تحاول الدكتورة سناء كامل الشعلان في مجموعتها القصصية الجديدة ((قافلة العطش))، أن تسجل معالم البادية والصحراء، بعلاقاتها وقيمها وأعرافها البدوية والقبلية، ولعل مجموعة ((قافلة العطش)) من المجموعات القصصية العربية المهمة التي تحتفي بالبادية وعلاقاتها وأعرافها، وهي لا تشكل صورة مشرقة لهذه البادية كما صورتها الكلاسيكيات الأدبية، إذ تصبح البادية عندها صحراء قاتلة، وفضاء طارداً لساكنيه، الذين بدورهم ينفرون منه و لا يرغبون بالعيش فيه، ومن ثمة يريدون تبديله بفضاء جديد أكثر إنسانية وحضارة وانفتاحا معرفيا صور الآخر بحسّه الجمالي والحضاري، وتحديدا صوب العلاقات المدينية التي ينتفي منها القتل و السلب والنهب واختطاف النساء. يقول الخطاب القصصي: ((كانوا قافلة قد لوّحتها الشمس، وأضنتها المهمّة، واستفزّها العطش، جاءوا يدثّرون الرمال وحكاياها التي لا تنتهي بعباءات سوداء تشبه أحقادهم وغضبهم وشكوكهم. تقدمّ كبيرهم، كان طليعتهم بالسن وبالكلمة وبالغضب، (…) قال(…): ” جئنا نفتدي بمالنا نساءنا اللواتي أسرتموهنّ في غارتكم على مضاربنا” ص 9.
وإذا كان صوت البادية هو الصوت القوي السائد الذي يكرّس أعراف القبيلة و الدم والقتل والاختطاف على أحداث القصة الأولى(قافلة العطش) التي توسم المجموعة باسمها، فإنّ ثمة وعيا حادا لدى الشخوص لتغيير هذا الواقع وإحداث شرخ في بناه الفكريّة و المعرفيّة، وأعرافه القبلية. فبطل القصة يختطف امرأة جميلة يراها قمرا وحلما جميلا، وأملا، لا تتحقق سعادته إلاّ بالحصول عليها، ويخطف رجاله مجموعة من نساء القبيلة نفسها، عندها ـ وفقا لعادات القبائل وأعرافها البدويّة ـ يذهب رجال القبيلة(المخطوفة نساؤها) ليفدوا نساءهم و بناتهم، ويتقدّمون بالفدية من الأموال طالبين إطلاق سرح نسائهم، إلى بطل القبيلة الخاطفة وسيدها الذي خطف أجمل امرأة من قبيلتهم.
و يشير الخطاب القصصي إلى شهامة هذا البطل وإحداثه شرخا في علاقات القبائل وأعرافها، فبدلا من أن يأخذ المال الفدية، ويضمّه إلى ممتلكات قبيلته، و يطلق النساء من الأسر، و بذلك يكون حقق معادلة القبائل و موازينها، وأعرافها البدوية، فإنه يعفو عن جميع النساء المختطفات، عافا عن المال أيضا، حبا بالمرأة الجميلة التي عشقها وأحبّها حبا ملأ عليه كيانه و ذاكرته. يقول الراوي: ” لقد أكرم قومها لأجلها، أمر بأن يقدّم الماء و الغذاء للقافلة التي جاءت تستردّ مهره القمري، رفض المال، ورفض الفداء، بل أنعم على كلّ النساء بالحرية، وخيّرهن بين البقاء أو الرحيل مع أبناء عشيرتهن، فاخترن كلهنّ الرحيل، (…) تأمّل جسدها السابح في ثيابها الفضفاضة، اضطربت أصابع يديه عندما تخيّلها تسرح في شعرها، الذي تداعبه الريح بلا خجل، صوت خلخالها وخرزها الصدفي الذي تتزيّن به أحدث بعزفه الحزين زلزالا في نفسه، التي امتدّت لتحتضن الصحراء كلّها لتحضنها هي بالذات”. ص11-12.
فالبطل عاشق متيّم، و هو لا يريد مالا، يريد امرأة حبيبة مغايرة لنساء قبيلته كلها، والخطاب القصصي، في بنيته العميقة، يشير إلى رغبة أفراد القبائل البدوية بتجاوز محرمات قبائلهم وقوانينها، وبتجاوز الأنساق المعرفيّة فيها والمكرّسة بسلطة القبيلة، فهذا البطل لا يريد امرأة من قبيلته على الرغم من توافر نساء قبيلته وبكثرة، هو يريد صوتا أنثويا مغايرا لأصوات قبيلته. لقد أسر المرأة الجميلة، وأرادها زوجة وحبيبة لا امرأة مهانة أسيرة مختطفة، وأحبّها حبا ملأ شغافه، وهي ـ بدلا من أن تحقد على خاطفها الذي أذلّها وأهان حريتها وكرامتها، وشرخ أعراف قبيلتها، إذ حوّلها من امرأة سيدة، حرة، إلى عبدة مستلبة مخطوفة ـ أحبت هذا الخاطف، و أرادت أيضا أن تغيّر ميزان العلاقات القبلية أو البدوية، وأن تخرج عن أعراف قبيلتها البدوية، أو تحدث شرخا فيها، وهي في حقيقة الأمر ترفض أعراف هذه القبيلة وعاداتها، هذه الأعراف التي ترى نساء القبيلة جزءا لا يتجزأ من ممتلكاتها، من مال ومواش وقطاعات زراعية.
لقد أحبّت البطل الخاطف ـ متجاوزة أعراف قبيلتها التي ترى ذلك معيبا ومخجلا بحق المرأة الحرّة التي ترضى خاطفها ـ فولاء المرأة، مثلها مثل كل أفراد القبيلة، يجب أن يكون ولا ء دمويا، و قبليا، قبل أي ولاء آخر، و في القبيلة لا قيمة للحبّ والعشق إن لم يتحدد بهذا الولاء، فامرأة القبيلة ملك لابن عمها أو قريبها، أو أي رجل آخر من أفراد هذه القبيلة، ومن ثمة يحرم عليها أن تكون ملكا لأي فرد من أي قبيلة أخرى. ومن هنا فإن الخطاب القصصي يستنفر عداوة والدها ضدها، وعداوة جميع أفراد القبيلة، إذ يدعو والدها ـ سيد قبيلتها ـ جميع أفرا د قبيلته إلى قتلها لأنها خرقت أعراف القبيلة. يقول الخطاب القصصي: ” ارتفعت سيوف القبيلة مهدّدة سيوف الضيوف، التي هددت الأسيرة العاشقة بالموت، صرخ الأب: ” خائنة، ساقطة، اقتلوها، لقد جلبت العار لنا، كيف تختارين أسرك على أهلك؟! لقد جئت ببدعة ما سمعت بها العرب من قبل، كيف تقبل حرّة أن تكون في ظلّ آسرها؟”. ص 12 ـ 13.
غير أنّ حبّها لخاطفها ـ كما يؤكّد الخطاب القصصي ـ أقوى من أي ولا ء آخر، فخاطفها هو البديل الجمالي و الحضاري، أو بتعبير آخر هو الفضاء المعرفي الذي تطمح من خلاله إلى تحقيق إنسانيتها من جهة، و تحقيق حريتها من جهة أخرى، وإلى سيادة خلفية معرفيّة وحضارية جديدة مدينية بدلا من خلفية البادية والقبيلة والصحراء، هذه الصحراء العطشى إلى الحب. و ها هي تعلن حبّها لهذا البدوي الأسمر الذي خطفها متحديا جميع أعراف قبيلتها. تقول القصة: ((كانت على وشك أن تعتلي هودجها، بقبضته القوية منعها من إكمال صعودها، وقال بمزيد من الانكسار: ” من ستختارين؟”.
نظرت في عينيه: ” أنا عطشى… عطشى كما لم أعطش في حياتي”. اقترب البدوي الأسمر خطوة أخرى منها، كاد يسمع صهيلها الأنثوي، و قال: ” عطشى إلى ماذا؟”
قالت بصوت متهدّج: “عطشى إليك… “. ص 12.
وإذا كانت هذه المرأة قد تحلّت بأعلى درجات الشجاعة واجترأت على جميع أعراف قبيلتها علنا، ومن دون خوف أو وجل، فإن بذور التمرد كانت كامنة في نفوس جميع نساء القبيلة المخطوفات، غير أنّ هذه البذور ظلّت كامنة، إذ كانت هاته النسوة تحمل في أعماقهنّ رغبة بالخروج من فضاء قبيلتهن إلى فضاء القبيلة الخاطفة. وتشير هذه الرغبة ـ في مستواها الرمزي والإشاري إلى الرغبة بتبديل المكان القبلي البدوي بمكان أكثر رحابة في الحبّ والعشق، و الخروج عن كابوس القبيلة وسلطتها. وقدّ أحسّ رجال القبيلة، بعد أن استردوا هاته النسوة من الأسر، برغباتهن الجامحة بالتجديد والتغيير، والخروج عن جمود المكان بعلاقاته الاستلابية، علاقات العرف السائد، كوأد البنات خوفا من العار والفقر، واعتبار النساء سلعة مملوكة، مثل أي سلعة أخرى، من ممتلكات القبيلة كالأموال والمواشي والملكيات الزراعية. فما كان من هؤلاء الرجال القبليين إلا أن قتلوا جميع نسائهم، لأنهم اكتشفوا أن لديهن رغبة الخروج عن أعراف القبلة، ورغبة بالتجديد المعرفي والجنسي في آن، فهن عطشى إلى الحب، وإلى كل ما هو جديد، بعيد عن الرتابة الخانقة، رتابة البادية والصحراء: “شعرت القافلة أنها محمّلة دون إرادتها بالعطش، العطش إلى الحبّ والعشق، لكن أحدا لم يجرؤ على أن يصرّح بعطشه، عند أول واحة سرابية ذبح الرجال الكثير من نسائهم اللواتي رأوا في عيونهنّ واحات عطشى”. ص 13.
وزيادة في قتامة الطقس البدوي والقبلي لدى سكان الصحراء والقبائل، فإن الخطاب القصصي لم يكتف بأن يجعل الرجال يذبحون نساءهم التوّاقات إلى عوالم جديدة، بل جعلهم يئدون بناتهم اللواتي لم تنم رغباتهن بعد، خوفا من أن تولد عندهن هذه الرغبات الجامحة بالتغيير والخروج عن أنساق القبائل وأعرافها المعرفية في ما بعد ” وعندما وصلوا إلى مضاربهم وأدوا طفلاتهم الصغيرات، خوفا من أن يضعفن يوما أمام عطشهن، و في المساء شهد رجال القبيلة بكائية حزينة، فقد كانوا هم الأخرون عطاشا”. ص 13.
إذاً ليست النساء عطشى إلى الحب والمعرفة والتجديد في صحراء القبائل فحسب، كما يشير الخطاب القصصي، بل الرجال هم راغبون أيضا بهذا التجديد، و كسر قساوة أعرافهم وقوانينهم الصارمة، غير أن قوانين البادية هي الأصل والأقوى، وهي الجذر الذي لا يمكن انتزاعه أبدا من تربة الصحراء العطشى القاسية والموحشة، و لذا فإن العرف القبلي والبدوي لا يمكن تجاوزه أبدا في ظلّ ما تفرزه الأنساق المعرفية البدوية، ومن هنا سيظل أفراد الصحراء والبادية في الخطاب القصصي، سواء أكانوا رئيسين أم ثانويين، مستلبين في طموحاتهم وأحلامهم ورغباتهم بالتجديد والمغايرة، تقول القاصة: ” لكنّ الرمال كانت تعرف أنها مجبرة عل ابتلاع ضحاياها الناعمة خوفا من أن ترتوي يوما، كان مسموحا للقوافل أن تعطش وتعطش، ولها أن تموت إن أرادت، لكن الويل لمن يرتوي في سفر هذا العطش الأكبر”. ص 14.
وفي القصة الثانية الموسومة بـ ((النافذة العاشقة)) يدين الخطاب القصصي الحالة الدونيّة التي وصلت إليها المرأة العربية، فهي مستلبة لا إرادة لها بفعل سلطة الرجل الاستبدادية التي تهمّش هذه المرأة، وتحوّلها من امرأة معطاءة مبدعة فعّالة في البيت والمجتمع والمؤسسة إلى مستكينة خانعة لرغبات الرجل، وتحديدا الجنسية المتحفزة دائما، ويدين هذا الخطاب سلطة الرجل الذكورية المستبدة التي لا ترى في المرأة إلاّ وعاء للذّة والإنجاب، ومن ثمة يدين العلاقات المشوّهة بين الجنسين: الجنس الأقوى/ الرجل المستبد، والجنس الأضعف الخانع/ فاقد الإرادة/ المرأة التي روضت نفسها على قبول واقعها المتخلف، وروّضت جسدها لأن يكون وعاء للتفريغ الجنساني بعيدا عن الحسّ الجمالي الإنساني الذي يحكم طبيعة العلاقة الحضارية بين الرجل و المرأة، وفي آن دفنت مشاعرها وتطلعاتها ورغباتها أمام سطوة رغبات زوجها الشهوانية المندفعة. تقول القصة: ((لم تكن تأبه بجسدها الذي ترهل دون مبالاة بأعين الرقباء، ولا بملابسها ذات الموضة القديمة المنسيّة، ولا بخضرة عينيها اللتين غرقت فيهما الأحلام منذ زمن طويل، بالتحديد منذ أن تزّوجت رجلا لا يعرف من طقوس الرجولة إلاّ لحظات الفراش، التي تمرّ مثل التقاء غريبين في مرفأ عتيق، ثمّ سريعا يلوّحان لبعضهما بالوداع دون أدنى مشاعر)). ص 15.
ولقد أسهم الرجل الاستبدادي في قتل جماليات نفسها، حتى جعلها تنسى عاطفتها وإحساسها الجمالي بالحب، و تنسى زينتها وملابسها الجميلة، وهي مظاهر مهمة في حياة أي امرأة. ومن هنا فقد عمل الخطاب القصصي على تشكيل فضاء آخر معاد لفضاء الاستبداد، وهو فضاء نافذة المطبخ الذي يشير رمزيا ـ في الخطاب القصصي ـ إلى الحرية وإلى الأمل بالحب المفقود و إلى أحلام بعيدة الجموح تطمح للقاء رجل فارس جميل مغاير لزوجها الرتيب المستبد، ومغاير في آن لرتابتها المعتادة في تربيتها لأولادها وعلاقاتها معهم، فما كان منها إلاّ أن لجأت إلى نافذة المطبخ، الفضاء الحالم المنفتح على عالم جمالي آخر، النافذة التي ((التي قتلتها تنظيفا وتلميعا، ثمّ كستها بالقماش الشفاف ذي التخريمات الزخرفيّة، وطوّقت الجنبات المتدليّة من هذا القماش بشرائط السيتان الحمراء.)) ص 16.
لقد بدا فضاء النافذة أهم الفضاءات المكانية في حياتها، لأن إحساسا بالدفء والجمال تشكّل جديدا في حياتها اليومية، وكسر جمود هذه الحياة مع أطفالها وزجها المستبد، وتقف وراء هذا الإحساس رغبة عارمة دفينة بلقاء رجل يعيد إليها كل الأحلام الجميلة التي غابت عنها، يعيد إليها إحساسها بأنها أنثى مرغوبة، وبأن لها حريتها وإرادتها بعد أن سلبها زوجها جميع آفاق الحرية ورغباتها. تقول القصة: ((ثمّ فتحت هذه النافذة طاقة صغيرة على أنوثتها، وولّدت عندها رغبة الانتظار وأشواق اللقاء. لم تكن قد خبرت من قبل معنى لذّة الانتظار، ولم يكن انتظارها يطول للشاب الأسمر ذي الهدبين السرمديين، والقامة الممتدة بسخاء، إذ سرعان ما يطلّ ليفي بنذره اليومي بين يديها، كان من الواضح أنّه يصغرها بعقد من الزمن، ويكبرها بعقود من الحيوية والسعادة والأمنيات والطيش)). ص 16.
ومن الملاحظ في مجموعة ((قافلة العطش)) أن الخطاب القصصي يحتفي بالأبطال ـ سواء أكانوا رجالا أم نساء ـ الذين يكرهون فضاء الصحراء، وينفرون منه، لأنه فضاء قاس يخنق تطلعات قاطنيه، و رغباتهم المتأججة، ففي قصة ((تحقيق صحفي))، تعبّر بطلة القصة عن كراهيتها لهذا الفضاء قائلة: ((هي تكره الصحراء، لأنها تشبه قسوة حياتها، وتكره أنّها مضطرة إلى أن تتجشم رحلة طويلة في صحراء لا تعرف نهاية، و تبتلع الآهات والرغبات)). ص 62.
وإن كانت بطلة القصة مضطرة لأن تتعامل مع فضاء الصحراء الشاسع، فإنّها تتعامل معه بنفور واضح، ولا يهمّها منه إلاّ بقدر ما يحقق لها من مكاسب ماليّة، أي أنّ علاقتها به علاقة وظائفيّة (على حدّ تعبير فلاديمير بروب)، وعندما تتحقق هذه العلاقة الوظائفية ستنفر منه، فهي بحاجة إلى المال، ومضطرة للذهاب إلى هذا الفضاء لكسبه، لأنها ((تجري تحقيقا صحافيا عن بدو الطوارق في ديارهم، وعزاؤها الوحيد أنّ هذا التحقيق سيدرّ عليها مبلغا جيدا من المال، إذ إنه سينشر في مجلة فرنسية مشهورة تراسلها منذ سنوات، وهي الآن في أشدّ الحاجة إلى المال لتسديد فواتير المحامي الموكل بقضيتها)). ص 62.
وهذه البطلة الكارهة لفضاء الصحراء، هي أيضا نافرة من قاطنيه، لأنهم مثله غير حضاريين أو غير مدينيين في تعاملاتهم مع المرأة بوصفها كائن إنساني، فهم يفضلون عليها ناقة جرباء، فإذا كانت هذه الناقة مهمة في حياتهم لأنها تقدم لهم خدمات يحتاجونها فإن المرأة هي الأخرى تصبح سلعة مثلها مثل الناقة، ولها وظيفة مهمة ـ بغض عن إنسانية هذه الوظيفة وجمالياتها ـ إنها وظيفة ولادة الذكور وإمتاع الرجال جنسيا وغريزيا. تقول القصة: ((بدت متبرمة فضولية، وهي تسأل(…) عن الصورة الاجتماعية لامرأة الطوارق، وإن كانت معنيّة من الانتهاء من التحقيق الصحفي لتقفل راجعة إلى العاصمة أكثر من الوقوف طويلا عند حياة أفراد تظنّ أنهم في هكذا مفازة قد يقدّمون حياة ناقة جرباء على حياة امرأة)). ص 64.
غير أنه يمكن القول إن المدينة العربية المعاصرة، على الرغم من انفتاحها المعرفي والحضاري، وعلى الرغم من مظاهر التقدم التكنولوجي والازدهار المعرفي فيها، وتكريس النظريات الفكرية التي تدعو إلى إعطاء المرأة حقوقها، فهي لا تزال ترى في المرأة عالة على المجتمع، ولا تزال ترى فيها شرا ومفسدة، ومنبعا للفتن وإثارة الغرائز وإفساد الشباب، باستثناءات جد طفيفة، ولا يزال الحس البدوي والقبلي والصحراوي هو السائد في نسق العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمعاتنا العربية المعاصرة.
وممّا يثير الانتباه في هذه المجموعة القصصية استخدام لغة جميلة سهلة لا تعقيد فيها ولا تكلف، ولا صعوبة، لغة قادرة على أن تستوعب الرؤى المعرفيّة التي تريد القاصة أن تبثّها في خطابها القصصي، بحيث لا تبدو كلمة واحدة في مجموعتها تحتاج إلى الرجوع إلى المعاجم لفهم معناها.
وقد كان لقدرة القاصة المتميزة في استخدام تقنيات الفضاء القصصي ومكوّناته دور واضح في تجسيد مجمل الرؤى المعرفيّة والإيديولوجية في الخطاب القصصي، وعلاقاتها بالسرد والحوار، هذه الرؤى التي أرادت أن تبثّها في بنية هذا الخطاب.
ولعلّ ما يمكن أن نسميه بفضاء الحلم والتخيّل، والرقي إلى مجتمع حضاري بجميع علاقاته، هو أهمّ الفضاءات النفسيّة في هذه المجموعة. ويبقى فضاء الصحراء والبادية ـ كما أشير إلى ذلك سابقا ـ فضاء مهم جدا تنمو من خلاله الوحدات السردية والأحداث القصصية، وتطرح رؤيتها وملفوظها الإيديولوجي والاجتماعي.
وعلى مستوى التقنية الشكليّة يطغى السرد على حساب الحوار الذي يبدو مكثّفا وقصيرا في معظم قصص القاصة، ففضاء البادية الشاسع الرتيب هو الذي يشكّل جوا خانقا لشخوص هذه البادية، هذا الفضاء اللاحركي، أو ما يمكن أن نطلق عليه الثابت الكموني أسهم بدوره في امتداد السرد وطوله، ومن ثمة تقليص لغة الحوار وإلغائها أحيانا، وهذا التقليص يشير في البنية الرمزية إلى خلل في طبيعة العلاقات الإنسانية في بادية محكومة بالثبات والجمود وعدم الحركيّة, وإلى الغربة بين هذه الشخصيات، وعدم تواصلها الحضاري مع بعضها من جهة، وإلى الغربة والاستلاب بينها وبين الفضاء المكاني الذي تقطنه من جهة أخرى.
أ. د. محمد عبد الرحمن يونس
* مجلة بصرياثا الثقافية
وإذا كان صوت البادية هو الصوت القوي السائد الذي يكرّس أعراف القبيلة و الدم والقتل والاختطاف على أحداث القصة الأولى(قافلة العطش) التي توسم المجموعة باسمها، فإنّ ثمة وعيا حادا لدى الشخوص لتغيير هذا الواقع وإحداث شرخ في بناه الفكريّة و المعرفيّة، وأعرافه القبلية. فبطل القصة يختطف امرأة جميلة يراها قمرا وحلما جميلا، وأملا، لا تتحقق سعادته إلاّ بالحصول عليها، ويخطف رجاله مجموعة من نساء القبيلة نفسها، عندها ـ وفقا لعادات القبائل وأعرافها البدويّة ـ يذهب رجال القبيلة(المخطوفة نساؤها) ليفدوا نساءهم و بناتهم، ويتقدّمون بالفدية من الأموال طالبين إطلاق سرح نسائهم، إلى بطل القبيلة الخاطفة وسيدها الذي خطف أجمل امرأة من قبيلتهم.
و يشير الخطاب القصصي إلى شهامة هذا البطل وإحداثه شرخا في علاقات القبائل وأعرافها، فبدلا من أن يأخذ المال الفدية، ويضمّه إلى ممتلكات قبيلته، و يطلق النساء من الأسر، و بذلك يكون حقق معادلة القبائل و موازينها، وأعرافها البدوية، فإنه يعفو عن جميع النساء المختطفات، عافا عن المال أيضا، حبا بالمرأة الجميلة التي عشقها وأحبّها حبا ملأ عليه كيانه و ذاكرته. يقول الراوي: ” لقد أكرم قومها لأجلها، أمر بأن يقدّم الماء و الغذاء للقافلة التي جاءت تستردّ مهره القمري، رفض المال، ورفض الفداء، بل أنعم على كلّ النساء بالحرية، وخيّرهن بين البقاء أو الرحيل مع أبناء عشيرتهن، فاخترن كلهنّ الرحيل، (…) تأمّل جسدها السابح في ثيابها الفضفاضة، اضطربت أصابع يديه عندما تخيّلها تسرح في شعرها، الذي تداعبه الريح بلا خجل، صوت خلخالها وخرزها الصدفي الذي تتزيّن به أحدث بعزفه الحزين زلزالا في نفسه، التي امتدّت لتحتضن الصحراء كلّها لتحضنها هي بالذات”. ص11-12.
فالبطل عاشق متيّم، و هو لا يريد مالا، يريد امرأة حبيبة مغايرة لنساء قبيلته كلها، والخطاب القصصي، في بنيته العميقة، يشير إلى رغبة أفراد القبائل البدوية بتجاوز محرمات قبائلهم وقوانينها، وبتجاوز الأنساق المعرفيّة فيها والمكرّسة بسلطة القبيلة، فهذا البطل لا يريد امرأة من قبيلته على الرغم من توافر نساء قبيلته وبكثرة، هو يريد صوتا أنثويا مغايرا لأصوات قبيلته. لقد أسر المرأة الجميلة، وأرادها زوجة وحبيبة لا امرأة مهانة أسيرة مختطفة، وأحبّها حبا ملأ شغافه، وهي ـ بدلا من أن تحقد على خاطفها الذي أذلّها وأهان حريتها وكرامتها، وشرخ أعراف قبيلتها، إذ حوّلها من امرأة سيدة، حرة، إلى عبدة مستلبة مخطوفة ـ أحبت هذا الخاطف، و أرادت أيضا أن تغيّر ميزان العلاقات القبلية أو البدوية، وأن تخرج عن أعراف قبيلتها البدوية، أو تحدث شرخا فيها، وهي في حقيقة الأمر ترفض أعراف هذه القبيلة وعاداتها، هذه الأعراف التي ترى نساء القبيلة جزءا لا يتجزأ من ممتلكاتها، من مال ومواش وقطاعات زراعية.
لقد أحبّت البطل الخاطف ـ متجاوزة أعراف قبيلتها التي ترى ذلك معيبا ومخجلا بحق المرأة الحرّة التي ترضى خاطفها ـ فولاء المرأة، مثلها مثل كل أفراد القبيلة، يجب أن يكون ولا ء دمويا، و قبليا، قبل أي ولاء آخر، و في القبيلة لا قيمة للحبّ والعشق إن لم يتحدد بهذا الولاء، فامرأة القبيلة ملك لابن عمها أو قريبها، أو أي رجل آخر من أفراد هذه القبيلة، ومن ثمة يحرم عليها أن تكون ملكا لأي فرد من أي قبيلة أخرى. ومن هنا فإن الخطاب القصصي يستنفر عداوة والدها ضدها، وعداوة جميع أفراد القبيلة، إذ يدعو والدها ـ سيد قبيلتها ـ جميع أفرا د قبيلته إلى قتلها لأنها خرقت أعراف القبيلة. يقول الخطاب القصصي: ” ارتفعت سيوف القبيلة مهدّدة سيوف الضيوف، التي هددت الأسيرة العاشقة بالموت، صرخ الأب: ” خائنة، ساقطة، اقتلوها، لقد جلبت العار لنا، كيف تختارين أسرك على أهلك؟! لقد جئت ببدعة ما سمعت بها العرب من قبل، كيف تقبل حرّة أن تكون في ظلّ آسرها؟”. ص 12 ـ 13.
غير أنّ حبّها لخاطفها ـ كما يؤكّد الخطاب القصصي ـ أقوى من أي ولا ء آخر، فخاطفها هو البديل الجمالي و الحضاري، أو بتعبير آخر هو الفضاء المعرفي الذي تطمح من خلاله إلى تحقيق إنسانيتها من جهة، و تحقيق حريتها من جهة أخرى، وإلى سيادة خلفية معرفيّة وحضارية جديدة مدينية بدلا من خلفية البادية والقبيلة والصحراء، هذه الصحراء العطشى إلى الحب. و ها هي تعلن حبّها لهذا البدوي الأسمر الذي خطفها متحديا جميع أعراف قبيلتها. تقول القصة: ((كانت على وشك أن تعتلي هودجها، بقبضته القوية منعها من إكمال صعودها، وقال بمزيد من الانكسار: ” من ستختارين؟”.
نظرت في عينيه: ” أنا عطشى… عطشى كما لم أعطش في حياتي”. اقترب البدوي الأسمر خطوة أخرى منها، كاد يسمع صهيلها الأنثوي، و قال: ” عطشى إلى ماذا؟”
قالت بصوت متهدّج: “عطشى إليك… “. ص 12.
وإذا كانت هذه المرأة قد تحلّت بأعلى درجات الشجاعة واجترأت على جميع أعراف قبيلتها علنا، ومن دون خوف أو وجل، فإن بذور التمرد كانت كامنة في نفوس جميع نساء القبيلة المخطوفات، غير أنّ هذه البذور ظلّت كامنة، إذ كانت هاته النسوة تحمل في أعماقهنّ رغبة بالخروج من فضاء قبيلتهن إلى فضاء القبيلة الخاطفة. وتشير هذه الرغبة ـ في مستواها الرمزي والإشاري إلى الرغبة بتبديل المكان القبلي البدوي بمكان أكثر رحابة في الحبّ والعشق، و الخروج عن كابوس القبيلة وسلطتها. وقدّ أحسّ رجال القبيلة، بعد أن استردوا هاته النسوة من الأسر، برغباتهن الجامحة بالتجديد والتغيير، والخروج عن جمود المكان بعلاقاته الاستلابية، علاقات العرف السائد، كوأد البنات خوفا من العار والفقر، واعتبار النساء سلعة مملوكة، مثل أي سلعة أخرى، من ممتلكات القبيلة كالأموال والمواشي والملكيات الزراعية. فما كان من هؤلاء الرجال القبليين إلا أن قتلوا جميع نسائهم، لأنهم اكتشفوا أن لديهن رغبة الخروج عن أعراف القبلة، ورغبة بالتجديد المعرفي والجنسي في آن، فهن عطشى إلى الحب، وإلى كل ما هو جديد، بعيد عن الرتابة الخانقة، رتابة البادية والصحراء: “شعرت القافلة أنها محمّلة دون إرادتها بالعطش، العطش إلى الحبّ والعشق، لكن أحدا لم يجرؤ على أن يصرّح بعطشه، عند أول واحة سرابية ذبح الرجال الكثير من نسائهم اللواتي رأوا في عيونهنّ واحات عطشى”. ص 13.
وزيادة في قتامة الطقس البدوي والقبلي لدى سكان الصحراء والقبائل، فإن الخطاب القصصي لم يكتف بأن يجعل الرجال يذبحون نساءهم التوّاقات إلى عوالم جديدة، بل جعلهم يئدون بناتهم اللواتي لم تنم رغباتهن بعد، خوفا من أن تولد عندهن هذه الرغبات الجامحة بالتغيير والخروج عن أنساق القبائل وأعرافها المعرفية في ما بعد ” وعندما وصلوا إلى مضاربهم وأدوا طفلاتهم الصغيرات، خوفا من أن يضعفن يوما أمام عطشهن، و في المساء شهد رجال القبيلة بكائية حزينة، فقد كانوا هم الأخرون عطاشا”. ص 13.
إذاً ليست النساء عطشى إلى الحب والمعرفة والتجديد في صحراء القبائل فحسب، كما يشير الخطاب القصصي، بل الرجال هم راغبون أيضا بهذا التجديد، و كسر قساوة أعرافهم وقوانينهم الصارمة، غير أن قوانين البادية هي الأصل والأقوى، وهي الجذر الذي لا يمكن انتزاعه أبدا من تربة الصحراء العطشى القاسية والموحشة، و لذا فإن العرف القبلي والبدوي لا يمكن تجاوزه أبدا في ظلّ ما تفرزه الأنساق المعرفية البدوية، ومن هنا سيظل أفراد الصحراء والبادية في الخطاب القصصي، سواء أكانوا رئيسين أم ثانويين، مستلبين في طموحاتهم وأحلامهم ورغباتهم بالتجديد والمغايرة، تقول القاصة: ” لكنّ الرمال كانت تعرف أنها مجبرة عل ابتلاع ضحاياها الناعمة خوفا من أن ترتوي يوما، كان مسموحا للقوافل أن تعطش وتعطش، ولها أن تموت إن أرادت، لكن الويل لمن يرتوي في سفر هذا العطش الأكبر”. ص 14.
وفي القصة الثانية الموسومة بـ ((النافذة العاشقة)) يدين الخطاب القصصي الحالة الدونيّة التي وصلت إليها المرأة العربية، فهي مستلبة لا إرادة لها بفعل سلطة الرجل الاستبدادية التي تهمّش هذه المرأة، وتحوّلها من امرأة معطاءة مبدعة فعّالة في البيت والمجتمع والمؤسسة إلى مستكينة خانعة لرغبات الرجل، وتحديدا الجنسية المتحفزة دائما، ويدين هذا الخطاب سلطة الرجل الذكورية المستبدة التي لا ترى في المرأة إلاّ وعاء للذّة والإنجاب، ومن ثمة يدين العلاقات المشوّهة بين الجنسين: الجنس الأقوى/ الرجل المستبد، والجنس الأضعف الخانع/ فاقد الإرادة/ المرأة التي روضت نفسها على قبول واقعها المتخلف، وروّضت جسدها لأن يكون وعاء للتفريغ الجنساني بعيدا عن الحسّ الجمالي الإنساني الذي يحكم طبيعة العلاقة الحضارية بين الرجل و المرأة، وفي آن دفنت مشاعرها وتطلعاتها ورغباتها أمام سطوة رغبات زوجها الشهوانية المندفعة. تقول القصة: ((لم تكن تأبه بجسدها الذي ترهل دون مبالاة بأعين الرقباء، ولا بملابسها ذات الموضة القديمة المنسيّة، ولا بخضرة عينيها اللتين غرقت فيهما الأحلام منذ زمن طويل، بالتحديد منذ أن تزّوجت رجلا لا يعرف من طقوس الرجولة إلاّ لحظات الفراش، التي تمرّ مثل التقاء غريبين في مرفأ عتيق، ثمّ سريعا يلوّحان لبعضهما بالوداع دون أدنى مشاعر)). ص 15.
ولقد أسهم الرجل الاستبدادي في قتل جماليات نفسها، حتى جعلها تنسى عاطفتها وإحساسها الجمالي بالحب، و تنسى زينتها وملابسها الجميلة، وهي مظاهر مهمة في حياة أي امرأة. ومن هنا فقد عمل الخطاب القصصي على تشكيل فضاء آخر معاد لفضاء الاستبداد، وهو فضاء نافذة المطبخ الذي يشير رمزيا ـ في الخطاب القصصي ـ إلى الحرية وإلى الأمل بالحب المفقود و إلى أحلام بعيدة الجموح تطمح للقاء رجل فارس جميل مغاير لزوجها الرتيب المستبد، ومغاير في آن لرتابتها المعتادة في تربيتها لأولادها وعلاقاتها معهم، فما كان منها إلاّ أن لجأت إلى نافذة المطبخ، الفضاء الحالم المنفتح على عالم جمالي آخر، النافذة التي ((التي قتلتها تنظيفا وتلميعا، ثمّ كستها بالقماش الشفاف ذي التخريمات الزخرفيّة، وطوّقت الجنبات المتدليّة من هذا القماش بشرائط السيتان الحمراء.)) ص 16.
لقد بدا فضاء النافذة أهم الفضاءات المكانية في حياتها، لأن إحساسا بالدفء والجمال تشكّل جديدا في حياتها اليومية، وكسر جمود هذه الحياة مع أطفالها وزجها المستبد، وتقف وراء هذا الإحساس رغبة عارمة دفينة بلقاء رجل يعيد إليها كل الأحلام الجميلة التي غابت عنها، يعيد إليها إحساسها بأنها أنثى مرغوبة، وبأن لها حريتها وإرادتها بعد أن سلبها زوجها جميع آفاق الحرية ورغباتها. تقول القصة: ((ثمّ فتحت هذه النافذة طاقة صغيرة على أنوثتها، وولّدت عندها رغبة الانتظار وأشواق اللقاء. لم تكن قد خبرت من قبل معنى لذّة الانتظار، ولم يكن انتظارها يطول للشاب الأسمر ذي الهدبين السرمديين، والقامة الممتدة بسخاء، إذ سرعان ما يطلّ ليفي بنذره اليومي بين يديها، كان من الواضح أنّه يصغرها بعقد من الزمن، ويكبرها بعقود من الحيوية والسعادة والأمنيات والطيش)). ص 16.
ومن الملاحظ في مجموعة ((قافلة العطش)) أن الخطاب القصصي يحتفي بالأبطال ـ سواء أكانوا رجالا أم نساء ـ الذين يكرهون فضاء الصحراء، وينفرون منه، لأنه فضاء قاس يخنق تطلعات قاطنيه، و رغباتهم المتأججة، ففي قصة ((تحقيق صحفي))، تعبّر بطلة القصة عن كراهيتها لهذا الفضاء قائلة: ((هي تكره الصحراء، لأنها تشبه قسوة حياتها، وتكره أنّها مضطرة إلى أن تتجشم رحلة طويلة في صحراء لا تعرف نهاية، و تبتلع الآهات والرغبات)). ص 62.
وإن كانت بطلة القصة مضطرة لأن تتعامل مع فضاء الصحراء الشاسع، فإنّها تتعامل معه بنفور واضح، ولا يهمّها منه إلاّ بقدر ما يحقق لها من مكاسب ماليّة، أي أنّ علاقتها به علاقة وظائفيّة (على حدّ تعبير فلاديمير بروب)، وعندما تتحقق هذه العلاقة الوظائفية ستنفر منه، فهي بحاجة إلى المال، ومضطرة للذهاب إلى هذا الفضاء لكسبه، لأنها ((تجري تحقيقا صحافيا عن بدو الطوارق في ديارهم، وعزاؤها الوحيد أنّ هذا التحقيق سيدرّ عليها مبلغا جيدا من المال، إذ إنه سينشر في مجلة فرنسية مشهورة تراسلها منذ سنوات، وهي الآن في أشدّ الحاجة إلى المال لتسديد فواتير المحامي الموكل بقضيتها)). ص 62.
وهذه البطلة الكارهة لفضاء الصحراء، هي أيضا نافرة من قاطنيه، لأنهم مثله غير حضاريين أو غير مدينيين في تعاملاتهم مع المرأة بوصفها كائن إنساني، فهم يفضلون عليها ناقة جرباء، فإذا كانت هذه الناقة مهمة في حياتهم لأنها تقدم لهم خدمات يحتاجونها فإن المرأة هي الأخرى تصبح سلعة مثلها مثل الناقة، ولها وظيفة مهمة ـ بغض عن إنسانية هذه الوظيفة وجمالياتها ـ إنها وظيفة ولادة الذكور وإمتاع الرجال جنسيا وغريزيا. تقول القصة: ((بدت متبرمة فضولية، وهي تسأل(…) عن الصورة الاجتماعية لامرأة الطوارق، وإن كانت معنيّة من الانتهاء من التحقيق الصحفي لتقفل راجعة إلى العاصمة أكثر من الوقوف طويلا عند حياة أفراد تظنّ أنهم في هكذا مفازة قد يقدّمون حياة ناقة جرباء على حياة امرأة)). ص 64.
غير أنه يمكن القول إن المدينة العربية المعاصرة، على الرغم من انفتاحها المعرفي والحضاري، وعلى الرغم من مظاهر التقدم التكنولوجي والازدهار المعرفي فيها، وتكريس النظريات الفكرية التي تدعو إلى إعطاء المرأة حقوقها، فهي لا تزال ترى في المرأة عالة على المجتمع، ولا تزال ترى فيها شرا ومفسدة، ومنبعا للفتن وإثارة الغرائز وإفساد الشباب، باستثناءات جد طفيفة، ولا يزال الحس البدوي والقبلي والصحراوي هو السائد في نسق العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمعاتنا العربية المعاصرة.
وممّا يثير الانتباه في هذه المجموعة القصصية استخدام لغة جميلة سهلة لا تعقيد فيها ولا تكلف، ولا صعوبة، لغة قادرة على أن تستوعب الرؤى المعرفيّة التي تريد القاصة أن تبثّها في خطابها القصصي، بحيث لا تبدو كلمة واحدة في مجموعتها تحتاج إلى الرجوع إلى المعاجم لفهم معناها.
وقد كان لقدرة القاصة المتميزة في استخدام تقنيات الفضاء القصصي ومكوّناته دور واضح في تجسيد مجمل الرؤى المعرفيّة والإيديولوجية في الخطاب القصصي، وعلاقاتها بالسرد والحوار، هذه الرؤى التي أرادت أن تبثّها في بنية هذا الخطاب.
ولعلّ ما يمكن أن نسميه بفضاء الحلم والتخيّل، والرقي إلى مجتمع حضاري بجميع علاقاته، هو أهمّ الفضاءات النفسيّة في هذه المجموعة. ويبقى فضاء الصحراء والبادية ـ كما أشير إلى ذلك سابقا ـ فضاء مهم جدا تنمو من خلاله الوحدات السردية والأحداث القصصية، وتطرح رؤيتها وملفوظها الإيديولوجي والاجتماعي.
وعلى مستوى التقنية الشكليّة يطغى السرد على حساب الحوار الذي يبدو مكثّفا وقصيرا في معظم قصص القاصة، ففضاء البادية الشاسع الرتيب هو الذي يشكّل جوا خانقا لشخوص هذه البادية، هذا الفضاء اللاحركي، أو ما يمكن أن نطلق عليه الثابت الكموني أسهم بدوره في امتداد السرد وطوله، ومن ثمة تقليص لغة الحوار وإلغائها أحيانا، وهذا التقليص يشير في البنية الرمزية إلى خلل في طبيعة العلاقات الإنسانية في بادية محكومة بالثبات والجمود وعدم الحركيّة, وإلى الغربة بين هذه الشخصيات، وعدم تواصلها الحضاري مع بعضها من جهة، وإلى الغربة والاستلاب بينها وبين الفضاء المكاني الذي تقطنه من جهة أخرى.
أ. د. محمد عبد الرحمن يونس
* مجلة بصرياثا الثقافية