محمود الورداني - عبد الفتاح الجمل.. السيرة المنسية للراعي الصالح

عن عبد الفتاح الجمل مرة ليست أخيرة
تميّزت أخبار الأدب منذ صدورها عام 1993 بالملفات الخاصة، سواء تلك التي تستوعب كامل صفحات العدد، باستثناء صفحات الأخبار طبعا، أو تلك التي تقتطع جانبا من صفحاته فقط. وكانت تلك الملفات مجالا لاختبار المحرر المسئول عن الملف من ناحية، وإتاحة كاملة لقدراته الخاصة وتدريبا له على القيام بمهمة ثقيلة.
أظن أننا جميعا اختُبرنا، وأتيحت لنا الفرصة مبكرا لنكون مسئولين عن ملفات أطلقت الطاقات الكامنة في كل منا ، أقصد الأجيال السابقة ممن عملوا في أخبار الأدب منذ تأسيسها، أو الأجيال التالية حتى جيل الزميلة عائشة المراغي التي تولت مسئولية ملف «عبد الفتاح الجمل: السيرة المنسية للراعي الصالح» الصادر أخيرا في ملحق منفصل مع الجريدة.
حررت الزميلة الملف بكامله، أي بصفحاته العشرين، ولها الحق أن تزهو بهذا المستوى الرفيع من الكفاءة والمهنية وبذل المجهود المتواصل، والسفر هنا وهناك، والبحث والتنقيب دون هوادة من أجل الوصول لهذا المستوى المحترم.
لا يستطيع الواحد إلا أن يمتدح مثل هذا التعب والعكوف، فهي لم تشد الرحال إلى مسقط رأس الجمل في محب بدمياط فقط، بل سافرت أيضا إلى الإسكندرية، واصطحبها تلميذ الجمل، د.محمد زكريا عناني إلى مدرسة أبوقير الابتدائية التي شهدت تتلمذه على يد مدرس اللغة العربية الجمل، وسعت الزميلة وراء كل تفصيلة من حياته: إلى أسيوط عندما عمل مدرسا وأقام معرضا للتصوير الفوتوغرافي، ثم إلى القاهرة عندما اشتغل بالصحافة، سواء في جريدة المساء لسنوات، أو خلال الفترة القصيرة التي عمل فيها مشرفا على ملحق أدبي في أخبار اليوم التي لم تحتمله ولم يحتملها إلا بضعة شهور.
لا تورد عائشة المراغي مجرد عناوين فقط لرحلة الجمل، بل تهتم بالتفاصيل الدقيقة، وتنبش وراءه عندما وافق على الإشراف على ملحق أدبي وتم استقدامه خصيصا لذلك من المساء، وأول قصة نُشرت، والمعارك التي خاضها، حتى فرّ هاربا بعد أن تأكد من استحالة إصدار ملحق يكون فيه حرا تماما من ضغوط مؤسسة كبرى لها متاريسها وقيودها.
وعندما تقاعد الجمل لما اتسع الخرق على الرقع، وتولى الأستاذ سمير رجب مسئولية دار التحرير بكاملها، أدرك الرجل أننا انتقلنا لعصر آخر بالغ التفاهة والرخص، فعمل في دار الفتى العربي، وأصدر عددا من أهم الأعمال، لا ننسى مثلا أن مجموعة المخزنجي الرائعة «الآتي» أصدرها الجمل.
في كل هذا كانت المراغي أمينة ومهنية وكفؤة في التركيز على الدور الأساسي الذي اختار الجمل أن يلعبه: الانتصار للقيمة والقيمة وحدها، لذلك التف حوله العشرات من الأجيال الجديدة منذ الأبنودي وسيد حجاب والبساطي وأصلان والعشرات من الأجيال التالية، وسعوا وراءه واستقدمهم هو في كل مراحل حياته وتجاربه.
أما مكتبة الجمل التي يصل عدد كتبها إلى عدة آلاف إلى جانب الأسطوانات والتسجيلات، فقد سعت وراءها المراغي أيضا وكشفت عن جريمة كبرى ارتكبتها مكتبة القاهرة في حقه، وضياع كتبه وتدمير مكتبته.
لكن يظل أهم ما حققته المراغي هو اكتشافها أن رفض عائلة الجمل لإعادة نشر أعماله غير صحيح، فقد أبدت العائلة ترحيبها واهتمامها الشديد بأعمال الجمل. وأود أن أؤكد هنا أن أعمال الجمل لا تستمد أهميتها وقيمتها من تاريخيتها أو من الدور الذي لعبه صاحبها، بل أساسا من قيمتها الأدبية في حد ذاتها، فروايته محب مثلا ما تزال تقف بوصفها واحدة من أهم الأعمال الروائية التي قرأتها على الإطلاق.
وأخيرا أضم صوتي إلى الآخرين الذين طالبوا الشاعر جرجس شكري المسئول عن النشر في الثقافة الجماهيرية بالتصدي لهذه المهمة ونشر أعمال الجمل الكاملة، وكلها في حوزة الزميلة عائشة المراغي.


أعلى