في البداية أحبّ أن أشير إلى أن السارد في مجموعة ( رياح وأجراس ) للقاص السعودي فهد الخليوي، يمتاز بقدرة واضحة على الفهم والتحليل والتأويل والاستنتاج، تساعده في ذلك خلفية معرفيّة فكريّة مهمّة تتمثّل في مجموعة من أمهات الكتب التي عرفتها الساحة الثقافية العربية قبل أكثر من خمسين عاما، فهو ينقل لقارئه مجموعة من هذه الكتب التي شكّلت لديه هذه الخلفية المرجعية المهمة التي تتباين تباينا واضحا عن ثقافة النسق السائد التي تمّثّلت في أفق معرفي محدود لا يستطيع أن يتجاوز بيئته ومحيطه الصحراوي البدوي، ولعلّ أهمّ هذه الكتب كما يصرح السارد: الوجود والعدم لجان بول سارتر، وتدهور الحضارة لاشبنغلر ، وهكذا تكلم زرداشت لنيتشه. هذا السارد الذي يمثّل وعيا معرفيا يتجاوز حيّه ومحيطه، وثقافة هذا الحي لم يستطع أن يحقق توازنا إنسانيا بين ما تفرزه هذه الخلفية المعرفية من خطابات وأنساق فكريّة، وبين واقع يحبط فيه المثقفون، ولا يستطيعون دفع أبسط متطلبات حياتهم، من أجور سكن متواضع وغيرها" (( توغّل داخل الحيّ إلى أن وصل إلى منزله الصغير الذي تركه قبل ثلاثين عاما، بسبب عجزه عن دفع أجره الشهري. مالك المنزل أمهله يومين للبحث عن منزل آخر)). ص 22 من المجموعة.
ومن هنا فما كان من هذا السارد إلاّ الارتحال إلى فضاءات يأمل منها أن تكون أكثر فرحا وأمانا وطمأنينة نفسيّة وروحيّة، وكان عليه أن يصحب معه عدّة المثقّف المعرفيّة من كتب مهمّة تربّى على ثقافتها ونما وترعرع، وعدّة بسيطة أخرى تعينه على متطلبات حياته اليوميّة التقشفيّة، من مأكل ومشرب وملبس. يقول الخطاب القصصي: (( آنذاك جلب عشرات الكراتين، من مستودعات الأغذّية لشحن كتبه، أمّا باقي الأمتعة فأمكن شحنها بكيس صغير، إبريق شاي من النحاس الأصفر، سخّان كهربائي عتيق، كوب من الزجاج الباهت، فراش من الاسفنج الهابط، أقلام، ناي، شريط غنائي لـ ( فيروز) وأخر لـ ( فوزي محسون).)) ص 22.
وإذا كان هذا الارتحال يبدو أمرا مألوفا في النسق القصصي، فإنّه يشير بشكل مرمّز وخفي إلى القطيعة الابستيمولوجية المعرفيّة بين المثقّف المتميز ثقافة عالية وشموليّة، وبين واقع محبط( بكسر الباء) لا تحقق فيه الذات المثقّفة أي تصالح مع هذا الواقع. ولعلّ سكّان المدن الاقتصادية والتجارية في هذا الواقع، بما فيهم من ملاكين كبار وتجار وسماسرة وثراء فاحشا، هم أكثر الناس إهمالا للمعرفة وطموحات العقل، وبعدا عن أخلاقياتها، وهو يستعير من تدهور الحضارة لشبنغلر المقطع التالي حتى يؤكّد قطيعته مع الواقع : (( سكّان المدن يكررون الحياة والموت بطريقة رتيبة، وليس لهم علاقة بصنع الحضارة البتّة)). ص 22.
وممّا يلاحظ في الخطابات الأدبيّة العربيّة المعاصرة، سواء أكانت شعرية أم روائية أم قصصيّة، نفور الكاتب من المدينة، واعتبارها بؤرة للشرّ والفساد، والكيد والمكر، وانسحاق الرجولة، وتهتك الأنوثّة، و محاولته استحضار بديل من هذه المدينة، وهو فضاء جديد يحقق فيه الحلم صبواته، وخروجه عن فضاء المدينة الملوّث. ولعلّ من أهم الأعمال الأدبية المعاصرة التي تنفر من فضاءات المدن الملوّثة : أشعار بدر شاكر السياب، وبخاصة ديوان: أنشودة المطر.، وروايات الروائي السوري هاني الراهب، وكذلك حيدر حيدر، وروايات المغربي محمد شكري، وغيرها من الأعمال العربية العديدة. وما كان على سارد قصة ( أجراس) لفهد الخليوي إلاّ أن يخرج من هذا الفضاء متأبطا غربته، وزاده المعرفيّ الكبير: (( حمل كراتينه المدهشة وكيس متاعه الصغير، ورحل عن هذا الحيّ قبل ثلاثين عاما)). ص 23.
و بعد ثلاثين عاما تقوده المصادفة لزيارة هذا الفضاء مرّة ثانية، غير أنّه لا يجد فيه إلاّ الخواء، وإحساسا فاجعا بالغربة والشجى، حادا يفتت مسامات روحه، حيث تهبط على روحه: (( إيقاعات حزينة وشجيّة، تناغمت في فضاء روحه، شعر أنّ ذاكرته تشتعل، وتصهر المكان والزمان، وكأنها تحيل حقبة ثورات إلى وثائق معدودات)). ص 23.
غير أنّ الفضاء الذي يبقى أكثر مدى واتساعا وعمقا، وبالتالي أكثر ألفة وحميمة هو فضاء البحر في هذه المدن، إذ يبدو ملاذا لمتاعب الروح، وأرقها: (( قاد سيارته متجها إلى الشارع العام، ثمّ سلك الطريق المؤدّية إلى البحر، هناك وقف على الشاطئ منصتا لدمدمة البحر)). ص 23.
وإذا كان الفضاء القصصي يقلّص جميع الفضاءات القصصية في القصة، باعتبارها فضاءات مغلقة وطاردة لقاطنيها فإنّه يشكّل في آخر السرد القصصي فضاء حرّا شاسعاً، تصبو فيه الروح إلى الانعتاق من فضاء المدينة الملوّث ، مالا واقتصادا وتجارة وثراء فاحشا، وفقرا مدقعا في آن، وإلى اللوذ بشاطئ البحر والاستماع إلى بوحه وخباياه الدفينة، باعتباره فضاء حرّا شاسعا لا محدودا، و بالتالي هو الآخر فضاء معرفي فسيح من الفضاءات المعرفيّة الأخرى الأليفة التي يحقق للسارد متعة جمالية ونفسيّة، وأفقا معرفيا مفتوحا، و ذلك بعد أن أسهمت فضاءات المدينة الأخرى في سدّ هذا الأفق وحجبه، وتعكير صفائه الإبداعي والنفسي.
يقول الشاعر والروائي علي الدميني عن فهد الخليوي في مقدمته للمجموعة القصصيّة: (( ومنذ كتاباته المبكرّة في الصحافة المحليّة في مطلع السبعينيات اختطّ (( فهد الخليوي)) لنفسه مسارا واضح المعالم، لا يركن للمهادنة واستمراء مجانية الكلمة، كما لم ينخدع بما تعد به من مغانم زائفة. و لذلك ذهب إلى صومعة (( الزهد)) الفاضلة منذ مطلع التسعينيات، بعد أن أسهم بشكل فاعل في الإشراف على الصفحات الثقافية في مجلة(( اقرأ))، و حفر اسمه من خلالها كمثقّف تنويري، و مبدع يعمل ضمن سياق الباحثين عن رؤى متسائلة، وآفاق ممكنة " لكتابة جديدة".)). ص 10.
ولعلّ من أهمّ معالم الكتابة الجديدة في مجوعة ( رياح وأجراس) خروج فهد الخليوي عن مسار القصّة الكلاسيكيّة بأنساقها المعتادة، من سرد وحوار، وتأطير للفكرة، ثمّ دفعها للنمو والتعقد، وصولا إلى الحبكة، ثمّ فكّ هذه الحبكة في ما بعد، فالقصة عنده رؤية وانبثاق معرفي، وابتعاد واضح عن تقنيات الحوار الكلاسيكي، و تركيز كثيف واضح في العبارة، ودلالتها، وابتعاد عن السرد الممل، وعن الحوار الوظيفي الذي يفتعل اللغة، ويؤطرها ويؤدلجها للوصول سريعا إلى الفكرة المقصودة. إنّه يحتفي بالمقاطع السرديّة القصيرة المركّزة المرمّزة في بعدها المعرفي، وفي تأويلها، هذا التأويل الذي سيبدو متغايرا ومتباينا من قارئ إلى آخر، ووفقا لثقافته، ولقدرته على الفهم والتأويل والاستنتاج، المتباينة عن قدرة قارئ آخر. يقول في قصة بعنوان( رياح) : (( كان سرب من الطيور يغرّد فوق البحر، ثمّ دفعته شدّة الرياح للتحليق بعيدا باتجاه الصحراء)). ص 15. ويقول في مقطع آخر: (( إنّ للرياح أساطيرها وطقوسها وهي تضرب بأعماق البحر، وتجتاح الصحارى، وتدكّ أقوى الحصون، وتهزم أعتى الأباطرة، وتحيل الساكن إلى متحرك والثابت إلى رماد)). ص 16.
ويمكن القول: إنه وعلى الرغم من قصر المقطع السابق، فإنه يمكن أن يكون محمّلا بمزيد من الرؤى والدلالات والأبعاد المعرفيّة، وربمّا تشير الريح هنا إلى الخروج عن الثبات والجمود، والأنساق المعرفيّة السائدة، وعن النموذج الثابت الراسخ الذي يصبح عالي الشأن، وقويا بثباته، وبالتالي الخروج بالمجتمع الثابت والنمطي، عن كل عوامل قوقعته وسكونه وثباته، فحركية الحياة، ونموها التي تشير إليها بنيويا حركية الرياح التي تدكّ أقوى الحصون لا بدّ في النهاية من أن تسهم في التغيير وأياً كان هذا التغيير، سواء أكان سلبا أم إيجابا. إنّ هذه الحركيّة هي استشراف المستقبل بشتى صوره وتجلياته في أشكال جديدة . وما يهمّ الرؤية القصصية هنا أن تكون هذه الرياح قادرة على تغيير المجتمع السكوني، وحياته وثقافته، وطوائفه وقبائله وخرافاته وأساطيره، أي تغيير النسق المعرفي الثقافي، والسائد المكرّس بالسطوة، سطوة المجتمع وسطوة أعرافه وتقاليده وعاداته.
ويشير الخطاب القصصي في هذه القصة ( رياح) إلى أنه يوجد في أعماق الناس رغبة كامنة بتغيير مجتمعاتهم النمطيّة وعادات هذا المجتمع وقيمه التي لم تعد صالحة في مراحل النمو الحضاري الجديدة التي دخلت على المجتمعات المعاصرة. ونلاحظ أنّ هذه الرغبة هي موجودة في الخلفيات المرجعيّة والمعرفيّة للأمم الحديثة والقديمة، وهي من أكثر المفردات في الكتب المقدّسة. يقول الخطاب القصصي: (( استبدّ شغف لدى الناس بتقصي كلّ ما يتصل بمعرفة الرياح، وتوصّل باحثون إلى أنّ كلمة رياح هي أكثر المفردات انتشارا في الكتب المقدّسة و في معاجم الأمم القديمة والحديثة، كما أنّ الكتب المهتمّة بتاريخ الرياح أشارت إلى أنّ مدنا مشتتة بأصقاع العالم اجتاحتها رياح عاتية، و دكّت سكونها، وبدّلت أزمنة بأزمنة وأنماط بأنماط)). ص 16.
إنّ الطفرات المعرفيّة الحديثة في نظريات الفكر والثقافة وامتدادها إلى جميع حقول المعرفة، وفي معظم دول العالم المعاصر، أسهمت إسهاما واضحا في تغيير كثير من مفاهيم الناس في عالمنا العربي وفي آرائهم وقيمهم الثقافية التي كانت سائدة ومكرّسة بقوة، بفعل مجموعة من السلطات الثقافية والمجتمعيّة والقبليّة والعشائريّة والطائفيّة. وقد أشارت الخطابات المعرفيّة في ثقافتنا المعاصرة إلى هذه الطفرات واحتفت بها احتفاء واضحا، احتفاء الباحث عن جديد وعمّا هو مغاير لثقافة النسق السائد، وبخاصة في القصة والرواية والدراسات النقدية المعاصرة. وكان نصيبها واضحا في القصة والرواية السعودية المعاصرة كما نلاحظ في روايات غازي عبد الرحمن القصيبي وبعض روايات رجاء عالم. ولعلّ مجموعة القاص فهد الخليوي ( رياح وأجراس) من المجموعات القصصية المهمّة التي احتفت بهذه الطفرات وبشّرت بها، ودعت إلى سيادتها في المجتمعات العربيّة المعاصرة أملا في التخلص من بداوتها وقبليتها.
ويشير الخطاب القصصي إلى أنّ المستقبل، و مهما طال الزمن لا بدّ وأن يتخلص من سوداوية الواقع المعاصر، ورفض بعض أفراده الشرس لأي حركة تجديد وإصلاح، سواء أكانت هذه الحركة تهزّ ثقافة الأمة السائدة، وتحدث شرخا في سكونيتها، أم تهزّ سلوكها المتزمت المتشدد، الذي يقف معارضا لما هو جديد، ولما هو حضاري نام، متشعب ومتعدد الرؤى والثقافات والاتجاهات. وفي نهاية المطاف ستجتاح رياح التجديد المعرفيّة فضاءات الأمّة السوداء، وتبددها تمهيدا لبناء فضاءات جديدة أكثر علما وعقلانية ومعرفة متجددة. وبفضل حركات التجديد المعرفيّة المعاصرة سيتجدد بناء الأمّة الحضاري والعقلاني، وهذا ما يشير إليه المقطع التالي إشارات رمزيّة، وقريبة الدلالة، واضحة اللغة. يقول المقطع: (( و حكى الرواي أسطورة القرية التي نسفتها الرياح عن بكرة أبيها، ولم ينج من أهلها عدا بضعة رجال ونساء تناسلوا عبر الأزمنة وأعادوا بناء القرية بأنساق جديدة بعد أن هبّت عليها رياح، حملت أمطارا غزيرة جلبتها من سماء بعيدة، وارتوت بعد هطولها الأرض، وأينعت السنابل، وتكاثر النسل وأقيمت الأعراس، وأضيئت الشموع في كلّ دار وسابلة)). ص 16.
وإذا كان بعض الطامحين من الجيل الجديد إلى التغيير في بنية المجتمع المحافظ وعاداته وتقاليده يحتفون برياح التغيير الجديدة فإنّ بعضا آخر من سكان المجتمع التقليدين أو الكلاسيكيين، والذين يرفضون ما هو جديد وعصري، يتوجسون خيفة وقلقا وحذرا من هذه الرياح الجديدة لأنّها ستهزّ مفاهيمهم القديمة، وستحدث ثغورا وفجوات واسعة فيها، وبالتالي هدما لجدرانها الصلدة، ولأنساقها الثقافية السائدة التي لا تريد تغييرا ولا تجديدا في بنيتها المعرفيّة. ويشير الخطاب القصصي إلى ذلك بشكل واضح في المقطع الآتي:
(( كان القلق يرتسم على الملامح خوفا من انهيار البيوت والأعمدة سيما وأنّ المدينة بنيت على النسق القديم ذي الطبيعة العشوائية وربما تصبح في مرمى الخطر المحدق أمام هول الرياح وضراوتها)). ص 17.
وعلى كلّ حال، وعلى الرغم من نمو الثورات المعرفية والعملية الكبرى المطرد في شتى مناحي الفكر الإنساني ، وتأثير هذه الثورات في بنية العالم العربي وثقافته وسيرورته الزمنيّة يلاحظ أنها لم تسهم إسهاما كبيرا في تخليص المجتمعات العربيّة من أمّيتها المستشرية، ومن عاداتها القبلية والبدوية والعشائريّة، وطائفية الاقتتال والعنف والتناحر البغيضة، فمجتمعاتنا المعاصرة لا تزال مكبلة بقيود التخلف، وبقيود كل ما هو مستهجن من عادات بدويّة وقبليّة وعشائريّة، ومدننا العربية على الرغم من نموها، وعمرانها الشامخ والمذهل، وتعقّد أطر الحياة فيها ـ بأشكالها المختلفة ـ وجامعاتها وكلياتها الضخمة، لا تزال مدناً بدويّة وقبليّة في بنيتها الأساسيّة، وفي بنية دوائرها ومؤسساتها وقوانينها، بما تحمله هذه الدوائر من أمراض بيروقراطيّة مزمنة ومتخلفة. وهذه حال غريبة معقدة، تدعو إلى الحيرة والقلق، ولا يمكن فهمها فهما دقيقا وموضوعيا. ويبدو أننا أمم متخلفة يسيطر عليها التخلف، ويشدها إلى الوراء، ويمنعها من أن تسهم إسهاما معرفيا وعلميا في التقدم الحضاري والإنساني، مثلما تسهم به بقية الأمم المتحضرة الأخرى.
ويقول الشاعر والروائي علي الدميني عن تقنية الكتابة الجديدة في مجموعة( رياح وأجراس) التي نحن بصددها: (( ويمكن أن نمدّ زاوية النظر إلى تلك التقنية الكتابية في بنائها لفضاء الأمكنة، حين نرى إلى أن " القرية" التي هجرتها شاحنات القمح بفعل سطوة سيد الأرض، وأنّ المدينة التي تقاوم التغيير فيما تهددها الريح، ليست قرية بذاتها، أو مدينة بعينها، وإنّما هي أمكنة مؤسلبة، يمكن أن نتقرى فيها ملامح التعبير عن الذات الإنسانية ( ...) وعن أفق للتشكيل الجديد، عبر رؤى أعين قلقة على مصيرها، وباحثة عن مستقبلها في هذا الكون)). ص 13 من المقدمة.
وفي القصة الموسومة بـ ( إبادة) نلاحظ أنّ رؤية مأساوية تهبط على بينة الفضاء القصصي لتغلّفه بلغة حزينة سوداويّة، والتي بدورها ستشيع في فضاء منزل السارد مزيدا من الصور القاتمة واليأس إذ تزحف حشرة إلى منزله، ثمّ تتكاثر وتتوالد لتبيد كلّ شيء في فضاء هذا المنزل. يقول الخطاب القصصي: (( شعر بهمود ذهنه ونفور عروقه، وقرقعة عظامه، نشطت حشرة الإبادة، وأنجبت سلالتها المدمّرة في ربوع بيته الكبير. قاومها بكلّ مقتنياته الفتّاكة، انهارت مقاومته أمام الزحف الكاسح للحشرة)). ص 19.
إنّ هذه الحشرة تشيرـ في المستوى السيميولوجي ـ إلى حالات من اليأس المطلق، التي تصيب بنى الحياة، باختلاف مناحيها وأشكالها. وتشير إلى حالات الظلام التي تفتك بها، وربما إلى جميع الحالات المرضيّة واللوثات المزمنة التي يعاني منها المجتمع الإنساني، والتي تفتك بشراسة بأبناء هذا المجتمع، وهذه الحالات المستعصية التي لا شفاء منها، ستسهم في تدمير منزل الرواي وإحلال المرض في أهل بيته، وبالتالي في تخريب صحة هذا الفضاء الصغير، الذي يشير في نهاية المطاف إلى الفضاء الاجتماعي الكبير، بسوداوية علاقاته وأمراضها ولوثاتها المرضية، وبالتالي إلى فقدان اليأس في أي شكل من أشكال الإصلاح الاجتماعي، والرقي الحضاري المعرفي، إنّها مرحلة هزيمة الإنسانية والوعي المعرفي وتراجعهما تمهيدا لإبادتهما وانقراضهما. يقول الخطاب القصصي: (( كياني يحترق!
تسلقت سلالات الحشرة أبدان حاشيته وأخذت إحدى زوجاته تعوي من قسوة داء الجرب، وعصف( الدرن) بأطفاله وفلول خدمه.
حدّ ق بالشمس وترجرج دمع آسن في قاع عينيه أسلمه إلى ظلام دامس.
ـ إنّه الفناء!!
قال ذلك واستسلم لعواء طويل!)). ص 20.
وإذا كانت ( الشمس) في مستواها الإشاري تشير إلى التنوير والسطوع المعرفي، وبثّ عوامل النماء والخصب والصحة والديمومة في الأمّة، فإنّها في هذا المقطع تفقد هذا المستوى الإشاري لتصبح هي الأخرى عامل إبادة، واحتراق وفناء، وليس احتراقا تمهيدا للولادات الجديدة، والنهوض الحضاري الجديد، كما تشير الأساطير في مستواها الرمزي، بل يعني الاحتراق في مستواه التخريبي والتدميري والإبادي.
وفي القصة الموسومة بـ ( عن قرية هجرتها شاحنات القمح) يدين الخطاب القصصي إدانة واضحة طبقة أصحاب الثراء والأموال الجدد الذين ظهروا بشكل قوي وفاعل في المجتمع نتيجة الطفرة الاقتصادية والمالية. هؤلاء الأثرياء الجدد الذين لاهمّ لهم إلاّ الامتلاك ، وبأي طريقة كانت، سواء أكان امتلاكا مشروعا، أم امتلاكا استلابيا لأموال الآخرين الفقراء وأعراضهم وأملاكهم، فالسيد الثري الذي يريد عزل إحدى القرى الفقيرة عن العالم تمهيدا لاستلابها، واستلاب نسائها، يقرر عزلها عن العالم بحرمانها من الطريق الاسفلتي الذي هو بوابتها صوب العالم، والذي من شأنه ـ إن مرّ بها ـ أن ينعشها اقتصاديا، وينعش زراعتها. غير أن السيد يقرر أن يجعل الطريق بعيدا عنها. وأمام الحال هذه ما كان من أعيان القرية إلاّ التوسل للثري أن يتراجع عن قراره، فتقدّموا إليه، وتزلفوا له، وقبّلوا يديه راجين أن يعدل عن قراره: (( دخل أعيان القرية، يتقدّمهم الإمام وشيخ القرية، وانحنوا أمامه وقبّلوا يديه ملتمسين عدوله عن هذا القرار الذي سيدمّر اقتصاد القرية ويحيلها إلى مجرد أكواخ متناثرة وسط صحراء قاحلة)). ص 25.
وحتى يستطيعوا التأثير على قرار هذا السيد، صاحب النفوذ الاقتصادي والمالي الكبير، قرروا أن يختاروا له أجمل فتيات القرية تمهيدا لإرضائه، واستمالة قلبه، وإطفاء سعار جسده، وبالتالي أملا في التخلص من بطشه وجبروته، وعدوله عن قراره الجائر. يقول الراوي: (( تطوّع نساء كثيرات في تنفيذ هذه المهمة وانتشرن بكلّ أرجاء القرية، وتكللت تلك الجهود المضنية بالنجاح.
تمّ انتخاب " مضاوي" المفرطة بجمالها وأنوثتها وذكائها، لكي تزف إلى سيد الأرض. خرموا جسدها الغضّ بالخماخم الذهبيّة، والحجول الفضيّة، ومشطوا ضفائرها بالمسك والعنبر، وخضبوا كفوفها بالحناء. علّموها كيف تشعل أنوثتها المثيرة، وتحكم سيطرتها على غرائز السيد)). ص 27.
و تنتهي القصّة بخطاب ساخر لاذع بأحلام سكّان القرية البسطاء، وبوسائلهم الانهزاميّة في معالجة الخطر المحدق بحياتهم، واقتصادهم ولقمة عيشهم، وهذا الخطاب يسخر ـ في الآن نفسه ـ بهذا الثري الجشع الذي لا تكفيه أموال العالم لتهذيب نزوعه الوحشيّ والافتراسي صوب التملك والثراء، والذي لا تكفيه أجساد نساء العالم لإطفاء سعاره الجنسي والشبقي البهيمي. وينهي الراوي القصّة بهذا المقطع الساخر: (( التهم سيد الأرض روائع أنوثة ( مضاوي) لكنه أصيب بسعار مخيف، وقرر التهام كل بنات القرية)). ص 27.
و في القصّة الموسومة بـ (( سطور من تراث الوأد))، يدين الخطاب القصصي العادات المتخلفة في بنية العلاقات القبليّة والبدويّة، من خلال إيديولوجيا إيحائيّة مرمّزة، فرجال القبيلة والبادية أو المدينة التي لا تزال تعيش بعقلية البادية وسلوكها، يحتفون بموت أنثى احتفاء أسطوريا بهيجا ـ بالنسبة لهم ـ لكنّ السارد يؤطّره بسخرية، ليشير رمزيا إلى بدويته وهمجيته من دون أن يقرر ذلك، ومن دون أن يشكل لغة افتعالية مؤدلجة تبرز بدوية هؤلاء الرجال وجلافتهم وغلظتهم. يقول السارد: (( تحلّقوا حول المدفن، خرج من بين الجميع رجل يحمل فأسا، وطفق يحفر في الأرض.
اجتثت الفأس جذور أعشاب صغيرة جفّت فوق أكوام التراب، و تبعثرت بفعل الرياح.
اصطفّوا على شكل دائرة، وأشهروا سيوفهم وبنادقهم وأطلقوا أعيرة نارية في الفضاء.
رقصوا على قرع الطبول، تمايلوا جذلا ثم انطلقت صرخة مدويّة:
ـ ادفنوها !)). ص 33.
و لا يشير الخطاب القصصي إلى الأسباب الرئيسة التي دفعتهم لوأد هذه الأنثى، ولا إلى الأخطاء والذنوب التي ارتكبتها. و من هنا يمكن أن يحيل هذا الخطاب إلى عدّة تأويلات، وإلى عدة إحالات يمكن فهمها وتأويلها برؤى مختلفة ومتباينة، ومن قارئ إلى أخر. فهل الوأد هنا يعني وأد البادية والقبيلة للقيم الحضارية و المعرفيّة الجديدة التي أتت مع المدنية الجديدة وتعقيداتها وتشعّباتها، هذه القيم التي ترفضها البادية، باعتبارها معادية لقيمها البدوية والقبليّة، وعاملة على هدمها؟ أم أنّ الوأد هنا هو وأد لكل ما هو إنساني وحضاري ومعرفي وجديد؟ أم هو وأد لخطاب الحريّة بأشكاله المتعددة؟ أم الوأد هنا هو مجرد وأد قبلي بدوي لامرأة قررت أن تتمرد على أعراف القبيلة وعاداتها، أو لأنّها ارتكبت محرما جنسيا يخرق بنية القبيلة وخطابها الاجتماعي؟
لا يقرر السارد أي حالة من هذه الحالات، بل يترك الخطاب القصصي حاملا لمزيد من الاحتمالات في الفهم والتأويل والتعدد في الرؤى. غير أنّ السارد ينهي القصّة بسيادة خطابات الظلام والخوف والوأد والاستبداد و السواد، على خطابات العقل و الحريّة و التسامح و النور والتنوير، وينهي القصة بالمقطع التالي: (( أومض طيفها من خلايا الصمت و ساد سكون مهيب في ساحة المقبرة.
انصرف الجميع عند حلول المساء.
كانوا يلوّحون برايات سوداء، ويحملون فوق كواهلهم ليل حالك وسلاسل غليظة وبقايا وأد قديم)). ص 34.
هذه بعض الرؤى والخطابات الفكرية التي تضمنتها مجموعة القاص فهد الخليوي، هذا ويعّد القاص فهد الخليوي من أهم كتاب القصة القصيرة والقصيرة جدا في السعودية، الذين احتفوا احتفاء واضحا بتقنية الكتابة الجديدة على مستوى الرؤية والتقنيات الجمالية.
انتهى المقال.
د. محمد عبد الرحمن يونس
باحث وقاص وروائي وأستاذ جامعي
ـــــــــــــــــــــ
ـ رياح وأجراس، قصص قصيرة، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان/ النادي الأدبي بحائل، السعودية، الطبعة الأولى عام 2008م.
ومن هنا فما كان من هذا السارد إلاّ الارتحال إلى فضاءات يأمل منها أن تكون أكثر فرحا وأمانا وطمأنينة نفسيّة وروحيّة، وكان عليه أن يصحب معه عدّة المثقّف المعرفيّة من كتب مهمّة تربّى على ثقافتها ونما وترعرع، وعدّة بسيطة أخرى تعينه على متطلبات حياته اليوميّة التقشفيّة، من مأكل ومشرب وملبس. يقول الخطاب القصصي: (( آنذاك جلب عشرات الكراتين، من مستودعات الأغذّية لشحن كتبه، أمّا باقي الأمتعة فأمكن شحنها بكيس صغير، إبريق شاي من النحاس الأصفر، سخّان كهربائي عتيق، كوب من الزجاج الباهت، فراش من الاسفنج الهابط، أقلام، ناي، شريط غنائي لـ ( فيروز) وأخر لـ ( فوزي محسون).)) ص 22.
وإذا كان هذا الارتحال يبدو أمرا مألوفا في النسق القصصي، فإنّه يشير بشكل مرمّز وخفي إلى القطيعة الابستيمولوجية المعرفيّة بين المثقّف المتميز ثقافة عالية وشموليّة، وبين واقع محبط( بكسر الباء) لا تحقق فيه الذات المثقّفة أي تصالح مع هذا الواقع. ولعلّ سكّان المدن الاقتصادية والتجارية في هذا الواقع، بما فيهم من ملاكين كبار وتجار وسماسرة وثراء فاحشا، هم أكثر الناس إهمالا للمعرفة وطموحات العقل، وبعدا عن أخلاقياتها، وهو يستعير من تدهور الحضارة لشبنغلر المقطع التالي حتى يؤكّد قطيعته مع الواقع : (( سكّان المدن يكررون الحياة والموت بطريقة رتيبة، وليس لهم علاقة بصنع الحضارة البتّة)). ص 22.
وممّا يلاحظ في الخطابات الأدبيّة العربيّة المعاصرة، سواء أكانت شعرية أم روائية أم قصصيّة، نفور الكاتب من المدينة، واعتبارها بؤرة للشرّ والفساد، والكيد والمكر، وانسحاق الرجولة، وتهتك الأنوثّة، و محاولته استحضار بديل من هذه المدينة، وهو فضاء جديد يحقق فيه الحلم صبواته، وخروجه عن فضاء المدينة الملوّث. ولعلّ من أهم الأعمال الأدبية المعاصرة التي تنفر من فضاءات المدن الملوّثة : أشعار بدر شاكر السياب، وبخاصة ديوان: أنشودة المطر.، وروايات الروائي السوري هاني الراهب، وكذلك حيدر حيدر، وروايات المغربي محمد شكري، وغيرها من الأعمال العربية العديدة. وما كان على سارد قصة ( أجراس) لفهد الخليوي إلاّ أن يخرج من هذا الفضاء متأبطا غربته، وزاده المعرفيّ الكبير: (( حمل كراتينه المدهشة وكيس متاعه الصغير، ورحل عن هذا الحيّ قبل ثلاثين عاما)). ص 23.
و بعد ثلاثين عاما تقوده المصادفة لزيارة هذا الفضاء مرّة ثانية، غير أنّه لا يجد فيه إلاّ الخواء، وإحساسا فاجعا بالغربة والشجى، حادا يفتت مسامات روحه، حيث تهبط على روحه: (( إيقاعات حزينة وشجيّة، تناغمت في فضاء روحه، شعر أنّ ذاكرته تشتعل، وتصهر المكان والزمان، وكأنها تحيل حقبة ثورات إلى وثائق معدودات)). ص 23.
غير أنّ الفضاء الذي يبقى أكثر مدى واتساعا وعمقا، وبالتالي أكثر ألفة وحميمة هو فضاء البحر في هذه المدن، إذ يبدو ملاذا لمتاعب الروح، وأرقها: (( قاد سيارته متجها إلى الشارع العام، ثمّ سلك الطريق المؤدّية إلى البحر، هناك وقف على الشاطئ منصتا لدمدمة البحر)). ص 23.
وإذا كان الفضاء القصصي يقلّص جميع الفضاءات القصصية في القصة، باعتبارها فضاءات مغلقة وطاردة لقاطنيها فإنّه يشكّل في آخر السرد القصصي فضاء حرّا شاسعاً، تصبو فيه الروح إلى الانعتاق من فضاء المدينة الملوّث ، مالا واقتصادا وتجارة وثراء فاحشا، وفقرا مدقعا في آن، وإلى اللوذ بشاطئ البحر والاستماع إلى بوحه وخباياه الدفينة، باعتباره فضاء حرّا شاسعا لا محدودا، و بالتالي هو الآخر فضاء معرفي فسيح من الفضاءات المعرفيّة الأخرى الأليفة التي يحقق للسارد متعة جمالية ونفسيّة، وأفقا معرفيا مفتوحا، و ذلك بعد أن أسهمت فضاءات المدينة الأخرى في سدّ هذا الأفق وحجبه، وتعكير صفائه الإبداعي والنفسي.
يقول الشاعر والروائي علي الدميني عن فهد الخليوي في مقدمته للمجموعة القصصيّة: (( ومنذ كتاباته المبكرّة في الصحافة المحليّة في مطلع السبعينيات اختطّ (( فهد الخليوي)) لنفسه مسارا واضح المعالم، لا يركن للمهادنة واستمراء مجانية الكلمة، كما لم ينخدع بما تعد به من مغانم زائفة. و لذلك ذهب إلى صومعة (( الزهد)) الفاضلة منذ مطلع التسعينيات، بعد أن أسهم بشكل فاعل في الإشراف على الصفحات الثقافية في مجلة(( اقرأ))، و حفر اسمه من خلالها كمثقّف تنويري، و مبدع يعمل ضمن سياق الباحثين عن رؤى متسائلة، وآفاق ممكنة " لكتابة جديدة".)). ص 10.
ولعلّ من أهمّ معالم الكتابة الجديدة في مجوعة ( رياح وأجراس) خروج فهد الخليوي عن مسار القصّة الكلاسيكيّة بأنساقها المعتادة، من سرد وحوار، وتأطير للفكرة، ثمّ دفعها للنمو والتعقد، وصولا إلى الحبكة، ثمّ فكّ هذه الحبكة في ما بعد، فالقصة عنده رؤية وانبثاق معرفي، وابتعاد واضح عن تقنيات الحوار الكلاسيكي، و تركيز كثيف واضح في العبارة، ودلالتها، وابتعاد عن السرد الممل، وعن الحوار الوظيفي الذي يفتعل اللغة، ويؤطرها ويؤدلجها للوصول سريعا إلى الفكرة المقصودة. إنّه يحتفي بالمقاطع السرديّة القصيرة المركّزة المرمّزة في بعدها المعرفي، وفي تأويلها، هذا التأويل الذي سيبدو متغايرا ومتباينا من قارئ إلى آخر، ووفقا لثقافته، ولقدرته على الفهم والتأويل والاستنتاج، المتباينة عن قدرة قارئ آخر. يقول في قصة بعنوان( رياح) : (( كان سرب من الطيور يغرّد فوق البحر، ثمّ دفعته شدّة الرياح للتحليق بعيدا باتجاه الصحراء)). ص 15. ويقول في مقطع آخر: (( إنّ للرياح أساطيرها وطقوسها وهي تضرب بأعماق البحر، وتجتاح الصحارى، وتدكّ أقوى الحصون، وتهزم أعتى الأباطرة، وتحيل الساكن إلى متحرك والثابت إلى رماد)). ص 16.
ويمكن القول: إنه وعلى الرغم من قصر المقطع السابق، فإنه يمكن أن يكون محمّلا بمزيد من الرؤى والدلالات والأبعاد المعرفيّة، وربمّا تشير الريح هنا إلى الخروج عن الثبات والجمود، والأنساق المعرفيّة السائدة، وعن النموذج الثابت الراسخ الذي يصبح عالي الشأن، وقويا بثباته، وبالتالي الخروج بالمجتمع الثابت والنمطي، عن كل عوامل قوقعته وسكونه وثباته، فحركية الحياة، ونموها التي تشير إليها بنيويا حركية الرياح التي تدكّ أقوى الحصون لا بدّ في النهاية من أن تسهم في التغيير وأياً كان هذا التغيير، سواء أكان سلبا أم إيجابا. إنّ هذه الحركيّة هي استشراف المستقبل بشتى صوره وتجلياته في أشكال جديدة . وما يهمّ الرؤية القصصية هنا أن تكون هذه الرياح قادرة على تغيير المجتمع السكوني، وحياته وثقافته، وطوائفه وقبائله وخرافاته وأساطيره، أي تغيير النسق المعرفي الثقافي، والسائد المكرّس بالسطوة، سطوة المجتمع وسطوة أعرافه وتقاليده وعاداته.
ويشير الخطاب القصصي في هذه القصة ( رياح) إلى أنه يوجد في أعماق الناس رغبة كامنة بتغيير مجتمعاتهم النمطيّة وعادات هذا المجتمع وقيمه التي لم تعد صالحة في مراحل النمو الحضاري الجديدة التي دخلت على المجتمعات المعاصرة. ونلاحظ أنّ هذه الرغبة هي موجودة في الخلفيات المرجعيّة والمعرفيّة للأمم الحديثة والقديمة، وهي من أكثر المفردات في الكتب المقدّسة. يقول الخطاب القصصي: (( استبدّ شغف لدى الناس بتقصي كلّ ما يتصل بمعرفة الرياح، وتوصّل باحثون إلى أنّ كلمة رياح هي أكثر المفردات انتشارا في الكتب المقدّسة و في معاجم الأمم القديمة والحديثة، كما أنّ الكتب المهتمّة بتاريخ الرياح أشارت إلى أنّ مدنا مشتتة بأصقاع العالم اجتاحتها رياح عاتية، و دكّت سكونها، وبدّلت أزمنة بأزمنة وأنماط بأنماط)). ص 16.
إنّ الطفرات المعرفيّة الحديثة في نظريات الفكر والثقافة وامتدادها إلى جميع حقول المعرفة، وفي معظم دول العالم المعاصر، أسهمت إسهاما واضحا في تغيير كثير من مفاهيم الناس في عالمنا العربي وفي آرائهم وقيمهم الثقافية التي كانت سائدة ومكرّسة بقوة، بفعل مجموعة من السلطات الثقافية والمجتمعيّة والقبليّة والعشائريّة والطائفيّة. وقد أشارت الخطابات المعرفيّة في ثقافتنا المعاصرة إلى هذه الطفرات واحتفت بها احتفاء واضحا، احتفاء الباحث عن جديد وعمّا هو مغاير لثقافة النسق السائد، وبخاصة في القصة والرواية والدراسات النقدية المعاصرة. وكان نصيبها واضحا في القصة والرواية السعودية المعاصرة كما نلاحظ في روايات غازي عبد الرحمن القصيبي وبعض روايات رجاء عالم. ولعلّ مجموعة القاص فهد الخليوي ( رياح وأجراس) من المجموعات القصصية المهمّة التي احتفت بهذه الطفرات وبشّرت بها، ودعت إلى سيادتها في المجتمعات العربيّة المعاصرة أملا في التخلص من بداوتها وقبليتها.
ويشير الخطاب القصصي إلى أنّ المستقبل، و مهما طال الزمن لا بدّ وأن يتخلص من سوداوية الواقع المعاصر، ورفض بعض أفراده الشرس لأي حركة تجديد وإصلاح، سواء أكانت هذه الحركة تهزّ ثقافة الأمة السائدة، وتحدث شرخا في سكونيتها، أم تهزّ سلوكها المتزمت المتشدد، الذي يقف معارضا لما هو جديد، ولما هو حضاري نام، متشعب ومتعدد الرؤى والثقافات والاتجاهات. وفي نهاية المطاف ستجتاح رياح التجديد المعرفيّة فضاءات الأمّة السوداء، وتبددها تمهيدا لبناء فضاءات جديدة أكثر علما وعقلانية ومعرفة متجددة. وبفضل حركات التجديد المعرفيّة المعاصرة سيتجدد بناء الأمّة الحضاري والعقلاني، وهذا ما يشير إليه المقطع التالي إشارات رمزيّة، وقريبة الدلالة، واضحة اللغة. يقول المقطع: (( و حكى الرواي أسطورة القرية التي نسفتها الرياح عن بكرة أبيها، ولم ينج من أهلها عدا بضعة رجال ونساء تناسلوا عبر الأزمنة وأعادوا بناء القرية بأنساق جديدة بعد أن هبّت عليها رياح، حملت أمطارا غزيرة جلبتها من سماء بعيدة، وارتوت بعد هطولها الأرض، وأينعت السنابل، وتكاثر النسل وأقيمت الأعراس، وأضيئت الشموع في كلّ دار وسابلة)). ص 16.
وإذا كان بعض الطامحين من الجيل الجديد إلى التغيير في بنية المجتمع المحافظ وعاداته وتقاليده يحتفون برياح التغيير الجديدة فإنّ بعضا آخر من سكان المجتمع التقليدين أو الكلاسيكيين، والذين يرفضون ما هو جديد وعصري، يتوجسون خيفة وقلقا وحذرا من هذه الرياح الجديدة لأنّها ستهزّ مفاهيمهم القديمة، وستحدث ثغورا وفجوات واسعة فيها، وبالتالي هدما لجدرانها الصلدة، ولأنساقها الثقافية السائدة التي لا تريد تغييرا ولا تجديدا في بنيتها المعرفيّة. ويشير الخطاب القصصي إلى ذلك بشكل واضح في المقطع الآتي:
(( كان القلق يرتسم على الملامح خوفا من انهيار البيوت والأعمدة سيما وأنّ المدينة بنيت على النسق القديم ذي الطبيعة العشوائية وربما تصبح في مرمى الخطر المحدق أمام هول الرياح وضراوتها)). ص 17.
وعلى كلّ حال، وعلى الرغم من نمو الثورات المعرفية والعملية الكبرى المطرد في شتى مناحي الفكر الإنساني ، وتأثير هذه الثورات في بنية العالم العربي وثقافته وسيرورته الزمنيّة يلاحظ أنها لم تسهم إسهاما كبيرا في تخليص المجتمعات العربيّة من أمّيتها المستشرية، ومن عاداتها القبلية والبدوية والعشائريّة، وطائفية الاقتتال والعنف والتناحر البغيضة، فمجتمعاتنا المعاصرة لا تزال مكبلة بقيود التخلف، وبقيود كل ما هو مستهجن من عادات بدويّة وقبليّة وعشائريّة، ومدننا العربية على الرغم من نموها، وعمرانها الشامخ والمذهل، وتعقّد أطر الحياة فيها ـ بأشكالها المختلفة ـ وجامعاتها وكلياتها الضخمة، لا تزال مدناً بدويّة وقبليّة في بنيتها الأساسيّة، وفي بنية دوائرها ومؤسساتها وقوانينها، بما تحمله هذه الدوائر من أمراض بيروقراطيّة مزمنة ومتخلفة. وهذه حال غريبة معقدة، تدعو إلى الحيرة والقلق، ولا يمكن فهمها فهما دقيقا وموضوعيا. ويبدو أننا أمم متخلفة يسيطر عليها التخلف، ويشدها إلى الوراء، ويمنعها من أن تسهم إسهاما معرفيا وعلميا في التقدم الحضاري والإنساني، مثلما تسهم به بقية الأمم المتحضرة الأخرى.
ويقول الشاعر والروائي علي الدميني عن تقنية الكتابة الجديدة في مجموعة( رياح وأجراس) التي نحن بصددها: (( ويمكن أن نمدّ زاوية النظر إلى تلك التقنية الكتابية في بنائها لفضاء الأمكنة، حين نرى إلى أن " القرية" التي هجرتها شاحنات القمح بفعل سطوة سيد الأرض، وأنّ المدينة التي تقاوم التغيير فيما تهددها الريح، ليست قرية بذاتها، أو مدينة بعينها، وإنّما هي أمكنة مؤسلبة، يمكن أن نتقرى فيها ملامح التعبير عن الذات الإنسانية ( ...) وعن أفق للتشكيل الجديد، عبر رؤى أعين قلقة على مصيرها، وباحثة عن مستقبلها في هذا الكون)). ص 13 من المقدمة.
وفي القصة الموسومة بـ ( إبادة) نلاحظ أنّ رؤية مأساوية تهبط على بينة الفضاء القصصي لتغلّفه بلغة حزينة سوداويّة، والتي بدورها ستشيع في فضاء منزل السارد مزيدا من الصور القاتمة واليأس إذ تزحف حشرة إلى منزله، ثمّ تتكاثر وتتوالد لتبيد كلّ شيء في فضاء هذا المنزل. يقول الخطاب القصصي: (( شعر بهمود ذهنه ونفور عروقه، وقرقعة عظامه، نشطت حشرة الإبادة، وأنجبت سلالتها المدمّرة في ربوع بيته الكبير. قاومها بكلّ مقتنياته الفتّاكة، انهارت مقاومته أمام الزحف الكاسح للحشرة)). ص 19.
إنّ هذه الحشرة تشيرـ في المستوى السيميولوجي ـ إلى حالات من اليأس المطلق، التي تصيب بنى الحياة، باختلاف مناحيها وأشكالها. وتشير إلى حالات الظلام التي تفتك بها، وربما إلى جميع الحالات المرضيّة واللوثات المزمنة التي يعاني منها المجتمع الإنساني، والتي تفتك بشراسة بأبناء هذا المجتمع، وهذه الحالات المستعصية التي لا شفاء منها، ستسهم في تدمير منزل الرواي وإحلال المرض في أهل بيته، وبالتالي في تخريب صحة هذا الفضاء الصغير، الذي يشير في نهاية المطاف إلى الفضاء الاجتماعي الكبير، بسوداوية علاقاته وأمراضها ولوثاتها المرضية، وبالتالي إلى فقدان اليأس في أي شكل من أشكال الإصلاح الاجتماعي، والرقي الحضاري المعرفي، إنّها مرحلة هزيمة الإنسانية والوعي المعرفي وتراجعهما تمهيدا لإبادتهما وانقراضهما. يقول الخطاب القصصي: (( كياني يحترق!
تسلقت سلالات الحشرة أبدان حاشيته وأخذت إحدى زوجاته تعوي من قسوة داء الجرب، وعصف( الدرن) بأطفاله وفلول خدمه.
حدّ ق بالشمس وترجرج دمع آسن في قاع عينيه أسلمه إلى ظلام دامس.
ـ إنّه الفناء!!
قال ذلك واستسلم لعواء طويل!)). ص 20.
وإذا كانت ( الشمس) في مستواها الإشاري تشير إلى التنوير والسطوع المعرفي، وبثّ عوامل النماء والخصب والصحة والديمومة في الأمّة، فإنّها في هذا المقطع تفقد هذا المستوى الإشاري لتصبح هي الأخرى عامل إبادة، واحتراق وفناء، وليس احتراقا تمهيدا للولادات الجديدة، والنهوض الحضاري الجديد، كما تشير الأساطير في مستواها الرمزي، بل يعني الاحتراق في مستواه التخريبي والتدميري والإبادي.
وفي القصة الموسومة بـ ( عن قرية هجرتها شاحنات القمح) يدين الخطاب القصصي إدانة واضحة طبقة أصحاب الثراء والأموال الجدد الذين ظهروا بشكل قوي وفاعل في المجتمع نتيجة الطفرة الاقتصادية والمالية. هؤلاء الأثرياء الجدد الذين لاهمّ لهم إلاّ الامتلاك ، وبأي طريقة كانت، سواء أكان امتلاكا مشروعا، أم امتلاكا استلابيا لأموال الآخرين الفقراء وأعراضهم وأملاكهم، فالسيد الثري الذي يريد عزل إحدى القرى الفقيرة عن العالم تمهيدا لاستلابها، واستلاب نسائها، يقرر عزلها عن العالم بحرمانها من الطريق الاسفلتي الذي هو بوابتها صوب العالم، والذي من شأنه ـ إن مرّ بها ـ أن ينعشها اقتصاديا، وينعش زراعتها. غير أن السيد يقرر أن يجعل الطريق بعيدا عنها. وأمام الحال هذه ما كان من أعيان القرية إلاّ التوسل للثري أن يتراجع عن قراره، فتقدّموا إليه، وتزلفوا له، وقبّلوا يديه راجين أن يعدل عن قراره: (( دخل أعيان القرية، يتقدّمهم الإمام وشيخ القرية، وانحنوا أمامه وقبّلوا يديه ملتمسين عدوله عن هذا القرار الذي سيدمّر اقتصاد القرية ويحيلها إلى مجرد أكواخ متناثرة وسط صحراء قاحلة)). ص 25.
وحتى يستطيعوا التأثير على قرار هذا السيد، صاحب النفوذ الاقتصادي والمالي الكبير، قرروا أن يختاروا له أجمل فتيات القرية تمهيدا لإرضائه، واستمالة قلبه، وإطفاء سعار جسده، وبالتالي أملا في التخلص من بطشه وجبروته، وعدوله عن قراره الجائر. يقول الراوي: (( تطوّع نساء كثيرات في تنفيذ هذه المهمة وانتشرن بكلّ أرجاء القرية، وتكللت تلك الجهود المضنية بالنجاح.
تمّ انتخاب " مضاوي" المفرطة بجمالها وأنوثتها وذكائها، لكي تزف إلى سيد الأرض. خرموا جسدها الغضّ بالخماخم الذهبيّة، والحجول الفضيّة، ومشطوا ضفائرها بالمسك والعنبر، وخضبوا كفوفها بالحناء. علّموها كيف تشعل أنوثتها المثيرة، وتحكم سيطرتها على غرائز السيد)). ص 27.
و تنتهي القصّة بخطاب ساخر لاذع بأحلام سكّان القرية البسطاء، وبوسائلهم الانهزاميّة في معالجة الخطر المحدق بحياتهم، واقتصادهم ولقمة عيشهم، وهذا الخطاب يسخر ـ في الآن نفسه ـ بهذا الثري الجشع الذي لا تكفيه أموال العالم لتهذيب نزوعه الوحشيّ والافتراسي صوب التملك والثراء، والذي لا تكفيه أجساد نساء العالم لإطفاء سعاره الجنسي والشبقي البهيمي. وينهي الراوي القصّة بهذا المقطع الساخر: (( التهم سيد الأرض روائع أنوثة ( مضاوي) لكنه أصيب بسعار مخيف، وقرر التهام كل بنات القرية)). ص 27.
و في القصّة الموسومة بـ (( سطور من تراث الوأد))، يدين الخطاب القصصي العادات المتخلفة في بنية العلاقات القبليّة والبدويّة، من خلال إيديولوجيا إيحائيّة مرمّزة، فرجال القبيلة والبادية أو المدينة التي لا تزال تعيش بعقلية البادية وسلوكها، يحتفون بموت أنثى احتفاء أسطوريا بهيجا ـ بالنسبة لهم ـ لكنّ السارد يؤطّره بسخرية، ليشير رمزيا إلى بدويته وهمجيته من دون أن يقرر ذلك، ومن دون أن يشكل لغة افتعالية مؤدلجة تبرز بدوية هؤلاء الرجال وجلافتهم وغلظتهم. يقول السارد: (( تحلّقوا حول المدفن، خرج من بين الجميع رجل يحمل فأسا، وطفق يحفر في الأرض.
اجتثت الفأس جذور أعشاب صغيرة جفّت فوق أكوام التراب، و تبعثرت بفعل الرياح.
اصطفّوا على شكل دائرة، وأشهروا سيوفهم وبنادقهم وأطلقوا أعيرة نارية في الفضاء.
رقصوا على قرع الطبول، تمايلوا جذلا ثم انطلقت صرخة مدويّة:
ـ ادفنوها !)). ص 33.
و لا يشير الخطاب القصصي إلى الأسباب الرئيسة التي دفعتهم لوأد هذه الأنثى، ولا إلى الأخطاء والذنوب التي ارتكبتها. و من هنا يمكن أن يحيل هذا الخطاب إلى عدّة تأويلات، وإلى عدة إحالات يمكن فهمها وتأويلها برؤى مختلفة ومتباينة، ومن قارئ إلى أخر. فهل الوأد هنا يعني وأد البادية والقبيلة للقيم الحضارية و المعرفيّة الجديدة التي أتت مع المدنية الجديدة وتعقيداتها وتشعّباتها، هذه القيم التي ترفضها البادية، باعتبارها معادية لقيمها البدوية والقبليّة، وعاملة على هدمها؟ أم أنّ الوأد هنا هو وأد لكل ما هو إنساني وحضاري ومعرفي وجديد؟ أم هو وأد لخطاب الحريّة بأشكاله المتعددة؟ أم الوأد هنا هو مجرد وأد قبلي بدوي لامرأة قررت أن تتمرد على أعراف القبيلة وعاداتها، أو لأنّها ارتكبت محرما جنسيا يخرق بنية القبيلة وخطابها الاجتماعي؟
لا يقرر السارد أي حالة من هذه الحالات، بل يترك الخطاب القصصي حاملا لمزيد من الاحتمالات في الفهم والتأويل والتعدد في الرؤى. غير أنّ السارد ينهي القصّة بسيادة خطابات الظلام والخوف والوأد والاستبداد و السواد، على خطابات العقل و الحريّة و التسامح و النور والتنوير، وينهي القصة بالمقطع التالي: (( أومض طيفها من خلايا الصمت و ساد سكون مهيب في ساحة المقبرة.
انصرف الجميع عند حلول المساء.
كانوا يلوّحون برايات سوداء، ويحملون فوق كواهلهم ليل حالك وسلاسل غليظة وبقايا وأد قديم)). ص 34.
هذه بعض الرؤى والخطابات الفكرية التي تضمنتها مجموعة القاص فهد الخليوي، هذا ويعّد القاص فهد الخليوي من أهم كتاب القصة القصيرة والقصيرة جدا في السعودية، الذين احتفوا احتفاء واضحا بتقنية الكتابة الجديدة على مستوى الرؤية والتقنيات الجمالية.
انتهى المقال.
د. محمد عبد الرحمن يونس
باحث وقاص وروائي وأستاذ جامعي
ـــــــــــــــــــــ
ـ رياح وأجراس، قصص قصيرة، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان/ النادي الأدبي بحائل، السعودية، الطبعة الأولى عام 2008م.