أظهرت رواية "موسم الهجرة الى الشمال" وبقية الروايات الأخرى مثل "عرس الزين" و"بندر شاه" ان الطيب صالح ناثر مرموق كما أظهرت ايضا أنه صاحب شاعرية عالية. والذى يعرف هذا الكاتب السودانى الأصيل يعلم أنه عاشق متيم للشعر العربى القديم، وللمتنبى وأبى نواس، وأبى العلاء وذى الرمة بالخصوص. وفى المجالس الخاصة والعامة، يحب الطيب صالح أن يقرأ القصائد التى تعجبه من الشعر القديم اذ انه يحفطها عن ظهر قلب. وفى أصيلة التى يأتيها كل عام مدعوا من قبل صديقه الكبير الاستاذ محمد بن عيسى وزير الخارجية المغربية، ينشد فى السهرات الجميلة أبياتا لهذا أو ذاك من الشعراء الذين اصطحبهم واصطحبوه خلال حياته. منذ أن كان طفلا صغيرا وحتى هذه الساعة. وفى هذا الحوار، يتحدث عن الشعر، وعن امرؤ القيس والمتنبى والمعري، وأبى نواس، وبشار بن برد.. وذى الرمة. كما يتحدث عن أحمد شوقى وعن الشعر العربى الحديث..
كيف ومتى بدأ تعلقك بالشعر؟
أعتقد أنّ تعلقى بالشعر وهيامى به بدأ مع الدراسة الابتدائية التى كنا نسميها فى السودان"التعليم الأولي" وكانت تدوم أربعة أعوام. وبما أنى كنت صغير السن فان تذوقى للشعر لم يكن واعيا. لكن فى ما بعد، أى فى المرحلة التى أعقبت التعليم الأولى بدأت أتذوق الشعر العربي، وأفهم معانيه ومقاصده. واذكر أنى امتحنت مرة شفويا، فأنشدت قصيدة امرؤ القيس الشهيرة:
"ألا عم صباحا أيها الطلل البالي..."
وكنت اذ ذاك فى الحادية عشرة من عمري.
وفى المرحلة الثانوية، كان لنا مدرسون جيدون مطلعون اطلاعا واسعا على الشعر العربى القديم. وكان لنا مدرس اسمه الشيخ حسن أحمد. وكان هذا الشيخ يحب البحتري، ويمضى الوقت الطويل فى إنشاد قصائده. وكان يفعل ذلك بشكل مسرحي، بحيث حين يشتد به الطرب للقصيدة التى ينشدها، يبدأ فى القيام بحركات مسرحية، ناسيا نفسه، ونحن أيضا. وفى الصباح يكون شديد النشاط، لكن عندما تأتى الظهيرة يتعب، بسبب الجهد الكبير الذى كان يبذله أثناء إنشاده لقصائد البحتري.. وشخصيا تأثرت بهذا الشيخ. وقد يكون هو الذى جعلنى ازداد تعلقا بالشعر.. ولا زلت أحفظ أبياتا للبحترى حفظتها وأنا تلميذ صغير فى السنة أولى ثانوي. وفى هذه الأبيات يقول البحتري:
عذلتنا فى حبّها أمّ عمرو = هل سمعتم بالعاذل المعشوق
عند البحترى خفة دم وحلاوة. وفى بيت آخر يقول:
ورأت لمّة ألمّ بها الشيب = فريعت من ظلمة فى شروق
ولعمرى لولا الأقاحي = لأبصرت أنيق الرياض غير أنيق
وثمة بيت آخر للبحترى طربت له فى ذلك الوقت من دون أن أفهم معناه الحقيقي، وفيه يقول:
وقفة بالعقيق أطرح ثقلا من دموعى ..
طول حياتى وأنا أحبّ الشعر وأنشده، واقرأه بشغف لا مثيل له. والغريب أنى لم أحاول قط كتابة الشعر. كنت أحب اللغة العربية واللغة الانجليزية. والشعر كان ولا يزال بالنسبة لى مصدرا للغة، وللإلهام الوجداني، وللراحة النفسية، وفى فترة المراهقة كان الشعر متنفسا هاما بالنسبة لي.
كنز شعري
أنت تعتبر المعلقات العشر كنزا شعريا لا بالنسبة للتراث العربي، بل بالنسبة للتراث العالمي..لكن الا ترى انها جافة، ورتيبة كما قال الشاعر التونسى أبو القاسم الشابى فى محاضرته الشهيرة " الخيال الشعرى عند العرب"؟
طبعا.. المعلقات العشر كنز شعرى هائل لا ينضب وما أعتقد أنها رتيبة وجافة الا بالنسبة لمن ينظر اليها باستعجال لكن الذى يتمعن فيها، ويقف طويلا عند معانيها ومقاصدها، يجد نفسه فى النهاية مفتونا بها، وعاجزا عن نسيانها وتركها. ان الشعر الحقيقى فى نظرى هو ذلك الذى تعيش معه، ويعيش معك. وهناك شعر جاهلى سلس جدا كما لو أنه كتب اليوم.. يقول امرؤ القيس مثلا:
نظرت اليها والنجوم كأنها = مصابيح رهبان تشبّ لقفال
سموت اليها بعدما نام أهلها = سمو حباب الماء حالا على حال
وفى أبيات أخرى شهيرة، يحنّ امرؤ القيس الى شبابه ويقول:
كأنى لم أركب جوادا للذة = ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي = ولم أقل لخيلى كرّى كرة بعد إجفال
ولكن أبا نواس، وهو شاعر كبير مولع به أنت أيضا، سخر من الشعراء الجاهليين فى بيته الشهير الذى فيه يقول:
عاج الشقى على رسم يسائله = وعجت أسأل عن خمارة البلد ..
-
اكتشفت المتنبى وأبا نواس والمعرى على نضوج وبالمناسبة أقول إن أبا نواس شاعر كبير جدا. وكان يزعم فى شعره أنه يكره الأطلال والرسوم والحبيبة التى لا ترى الا فى المنام، ولا يستمتع الحبيب منها الا بآثار قدميها على الرمال..لكن هناك مفاتيح فى شعره لا بد من الوقوف عندها. وفى أبيات له هو يقول:
لقد طال فى رسم الديار بكائي = وقد طال تردادى بها وغنائي
كأنى مريغ فى الديار طريدة = أراها أمامى مرة وورائي
فلما بدا لى اليأس، عديت ناقتي = عن الدار واستولى عليّ عزائي
الى بيت حان لا تهرّ كلابه = عليّ ولا ينكرن طول ثوائى
وماذا عن أبى العلاء المعري؟
النقاد يقولون إنه شاعر فيلسوف. وهذا كلام لا معنى له فى نظرى لان أبا العلاء شاعر وكفي. لا هو فيلسوف. ولا هم يحزنون. وأنا لا أتعب من قراءة شعره. انه من الشعراء الذين يصحبوننى وأصحبهم طول الوقت.
انظر الى هذا البيت، كم هو رائع:
لقد مسخت قلبى وفاتك طائرا = فأقسم أن لا يستقر على وكن
وانظر الى هذه الابيات أيضا:
كم صائن عن قبلة خده = سلطت الأرض على خده
وحامل ثقل الثرى جيده = وكان يشكو الضعف من عقده
وربّ ظمآن الى مورد = والموت، لو يعلم فى ورده
سلبيات المبدعين
كتبت الكثير عن المتنبي، وقلت إنك مفتون بشعره أيضا..لكن ألا ترى أن شخصيته السلطوية، وحبّه للمناصب أفسد شعره؟
عندما نقرأ سير كبار الكتاب والشعراء والفنانين والفلاسفة فى اوروبا مثلا، نجد أن البعض منهم متقلب فى مواقفه، محبّ للمال والشهرة، راغب فى المناصب الكبيرة، غير أن هذا لا ينقص من قيمتهم الأدبية أو الشعرية أو الفنية أو الفلسفية. هايدغر الالمانى مثلا، لم يتخذ موقفا حازما من النازية مثل توماس مان، لكنه فيلسوف كبير.
وكان جويس سكيرا غير أنه روائى عظيم. وبيكاسو كان يحب النساء ويغيرهن مثلما يغير أقمصته، لكنه فنان عظيم. وفى حياة المتنبى هناك سقطات كثيرة، لكنه كان عبقريا..وبعد ذلك، كانت له قضية. وأنا أميل الى رأى الاستاذ محمود محمد شاكر الذى هو أحسن من كتب عن المتنبى والذى أثبت بالدليل القاطع ان أباه لم يكن سقاء كما زعم ذلك كثير من النقاد ومؤرخى الادب بل كان همذانيا صحيح النسب.
وقد تربى المتنبى عند جدته التى هى همذانية، صحيحة النسب وتعلم مع أبناء الأشراف فى الكوفة. وفى شعره يظل يطالب بحقه فى العز والشرف والنبل. ولكن كل هذا ليس مهما. على أية حال المهم ان المتنبى عرف كيف يختزن تجربته الوجودية، وينتج منها شعرا عظيما.
الشعراء الصعاليك
أعود بك الى الوراء لأسألك عن رأيك فى الشعراء الصعاليك..
لقد كتب الشعراء الصعاليك شعرا انسانيا عظيما..وبالمناسبة أقول لك بأنه نشأ عندنا فى السودان فى بداية القرن العشرين شعراء صعاليك بنفس طريقة عروة بن الورد، وتأبط شرا، والسليك. وهؤلاء خرجوا عن القبائل، وبعضهم طردوا منها فتحولوا الى مشردين، وكونوا قبيلة أخري. وكانوا يسمون رئيسهم "الأم" لانه هو الذى يطعمهم ويهتم بشؤون حياتهم اليومية. انظر هذه الأبيات لتأبط شرا:
فرشت لها صدرى فزل عن الصّفا = به جؤجؤ عبل ومتن مخصر
فخالط سهل الارض لم يكدح الصفا = به كدحة والموت خزيان ينظر
أعتقد أننا مقصرون تقصيرا كبيرا بحق شعرنا الكبير القديم. وكل الدراسات والاطروحات التى كتبت عنه ليست كافية فى نظري، وينقصها العمق. نحن ازاء كنوز لكننا لا نرى ما تحتويه، بل لا نراها أصلا. وهذا عيبنا. ان ثقافة تهمل تراثها، وتستنقص من قيمته، لا يمكن أن تتطور ولا يمكن لها أن تفيد الانسانية فى شيء. ان الشعراء الصعاليك مثلا هم برأيى ظاهرة فريدة من نوعها فى الشعر الانسانى برمته. وبالرغم من أنهم لصوص ينهبون القبائل، والقوافل فان لهم مواقف انسانية نبيلة، ولهم قانون شرف يجعلهم يساعدون ضعاف الحال واليتامى وغيرهم.
هناك شاعر آخر أريد أن أسمع رأيك فيه، وهو بشار بن برد
شاعر عظيم.. لكن أبا نواس طغى عليه، وحرمه من المنزلة التى يستحقها فى الشعر العربي.. وهذا ما فعله أيضا بشعراء آخرين كتبوا فى الخمر، وفى اللذة، وفى متع الحياة..وأنت تعلم أنه قال ذات مرة :
والله لن يقول شاعر فى الخمر وأنا حي! وأقول ان بشار كان له دم خفيف..
كان قبيح الشكل ضخم الجثة لكنه كان شاعرا يتمتع بحس جمالى رفيع. وكانت حياته وجودية بالمعنى العميق للكلمة. فقد كان مولى وكان أعمى ومع ذلك كان يعشق النساء ويغازلهن.
ذو الرمة شاعر كوني
من من الشعراء العرب القدامى الآخرين الذين تحب أن تقرأ لهم مثلما تفعل مع المتنبى والمعرى وأبى نواس؟
أنا أحب شاعرا قلما تجد الناس يهتمون به أو يتحدثون عنه حتى الاكاديميون لا يولونه الأهمية التى يستحقها. هذا الشاعر هو ذو الرمة الذى عاش فى صدر الدولة الأموية. وقد انقطع لوصف الطبيعة. وفى الكثير من قصائده هو يصف رحلاته فى الفيافى وفى الصحارى على ظهر ناقته التى لم يكن يتعب من وصفها، ومن التغنى بها وهى راحلة به. وبالنسبة له الطبيعة كلها من وديان وجبال وسهول وهضاب وسيول وشجر كلها متآخية. وفى قلب هذه الطبيعة المتآخية، هناك الإنسان. وأعتقد ان ذا الرمة كان متقدما على عصره. بل أقدر أن أقول أنه قريب من عصرنا خصوصا فى تمجيده للطبيعة وهيامه بها وبما فيها من نباتات وأودية وحيوانات اليفة ووحشية. انه شاعر كونى بالمعنى العميق للكلمة. ولو ترجم الآن الى اللغات العالمية لأصبح يحظى بشهرة واسعة لدى عشاق الطبيعة والمدافعين عن المحيط بصفة عامة. والجانب المهم عند ذى الرمة هو الصور العجيبة والمذهلة التى يبتكرها. مثلا هو يقول:
وحبّها لي، سواد الليل، مرتعد = كأنها النار تخبو ثم تلتهب
وفى أبيات أخرى هو يقول:
وقفت على ربع لميّة ناقتي = فما زلت أبكى عنده وأخاطبه
وأسقيه، حتى كاد مما أبثه = تكلمنى أحجاره وملاعبه،
تمشى به الثيران كل عشية = كما اعتاد بيت المرز بان مرازبه
كأن سحيق المسك ريّا ترابه = إذا هضبته بالطلال هواضبه
وكانت لذى الرمة ناقة اسمها هيدح. وكان يصفها بطريقة سينمائية. فمرة هى ثور ومرة هى ذكر نعام..وفى الليل هى تشرب النجوم حتى السحر. لذا أقول ان ذا الرمة شاعر عظيم يحتاج الى نقاد عظماء.
مكانة شوقي
لنذهب الى الشعر الحديث، ونبدأ بشوقي..ما رأيك به؟
انا معجب جدا بهذا الشاعر لانه امتداد للشعر العربى القديم فى اجمل وأبدع تجلياته. والمؤلم أن العقاد والمازنى وشكرى تسلطوا عليه وانتقدوه انطلاقا من مقولات الحداثة والتجديد، وقالوا إنه تربّى عند الخديوي، وبالتالى هو لا يعرف عن الحياة المصرية الا القليل، وقالوا أيضا إنه شاعر فردى لا يهتم الا بنفسه. وهذا ظلم كبير فى حق شاعر كبير مثل أحمد شوقى الذى كان امتدادا رهيبا من امثال المتنبى والبحترى وابى تمام وغيرهم.
هل يمكن أن نقول إن شوقى هو الذى أعاد الحياة للشعر العربى بعد قرون الانحطاط المظلمة والطويلة؟
هذا أكيد..ثم أنه كتب شعرا فى مواضيع مختلفة ومتعددة فهو يكتب قصيدة عن توت غنخ آمون، ويخصص أخرى لزيارة غاندى الى مصر ثم ان له لغة متينة.
ولكنه عاش فترة من الزمن فى اسبانيا، ولم يتأثر بأى شيء هناك وظل مشدودا الى الماضي.
لقد ذهب شوقى الى اسبانيا وهو ناضج. وقد جلس هناك ليكتب قصيدة جميلة يعارض فيها ابن زيدون. معنى هذا انه ظل وفيا لعالمه الشعري. اما قصة التأثيرات، فلا مدلول لها فى نظري..
وفى هذه الأيام، نحن نحكم بأحكام لها أثر رجعي. وهذا ليس مفيدا لنقرأ شوقى كما هو..وليس كما نحب نحن . هذا هو المهم.
وماذا عن الشعراء العرب فى القرن العشرين السياب، البياتي، نازك الملائكة فى العراق، صلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطى حجازى فى مصر، ادونيس فى بلاد الشام، محمود درويش فى فلسطين..
انا أحب السياب.. والبياتى أيضا ولكن أنا أحب بعض القصائد فى الشعر الحديث..لذا لا أتوقف كثيرا عند رموزه مثلما أفعل مع الشعر القديم. فمثلا يمكن أن أقضى وقتا طويلا فى قراءة المتنبى وأبى العلاء وأبى نواس وذى الرمة وغيرهم..لكن ليس هناك شاعر من المحدثين أنا منكب عليه، ومنصرف الى دراسة شعره. انما فقط معجب بقصائد لمحمود درويش ولأدونيس ولاحمد عبد المعطى حجازي.
والشيء الذى يؤلمنى ان بعض الشعراء من أصحاب قصيدة النثر يعاملون الشعراء العرب القدامى باحتقار شديد معتقدين ان الحداثة التى هم منشغلون بها يمكن أن تأتى من فراغ.
وماذا عن الشعر العالمي؟
أنا أحب بودلير، وأعتبره شاعرا عظيما. ومن الشعراء الانجليز هناك كولريدج، وشكسبير، وميلتون، ومن المحدثين أحب شاعرا اسمه امسون وقد توفى قبل سنوات قليلة..وهو استاذ فى الغرابة.
وعندك اعجاب كبير بالشعر الشفوى فى السودان..
أنا معجب كثيرا بالشعر الشفوى فى السودان وفى مصر وفى الشام وفى الخليج.. ولكن هذا يستحق حديثا آخر.
كيف ومتى بدأ تعلقك بالشعر؟
أعتقد أنّ تعلقى بالشعر وهيامى به بدأ مع الدراسة الابتدائية التى كنا نسميها فى السودان"التعليم الأولي" وكانت تدوم أربعة أعوام. وبما أنى كنت صغير السن فان تذوقى للشعر لم يكن واعيا. لكن فى ما بعد، أى فى المرحلة التى أعقبت التعليم الأولى بدأت أتذوق الشعر العربي، وأفهم معانيه ومقاصده. واذكر أنى امتحنت مرة شفويا، فأنشدت قصيدة امرؤ القيس الشهيرة:
"ألا عم صباحا أيها الطلل البالي..."
وكنت اذ ذاك فى الحادية عشرة من عمري.
وفى المرحلة الثانوية، كان لنا مدرسون جيدون مطلعون اطلاعا واسعا على الشعر العربى القديم. وكان لنا مدرس اسمه الشيخ حسن أحمد. وكان هذا الشيخ يحب البحتري، ويمضى الوقت الطويل فى إنشاد قصائده. وكان يفعل ذلك بشكل مسرحي، بحيث حين يشتد به الطرب للقصيدة التى ينشدها، يبدأ فى القيام بحركات مسرحية، ناسيا نفسه، ونحن أيضا. وفى الصباح يكون شديد النشاط، لكن عندما تأتى الظهيرة يتعب، بسبب الجهد الكبير الذى كان يبذله أثناء إنشاده لقصائد البحتري.. وشخصيا تأثرت بهذا الشيخ. وقد يكون هو الذى جعلنى ازداد تعلقا بالشعر.. ولا زلت أحفظ أبياتا للبحترى حفظتها وأنا تلميذ صغير فى السنة أولى ثانوي. وفى هذه الأبيات يقول البحتري:
عذلتنا فى حبّها أمّ عمرو = هل سمعتم بالعاذل المعشوق
عند البحترى خفة دم وحلاوة. وفى بيت آخر يقول:
ورأت لمّة ألمّ بها الشيب = فريعت من ظلمة فى شروق
ولعمرى لولا الأقاحي = لأبصرت أنيق الرياض غير أنيق
وثمة بيت آخر للبحترى طربت له فى ذلك الوقت من دون أن أفهم معناه الحقيقي، وفيه يقول:
وقفة بالعقيق أطرح ثقلا من دموعى ..
طول حياتى وأنا أحبّ الشعر وأنشده، واقرأه بشغف لا مثيل له. والغريب أنى لم أحاول قط كتابة الشعر. كنت أحب اللغة العربية واللغة الانجليزية. والشعر كان ولا يزال بالنسبة لى مصدرا للغة، وللإلهام الوجداني، وللراحة النفسية، وفى فترة المراهقة كان الشعر متنفسا هاما بالنسبة لي.
كنز شعري
أنت تعتبر المعلقات العشر كنزا شعريا لا بالنسبة للتراث العربي، بل بالنسبة للتراث العالمي..لكن الا ترى انها جافة، ورتيبة كما قال الشاعر التونسى أبو القاسم الشابى فى محاضرته الشهيرة " الخيال الشعرى عند العرب"؟
طبعا.. المعلقات العشر كنز شعرى هائل لا ينضب وما أعتقد أنها رتيبة وجافة الا بالنسبة لمن ينظر اليها باستعجال لكن الذى يتمعن فيها، ويقف طويلا عند معانيها ومقاصدها، يجد نفسه فى النهاية مفتونا بها، وعاجزا عن نسيانها وتركها. ان الشعر الحقيقى فى نظرى هو ذلك الذى تعيش معه، ويعيش معك. وهناك شعر جاهلى سلس جدا كما لو أنه كتب اليوم.. يقول امرؤ القيس مثلا:
نظرت اليها والنجوم كأنها = مصابيح رهبان تشبّ لقفال
سموت اليها بعدما نام أهلها = سمو حباب الماء حالا على حال
وفى أبيات أخرى شهيرة، يحنّ امرؤ القيس الى شبابه ويقول:
كأنى لم أركب جوادا للذة = ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي = ولم أقل لخيلى كرّى كرة بعد إجفال
ولكن أبا نواس، وهو شاعر كبير مولع به أنت أيضا، سخر من الشعراء الجاهليين فى بيته الشهير الذى فيه يقول:
عاج الشقى على رسم يسائله = وعجت أسأل عن خمارة البلد ..
-
اكتشفت المتنبى وأبا نواس والمعرى على نضوج وبالمناسبة أقول إن أبا نواس شاعر كبير جدا. وكان يزعم فى شعره أنه يكره الأطلال والرسوم والحبيبة التى لا ترى الا فى المنام، ولا يستمتع الحبيب منها الا بآثار قدميها على الرمال..لكن هناك مفاتيح فى شعره لا بد من الوقوف عندها. وفى أبيات له هو يقول:
لقد طال فى رسم الديار بكائي = وقد طال تردادى بها وغنائي
كأنى مريغ فى الديار طريدة = أراها أمامى مرة وورائي
فلما بدا لى اليأس، عديت ناقتي = عن الدار واستولى عليّ عزائي
الى بيت حان لا تهرّ كلابه = عليّ ولا ينكرن طول ثوائى
وماذا عن أبى العلاء المعري؟
النقاد يقولون إنه شاعر فيلسوف. وهذا كلام لا معنى له فى نظرى لان أبا العلاء شاعر وكفي. لا هو فيلسوف. ولا هم يحزنون. وأنا لا أتعب من قراءة شعره. انه من الشعراء الذين يصحبوننى وأصحبهم طول الوقت.
انظر الى هذا البيت، كم هو رائع:
لقد مسخت قلبى وفاتك طائرا = فأقسم أن لا يستقر على وكن
وانظر الى هذه الابيات أيضا:
كم صائن عن قبلة خده = سلطت الأرض على خده
وحامل ثقل الثرى جيده = وكان يشكو الضعف من عقده
وربّ ظمآن الى مورد = والموت، لو يعلم فى ورده
سلبيات المبدعين
كتبت الكثير عن المتنبي، وقلت إنك مفتون بشعره أيضا..لكن ألا ترى أن شخصيته السلطوية، وحبّه للمناصب أفسد شعره؟
عندما نقرأ سير كبار الكتاب والشعراء والفنانين والفلاسفة فى اوروبا مثلا، نجد أن البعض منهم متقلب فى مواقفه، محبّ للمال والشهرة، راغب فى المناصب الكبيرة، غير أن هذا لا ينقص من قيمتهم الأدبية أو الشعرية أو الفنية أو الفلسفية. هايدغر الالمانى مثلا، لم يتخذ موقفا حازما من النازية مثل توماس مان، لكنه فيلسوف كبير.
وكان جويس سكيرا غير أنه روائى عظيم. وبيكاسو كان يحب النساء ويغيرهن مثلما يغير أقمصته، لكنه فنان عظيم. وفى حياة المتنبى هناك سقطات كثيرة، لكنه كان عبقريا..وبعد ذلك، كانت له قضية. وأنا أميل الى رأى الاستاذ محمود محمد شاكر الذى هو أحسن من كتب عن المتنبى والذى أثبت بالدليل القاطع ان أباه لم يكن سقاء كما زعم ذلك كثير من النقاد ومؤرخى الادب بل كان همذانيا صحيح النسب.
وقد تربى المتنبى عند جدته التى هى همذانية، صحيحة النسب وتعلم مع أبناء الأشراف فى الكوفة. وفى شعره يظل يطالب بحقه فى العز والشرف والنبل. ولكن كل هذا ليس مهما. على أية حال المهم ان المتنبى عرف كيف يختزن تجربته الوجودية، وينتج منها شعرا عظيما.
الشعراء الصعاليك
أعود بك الى الوراء لأسألك عن رأيك فى الشعراء الصعاليك..
لقد كتب الشعراء الصعاليك شعرا انسانيا عظيما..وبالمناسبة أقول لك بأنه نشأ عندنا فى السودان فى بداية القرن العشرين شعراء صعاليك بنفس طريقة عروة بن الورد، وتأبط شرا، والسليك. وهؤلاء خرجوا عن القبائل، وبعضهم طردوا منها فتحولوا الى مشردين، وكونوا قبيلة أخري. وكانوا يسمون رئيسهم "الأم" لانه هو الذى يطعمهم ويهتم بشؤون حياتهم اليومية. انظر هذه الأبيات لتأبط شرا:
فرشت لها صدرى فزل عن الصّفا = به جؤجؤ عبل ومتن مخصر
فخالط سهل الارض لم يكدح الصفا = به كدحة والموت خزيان ينظر
أعتقد أننا مقصرون تقصيرا كبيرا بحق شعرنا الكبير القديم. وكل الدراسات والاطروحات التى كتبت عنه ليست كافية فى نظري، وينقصها العمق. نحن ازاء كنوز لكننا لا نرى ما تحتويه، بل لا نراها أصلا. وهذا عيبنا. ان ثقافة تهمل تراثها، وتستنقص من قيمته، لا يمكن أن تتطور ولا يمكن لها أن تفيد الانسانية فى شيء. ان الشعراء الصعاليك مثلا هم برأيى ظاهرة فريدة من نوعها فى الشعر الانسانى برمته. وبالرغم من أنهم لصوص ينهبون القبائل، والقوافل فان لهم مواقف انسانية نبيلة، ولهم قانون شرف يجعلهم يساعدون ضعاف الحال واليتامى وغيرهم.
هناك شاعر آخر أريد أن أسمع رأيك فيه، وهو بشار بن برد
شاعر عظيم.. لكن أبا نواس طغى عليه، وحرمه من المنزلة التى يستحقها فى الشعر العربي.. وهذا ما فعله أيضا بشعراء آخرين كتبوا فى الخمر، وفى اللذة، وفى متع الحياة..وأنت تعلم أنه قال ذات مرة :
والله لن يقول شاعر فى الخمر وأنا حي! وأقول ان بشار كان له دم خفيف..
كان قبيح الشكل ضخم الجثة لكنه كان شاعرا يتمتع بحس جمالى رفيع. وكانت حياته وجودية بالمعنى العميق للكلمة. فقد كان مولى وكان أعمى ومع ذلك كان يعشق النساء ويغازلهن.
ذو الرمة شاعر كوني
من من الشعراء العرب القدامى الآخرين الذين تحب أن تقرأ لهم مثلما تفعل مع المتنبى والمعرى وأبى نواس؟
أنا أحب شاعرا قلما تجد الناس يهتمون به أو يتحدثون عنه حتى الاكاديميون لا يولونه الأهمية التى يستحقها. هذا الشاعر هو ذو الرمة الذى عاش فى صدر الدولة الأموية. وقد انقطع لوصف الطبيعة. وفى الكثير من قصائده هو يصف رحلاته فى الفيافى وفى الصحارى على ظهر ناقته التى لم يكن يتعب من وصفها، ومن التغنى بها وهى راحلة به. وبالنسبة له الطبيعة كلها من وديان وجبال وسهول وهضاب وسيول وشجر كلها متآخية. وفى قلب هذه الطبيعة المتآخية، هناك الإنسان. وأعتقد ان ذا الرمة كان متقدما على عصره. بل أقدر أن أقول أنه قريب من عصرنا خصوصا فى تمجيده للطبيعة وهيامه بها وبما فيها من نباتات وأودية وحيوانات اليفة ووحشية. انه شاعر كونى بالمعنى العميق للكلمة. ولو ترجم الآن الى اللغات العالمية لأصبح يحظى بشهرة واسعة لدى عشاق الطبيعة والمدافعين عن المحيط بصفة عامة. والجانب المهم عند ذى الرمة هو الصور العجيبة والمذهلة التى يبتكرها. مثلا هو يقول:
وحبّها لي، سواد الليل، مرتعد = كأنها النار تخبو ثم تلتهب
وفى أبيات أخرى هو يقول:
وقفت على ربع لميّة ناقتي = فما زلت أبكى عنده وأخاطبه
وأسقيه، حتى كاد مما أبثه = تكلمنى أحجاره وملاعبه،
تمشى به الثيران كل عشية = كما اعتاد بيت المرز بان مرازبه
كأن سحيق المسك ريّا ترابه = إذا هضبته بالطلال هواضبه
وكانت لذى الرمة ناقة اسمها هيدح. وكان يصفها بطريقة سينمائية. فمرة هى ثور ومرة هى ذكر نعام..وفى الليل هى تشرب النجوم حتى السحر. لذا أقول ان ذا الرمة شاعر عظيم يحتاج الى نقاد عظماء.
مكانة شوقي
لنذهب الى الشعر الحديث، ونبدأ بشوقي..ما رأيك به؟
انا معجب جدا بهذا الشاعر لانه امتداد للشعر العربى القديم فى اجمل وأبدع تجلياته. والمؤلم أن العقاد والمازنى وشكرى تسلطوا عليه وانتقدوه انطلاقا من مقولات الحداثة والتجديد، وقالوا إنه تربّى عند الخديوي، وبالتالى هو لا يعرف عن الحياة المصرية الا القليل، وقالوا أيضا إنه شاعر فردى لا يهتم الا بنفسه. وهذا ظلم كبير فى حق شاعر كبير مثل أحمد شوقى الذى كان امتدادا رهيبا من امثال المتنبى والبحترى وابى تمام وغيرهم.
هل يمكن أن نقول إن شوقى هو الذى أعاد الحياة للشعر العربى بعد قرون الانحطاط المظلمة والطويلة؟
هذا أكيد..ثم أنه كتب شعرا فى مواضيع مختلفة ومتعددة فهو يكتب قصيدة عن توت غنخ آمون، ويخصص أخرى لزيارة غاندى الى مصر ثم ان له لغة متينة.
ولكنه عاش فترة من الزمن فى اسبانيا، ولم يتأثر بأى شيء هناك وظل مشدودا الى الماضي.
لقد ذهب شوقى الى اسبانيا وهو ناضج. وقد جلس هناك ليكتب قصيدة جميلة يعارض فيها ابن زيدون. معنى هذا انه ظل وفيا لعالمه الشعري. اما قصة التأثيرات، فلا مدلول لها فى نظري..
وفى هذه الأيام، نحن نحكم بأحكام لها أثر رجعي. وهذا ليس مفيدا لنقرأ شوقى كما هو..وليس كما نحب نحن . هذا هو المهم.
وماذا عن الشعراء العرب فى القرن العشرين السياب، البياتي، نازك الملائكة فى العراق، صلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطى حجازى فى مصر، ادونيس فى بلاد الشام، محمود درويش فى فلسطين..
انا أحب السياب.. والبياتى أيضا ولكن أنا أحب بعض القصائد فى الشعر الحديث..لذا لا أتوقف كثيرا عند رموزه مثلما أفعل مع الشعر القديم. فمثلا يمكن أن أقضى وقتا طويلا فى قراءة المتنبى وأبى العلاء وأبى نواس وذى الرمة وغيرهم..لكن ليس هناك شاعر من المحدثين أنا منكب عليه، ومنصرف الى دراسة شعره. انما فقط معجب بقصائد لمحمود درويش ولأدونيس ولاحمد عبد المعطى حجازي.
والشيء الذى يؤلمنى ان بعض الشعراء من أصحاب قصيدة النثر يعاملون الشعراء العرب القدامى باحتقار شديد معتقدين ان الحداثة التى هم منشغلون بها يمكن أن تأتى من فراغ.
وماذا عن الشعر العالمي؟
أنا أحب بودلير، وأعتبره شاعرا عظيما. ومن الشعراء الانجليز هناك كولريدج، وشكسبير، وميلتون، ومن المحدثين أحب شاعرا اسمه امسون وقد توفى قبل سنوات قليلة..وهو استاذ فى الغرابة.
وعندك اعجاب كبير بالشعر الشفوى فى السودان..
أنا معجب كثيرا بالشعر الشفوى فى السودان وفى مصر وفى الشام وفى الخليج.. ولكن هذا يستحق حديثا آخر.