أتنبّه إلى أنّ مقاعد المتنزّهين قريبة من بعضها بعضًا، كيف نسيتُ هذا؟ ولعلمي أنّ الناس تستهويهم مراقبة بعضهم بعضًا، أتوتّر، وأُعيد شفرة الحلاقة بهدوء إلى حقيبة حاسوبي المحمول، بعد أن كنتُ سحبتها منها منذ ثوانٍ. كفّاي المبقّعتان بالحروق كافيتان وحدهما للفت الأنظار؛ فكيف بهما إن حملتا شفرة حلاقة في متنزّه عامّ!
أستغرق دقائقي الأولى هنا محدّقًا في الواجهة الزجاجيّة للبناية الشاهقة، البادية من خلف سور الحديقة. يخطف بصري الانعكاس المتلألئ لأبنية المدينة على مرايا الواجهة، انعكاس يبدو مثل لوحة عملاقة تثير فيّ انطباعًا سُرياليًّا. في المرايا العليا تنعكس زُرقة سماء صافية، بينما تكتظّ المرايا الأقلّ ارتفاعًا بانعكاسات البناء الأبيض الحديث، المقام على أنقاض القديم المجرَّف.
بينما أمعن بصري فيه، يختفي ما حوله من بؤرة نظري، ويبقى الانعكاس وحده معلّقًا أمامي هنيهات، قبل أن ينقلب في مخيّلتي رأسًا على عقب. أعجز عن وقف دورانه مئة وثمانين درجة في ذهني، أعجز عن كبح جماح مخيّلتي من أن تحوّل الزرقة السماويّة إلى صفحة بحر، وتغرق أسطح البنايات رأسيًّا فيها، وبينما لا يزال وسواس العبث بالشفرة يتدفّع في خاطري، تسقط ذاكرتي في دوّامة تسحبها إلى البدايات...
*****
كان آخر ما يمكن أن يخطر ببالي، وأنا أوقّع بفخرٍ ديواني الشعريّ الثاني قبل سنتين، أنّ هذه هي الفسحة الأخيرة لي في مرابع الشعر. مدّت - حينئذٍ - السيّدة حوراء نسخة من الديوان أمامي على منضدة التوقيع، تمتدح ما أكتب؛ طيّرني مديحها السخيّ في منطاد النشوة لحظاتٍ قليلة، قبل أن يُثقب المنطاد وأهوي في سابع أرض؛ فقد تكشّف لي أنّ إطراء السيّدة كان لغاية، ليست فقط أنّها لا تقترب من غاياتي الشعريّة، بل توشك أن تنسفها.
"لعلّ هذه الموهبة لا تذهب سُدًى على الرفوف"، قالت بابتسامة ملطّخة بالكثير من أحمر الشفاه، أوحت إليّ بالخير الوفير، ثمّ غمزتني بعين مدرَّبة، وطلبت إليّ موافاتها إلى دار النشر الّتي تديرها، في الوقت الّذي يناسبني.
دار النشر الّتي تديرها! هذه آخر دار نشر كنت أفكّر يومًا في صعود سلالمها. لكنّني أنا الشاعر الباحث عن صدًى لقصيدتي ولم أجده، العريس المُعدَم الموحل بالديون، لم يتطلّبني الأمر أكثر من شهرَي غبار تكدّسا على ديواني الجديد في المكتبات، كي أعلم أنّه يسير على خطى سابقه، فأفقد الأمل بغاياتي، وأصدّق أحمر شفاهها الوفير، وأُسارع زاحفًا على سلالم السيّدة حوراء، في واحدة من هذه العمارات البيضاء الشاهقة.
في زيارتي الأولى لها جلستُ ذاويًا؛ قهر مسموم غلى في بطني مؤخّرًا، ثمّ استقرّ راكدًا فيه قبل أن يتلقّفني هذا المقعد الوثير. تصاعد الغثيان عمودَ دخان، من قاع معدتي إلى حنجرتي فرأسي، ولم تتوقّف أصابعي عن العبث بالقماش المبطّن لجيبَي بنطالي طوال جلوسي.
وقفت السيّدة حوراء تفتّش بحماسة في رفوف مكتبيّة، تمتدّ إلى ارتفاع مترين من الحائط، ونظري في هذه الأثناء يتلمّس طريقه بصعوبة، إلى عناوين الكتب على جانبَي عجيزتها الهائلة. سحبتْ كتبًا عدّة، وبعبارات منمّقة كما فِخاخ سحريّة، استفاضت في شرحها لي عن فنّيّات الكتابة للمراحل الفتيّة من الأعمار. حدّثتني عن شخصيّة الطفل واهتماماته، وبشّرتني بما يسدّ الرمق في سوق الكتابة هذا... بينما أنا، وطوال شرحها، لم تفارق رأسي فكرة واحدة: أنّ الرفوف المقابلة مكتظّة بما لم ولن يراودني الفضول يومًا لتصفّحه.
أربكتني حالتي كيفما أدرتها في عقلي، لم أقتنع لحظة بأنّ مكاني هنا، إنّني كقطعة نافرة، تستحلّ غير مكانها، في لعبة تركيب الصور. بُحت لحوراء ببعضٍ من هواجسي فطمأنتني؛ قالت إنّ موهبة الكتابة أصيلة لديّ، وهذا هو المهمّ، إذ أستطيع تطويعها نثرًا وشعرًا كيفما أشاء. جانب من نفسي رغب في تصديقها؛ فإلى جانب بضعة قروش، أردت النجاة بيمامتي من غيلان السوق الّتي تبتلع يمام الشعر، وتبتلعها قصص الأطفال! قلت أُخفي يمامتي في جعبة قصّة حينًا من الوقت؛ فيشتدّ عودها، فلا تقوى عليها الغيلان.
*****
أُطالع المتنزّهين يتقلّبون في جوّ نديّ شفّاف، في حين تتقلّب في داخلي عوالم مضغوطة، تحاول التحرّر فلا تستطيع. لا يمامة شِعري، الّتي لطالما حلّقت في هذه العوالم، بقادرة على الرفّ بجناحيها ثانيةً فيها، ولا أجد في هذه العوالم، من أقصاها إلى أقصاها، متّسعًا بعدُ لحكاية أطفال. أشعر بساعدَيّ يتيبّسان، هما الساعدان ذاتهما اللذان عبرتهما الأشعار جسرًا إلى الفضاء، مرارًا وتكرارًا، في ما مضى. كانت اليمامة، إن رفّت بجناحيها بين جوانحي، أفلتت البحور من منابعها، واندفعتْ تموج في شرايين ساعديّ، متدفّقةً من رؤوس أصابعي إلى الأوراق البيض. اليمامة هامدة الآن، والساعدان يتصلّبان، أتراني أصْدُق هذه المرّة مع نفسي، فأغلق حاسوبي وأغادر هذه الساحة إلى الأبد، بساعدين غير مُدمَيَين وكفّين بريئين من الحروق؟
*****
قبل أن أكتب قصّتي الأولى، قرأت كلّ القصص الّتي أعارتنيها حوراء، قصص يُفترض بها أن توقظ الطفل في داخلي - كما قالت - وتقرّبني إلى عالم الصغار. قبل القراءة وتّرتني فكرة الاقتراب إلى هذا العالم، وبعد القراءة اشتدّ هذا التوتّر. كلّما خططت كلمة محوتها، كلّما هبط إلى مخيّلتي مشهد تساءلت: "أكان يصلح لطفلٍ أم لا؟"، قبل أن أقرّر استبدال آخر به...
الفضاء اللانهائيّ الّذي اعتدت الطيران والشقلبة فيه، بانسيابيّة لاعب جمباز، كلّما كتبت الشعر، صار في هذه الكتابة الجديدة يتحوّل إلى ساحة من التردّد، أتجمّد في وسطها خشية التعثّر، مرعوب من التقدّم سنتيمترًا واحدًا في أيّ اتّجاه. في محاولاتي الأولى، مرّات كثيرة كنت أفقد الاهتمام، وأقرّر الانسحاب من هذا الحقل الملغَّم، لكنّ حوراء كانت تفقد أعصابها في كلّ واحدة من هذه المرّات، أثناء إصرارها على زرع شيء من المبالاة في نفسي؛ فتعيدني إلى المحاولة مجدّدًا.
وفي غمرة دهشتي، أمام إصرارها على تشغيلي في هذا الصنف من الكتابة، سألتها مرّة أن تكشف لي، من غير مراوغة ولا دوران، سبب هذا الإصرار، فقالت: "لأنّ لك جمهورًا في سوق الكتابة"، في هذه اللحظة أوشكتْ أن تفلت منّي قهقهة، كانت ستقتلني من شدّتها لو أنّها أفلتت، فأسرعتُ وكتمتها، كونها طريقة غير مشرّفة أُنهي بها حياتي. لَعَمرُها، أيّ جمهور للكتابة تقصد هذه، والمطبوعات على الرفوف ما فتئت تناطح بعضها بعضًا تثاؤبًا؟ إلّا إن كانت تعني بهذا الجمهور بضعة من مقاهي الشعراء، المشمئزّين من بطالتهم، وسط البلد.
في ذلك الوقت من البدايات، وحوراء ترى ما بي من تخبّط وتقطّع للوحي، في هذا اللون الجديد عليّ من الكتابة، اقترحتْ أن أرافقها إلى حفلة في إحدى رياض الأطفال، فقلت: "نجرّب".
*****
أحاول انتشال نفسي من خنقة الذكريات، لكنّ مراقبتي لكلّ هذه الأعداد من الأطفال في الحديقة لا تساعد في هذا. ذكريات رياض الأطفال بالذات تخنقني أكثر من سواها، ولا يفيدني تذكّر كلّ تبريرات حوراء، لِما كنّا نقوم به في تلك الرياض؛ فنوايانا لم تكن مخلصة لفرح أولئك الصغار، وكفى.
لا تزال زيارتي الأولى إليهم يرتدّ صداها في قاع جمجمتي، كأنّما حدثت أمس...
*****
برعشة في الأطراف، لا تليق بمَنْ يهوى الإبحار إلى هذا العالم الجديد، جلستُ مع حوراء بين الأطفال وأمّهاتهم. كانت هذه هي المرّة الأولى الّتي أعود فيها إلى روضة أطفال، بعد تخرّجي الغابر فيها. تصالبت عشرة مزاليج في إطباقها على قلبي، وأنا أدقّق في تفاصيل المكان ومَنْ فيه. وإذ كنت أفعل هذا، كانت عواصف الاغتراب تنأى بدواخل نفسي عمّا حولي؛ فينقطع كلّ أمل لي بالتقارب مع هذه البيئة الطفوليّة. بدا لي كأنّما أدرك الأطفال - بحدسهم الفطريّ الصافي - تطفّلي وفجاجة وجودي بينهم؛ فظلّوا يحدجونني بنظرات مستغرِبة يرافقها صمت حذِر، وفي هدأة صمتهم ذاك، لم أستطع إلّا أن أسمع ازدراءً باردًا يلسع ضميري، إذ يهمس لي: "قُبّحْتَ مِنْ كائن".
قدّمتني حوراء إلى الأطفال وأمّهاتهم ومربّيات الروضة، في حفلة عيد الأمّ، على أنّني كاتب للأطفال، رغم أنّني إلى حينئذٍ، لم أكن قد أتممت لهم نصًّا واحدًا. وأحبّت المرأة أن تُكْرِمَ بالعِيار حبّتين؛ فعبّرت للحضور عن شغفي – أنا المتصنّم أمامهم كحائط - بمجاورة الأطفال واللعب معهم لاستلهام القصص.
وَيْحَها! كم دلّستْ! بقيتُ ساكتًا أتمنّى لو بإمكاني كفّ سمعي عمّا تقول، أفتعل ابتسامةً أُخفي من تحتها توقًا إلى التقيّؤ على نفسي، وعلى المتحدّثة الكريمة. الشغف بمجاورة الصغار خاصّ بمَنْ يفهمهم، وأنا لا أفهمهم، ليس من لغة مشتركة بيننا، ووجودي بينهم كان ضحكًا على الذقون، لكنّ هذا التدليس غير المتّفق عليه مسبقًا بيننا، هو من بنات أفكار حوراء، وآه من حوراء... عندما يتعلّق الأمر بالسعي في تحقيق أهدافها، مستعدّة لتتحوّل إلى خيّاطة أكاذيب.
قبل أن يُزَجّ بي في كابوس المواجهة العارية مع الأطفال، كنت أتمعّن في تحوّط الأمّهات حول حوراء، خلال مقدّمتها الرنّانة الّتي حفّزت حواسهنّ، وبثّت التشويق في احتفالهنّ المملّ، أو هكذا ظننته. يا لموهبتها في التزحلق على أمواج الأحاديث كلّها، ولا سيّما ما يتعلّق منها بعالم الأطفال! أبدت الأمّهات حماسة لفتح مساحات نقاش لا تنتهي معها، وهي لم تعدم حديثًا معهنّ؛ فإن لم يتحدّثن حول قصص الأطفال، يتحدّثن حول الأطفال أنفسهم، وإن لم يفعلن هذا أو ذاك، يتحدّثن حول أنفسهنّ وعلاقتهنّ بالأطفال. سمعتها وهي تعطي إحدى الأمّهات وصفة طبّيّة بخصوص طفلها: "انقطي له الزيت في سرّته، ودلّكيها"، وفي مرّة أخرى تُطمئن أمًّا ثانية، بشأن سلوك مضطرب لطفلتها: "هذا طبيعيّ، لا تخافي، كلّها حاجات نفسيّة للطفل". سرعان ما أدركتُ أنّها فنّانة في ادّعاء المعرفة، والاستحواذ على انتباه مَنْ حولها، وأنّ هذا هو مبدأ صنعتها، بل إستراتيجيّتها في ترويج شخصها أوّلًا ومطبوعاتها ثانيًا.
في هذه الأثناء، وددت لو أقدر على كسر لوح الصمت البارد بيني وبين الصغار، أقلُّها، حفظًا لماء وجهي، بعد الصورة الودودة الّتي رسمتها لي حوراء أمامهم. أصابني تحديقهم المستمرّ بالحرَج، عرفتُ أنّهم يتوقّعون منّي مزحة أو مداعبة، مثلما اعتادوا عليه من البالغين، لكنّني لم أستطع المبادرة بتلبية توقّعاتهم. كانت حوراء ترشقني بنظراتها الخاطفة بين الدقيقة والأخرى، فهمتُ أنّها تحثّني على مخالطة الصغار، لكنّني تظاهرت بعدم الفهم، وتركتها بين النساء تتقلّى من بلادتي، كدودة في مقلاة، وحين ظننت أنّني سأتركها لمجابهة الموقف وحيدةً وأنفذ بجلدي، أتاني ما خشيته...
تقدّم ابن الخامسة إليّ، بعينين متّقدتين، يخطو ببطء، قال: "هل ينفع أن تكتب لي قصّة؟"؛ طرفتْ عيني إلى حوراء، فوجدتُ ملامحها ترقص غبطةً، بعد أن سمعتْ الصغير، أجبتُ الولد مصطنعًا مودّة مبالغًا فيها: "عمّ تحبّ أن أكتب لك؟".
- "عن أيّ شيء ...".
- "لا ينفع هكذا، يجب أن تطلب موضوعًا محدّدًا ...".
وهبّت حوراء في هذه اللحظة إلينا، كأنّما تسعى إلى إنقاذ الحوار، الّذي كنتُ أعتقد أنّني أُبلي حسنًا فيه. وسّعت عينيها وبالغت في فغر ابتسامتها، وهي تسأل الولد بلهجة طفوليّة محبّبة: "أتحبّ أن يكتب لك صديقنا سامر، قصّة عن نونو الّذي يكره الحليب على الفطور؟"، فردّ الماكر، وغمرني إحساس بأنّه يتعمّد في هذه اللحظات إذلالي: "لا، أريد أن يكتب لي قصّة، عن العصفور الّذي يهوى مرمغة جناحيه في روث الأحصنة". للمفارقة، وممّا فاجأني من نفسي، أنّني استطعتُ في ما بعد تطوير فكرة المرمغة هذه، لتصبح قصّتي الأولى للأطفال، والّتي كنت من قبلها أنوي سحب خطوتي من هذا "الكار"، إلى الخلف بهدوء.
بعد أن قلّمت مخالب لغتي، نقّيتها من الموبقات، حتّى ما عدت أتعرّفها، وكتبت قصّتي الأولى للأطفال، لم يمضِ وقت طويل، حتّى ألحقت الثانية بها فالثالثة. ويمامة قصائدي أثناء هذا تُواصل اختباءها من جعبة قصّة إلى أخرى. إن رفّت بجناحيها هدهدتُها، إن أفلتت بحور الشعر من منابعها، واندفعتْ في شرايين ذراعيّ، موشكةً أن تتدفّق من رؤوس أصابعي إلى أزرار الحاسوب، حبَسَها قنوط ثقيل، جمّدها في مكانها، لم يُخلِ لها السبيل. وكأنّ هذه الأصابع، الّتي باتت تتحالف مع مطالب حوراء، أعجبها ملمس الورقات الخضر؛ فأغلقت المرور أمام سُبُل اليمامة الفقيرة بالمتاريس.
أمّا مخالطة الأطفال في أماكن تجمّعاتهم فظلّت إستراتيجيّة ناجحة لي، في تعرّف اهتماماتهم وطرائق تفكيرهم لاستيحاء القصص، لكنّ أزمتي الأوّليّة بقيت طوال هذا الوقت على حالها؛ فقد كنت أبذل في مخالطتهم طاقة أقوى من احتمالي، أتصنّع المتعة في استكشاف عالمهم، إلى أن بدأ قناع التصنّع يرهقني...
*****
هأنذا مستغرق في مراقبة الأطفال في المتنزّه، مثلما علّمتني حوراء أن أفعل كلّما جافاني الإلهام؛ فلا أعود أرى فيهم سوى كُتَل مجهولة مبهمة على الفهم. عاد الصقيع يتغلّب على مشاعري نحوهم، بعد أن نجحت في تذويبه سنتين كاملتين، مدّةً استطعت خلالها التفاعل بالحدّ الأدنى معهم، وكتابة عدد من القصص لهم.
أراني أنتكس من جديد في علاقتي بهؤلاء الصغار، والظاهر أنّني سئمت إقناع نفسي بأنّ لديّ اكتراثًا جادًّا بمُجريات عالمهم. لماذا الخداع؟ قد أستلطفهم كزوّار يجلسون بتهذيب إلى جانب ذويهم، لا ينطقون ولا يتحرّكون، أو كمارّين من جانبي على الرصيف، أيضًا بصحبة ذويهم، من غير همس ولا تحديق، مسافة أقرب من هذه إليهم، ومن غير وسيط، تصيبني بالدوار.
ساعة أخرى تمضي وأنا أنقّل بصري في المتنزّه، وشاشة الحاسوب في حِجري لا تزال على بياضها، أحدّق فيها فتزغلل عينيّ، ثمّ يغشى البياض كلّ ما حولي هنيهة. صيحات الأطفال المتراكضين هنا وهناك لا تفعل شيئًا، سوى أن تشتّت تركيزي، أقرّر رفع هاتفي والاتّصال بحوراء...
- أهلًا يا باشا، طمئنّي.
- ها أنا في المتنزّه، لم تختلف هذه الزيارة عن آخر زيارتين.
- إذن، لمْ تكتب؟
- لم أكتب حرفًا، وأظنّني سئمتهم تمامًا.
- مَنْ تقصد؟
- الأطفال.
- اخفض صوتك يا مجنون، هل من أناس حولك؟
- كلّ الناس حولي.
- إن كان أحدهم يعرفك، وسمعك تتحدّث عن الأطفال بهذا الشكل، فسينتهي مستقبلك كاتب أطفال، أتعلم؟
فلينتهِ.
- كيف بمقدوري مساعدتك هذه المرّة؟ اسمع، أتجرّب أن تكتب للناشئة؟
- تقولين: الناشئة؟ فليذهب الناشئة إلى...
أنتبه إلى فتيات بجواري، وقد صمتن يتنصّتن على كلامي؛ فأُصحّح باقي جُملتي: إلى جنّةٍ عرضُها السماوات والأرض.
- وووووف! أنا مشغولة الآن، نتحدّث لاحقًا، سلامًا.
- سلامًا.
ثوانٍ قليلة تمرّ قبل أن تعاودني باتّصال، يبدو صوتها فيه متردّدًا وجِلًا:
- تحمّلني بهذا السؤال، عزيزي، أتشعر بأنّ لهذا الأمر علاقة بكونك لمّا تُنجب حتّى الآن؟
- هه! بأشدّ الصدق أقول لكِ: لا أشعر بعلاقة بين الأمرين، ولا أظنّني سأكون تعيسًا إن لم أحظَ بطفل مدى الحياة.
- غير معقول أنت يا سامر! تُشعرني أحيانًا بأنّك بحاجة إلى مصحّة نفسيّة؛ الطفل ليس تحفة فنّيّة قد تستلطفها أو لا، ثمّة عاطفة غائرة في تكوينك، تحبّب الأطفال إلى نفسك...
أتردّد؛ إنّها تُحرجني حقًّا، وتُشعرني بأنّني صُبّة أسمنتيّة في هيئة بشريّة.
- أنا لا أقول إنّني أكرههم، بل إنّني مجرّد شخص - اعتبريني يا سيّدتي، من مصحّة مجانين - لا يملك أيّ فضول تجاههم.
يا لها من مصيبة؛ أن أتلقّى تأمّلات مريضة كهذه من شاعر وكاتب أطفال! اسمعني جيّدًا، أنا الّتي سئمت تقاليعك المزاجيّة، بيننا عقد تسلّمني بموجبه سلسلة من عشر قصص، بقي عليك من العشر اثنتان، تنتهي منهما، ولتخطفك القرود بعدها...
- ......
- ألو! ... أما زلت على الخطّ؟
- ألم تقولي إنّك مشغولة؟
تُقفل الخطّ في وجهي، هي في الغالب الآن تلعن جدودي، مثلما ألعن جدودها. أُشعل سيجارة، وأبدأ بالتساؤل عن الوقت الّذي أصبح الأطفال فيه مهمّين إلى هذا الحدّ! كنت في يوم ما طفلًا في روضة، تقرأ له مربّيته القصص، لكنّني لا أذكر أنّ جمهرة من الكتّاب، على شاكلتنا نحن فريق حوراء، كان يتوالى أفرادها في زيارتنا، وتسجيل اهتماماتنا وحواراتنا في مفكّراتهم، وكأنّهم مفتّشون حكوميّون.
تنتابني رغبة ملعونة في أن أُربض علّة في قلبها، ولا أُكمل كتابة السلسلة لها، ولتغرز رأس الدبّوس الّذي بين منكبيها في الطين، ولأحرمها شيئًا من سَكرة الاختيال الفارغ، الّذي تسعى وراءه عندما ترتاد محافلنا نحن الكتّاب بكعبها اللابوتين، نافشةً ريشها كالطاووس، وهي تُعلن للملأ أنّ نصف الحاضرين يعملون لحسابها.
أحضّر هاتفي، أريد قذف قنبلة قراري لها في رسالة، أتذكّر فجأةً صديقي الشاعر، الّذي أخلص عمره لقصيدته. لقد فضحته زوجته مؤخّرًا بين الأمم، فعلتْ هذا في اليوم الّذي احتفى فيه على صفحته بالفيسبوك، بصدور ديوانه الخامس؛ علّقتْ له: "لقد خربتَ بيتنا أيّها الجميل"، قبل أن تطلب الطلاق. لقد بات في هذه المرحلة الرذيلة من العمر، يعيش صدمة اكتشافه أنّه توجّب عليه منذ خمس عشرة سنة، توطيد علاقته بناشر سلسلة "فُلّة ومغامرات الربيع". يا للحياة عندما تدلع لك لسانها مثل طفل وقح! أدسّ الهاتف ثانيةً في جيبي، وأبصق قهرًا.
ها هي تعاود الاتّصال للمرّة الثالثة!
- ماذا؟ هل نسيتِ شتيمة؟
- بحقّ الخبز والملح الّذي بيننا أن تجيبني بصراحة، ألستَ تتقوقع الآن على الحاسوب كالسلحفاة، وتراقب الأطفال من بعيد؟
- بلى.
ويندفع صراخها عبر السمّاعة يزلزل كينونتي السلحفاتيّة: تحرّك، واندمج فيهم! كم مرّة عليّ أن أكرّر هذا الكلام؟ كيف سيواتيك الإلهام من غير الحديث إليهم؟ تقدّم إلى حيث يلعبون، اخلع عنك دروعك الّتي تحملها، وألقِ بنفسك في الرمل معهم، اعفره على ملابسك، ارقص فيه، تحرّر من عُقَدك البائسة، وعُد طفلًا بينهم...
- حسنًا.
- أتعدني أن تفعل؟
- نعم.
- الآن؟
- الآن.
- دعنا نرى إذن، سلامًا!
- سلامًا.
تريدني أن أخلع دروعي، وأتحرّر من عُقَدي، وأرقص في الرمل! ههه، هذا تحديدًا ما كنت أفعله عندما أطفش في براري الشعر. الشعر... الشعر... أتذكّر يمامتي الّتي فقدتها في جعبة إحدى قصص الأطفال؛ فيبدأ الحنين ينازع السيجارة في يدي إلى مصير أخواتها، أقلّب عاليها سافلها بين أصابعي، وأبدأ بدقّها: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، على أصابعي، على ظاهر كفّي اليُسرى وباطنها، أفعل باليد اليُمنى ما فعلت بأختها. مُسِنّان على مقعد مقابل، تجحظ عيونهما وهما يراقبان ما أفعل؛ فليجحظا بقدر ما يشاءان، فسأجعل من جحوظ الجاحظين في تقاليعي المزاجيّة - على رأيها - آخر اكتراثي من الآن فصاعدًا؛ فما الّذي يجعلني آبه، ما دام الضمير نفسه لا تجحظ عيناه، وهو يشاهد صاحبه يُطفئ السجائر في جلد يديه؟
ثلاث ساعات تمضي على جلستي ذاتها في المتنزّه، يمور الأسى خلالها في نفسي، كما يمور زيتٌ كدِر في قِدر فوق النار. وكأنّ دائرة الزمن تدور بي؛ فتعيدني إلى جلوسي الأوّل على مقعد حوراء الوثير. يركد الزيت الحارّ في قاع بطني، ويُحيلني إلى جثّة هامدة عن المقاومة. أرفع نظري ثانيةً إلى المرايا الشاهقة خلف سور الحديقة، لا، أنا لم أكن أتخيّل هذا! الزرقة السماويّة في الأسفل حقًّا! والبنايات تغرق رأسيًّا فيها. بطني يقرقع، أحسّ بهذا؛ إذن، هي قادمة... الكلمات الأولى تفقس كالفقاقيع في حرارة الزيت الكدِر؛ فتُسارع أصابعي الخائنة إلى نقرها على أزرار الحاسوب. الصفحة البيضاء في الشاشة أمامي تتنمّش سوادًا شيئًا فشيئًا. القصّة التاسعة من السلسلة في مخاض الولادة القيصريّة، هانت، انبسطي يا حوراء. أعرف أنّني لست بخير؛ شعور اعتدت عليه في مثل هذه اللحظات. الشفرة، أمدّ يدي في حقيبة الحاسوب وأسحبها، أكشف عن ساعديّ المُدمَيَين. اجحظا أيّها المُسِنّان إن كان باستطاعتكما رؤية هذه الجراح القديمة الداكنة، وإن كنتما لا تريانها، فلكما أن تريا الجديدة وأنا أحزّها بالشفرة، وأراقب الدم ينزّ منها قطرة تزهد بقطرة.
أستغرق دقائقي الأولى هنا محدّقًا في الواجهة الزجاجيّة للبناية الشاهقة، البادية من خلف سور الحديقة. يخطف بصري الانعكاس المتلألئ لأبنية المدينة على مرايا الواجهة، انعكاس يبدو مثل لوحة عملاقة تثير فيّ انطباعًا سُرياليًّا. في المرايا العليا تنعكس زُرقة سماء صافية، بينما تكتظّ المرايا الأقلّ ارتفاعًا بانعكاسات البناء الأبيض الحديث، المقام على أنقاض القديم المجرَّف.
بينما أمعن بصري فيه، يختفي ما حوله من بؤرة نظري، ويبقى الانعكاس وحده معلّقًا أمامي هنيهات، قبل أن ينقلب في مخيّلتي رأسًا على عقب. أعجز عن وقف دورانه مئة وثمانين درجة في ذهني، أعجز عن كبح جماح مخيّلتي من أن تحوّل الزرقة السماويّة إلى صفحة بحر، وتغرق أسطح البنايات رأسيًّا فيها، وبينما لا يزال وسواس العبث بالشفرة يتدفّع في خاطري، تسقط ذاكرتي في دوّامة تسحبها إلى البدايات...
*****
كان آخر ما يمكن أن يخطر ببالي، وأنا أوقّع بفخرٍ ديواني الشعريّ الثاني قبل سنتين، أنّ هذه هي الفسحة الأخيرة لي في مرابع الشعر. مدّت - حينئذٍ - السيّدة حوراء نسخة من الديوان أمامي على منضدة التوقيع، تمتدح ما أكتب؛ طيّرني مديحها السخيّ في منطاد النشوة لحظاتٍ قليلة، قبل أن يُثقب المنطاد وأهوي في سابع أرض؛ فقد تكشّف لي أنّ إطراء السيّدة كان لغاية، ليست فقط أنّها لا تقترب من غاياتي الشعريّة، بل توشك أن تنسفها.
"لعلّ هذه الموهبة لا تذهب سُدًى على الرفوف"، قالت بابتسامة ملطّخة بالكثير من أحمر الشفاه، أوحت إليّ بالخير الوفير، ثمّ غمزتني بعين مدرَّبة، وطلبت إليّ موافاتها إلى دار النشر الّتي تديرها، في الوقت الّذي يناسبني.
دار النشر الّتي تديرها! هذه آخر دار نشر كنت أفكّر يومًا في صعود سلالمها. لكنّني أنا الشاعر الباحث عن صدًى لقصيدتي ولم أجده، العريس المُعدَم الموحل بالديون، لم يتطلّبني الأمر أكثر من شهرَي غبار تكدّسا على ديواني الجديد في المكتبات، كي أعلم أنّه يسير على خطى سابقه، فأفقد الأمل بغاياتي، وأصدّق أحمر شفاهها الوفير، وأُسارع زاحفًا على سلالم السيّدة حوراء، في واحدة من هذه العمارات البيضاء الشاهقة.
في زيارتي الأولى لها جلستُ ذاويًا؛ قهر مسموم غلى في بطني مؤخّرًا، ثمّ استقرّ راكدًا فيه قبل أن يتلقّفني هذا المقعد الوثير. تصاعد الغثيان عمودَ دخان، من قاع معدتي إلى حنجرتي فرأسي، ولم تتوقّف أصابعي عن العبث بالقماش المبطّن لجيبَي بنطالي طوال جلوسي.
وقفت السيّدة حوراء تفتّش بحماسة في رفوف مكتبيّة، تمتدّ إلى ارتفاع مترين من الحائط، ونظري في هذه الأثناء يتلمّس طريقه بصعوبة، إلى عناوين الكتب على جانبَي عجيزتها الهائلة. سحبتْ كتبًا عدّة، وبعبارات منمّقة كما فِخاخ سحريّة، استفاضت في شرحها لي عن فنّيّات الكتابة للمراحل الفتيّة من الأعمار. حدّثتني عن شخصيّة الطفل واهتماماته، وبشّرتني بما يسدّ الرمق في سوق الكتابة هذا... بينما أنا، وطوال شرحها، لم تفارق رأسي فكرة واحدة: أنّ الرفوف المقابلة مكتظّة بما لم ولن يراودني الفضول يومًا لتصفّحه.
أربكتني حالتي كيفما أدرتها في عقلي، لم أقتنع لحظة بأنّ مكاني هنا، إنّني كقطعة نافرة، تستحلّ غير مكانها، في لعبة تركيب الصور. بُحت لحوراء ببعضٍ من هواجسي فطمأنتني؛ قالت إنّ موهبة الكتابة أصيلة لديّ، وهذا هو المهمّ، إذ أستطيع تطويعها نثرًا وشعرًا كيفما أشاء. جانب من نفسي رغب في تصديقها؛ فإلى جانب بضعة قروش، أردت النجاة بيمامتي من غيلان السوق الّتي تبتلع يمام الشعر، وتبتلعها قصص الأطفال! قلت أُخفي يمامتي في جعبة قصّة حينًا من الوقت؛ فيشتدّ عودها، فلا تقوى عليها الغيلان.
*****
أُطالع المتنزّهين يتقلّبون في جوّ نديّ شفّاف، في حين تتقلّب في داخلي عوالم مضغوطة، تحاول التحرّر فلا تستطيع. لا يمامة شِعري، الّتي لطالما حلّقت في هذه العوالم، بقادرة على الرفّ بجناحيها ثانيةً فيها، ولا أجد في هذه العوالم، من أقصاها إلى أقصاها، متّسعًا بعدُ لحكاية أطفال. أشعر بساعدَيّ يتيبّسان، هما الساعدان ذاتهما اللذان عبرتهما الأشعار جسرًا إلى الفضاء، مرارًا وتكرارًا، في ما مضى. كانت اليمامة، إن رفّت بجناحيها بين جوانحي، أفلتت البحور من منابعها، واندفعتْ تموج في شرايين ساعديّ، متدفّقةً من رؤوس أصابعي إلى الأوراق البيض. اليمامة هامدة الآن، والساعدان يتصلّبان، أتراني أصْدُق هذه المرّة مع نفسي، فأغلق حاسوبي وأغادر هذه الساحة إلى الأبد، بساعدين غير مُدمَيَين وكفّين بريئين من الحروق؟
*****
قبل أن أكتب قصّتي الأولى، قرأت كلّ القصص الّتي أعارتنيها حوراء، قصص يُفترض بها أن توقظ الطفل في داخلي - كما قالت - وتقرّبني إلى عالم الصغار. قبل القراءة وتّرتني فكرة الاقتراب إلى هذا العالم، وبعد القراءة اشتدّ هذا التوتّر. كلّما خططت كلمة محوتها، كلّما هبط إلى مخيّلتي مشهد تساءلت: "أكان يصلح لطفلٍ أم لا؟"، قبل أن أقرّر استبدال آخر به...
الفضاء اللانهائيّ الّذي اعتدت الطيران والشقلبة فيه، بانسيابيّة لاعب جمباز، كلّما كتبت الشعر، صار في هذه الكتابة الجديدة يتحوّل إلى ساحة من التردّد، أتجمّد في وسطها خشية التعثّر، مرعوب من التقدّم سنتيمترًا واحدًا في أيّ اتّجاه. في محاولاتي الأولى، مرّات كثيرة كنت أفقد الاهتمام، وأقرّر الانسحاب من هذا الحقل الملغَّم، لكنّ حوراء كانت تفقد أعصابها في كلّ واحدة من هذه المرّات، أثناء إصرارها على زرع شيء من المبالاة في نفسي؛ فتعيدني إلى المحاولة مجدّدًا.
وفي غمرة دهشتي، أمام إصرارها على تشغيلي في هذا الصنف من الكتابة، سألتها مرّة أن تكشف لي، من غير مراوغة ولا دوران، سبب هذا الإصرار، فقالت: "لأنّ لك جمهورًا في سوق الكتابة"، في هذه اللحظة أوشكتْ أن تفلت منّي قهقهة، كانت ستقتلني من شدّتها لو أنّها أفلتت، فأسرعتُ وكتمتها، كونها طريقة غير مشرّفة أُنهي بها حياتي. لَعَمرُها، أيّ جمهور للكتابة تقصد هذه، والمطبوعات على الرفوف ما فتئت تناطح بعضها بعضًا تثاؤبًا؟ إلّا إن كانت تعني بهذا الجمهور بضعة من مقاهي الشعراء، المشمئزّين من بطالتهم، وسط البلد.
في ذلك الوقت من البدايات، وحوراء ترى ما بي من تخبّط وتقطّع للوحي، في هذا اللون الجديد عليّ من الكتابة، اقترحتْ أن أرافقها إلى حفلة في إحدى رياض الأطفال، فقلت: "نجرّب".
*****
أحاول انتشال نفسي من خنقة الذكريات، لكنّ مراقبتي لكلّ هذه الأعداد من الأطفال في الحديقة لا تساعد في هذا. ذكريات رياض الأطفال بالذات تخنقني أكثر من سواها، ولا يفيدني تذكّر كلّ تبريرات حوراء، لِما كنّا نقوم به في تلك الرياض؛ فنوايانا لم تكن مخلصة لفرح أولئك الصغار، وكفى.
لا تزال زيارتي الأولى إليهم يرتدّ صداها في قاع جمجمتي، كأنّما حدثت أمس...
*****
برعشة في الأطراف، لا تليق بمَنْ يهوى الإبحار إلى هذا العالم الجديد، جلستُ مع حوراء بين الأطفال وأمّهاتهم. كانت هذه هي المرّة الأولى الّتي أعود فيها إلى روضة أطفال، بعد تخرّجي الغابر فيها. تصالبت عشرة مزاليج في إطباقها على قلبي، وأنا أدقّق في تفاصيل المكان ومَنْ فيه. وإذ كنت أفعل هذا، كانت عواصف الاغتراب تنأى بدواخل نفسي عمّا حولي؛ فينقطع كلّ أمل لي بالتقارب مع هذه البيئة الطفوليّة. بدا لي كأنّما أدرك الأطفال - بحدسهم الفطريّ الصافي - تطفّلي وفجاجة وجودي بينهم؛ فظلّوا يحدجونني بنظرات مستغرِبة يرافقها صمت حذِر، وفي هدأة صمتهم ذاك، لم أستطع إلّا أن أسمع ازدراءً باردًا يلسع ضميري، إذ يهمس لي: "قُبّحْتَ مِنْ كائن".
قدّمتني حوراء إلى الأطفال وأمّهاتهم ومربّيات الروضة، في حفلة عيد الأمّ، على أنّني كاتب للأطفال، رغم أنّني إلى حينئذٍ، لم أكن قد أتممت لهم نصًّا واحدًا. وأحبّت المرأة أن تُكْرِمَ بالعِيار حبّتين؛ فعبّرت للحضور عن شغفي – أنا المتصنّم أمامهم كحائط - بمجاورة الأطفال واللعب معهم لاستلهام القصص.
وَيْحَها! كم دلّستْ! بقيتُ ساكتًا أتمنّى لو بإمكاني كفّ سمعي عمّا تقول، أفتعل ابتسامةً أُخفي من تحتها توقًا إلى التقيّؤ على نفسي، وعلى المتحدّثة الكريمة. الشغف بمجاورة الصغار خاصّ بمَنْ يفهمهم، وأنا لا أفهمهم، ليس من لغة مشتركة بيننا، ووجودي بينهم كان ضحكًا على الذقون، لكنّ هذا التدليس غير المتّفق عليه مسبقًا بيننا، هو من بنات أفكار حوراء، وآه من حوراء... عندما يتعلّق الأمر بالسعي في تحقيق أهدافها، مستعدّة لتتحوّل إلى خيّاطة أكاذيب.
قبل أن يُزَجّ بي في كابوس المواجهة العارية مع الأطفال، كنت أتمعّن في تحوّط الأمّهات حول حوراء، خلال مقدّمتها الرنّانة الّتي حفّزت حواسهنّ، وبثّت التشويق في احتفالهنّ المملّ، أو هكذا ظننته. يا لموهبتها في التزحلق على أمواج الأحاديث كلّها، ولا سيّما ما يتعلّق منها بعالم الأطفال! أبدت الأمّهات حماسة لفتح مساحات نقاش لا تنتهي معها، وهي لم تعدم حديثًا معهنّ؛ فإن لم يتحدّثن حول قصص الأطفال، يتحدّثن حول الأطفال أنفسهم، وإن لم يفعلن هذا أو ذاك، يتحدّثن حول أنفسهنّ وعلاقتهنّ بالأطفال. سمعتها وهي تعطي إحدى الأمّهات وصفة طبّيّة بخصوص طفلها: "انقطي له الزيت في سرّته، ودلّكيها"، وفي مرّة أخرى تُطمئن أمًّا ثانية، بشأن سلوك مضطرب لطفلتها: "هذا طبيعيّ، لا تخافي، كلّها حاجات نفسيّة للطفل". سرعان ما أدركتُ أنّها فنّانة في ادّعاء المعرفة، والاستحواذ على انتباه مَنْ حولها، وأنّ هذا هو مبدأ صنعتها، بل إستراتيجيّتها في ترويج شخصها أوّلًا ومطبوعاتها ثانيًا.
في هذه الأثناء، وددت لو أقدر على كسر لوح الصمت البارد بيني وبين الصغار، أقلُّها، حفظًا لماء وجهي، بعد الصورة الودودة الّتي رسمتها لي حوراء أمامهم. أصابني تحديقهم المستمرّ بالحرَج، عرفتُ أنّهم يتوقّعون منّي مزحة أو مداعبة، مثلما اعتادوا عليه من البالغين، لكنّني لم أستطع المبادرة بتلبية توقّعاتهم. كانت حوراء ترشقني بنظراتها الخاطفة بين الدقيقة والأخرى، فهمتُ أنّها تحثّني على مخالطة الصغار، لكنّني تظاهرت بعدم الفهم، وتركتها بين النساء تتقلّى من بلادتي، كدودة في مقلاة، وحين ظننت أنّني سأتركها لمجابهة الموقف وحيدةً وأنفذ بجلدي، أتاني ما خشيته...
تقدّم ابن الخامسة إليّ، بعينين متّقدتين، يخطو ببطء، قال: "هل ينفع أن تكتب لي قصّة؟"؛ طرفتْ عيني إلى حوراء، فوجدتُ ملامحها ترقص غبطةً، بعد أن سمعتْ الصغير، أجبتُ الولد مصطنعًا مودّة مبالغًا فيها: "عمّ تحبّ أن أكتب لك؟".
- "عن أيّ شيء ...".
- "لا ينفع هكذا، يجب أن تطلب موضوعًا محدّدًا ...".
وهبّت حوراء في هذه اللحظة إلينا، كأنّما تسعى إلى إنقاذ الحوار، الّذي كنتُ أعتقد أنّني أُبلي حسنًا فيه. وسّعت عينيها وبالغت في فغر ابتسامتها، وهي تسأل الولد بلهجة طفوليّة محبّبة: "أتحبّ أن يكتب لك صديقنا سامر، قصّة عن نونو الّذي يكره الحليب على الفطور؟"، فردّ الماكر، وغمرني إحساس بأنّه يتعمّد في هذه اللحظات إذلالي: "لا، أريد أن يكتب لي قصّة، عن العصفور الّذي يهوى مرمغة جناحيه في روث الأحصنة". للمفارقة، وممّا فاجأني من نفسي، أنّني استطعتُ في ما بعد تطوير فكرة المرمغة هذه، لتصبح قصّتي الأولى للأطفال، والّتي كنت من قبلها أنوي سحب خطوتي من هذا "الكار"، إلى الخلف بهدوء.
بعد أن قلّمت مخالب لغتي، نقّيتها من الموبقات، حتّى ما عدت أتعرّفها، وكتبت قصّتي الأولى للأطفال، لم يمضِ وقت طويل، حتّى ألحقت الثانية بها فالثالثة. ويمامة قصائدي أثناء هذا تُواصل اختباءها من جعبة قصّة إلى أخرى. إن رفّت بجناحيها هدهدتُها، إن أفلتت بحور الشعر من منابعها، واندفعتْ في شرايين ذراعيّ، موشكةً أن تتدفّق من رؤوس أصابعي إلى أزرار الحاسوب، حبَسَها قنوط ثقيل، جمّدها في مكانها، لم يُخلِ لها السبيل. وكأنّ هذه الأصابع، الّتي باتت تتحالف مع مطالب حوراء، أعجبها ملمس الورقات الخضر؛ فأغلقت المرور أمام سُبُل اليمامة الفقيرة بالمتاريس.
أمّا مخالطة الأطفال في أماكن تجمّعاتهم فظلّت إستراتيجيّة ناجحة لي، في تعرّف اهتماماتهم وطرائق تفكيرهم لاستيحاء القصص، لكنّ أزمتي الأوّليّة بقيت طوال هذا الوقت على حالها؛ فقد كنت أبذل في مخالطتهم طاقة أقوى من احتمالي، أتصنّع المتعة في استكشاف عالمهم، إلى أن بدأ قناع التصنّع يرهقني...
*****
هأنذا مستغرق في مراقبة الأطفال في المتنزّه، مثلما علّمتني حوراء أن أفعل كلّما جافاني الإلهام؛ فلا أعود أرى فيهم سوى كُتَل مجهولة مبهمة على الفهم. عاد الصقيع يتغلّب على مشاعري نحوهم، بعد أن نجحت في تذويبه سنتين كاملتين، مدّةً استطعت خلالها التفاعل بالحدّ الأدنى معهم، وكتابة عدد من القصص لهم.
أراني أنتكس من جديد في علاقتي بهؤلاء الصغار، والظاهر أنّني سئمت إقناع نفسي بأنّ لديّ اكتراثًا جادًّا بمُجريات عالمهم. لماذا الخداع؟ قد أستلطفهم كزوّار يجلسون بتهذيب إلى جانب ذويهم، لا ينطقون ولا يتحرّكون، أو كمارّين من جانبي على الرصيف، أيضًا بصحبة ذويهم، من غير همس ولا تحديق، مسافة أقرب من هذه إليهم، ومن غير وسيط، تصيبني بالدوار.
ساعة أخرى تمضي وأنا أنقّل بصري في المتنزّه، وشاشة الحاسوب في حِجري لا تزال على بياضها، أحدّق فيها فتزغلل عينيّ، ثمّ يغشى البياض كلّ ما حولي هنيهة. صيحات الأطفال المتراكضين هنا وهناك لا تفعل شيئًا، سوى أن تشتّت تركيزي، أقرّر رفع هاتفي والاتّصال بحوراء...
- أهلًا يا باشا، طمئنّي.
- ها أنا في المتنزّه، لم تختلف هذه الزيارة عن آخر زيارتين.
- إذن، لمْ تكتب؟
- لم أكتب حرفًا، وأظنّني سئمتهم تمامًا.
- مَنْ تقصد؟
- الأطفال.
- اخفض صوتك يا مجنون، هل من أناس حولك؟
- كلّ الناس حولي.
- إن كان أحدهم يعرفك، وسمعك تتحدّث عن الأطفال بهذا الشكل، فسينتهي مستقبلك كاتب أطفال، أتعلم؟
فلينتهِ.
- كيف بمقدوري مساعدتك هذه المرّة؟ اسمع، أتجرّب أن تكتب للناشئة؟
- تقولين: الناشئة؟ فليذهب الناشئة إلى...
أنتبه إلى فتيات بجواري، وقد صمتن يتنصّتن على كلامي؛ فأُصحّح باقي جُملتي: إلى جنّةٍ عرضُها السماوات والأرض.
- وووووف! أنا مشغولة الآن، نتحدّث لاحقًا، سلامًا.
- سلامًا.
ثوانٍ قليلة تمرّ قبل أن تعاودني باتّصال، يبدو صوتها فيه متردّدًا وجِلًا:
- تحمّلني بهذا السؤال، عزيزي، أتشعر بأنّ لهذا الأمر علاقة بكونك لمّا تُنجب حتّى الآن؟
- هه! بأشدّ الصدق أقول لكِ: لا أشعر بعلاقة بين الأمرين، ولا أظنّني سأكون تعيسًا إن لم أحظَ بطفل مدى الحياة.
- غير معقول أنت يا سامر! تُشعرني أحيانًا بأنّك بحاجة إلى مصحّة نفسيّة؛ الطفل ليس تحفة فنّيّة قد تستلطفها أو لا، ثمّة عاطفة غائرة في تكوينك، تحبّب الأطفال إلى نفسك...
أتردّد؛ إنّها تُحرجني حقًّا، وتُشعرني بأنّني صُبّة أسمنتيّة في هيئة بشريّة.
- أنا لا أقول إنّني أكرههم، بل إنّني مجرّد شخص - اعتبريني يا سيّدتي، من مصحّة مجانين - لا يملك أيّ فضول تجاههم.
يا لها من مصيبة؛ أن أتلقّى تأمّلات مريضة كهذه من شاعر وكاتب أطفال! اسمعني جيّدًا، أنا الّتي سئمت تقاليعك المزاجيّة، بيننا عقد تسلّمني بموجبه سلسلة من عشر قصص، بقي عليك من العشر اثنتان، تنتهي منهما، ولتخطفك القرود بعدها...
- ......
- ألو! ... أما زلت على الخطّ؟
- ألم تقولي إنّك مشغولة؟
تُقفل الخطّ في وجهي، هي في الغالب الآن تلعن جدودي، مثلما ألعن جدودها. أُشعل سيجارة، وأبدأ بالتساؤل عن الوقت الّذي أصبح الأطفال فيه مهمّين إلى هذا الحدّ! كنت في يوم ما طفلًا في روضة، تقرأ له مربّيته القصص، لكنّني لا أذكر أنّ جمهرة من الكتّاب، على شاكلتنا نحن فريق حوراء، كان يتوالى أفرادها في زيارتنا، وتسجيل اهتماماتنا وحواراتنا في مفكّراتهم، وكأنّهم مفتّشون حكوميّون.
تنتابني رغبة ملعونة في أن أُربض علّة في قلبها، ولا أُكمل كتابة السلسلة لها، ولتغرز رأس الدبّوس الّذي بين منكبيها في الطين، ولأحرمها شيئًا من سَكرة الاختيال الفارغ، الّذي تسعى وراءه عندما ترتاد محافلنا نحن الكتّاب بكعبها اللابوتين، نافشةً ريشها كالطاووس، وهي تُعلن للملأ أنّ نصف الحاضرين يعملون لحسابها.
أحضّر هاتفي، أريد قذف قنبلة قراري لها في رسالة، أتذكّر فجأةً صديقي الشاعر، الّذي أخلص عمره لقصيدته. لقد فضحته زوجته مؤخّرًا بين الأمم، فعلتْ هذا في اليوم الّذي احتفى فيه على صفحته بالفيسبوك، بصدور ديوانه الخامس؛ علّقتْ له: "لقد خربتَ بيتنا أيّها الجميل"، قبل أن تطلب الطلاق. لقد بات في هذه المرحلة الرذيلة من العمر، يعيش صدمة اكتشافه أنّه توجّب عليه منذ خمس عشرة سنة، توطيد علاقته بناشر سلسلة "فُلّة ومغامرات الربيع". يا للحياة عندما تدلع لك لسانها مثل طفل وقح! أدسّ الهاتف ثانيةً في جيبي، وأبصق قهرًا.
ها هي تعاود الاتّصال للمرّة الثالثة!
- ماذا؟ هل نسيتِ شتيمة؟
- بحقّ الخبز والملح الّذي بيننا أن تجيبني بصراحة، ألستَ تتقوقع الآن على الحاسوب كالسلحفاة، وتراقب الأطفال من بعيد؟
- بلى.
ويندفع صراخها عبر السمّاعة يزلزل كينونتي السلحفاتيّة: تحرّك، واندمج فيهم! كم مرّة عليّ أن أكرّر هذا الكلام؟ كيف سيواتيك الإلهام من غير الحديث إليهم؟ تقدّم إلى حيث يلعبون، اخلع عنك دروعك الّتي تحملها، وألقِ بنفسك في الرمل معهم، اعفره على ملابسك، ارقص فيه، تحرّر من عُقَدك البائسة، وعُد طفلًا بينهم...
- حسنًا.
- أتعدني أن تفعل؟
- نعم.
- الآن؟
- الآن.
- دعنا نرى إذن، سلامًا!
- سلامًا.
تريدني أن أخلع دروعي، وأتحرّر من عُقَدي، وأرقص في الرمل! ههه، هذا تحديدًا ما كنت أفعله عندما أطفش في براري الشعر. الشعر... الشعر... أتذكّر يمامتي الّتي فقدتها في جعبة إحدى قصص الأطفال؛ فيبدأ الحنين ينازع السيجارة في يدي إلى مصير أخواتها، أقلّب عاليها سافلها بين أصابعي، وأبدأ بدقّها: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، على أصابعي، على ظاهر كفّي اليُسرى وباطنها، أفعل باليد اليُمنى ما فعلت بأختها. مُسِنّان على مقعد مقابل، تجحظ عيونهما وهما يراقبان ما أفعل؛ فليجحظا بقدر ما يشاءان، فسأجعل من جحوظ الجاحظين في تقاليعي المزاجيّة - على رأيها - آخر اكتراثي من الآن فصاعدًا؛ فما الّذي يجعلني آبه، ما دام الضمير نفسه لا تجحظ عيناه، وهو يشاهد صاحبه يُطفئ السجائر في جلد يديه؟
ثلاث ساعات تمضي على جلستي ذاتها في المتنزّه، يمور الأسى خلالها في نفسي، كما يمور زيتٌ كدِر في قِدر فوق النار. وكأنّ دائرة الزمن تدور بي؛ فتعيدني إلى جلوسي الأوّل على مقعد حوراء الوثير. يركد الزيت الحارّ في قاع بطني، ويُحيلني إلى جثّة هامدة عن المقاومة. أرفع نظري ثانيةً إلى المرايا الشاهقة خلف سور الحديقة، لا، أنا لم أكن أتخيّل هذا! الزرقة السماويّة في الأسفل حقًّا! والبنايات تغرق رأسيًّا فيها. بطني يقرقع، أحسّ بهذا؛ إذن، هي قادمة... الكلمات الأولى تفقس كالفقاقيع في حرارة الزيت الكدِر؛ فتُسارع أصابعي الخائنة إلى نقرها على أزرار الحاسوب. الصفحة البيضاء في الشاشة أمامي تتنمّش سوادًا شيئًا فشيئًا. القصّة التاسعة من السلسلة في مخاض الولادة القيصريّة، هانت، انبسطي يا حوراء. أعرف أنّني لست بخير؛ شعور اعتدت عليه في مثل هذه اللحظات. الشفرة، أمدّ يدي في حقيبة الحاسوب وأسحبها، أكشف عن ساعديّ المُدمَيَين. اجحظا أيّها المُسِنّان إن كان باستطاعتكما رؤية هذه الجراح القديمة الداكنة، وإن كنتما لا تريانها، فلكما أن تريا الجديدة وأنا أحزّها بالشفرة، وأراقب الدم ينزّ منها قطرة تزهد بقطرة.