وأنا اغمض عيني أستطيع أن أرى كل ما حولي، المقعد الطويل الذي يملأ حائطاً شاسعاً في الغرفة من الزاوية إلى الزاوية. والرفوف على الحيطان الباقية. والطاولة الصغيرة. والطراريح الملونة على السجادة. واللمبة البيضاء بشكل مصباح بترول كبير التي تتدلى من ثقب في الحائط وترتكز على البلاط. حتى الشبابيك تركناها بلا ستائر. وفي الغرفة الثانية صوفا عريضة. وطاولة عليها مرآة. وخزانة في الحائط. وكرسيان من قماش المخمل. لم نغير شيئاً في البيت منذ تزوجنا، ورفضت أن انقل أي شيء فيه إلى مكان أخر.
فتحت أجفاني قليلاً حين سمعت زوجي يتمتم أن (الضوء قد طلع، ووحدنا المستيقظان في المدينة). رأيته يرتفع أمام النافذة ونور الفجر الفضي ينهمر على وجهه وكل جسمه العاري. احب جسده عارياً.
عدت وأغمضت عيني، فأنا أيضاً أستطيع أن أرى كل ذرة فيه وكل تفصيل دقيق يتخفى: شعره الناعم وجبهته وانفه وشفتيه وذقنه وعروق رقبته وشعر صدره وبطنه وقدميه وأظافره. وناديته أن يرجع ويتمدد قربي: عندي رغبة في أن اقبله؛ فلم يتحرك عرفت انه يتهيأ لان يقول شيئاً هاماً، من انفصاله عني ووقوفه بعيداً. هكذا يصبح قاسياً عنيداً ينجح في اخذ القرارات وتنفيذها. وأنا على عكسه تماماً: لا ناقشه يجب أن أتمسك بيده، أو المس ثيابه. لهذا فتحت عيني، ورميت الطرحة التي كنت احتضنها، وانتشلت قميصه، وفرشته على صدري، وعلقت نظري في السقف، وسألته إن كان يرى البحر، فأجاب (أرى البحر). سألته ما لونه، قال (ازرق غامق من جهة ومن جهة ابيض رمادي). سألته هل أشجار السرو لا زالت هناك، أجاب (لا زالت بين البيوت الملتصقة ببعضها، وان على السطوح النباتات مياها راكدة). قلت إنني احب شجرة البلح الوحيدة التي تبدو من عندنا كأنها مزروعة في البحر، وان أشجار السرو تصور لي المقابر البيضاء.
صمت طويلاً وأنا لا زلت أحدق بالسقف، ثم ردد (الديوك تصيح). أسرعت اخبره أنني لا احب طيور الدجاج لأنها تعجز عن التحليق، وإنني كنت وأنا صغيرة احملها إلى سطح المنزل وارميها في الفضاء اجرب تعليمها كيف تطير، وكانت الديوك وما والدجاجات تتكوم على الأرض بلا حراك.
عاد وصمت قليلاً ثم قال انه (يرى ضوءاً اشتعل في نافذة بناية مقابلة). قلت مع هذا لازلنا وحدنا المستيقظان في المدينة، المتعانقان الوحيدان طوال الليل فيها. قال انه (شرب كثيراً الليلة). عجلت أقاطعه إنني اكره هذه العبارة - شربت كثيراً - شربت كثيراً - كأنه يندم على الجنون الذي احبني به واللهفة. شعر إنني بدأت أتنرفز. بدل الحديث، قال (تبدو المدينة ككومة من الأحجار الثمينة البراقة بكل الألوان والأحجام). أجبته أنني أتخيل المدينة الآن علباً من الكرتون الملون إذا نفخت فيها تهبط. وبيتنا وحده بغرفتيه يتعلق على غيمة، يسير في الفضاء. قال أن (الجفاف في فمه ويريد برتقالة). أكملت ومع أنني لم اسكن مدينة غير هذه المدينة كنت اكرهها، ولو لم احلم بأنني يوماً ما التقي برجل يأخذني بعيداً لمت كمداً من زمان زمان. تظاهر بأنه لم يسمع عبارتي الأخيرة. ردد (أريد برتقالة، نشف حلقي). أهملت طلبه، وأكملت أنني معه لا أكثرت للمكان، تحتفي اليابسة بأشجارها وجبالها وانهرها وحيواناتها وبشرها. لم يعد قادراً على الانتظار. انفجر يسألني (لماذا ترفضين إنجاب الطفل؟) حزنت وانعصر قلبي وصعدت الدموع إلى أذني فلم افتح فمي. سألني (منذ متى تزوجنا؟) لم انطق بحرف وأنا أتتبع دورانه. جمد وتابع (منذ سنة وعدة شهور تزوجنا وأنت ترفضين ترفضين، مع انك كنت مهووسة بالأطفال قبل أن نتزوج، كنت مريضة بهم). وزاغ يضرب المقعد بيديه ويردد (أتذكر أيها المقعد توسلاتها؟ وأنت أيتها اللمبة هل سمعت صوت نحيبها؟ وأنت أيتها المخدات كم جعلت منك أجساداً صغيرة تحتضنها وتغفو قربها؟ انطقي أيتها الجمادات. انطقي. أعيدي لها صوتها الغابر فيك). بهدوء قلت أن الجمادات لا تحس ولا تتكلم ولا تتحرك. غضب وشرح إن (من أين لك أن تعلمي إنها ميته؟)، أجبت أن الأشياء ليست ميته، أنها فقط تستمد نبضها من الأشخاص. فقاطعني انه (لن يجادل الآن في الأشياء ولن يتركني أتهرب من حل هذا الموضوع ككل مرة). شرحت له ساهية أن الأشياء حولي، هذه الأشياء بالذات: هذا المقعد، هذه السجادة، هذه الجدر، هذه اللمبة، هذه المزهرية والرفوف والسقف، أنها مرآة هائلة تعكس لي العالم الخارجي: البيوت، والبحر، والأشجار، والسماء، والشمس، والنجوم، والسحب. والمح فيها ماضي معه، ساعات التعاسة والكمد ولحظات اللقاء والحنين واللذة والهناء، ومنها الآن استمد صور الأيام آلاتية. وأنني لن أتخلى عنها. غضب وصرخ (عدنا إلى الأشياء. أريد أن افهم الآن والآن لماذا ترفضين الطفل). لم اعد احتمل. صرخت انه هو أيضا كان يرفضه في وقت من الأوقات. صمت برهة ثم قال انه (رفضه قبل أن نتزوج وكانت حماقة ان نأتي به). بسخرية قلت انه كان يخافهم، هؤلاء الآخرين المهرجين، في المدينة كان يستجدي رضاهم وبركتهم وموافقتهم ليراني واراه ويضمني وأضمه ويغرقني بالحب واغرق فيه. كانوا يحددون لنا أمكنة لقائنا، وعدد خطواتنا إليها، والزمن، ومرتبة ارتفاع صوتنا، وعدد أنفاسنا. وكنت أراقبهم أنا، كانوا يسخرون منا في سرهم، كانوا ينامون بوقاحة مع الأجساد التي يحبونها، ويأكلون ثلاث وجبات طعام في النهار، ويدخنون سجائرهم مع فناجين القهوة وبطحات العرق، ويقهقهون، يعلكون في ابتذالهم حكاياتنا، ويخترعون قواعد لنا للغد ننفذها لهم. أتاني صوته مختنقاً وهو يغمغم (لم اكن اكترث للآخرين. كنت مرتبطاً بامرأة أخرى). آه كيف يمكنني أن أتحمل كل هذا العذاب، كل هذا التمزق، كل هذا العشق له؟ تمتمت انه كان جباناً، كان يعجز عن الاعتراف لها بالحقيقة بأنه لم يحبها ولن يحبها). قال باختناق انه (لم يكن هينا، كان قاسيا عليه أن يحدق بوجه الإنسان ويقول له، بعد تسع سنوات كان ينهض فيها كل يوم، كل يوم، فيجده أمامه، يقول له: الآن انتهى المشهد. ويدير له ظهره ويبتعد). أمرته أن ينظر إلى يده اليمنى، وسألته إن كان دمي لا زال يقطر منها ساخناً على الأرض. غمغم (كنت مجنونة. مجنونة حين نفذت الفكرة. فتحت هذا الباب. دخلت هذه الغرفة. رأيتك أنت ممددة على هذا المقعد. شرايين يدك مذبوحة. تسبح أصابعك في بحيرتي دماء. كنت مجنونة. كان يمكن أن أفقدك). تبسمت بحزن، وأنا اشد قميصه إلى صدري، إلى وجهي، أشمه. وقلت إن دوري في المسرحية كان يقتضي الانسحاب في النهاية، وكان الغياب الممكن عندي الذي أتقبله وأستطيع احتماله هو الموت السريع، بدل الزحف البطيء القاسي، كضفدعة الماء التي ضلت طريقها في الرمال، في عين الشمس، في تفتيشها عن ضفة النهر، في فيلم (حياة كلاب). ردد حزينا انه (لم يكن يعلم أنني جادة في تعلقي به). سألته ساخرة وهل كان ينتظر أن اقتل نفسي ليتأكد من صدقي؟ وأخبرته إنني كنت ضائعة فيه، كنت عاصفة حب زائغة أتسلل بين أصابع الناس، والفح وجوههم، واخترق الشوارع غير منظورة. كنت أحس فقط ثقل الأجسام وارتفاع النباتات ويديه، وطلبت منه أن يقترب ويعطيني يديه لأنني اشتقت لهما. فظل بعيداً جامداً، وأسرع يتهمني (بعد كل هذا الشقاء والانتصار ارفض أن أحبل منه. وارفض. ارفض. ارفض). ويفهم من رفضي إنني لم اعد احبه. ماذا؟ صرخت أن لا يمكنه أن يتهمني بذلك أبدا. البارحة فقط كنت ممددة قربه، كان يستسلم لنوم عميق وأنا مفتحة الأجفان، أحفحف وجني بذقنه، واقبل صدره، واندس تحت ذراعه، ابحث عبثاً عن النعاس. هنا صارحته أن يزعجني فيه سرعة الذهاب في النوم وتركي وحيدة صاحية بجانبه. أسرع مستنكراً يقول انه (لم ينتبه يوماً بأنني أظل ساهرة. كان يعتقد إنني أغفو لحظة يغفو هو). أبديت بخبث إنها ليست المرة الأولى التي يتركني فيها وحدي. ثم أكملت سرد حادثة البارحة، انه كان نائماً يتنفس بهدوء، وأنا مستلقية على جنبي التصق به، أدخن سيجارة، وفجأة رأيت في فضاء الغرفة بين الدخان قدماً هاربة من تحت الشرشف. حركتها فلم تتحرك، وسرت برودة في جسدي كله. حركتها فلم تتحرك. فخطر لي أن اصرخ. حركتها فلم تتحرك. فأسرعت أخبئ وجهي في شعره، خفت. خفت. فتحرك هو، وتحركت القدم. وبكيت بصمت. كنت احسب، كنت اشعر، كنت لا أستطيع التميز بين قدمه وقدمي. ردد بصوت خافت (في هذا العصر لا يموت الناس من الحب). أسرعت اغتنم الفرصة، فقلت وفي هذا العصر لا ينجب الناس أطفالاً: كانوا في القديم يعرفون أين يسقط رأس الطفل، ومن يمكن أن يشبه، وذكر هو أم أنثى، كانوا يغزلون له قمصاناً من الصوف وجوارب، وكانوا يطرزون له ذيول الفساتين والجيوب والقبات بعصافير ملونة وأزهار. كانوا يجمعون له الهدايا صلباناً من الذهب وما شاء الله وكفوفاً مرصعة بحجارة زرقاء وسلاسل حفر عليها اسمه. كانوا يحجزون له الداية ويحددون لها يوم الولادة. وكان يهجم الطفل من الظلام ويرتمي في النور في توقيته الدقيق المنتظم. وكانوا يسجلون باسم الطفل قطعة ارض. وكانوا يستأجرون له بيتاً، ويختارون له الرفاق، ويعرفون إلى أي مدرسة يرسلونه، والمهنة التي يتعلمها، والشخص الذي يمكن أن يحبه ويربط مصيره بمصيره. كان هذا من زمان بعيد بعيد، في عهد والدك ووالدي. أستفهمني (هل تعتقدين العشرين سنة الماضية دهراً؟ ماذا تغير الآن؟ ماذا تغير؟ ألا يمكنني ويمكنك إعداد كل ما يعد للطفل؟) لأخفف عنه شرحت أني قبل ان أتزوج كنت أنا كطفل يستلقي على ظهره أمام نافذة، يراقب النجوم، يمد ذراعه الصغيرة يود قطفها. كنت أتسلى بهذا الحلم، بهذا المستحيل، أتعلق به وأتمناه. سألني (إذاً كنت تخدعينني). ماذا؟ اكتشفت انه حور الحديث إلى هجوم علي لكسب المعركة. فأسرعت أصارحه إن المرأة المحرومة مع رجلها هي وحدها التي تلح في طلب الطفل لتغيب، وتتلذذ في اللقاء به، وتحرر. أسرع يقاطعني (وهل كنت غير مكتفية؟) أجبته إن كنا نخاف، كنا لا نسافر إلى أخر المجاهل الحلوة، كنا نرتعد، كنا نصطدم دوماً بوجوه الآخرين ونسمع أصواتهم. ومن اجله هو ومن اجلي أنا استقلت لاحيا. وانه يخطئ، يخطئ في شكه بجنوني به. تمتم (ضعت. لا أفهمك). هاجمته أن اجل أجل لن يفهمني أيضاً إذا أخبرته إنني لا اجرؤ ان أحبل. إنني لن اقترف هذا الخطأ. زعق: (خطأ؟ خطأ؟) تشبثت بقميصه اكثر، استمد قوة. وعلى مهل، وبصوت خافت، حكيت له كيف يرعبني مصير طفل نرميه في هذا العالم. كيف أتخيل طفلي انا، هذا الكائن الذي أطعمه من دمي واضعه في أحشائي وأقاسمه تنفسي ونبضات قلبي وطعامي اليومي وأعطيه ملامحي والأرض، كيف يحتمل في المستقبل أن يتخلى عني ويذهب في صاروخ إلى القمر يستوطن هناك. وهناك من يدري إن كان يسعد أو يشقى. أتخيل طفلي بأربطته البيضاء، يطفر الدم من وجهه الطري، مشدوداً إلى كرسي داخل كرة زجاجية مثبتة على رأس قضيب طويل من المعدن الكاكي ينتهي بطيات تشبه تنورة فستاني (الشارلستون). ويضغط على زر، وتهب عاصفة غبار، وينطلق سهم في الفضاء. لا يمكنني. لا يمكنني.
صمت طويلا طويلا، ونور الفجر يتسلل إلى زوايا الغرفة من وجهه، ووجهه ساه يفتش في السماء عن سهم ووجه الطفل. كان الشرس بين حاجبيه معقوداً. كان الاستغراب والتوتر على فمه. فصمت أنا أيضاً، وأغمضت عيني.
وعندما اصبح قربي، واقفاً كبرج هائل في محطة إطلاق صواريخ، خفق قلبي وتمتمت له إنني اعشق جسده عارياً. عندما يرتدي ثيابه، خصوصاً عندما يعقد ربطة عنقه، أحسه شخصاً غريباً إلى البيت في زيارة لسيد البيت. فتح ذراعيه، وانحنى. فهجمت إلى حضنه اهذي: احبك. احبك. احبك. احبك. احبك. احبك. وهو يهمس في شعري (أنت لؤلؤتي). ثم نشر راحة يده على شفتي، وشدني إليه بيده الأخرى، وامرني (هيا لنصعد أنا وأنت إلى القمر).
* نشرت في العدد الرابع من "حوار" 1966