جدو كريشنامورتي - ابدأ حيث أنت!

كنا نتحدث عن النزاع، وعما إذا كان جميع البشر الذين عاشوا على هذه الأرض، بكل كنوزها الشاسعة، في نزاع مستمر. مابرحنا في نزاع دائم، ليس خارجيًّا مع البيئة، مع الطبيعة فحسب، لكنْ مع بعضنا بعضًا، وداخليًّا، “روحيًّا”، على حدِّ زعمنا. من اللحظة التي نولد فيها حتى نموت، نحن في نزاع. ونحن نصبر عليه؛ صرنا نتعوَّده، نحتمله. ترانا نختلق أسبابًا كثيرة لتسويغ لماذا يجب أن نعيش في نزاع. نحسَب أن الصراع والكفاح المستمر يعنيان التقدم – التقدم الخارجي – أو الإنجاز الداخلي باتجاه الهدف الأسمى.

هذه البلاد الجميلة – الهند – هي التلال البديعة، الجبال الرائعة، الأنهار الهائلة التدفق. ولكنْ بعد ألوف السنين من الشقاء والصراع والطاعة والقبول وتدمير بعضنا بعضًا، هذا ما اختزلناها إليه: قفر موحش من البشر المتوحشين الطائشين، لا يبالون بالأرض، ولا بأشياء الأرض البديعة، بجمال بحيرة، بالنهر السريع الجريان. لا أحد منا يبدو عليه الاكتراث. كل ما نهتم له هي ذواتنا الصغيرة نحن، مشكلاتنا الصغيرة نحن. يود المرء لو يبكي على ما نفعله بهذه البلاد، وعلى ما تفعله البلدان الأخرى!

لقد صارت الحياة خارقة الخطورة، عديمة الأمان، بلا معنى إطلاقًا. تراك قد تخترع الكثير من المغزى، لكن الحياة اليومية الفعلية فقدت كل معنى، ماخلا جمع المال، بلوغ المناصب والنفوذ، إلى ما هنالك.

وما من سياسي، سواء كان من اليسار أو من اليمين أو من الوسط، سوف يحل أيًّا من مشكلاتنا. فرجال السياسة ليسوا مبالين بحلِّ المشكلات؛ إنهم مبالون بأنفسهم فقط وبالحفاظ على مناصبهم. والـگورو [المعلمون الروحيون] والأديان خانوا الإنسان أيضًا. لقد اتبعتم الأوپنشاد والبرهماسوترا والبهگڤدگيتا، وإنها لَلُعبة الگورو أن يقرأها بصوت مرتفع على مسامع جمهور يُفترَض فيه أن يكون مستنيرًا، ذا فطنة. ومنه، ليس بإمكانكم مطلقًا أن تتكلوا على السياسيين، أي الحكومة، ولا على الكتب الشريفة، ولا على أي گورو إطلاقًا، لأنهم هم الذين جعلوا هذه البلاد على ما هي عليه الآن. إذا كان أحدكم يسعى في المزيد من الزعامة، فذلك سيقودكم أيضًا إلى الدرب الخاطئ. وبما أنه ما من أحد بمقدوره أن يساعدنا، علينا أن نكون مسؤولين مسؤولية كلية، تامة، عن مسلكنا، عن سلوكنا، وعن أفعالنا.

*

ما برحت هذه البلاد تتكلم على اللاعنف. مازال يبشِّر به مرارًا وتكرارًا، سياسيًّا ودينيًّا، مختلف الزعماء؛ لكن اللاعنف ليس واقعًا، بل هو مجرد فكرة، نظرية، جملة من الكلمات. الواقع الفعلي هو أنك عنيف. ذاك هو الموجود. ونحن لسنا قادرين على فهم الـموجود، ولذلك ترانا نخترع هذا الهراء الذي نسميه “اللاعنف”. بذا يؤول الأمر إلى نزاع بين الموجود وبين ما يجب أن يوجد. وبينما أنت تسعى في اللاعنف، تراك تزرع بذور العنف طوال الوقت. ذاك أيضًا واضح للغاية. فهل ترانا نستطيع، معًا، أن ننظر إلى الـموجود بلا أي مهرب، بلا أي مُثُل، دون كبته أو تفاديه؟ نحن عنيفون بالوراثة عن الحيوان، عن القرد وغيره. والعنف يتخذ أشكالاً عديدة، لا الفعل الوحشي فحسب؛ إنها قضية معقدة للغاية. العنف هو المحاكاة، الامتثال، الطاعة؛ العنف هو ادعاؤك أنك غير ما أنت – فذاك شكل من أشكال العنف. انظر، رجاءً، إلى منطقية هذا كله. فالأمر ليس مجرد إدلاء بتصريحات لكي تقبلها أو تنفيها. نحن نسير قُدُمًا على درب، في غابة، بين الحراج البديعة، معًا، ونتقصَّى العنف، مثل صديقين يتحادثان في أمور الحياة سوية، من غير أي إقناع، من غير أي استباق لحلِّ المشكلة. نحن نتحادث معًا، نرصد معًا. نحن نسير على الدرب نفسه، لا على دربك أو على دربي، بل على درب تقصِّي هذه المشكلات.

*

علينا، إذن، أن نتعلم، معًا، كيفية الرصد. أنتم لستم أتباع المتكلم، وهو ليس معلمكم الروحي [گورو]، حمدًا لله! ليس هناك من أعلى أو أدنى في هذا التقصِّي، ليس هناك من مرجعية. حين يكون ذهنك كسيحًا من جراء المرجعية، فمن الصعب للغاية أن تنظر إلى العنف. لذا فمن الأهمية بمكان فهم كيفية رصد ما يحدث في العالم: البؤس، البلبلة، النفاق، انعدام الذمَّة، الأعمال الوحشية التي ما انفكت مستمرة، الإرهابيين، الناس الذين يحتجزون رهائن، والمعلمين الروحيين [گورو] من أصحاب معسكرات الاعتقال الخصوصية! هذا كله عنف. كيف يجوز لأحدهم أن يقول: “أنا أعرف، فاتبعوني”؟! ذلك تصريح مُخْزٍ! وإذن، فنحن نرصد معًا ما هو العنف، ونسأل: “ما هو الرصد؟” ما معنى أن ترصد البيئة من حولك: الأشجار، بركة الماء عند الزاوية، النجوم، القمر الوليد، الزُّهرة المتوحدة، نجمة المساء، مجد شروق الشمس؟ كيف تراقب ذلك؟ تراك لا تستطيع أن تراقب، أن ترصد، إذا كنت منشغلاً بنفسك، بمشكلاتك أنت، بأفكارك، بتفكيرك المعقد. صحيح؟ لا تستطيع أن تراقب إذا كانت عندك أحكام مسبقة، أو إذا كان هناك أي نوع من النتيجة أو الخبرة الخاصة التي تتشبث بها. فكيف ترصد هذا الشيء البديع المسمى “شجرة”؟ كيف تنظر إليه الآن، وأنت جالس هناك محاطًا بهذه الأشجار؟ هل رأيت أوراقها، مرفرفةً في الريح، جمال الضياء على الورقة؟ هل سبق لك أن شاهدته؟ وإذن، هل تستطيع أن تراقب شجرة، أو القمر الوليد، أو نجمة متوحدة في السماوات، من غير الكلمة؟ إذ إن الكلمة ليست النجمة الفعلية أو القمر الفعلي. هل بوسعك أن تنحِّي الكلمة وتنظر؟

هل بوسعك أن تنظر إلى زوجتك من غير الكلمة؟ من غير ذكريات علاقتكما برمَّتها، مهما تكن حميمة، من دون الذاكرة المتراكمة؟ هل بوسعك أن تنظر إلى زوجتك، أو أن تنظري إلى زوجك، من دون ذاكرة الماضي؟ هل سبق لك أن فعلت ذلك يومًا؟ رجاءً، هلمُّوا نتعلم معًا كيف نرصد زهرة. إذا عرفت كيف تنظر إلى زهرة، فذاك يحوي الأبدية. لا تنجرفوا بكلماتي! إذا عرفت كيف تنظر إلى نجم، إلى غابة كثيفة، ففي ذلك الرصد حينذاك فضاء، فيه الأبدية. علينا أن نكتشف، معًا، كيف ترصد زوجتك أو ترصدين زوجك من دون الصورة التي شكلتَها عنها أو شكلتِها عنه. عليك أن تبدأ قريبًا جدًّا لكي تمضي بعيدًا جدًّا. إذا لم تبدأ قريبًا، تراك لا تستطيع أبدًا أن تمضي بعيدًا. إذا أردت أن تتسلق الجبل أو تذهب إلى القرية المجاورة، فإن الخطوات الأولى مهمة للغاية: كيف تسير، بأي رشاقة، بأي يُسْر، بأي غبطة. وإذن، فنحن نقول بأنك لكي تمضي بعيدًا جدًّا جدًّا، حتى الأبدية، يجب عليك أن تبدأ قريبًا جدًّا، وهو علاقتك مع شريكك. هل تستطيع أن ترصد أسرتك بعينين صافيتين من دون كلمات “زوجتي” أو “زوجي”، “ابن أخي” أو “ابني”؟ – من دون الكلمة، من دون الجروح المتراكمة وتذكُّر الأمور الماضية. افعلْ ذلك الآن. ارصدْ. وعندما يكون بمقدورك أن ترصد من دون الماضي، أي من دون الصور التي بنيتها عن نفسك وعنهم، إذ ذاك توجد العلاقة الصحيحة.

*

عندما تحيا يوميًّا مع الـموجود وترصد الـموجود، ليس في الخارج هناك وحسب، بل داخليًّا، إذ ذاك ستخلق مجتمعًا يكون بلا نزاع.

مدراس، 27 كانون الأول 1981
أعلى