيْضَاءُ تُرَفْرِفُ فِي مَاء. أقُولُ: لاَ تَتْرُكِينِي وَحِيدًا. لاَ أعْرِفُ. لاَ أحَد.

أيُّهَا اللُّصُـوصُ وَالقَتَــلَة
أعلى