إن الإنجاز المعرفي الذي قدمه فلاديمير بروب (1895 ـ 1970) في بدايات هذا القرن، شكل نقلة نوعية في مجال الدراسة النقدية للنص السردي القصصي: فبعد أن كان النقد الأدبي خطاباً يصف النص، أو يفسره ويركز على مضمونه وكاتبه، صار خطاباً يعنى ببنية النص وخصائص الشكل.
إن مفهوم الوظيفة الذي بلوره بروب بدراسته للمتن الحكائي الشعبي في كتابه "مورفولوجيا الحكاية" (1928)، بدا اكتشافاً للقواعد المشتركة التي تحكم هذا المتن ـ تشكل هيكل بنيته. ولقد حفز هذا الاكتشاف الدراسة النقدية على متابعة البحث في الشكل الروائي وخصائصه البنائية.
هكذا اختزل غريماس (1917) الوظائف التي حددها بروب بـ 31 وظيفة في 6 وظائف عرفت بلوحة العوامل(1). وهكذا أيضاً عمل تودوروف على تصنيف الحوافز وترتيبها في أربع مجموعات على أساس ما هو نشط وشلوني وإيجابي وسلبي(2).
إضافة إلى هذه القواعد العامة التي ساعدت على تبيان مكونات العمل الروائي باعتبار الحكاية فيه، جرى الاهتمام بتقنيات الخطاب الروائي: مثل الاهتمام بمفهوم الزمن وعلاقته بالمكان وأثره في تشكيل النمط السردي، ومثل الاهتمام كذلك بالتمييز بين الكاتب والراوي وتعريف الأخير بأنه وظيفة تمارس إقامة المسافة بين الكاتب والشخصيات وبموجب هذه المسافة تتوفر للشخصيات إمكانات استقلالها واكتساب خصوصياتها النطقية ورؤاها المتمايزة داخل عالمها النصي المتخيل.
بهذه الإشارات الموجزة إلى بعض المنجزات المعرفية التي غدت مألوفة لدى الكثيرين من النقاد العرب، بل العديد من القراء المثقفين المهتمين بالأدب، أردت القول بأن إنجاز بروب كان في أساس النقلة النوعية التي عرفتها الدراسة النقدية الحديثة. وأن هذا الإنجاز تمثل بالنظر إلى العمل السردي القصصي في حدود مفهوم الوظيفة التي تبني نظامه. وبذلك اعتبر العمل السردي القصصي نظاماً بنائياً مغلقاً.
لقد ترك مفهوم الوظيفة، وبالتالي مفهوم البنية المستقلة بنظامها والمغلقة على ذاتها، أثره على مناهج التناول للنص السردي الروائي خاصة بعد أن قدم الشكليون الروس (وبروب يعتبره البعض واحداً منهم) نصوصهم في نظرية الرواية (3)، وبعد أن نقل كتاب بروب "مورفولوجيا الحكاية" إلى الإنكليزية (1965)، وإلى الفرنسية (1966). يومها عرفت البنيوية أوجها وتحولت الشخصية الروائية مع غريماس وبارت وهامون إلى كائن من ورق يعادل أشارات النص(4).
إلا أن البنيويين الفرنسيين ما لبثوا بعد ذلك أن مالوا إلى الإفادة من علم الدلالة، أو التركيب الدلالي، والنظر إلى النص في ضوء علاقته بالقراءة. وهذا ما طرح مسألة العلاقة بالمرجع الذي يبرز كطرف ثالث، قائم ضمنا (ومشترك)، بين القراءة والنص، أو بالمرجع الذي، كما يقال، يحيل عليه النص ويتمثل في الذاكرة عند القراءة. ومع الميل إلى التأويل بعد أن أغلقه المنحى التحليلي الشكلي على ذاته.
لكن، لئن كان المنحى التأويلي قد أدى بالدراسة النقدية إلى كسر أسوار النظام البنائي المغلق، فإن مناهج الدراسة النقدية الحديثة بقيت على تعددها واختلافها بما في ذلك المناهج ذات المرتكز الفكري الماركسي، متوافقة على مفهوم البنية المستقلة للنص، أي على اعتبار النص بنية لعالم متخيل مفارق لواقعه المرجعي: فالنص السردي القصصي مثلاً ليس صورة تحاكي الواقع المرجعي (أو أي مرجع نصي) حتى عندما تكون حكايته حكاية عن هذا الواقع. لأن النص خطاب لغوي. أي نظام من لعلامات دال، وبالتالي مفارق لواقعه المرجعي الذي قد لا يكون موجوداً في إدراكنا إلا من خلال جسده اللغوي، أو من خلال كون من العلامات هو حسب تعبير باختين، كون إيديولوجي.
في هذا الضوء يمكن القول بأن إنجاز بروب الخاص بتحليل بنية الشكل، أو هيكل البنية، كان في أساس انتقال الدراسة النقدية من مفهوم المحاكاة والمشابهة الأرسطي إلى مفهوم المفارقة والإختلاف، ومن القول بثنائية اللفظ والمعنى (حسب نظرية البلاغة العربية)، أو الشكل والمضومون (حسب النظرة الكلاسيكية للأدب) إلى القول بالعلامة ـ الخطاب باعتبار الخطاب بنية قائمة بنظامها الدلالي المستقل لكن الموحي بمرجعي هو فيه حقيقته.
هكذا، فلئن كان المنحى الحدائي عني بهيكل البنية قد قدم إنجازات تخص الجانب التقني ـ الإجرائي لتحليل الحكاية، فإن المنحى التأويلي المعني بما تولده العلائق اللغوية والإنساق التركيبية من دلالات ومعاني طرح سؤالاً حول مفهوم الحقيقة ومعيار القيمة، أو بالأحرى حمل العمل النقدي على التساؤل حول مهمته وحدودها:
هل يكتفي العمل النقدي بالتأويل، أم أنه معني بالمعنى والحقيقة؟
هل يتكلم الأدب على العالم ويتكلم العمل النقدي على الأدب، أم يتكلم العمل النقدي على الأدب والعالم أيضاً؟
هل النص هوالإطار المرجعي لذاته أم أن بإمكان الناقد أن يعلق على النص ويحاور معناه وحقيقته؟.
ماهي المرجعية التي يرتكز إليها الناقد في حواره للنص وفي تقويمه له؟
أليس في اعتماد مرجعية خارجية لتقويم النص سلطة عليه، أو تعال يؤول إلى انقطاع بين النص المدروس والنص النقدي الدراسي؟
تدعوني هذه الأسئلة ـ بالنظر هنا إلى النصوص السردية القصصية ـ إلى القول بأن العمل النقدي الذي يمارس التأويل وينحو به منحى البحث عن المعنى في الرواية، أو عن الحقيقة فيها ، هو عمل معني بتأويل الرواية لا باعتبار خطابها وحسب (أي لا باعتبار خصائص الخطاب البنائية، أو العلائق التركيبيةـ الأسلوبية وما يتولد عنها من الدلالات)، بل كذلك باعتبار الحكاية فيها (أي الشخصيات وأفعالها وما يعنيه ذلك من هوية وسلوك ورؤى)، وما تحيل عليه من مرجعي خاص.
وقد يقال أن المرجعي هو حضور في الرواية وليس خارجها، أي أنه نسيج الخطاب الروائي نفسه، ولكننا نقول بأن الحكاية التي تحكيها الرواية وينسجها الخطاب تشير إلى معنى خاص، وأن هذا المعنى الخاص يرتبط بهوية الإنسان ـ الشخصية الروائية، وبالحدث ـ الأحداث التي تقوم بها ضد ـ الشخصيات أو التي تقع عليها، وأن ذلك يجري في مكان وزمن، أو في محيط بشري ـ اجتماعي له خصوصية ما... وبذلك تبدو الرواية خطابا يحكي حكاية خاصة، أو خطاباً له معناه الخاص.
لكن قد يقال أيضاً بأن الطابع الحقيقي الذي يكتسبه المعنى الخاص إنما يتحقق على مستوى فنية الخطاب. فالفني هو الذي يوضح بالحقيقي هذا صحيح، إلا أننا نقول بأن هذا الحقيقي يبقى سؤالاً على مستوى الحكاية نفسها باعتبار المرجع الذي تحيل عليه، أو تذكرنا به، نحن القراء. بدون هذا السؤال يبدو حقيقي الرواية، أو حقيقي الفني، سلطوياً، مستبداً، أو واحدياً مطلقاً.
يهمني هنا التأكيد على هذا المعنى الخاص للحكاية التي ترويها الرواية العربية لأذكر بأن هذا المعنى الخاص مرتبط في الرواية العربية بحكاية الإنسان العربي لا بصفتها الإيديولوجية أو الشعاراتية. بل بصفتها حكاية لحياته ومعاناته، أو لواقعه ولبؤسه وأحلامه... أي أنه معنى مرتبط بخصوصيات هذه الحياة في الزمن والمكان، أو في التاريخ والمجتمعي.
ونحن لو نظرنا إلى الخطاب الروائي العربي لوجدناه في حداثته خطاباً يروي حكاية خاصة، وهو في روايته لهذه الحكاية يحقق تميزه واستقلاله لآليات تبنيه التقني ـ الفني. وتبدع هذه الآليات زمن عالم الرواية، ولغات الشخصيات المتمايزة، وخصوصيات أمكنة تواجدهم، وعلائق عيشهم ورموز معاناتهم الكبرى المتمثلة في الـ أنا السلطوي الذي يقمعهم ويهمش وجودهم ويتواطأ مع هو الخارج... وهم يكابدون من أجل العيش عادل، أو من أجل تحقيق أحلام لا تبعد عن أن تكون أحلاماًَ يشاركهم فيها كل إنسان مدرك لمعنى إنسانيته.
لن أتعرض لذكر الأمثلة، فهي ليست بقليلة، ولعلنا نتوافق على تميز عدد منها. غير أنني أشير إلى أن مثل هذا الخطاب الروائي العربي المتميز هو خطاب ينتج على مستواه الفني، معرفة بحقائق تسكت عنها الخطابات الأخرى (خاصة السياسية). تخص هذه الحقائق إنساناً عربياً، أو إنساناً من هذا العالم الذي كانوا يسمونه الثالث. أي تخص إنساناً يقاوم التسلط والتبعية، ويعبر عن تمزقه وتكسر ومنه وانطفاء أحلامه وتعاقب الهزائم عليه.
لنقل أن الخطاب الروائي العربي الذي أفاد من تقنيات السرد الروائي العامة، أو الكونية، هو خطاب أخذ يتميز بنسيج عالمه الخاص، أو المتخيل بهويتها الحياتية في الواقع والتاريخ، وبمنطوقها، لا الإشاري بل الدلالي، وبمعاناتها الفردية والمجتمعية، وبأحلامها الذاتية والإنسانية...وبهذا كله أخذت الحكاية تستوي في فضاء عالم روائي متخيل له منظوره ومعناه، أي في فضاء عالم له حكايته الخاصة وروائيته العامة.
أمام نص روائي عربي يتميز برواية حكاية خاصة، هل يقف عقدنا عند حدود التحليل لهيكل البنية؟ هل يكتفي بتأويل يقف قبل معنى؟ أو يكتفي بتحليل يقتل المعنى؟ هل يقتصر على تطبيق مجموعة من المفاهيم والأدوات، وعلى رصد الوظائف!.
لا ينكر أهمية هذه الخطوات المنهجية في مقاربة النص مقاربة نقدية، لكن النقد الذي يعتمد التأويل لينتج معرفة بموضوعه مدعو إلى النظر في هذا الموضوع، الذي هو هنا العمل الروائي، باعتبار خصوصيته، وباعتباره، بحكم هذه الخصوصية، عاملاً هاماً ومحدداً من عوامل إنتاجية هذه المعرفة. فالمعرفة تنتج بعلاقة مع موضوعها لأنها تحتاج المختلف فيه، بدون أخذ هذه العلاقة بعين الاعتبار قد تؤدي ممارستنا النقدية إلى تغريب النص الروائي في القراءة، وبالتالي إلى تغريب حكايته عنه.
ومثل هذا التغريب هو في الوجه الآخر له غربة العمل النقدي في الثقافة والحياة.
صحيح أن العمل النقدي العربي كان في بداية انفتاحه على حداثة الأعمال النقدية الغربية، معارف ومناهج، يعيش حداثة مضاعفة هي حداثته وحداثة النص الروائي نفسه. لكن، لئن كانت الرواية العربية قد مالت، كما أشرنا، إلى تميزها بأنماط السردية، فإن النقد صار مدعوا لأن يتميز بدوره. لم يعد جائزاً أن تبقى تجربتنا النقدية، تعد تميز موضوعها، متوكئة على المناهج النقدية الغربية محاكاة وتطبيقها.
نحن لا ننكر الطابع الكوني للمفاهيم وللأدوات، ولسنا ضد الإفادة منها، غير أن علينا أن ندرك بأن هذه المفاهيم والأدوات تجد عادة، مبررها الفكري ـ الإيديولوجي في النص الأدبية نفسها، أو في الثقافي الذي يشمل الأدب والنقد.
أن تقنية تسكير الزمن مثلاً هي تقنية كونية لكنها تصوغ، أو صاغت في الرواية الأوروبية الحديثة معنى مختلفاً عن المعنى الذي صاغته، أو تصوغه، في رواية أميركا اللاتينية: ففي الأولى تصوغ معنى الآلينة وحقيقته، أي معنى الإنسان المهمش في مجتمع صناعي تتحكم به الآلة ويسيطر على حياته الإعلام. أما في الثانية فهي تصوغ معنى تأبد دكتاتورية الفرد الحاكم وزمنه في مجتمع يفتقر إلى تقدم وسائل العيش والحياة فيه.
حديثاً تحاول بعض الراويات العربية الإفادة من هذه التقنية إنما لصياغة المعنى الخاص بالحكاية العربية، حكاية الإنسان في تمزقه، وانقسامه على ذاته وتحول مقاومته إلى خنجر يطعن قلب حامله.
فهل يقارب عملنا النقدي نصنا الروائي ليحلل فقط آليات التكسر بالمشابهة والمحاكاة، أم ليكشف بتحليله خصوصية التوظيف التقني في تحوله إلى صياغة فنية تولد معنى الحكاية الخاص، الحكاية التي ترويها الرواية والتي تكتسب بروائيتها طابع الحقيقي؟
يمكننا طرح السؤال نفسه بالنسبة لمفهوم العدمية الذي أعقب في أوروبا الاعتراف بالتنوع والمساواة بين البشر، واعتبار الحقيقة نسبية. ولكن، لئن كان هذا المفهوم (مفهوم العدمية) قد وجد مبرره في سياق تاريخي خاص، فإن أخذ العمل النقدي الأوروبي به كان إضافة إلى ذاك، يجد مبرراً إيديولوجياً له في بعض النصوص الأوروبية الروائية نفسها.
وبذلك يبدو العمل النقدي الأوروبي على علاقة بمرجعي خاص، أو بثقافي له خصوصيته التاريخية وله مرتكزاته الإيديولوجية، وأنه بالتالي على علاقة وثيقة بموضوعه (النص) الإيديولوجي، الذي يحكم هذا الموضوع.
فهل ندفن المعنى الخاص لحكايتنا، أو نقول بنسبية حقيقتها قبل أن نصل إلى الاعتراف بوجودها؟.
أو هل نحاكي ونشابه فنغفل عن حقائق تنسجها نصوصنا الروائية في حكاياتها عن أناس مازالوا يسعون من أجل حقهم الحقيقي في التحرر والوجود في عالم ينفيهم منه؟
ليس فيما أقول دعوة إلى الانصراف إلى الاهتمام ببنية الشكل بل فيه من ناحية إشارة إلى ضرورة بأثر المرجع الحي بنية الشكل هذه، وفيه من ناحية ثانية إشارة إلى أن الاهتمام ببنية الشكل لا يعني شكلانية في العمل النقدي، لأن الشكل دال، وتميزه كبنية مستقلة هو، في جانب هام منه، أثر من علاقة بمرجع خاص.
أضف أن اهتمام العمل النقدي بأثر ضد المرجع في تمييز بنية الشكل لا يعني، كما قد يظن البعض، إهمالا لأدبية الأدب، أو لروائية الرواية، أو تحويل العمل الأدبي إلى مجرد مضمون إيديولوجي. ذلك أن الاهتمام بأثر المرجع في تمييز بنية الشكل مرهون بنظرتنا إلى طبيعة حضور المرجع لا كمجرد مضمون في وعاء، بل كنسيج جسدي. بهذا المعنى، يصبح الاهتمام بأثر المرجع في تمييز بنية الشكل المرهوناً، كذلك، بقدراتنا المعرفية على قراءة النص، أو على بلورة قراءة منهجية (لا أعني بالقراءة) المنهجية منهجاً لأن المنهجية تترك مجالاً لاختلاف القراءة في حين يحددها المنهج.
تعنى بمفهوم الشكل الدال(5)، وبما تولده آلياته الصياغة، أو علائقه، حسب مفهوم عبد القاهر الجرجاني (القرن الخامس هجري) من دلالات تنتظم وتنسق في معنى العمل، أي في ضرورته البنائية، وتولده، من ثم، وهم حقيقته.
لا تنتج المعارف إلا بعلاقة أساسية مع موضوعاتها، ولئن كانت الرواية العربية، موضوع كلامنا، تتشكل بعلاقة مع مرجع حي (أو مع واقع مرجعي خاص) تحكي حكايته، فإن النظر في أثر هذا المرجع، أو في وظيفته الداخلية في تمييز بنية الشكل، هو سؤال معنية تجربتنا النقدية به. فبهذا السؤال الذي قد تضمره الممارسة النقدية، أو الذي قد يشكل خلفية لقراءة النص الإنتاج معرفة به، يمكن لعملنا النقدي أن يتمايز منهجياً ويؤصل المفاهيم التي يتوسلها والتي يأخذها من تجارب ومباحث أخرى ينفتح عليها.
من حقنا أن نفيد من المناهج والنظريات العالمية في مجال الدراسة النقدية، إنما ليس من المفيد لنا في حقل الإنتاج المعرفي، أن يبقى استخدامنا لما نفيده منه استخداماً في حدود المحاكاة والتطبيق.
أن نقل التفكيكية مثلاً، أو محاكاة منهجاً، أدى ببعض النقاد عندنا إلى قتل المعنى في النص، لأن محاولاتهم لم تكن من منطلق التفكر إن هذه النظرية تأسست على نقد المركزية، أي على نقد ثقافة المركز التي غيبت في خطابها ثقافة الهامش. ولئن كانت هذه النظرية بنقدها للمركزية قد حرصت على عدم قلب المواقع واستبدالها بين طرفي المعادلة (معادلة المركز والهامش أو الكتابة والكلام، أو غير ذلك) متأبية بذلك على مفهوم الثنائية، فإنه من غير الجائز لنا، نحن الذين نسعى إلى الإفادة من هذه النظرية من موقع الهامش، أن ننفي ذواتنا في الكلام على الآخر أو في تعديل العلاقة معه، أي ليس من الجائز أن تضاعف هامشيتنا في الكلام على آخر كلي.
لقد تأبت التفكيكية على الثنائية من موقع المركز باتجاه الهامش.
لذا فإن أفادتنا من المنهج التفكيكي تطرح علينا السؤال التالي:
كيف يمكننا فكرياً، وليس فقط شكلياً، أو تطبيقياً، أن نتأبى على الثنائية من موقع الهامش باتجاه المركز؟ كيف يمكننا أن نستفيد فعلياًَ من التفكيكية دون أن نرمي بأنفسنا خلف معنى هامشيتنا، أو دون أن نثبت فاعلا في موقعه، أو دون أن نضع قناعا على وجه قامع يقمعنا، وستاراً يحجب سلطة تستبد بنا وتحولنا إلى سلطة في السوق العالمية الجديدة؟
بكلام آخر كيف يمكننا أن نستعين بالتفكيكية لنتأبى عن الثنائية من معنى آخر لها: هو معنى الهامش ـ المركز وليس المركزـ الهامش، وبالتالي لنمارس منهجاً تفكيكياً من مواقعنا في الكلام حذر السقوط في لا ثنائية وهمية يبقى معها المركزي مركزياً والهامش هامشياً. جميل أن نلعب بالكلمات ولكن ليس بالمعاني التي تسأل من هو الآخر الذي نريد أن تتعدل به المعادلة، وهل تتعدل هذه المعادلة بقبول الهامش للمركز تماماً كقبول المركز للهامش؟
في ضوء هذه الأسئلة الرامية إلى التفكر بهمومنا في مجال المقاربات النقدية لنصوصنا الروائية، و باعتبار هذه الهموم غير منفصلة عن الهم الثقافي ـ الاجتماعي الخاص، أجدني أتطلع إلى مقاربة (يتعاضد على بلورتها اليوم قلة من النقاد العرب)، هي في نظري مقاربات لمعنى النص في بنيته المميزة. ومعنى النص، بالنسبة لنسيج النص ـ أو لجسده اللغوي، يعادل منطقة البنائي، وضرورة العلائق الوظيفية بين مكوناته أن اللغة الروائية هي لغة تنسج معناها بنسج العلائق بين مكونات عالمها. وهي بهذا النسيج تتميز كجنس أدبي، كما تتمايز بخصوصي لها فتبدع حقيقتها، حقيقي هذا الخاص: معناها هكذا يمكن القول: لئن كان معنى الرواية الخاص يرتبط بالحكاية التي تحكيها الرواية، فإن الحكاية لا تكتسب طابع الحقيقي إلا بروائيتها، أي بالفني. لذا يبدو لي الحقيقي بنسيجه الروائي أثراً لمرجع تحليل عليه الرواية وترتقي به، في الوقت نفسه، إلى ما هو أبعد من هذا المرجع.
وعليه أرى أن الكلام على الاتجاهات الجديدة في تناولنا النقدي للقصة والرواية العربيتين هو كلام على هذا المرجع في معادله الفني في السرد القصصي ـ الروائي. العربي الحديث نفسه؟
الهوامش
(1)ـ راجع الكتاب غريماس:
Sémantique Structural. Ed. Lilrouirie Larousse. Paris 1966 p.180.
(2)ـ يرى تودورف أن ثمة 3 حوافز أساسية اعتبرها نشطة إيجابية.عليها يترتب 3 حوافز نشطة ولكن سلبية، ويقابل هذه الحوافز الستة النشطة 6 حوافز سكونية (3 إيجابية و3 سلبية).
راجع في هذا الصدد كتاب: "تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي. يحنى العبد. دار الفارابي. بيروت 1990.
(3)ـ مارس الشكليون الروس نشاطهم بين عامي 1915ـ 1930 فيما بعد قام تودوروف باختيار بعض نصوصهم ونقلها إلى الفرنسية، وقد صدرت تحت عنوان "نظرية الأدب" عام 1965.
(4)ـ راجع في هذا الصدد:
Joove (Vincent): (L'effet _ Personnage dans le Roma Paris. P.U.F. 1992.P.g.
(5)ـ يقول هنري متيران: "الشكل (فيما هو أكثر من حدود الجملة، أو أقل منها) وسيط طبيعي بينا المادة الاجتماعية الخارج نصية، والمعنى الذي يتخذه المنطوق بتحديدات تاريخية للعمل الروائي، ونقد "شكلي". أن النقد الاجتماعي ليس شيئاً آخر غير النقد الدلالي.
راجع كتابه بالفرنسية:
Le discourse du Roman. Paris, P.U.F. 1980. P:1.
إن مفهوم الوظيفة الذي بلوره بروب بدراسته للمتن الحكائي الشعبي في كتابه "مورفولوجيا الحكاية" (1928)، بدا اكتشافاً للقواعد المشتركة التي تحكم هذا المتن ـ تشكل هيكل بنيته. ولقد حفز هذا الاكتشاف الدراسة النقدية على متابعة البحث في الشكل الروائي وخصائصه البنائية.
هكذا اختزل غريماس (1917) الوظائف التي حددها بروب بـ 31 وظيفة في 6 وظائف عرفت بلوحة العوامل(1). وهكذا أيضاً عمل تودوروف على تصنيف الحوافز وترتيبها في أربع مجموعات على أساس ما هو نشط وشلوني وإيجابي وسلبي(2).
إضافة إلى هذه القواعد العامة التي ساعدت على تبيان مكونات العمل الروائي باعتبار الحكاية فيه، جرى الاهتمام بتقنيات الخطاب الروائي: مثل الاهتمام بمفهوم الزمن وعلاقته بالمكان وأثره في تشكيل النمط السردي، ومثل الاهتمام كذلك بالتمييز بين الكاتب والراوي وتعريف الأخير بأنه وظيفة تمارس إقامة المسافة بين الكاتب والشخصيات وبموجب هذه المسافة تتوفر للشخصيات إمكانات استقلالها واكتساب خصوصياتها النطقية ورؤاها المتمايزة داخل عالمها النصي المتخيل.
بهذه الإشارات الموجزة إلى بعض المنجزات المعرفية التي غدت مألوفة لدى الكثيرين من النقاد العرب، بل العديد من القراء المثقفين المهتمين بالأدب، أردت القول بأن إنجاز بروب كان في أساس النقلة النوعية التي عرفتها الدراسة النقدية الحديثة. وأن هذا الإنجاز تمثل بالنظر إلى العمل السردي القصصي في حدود مفهوم الوظيفة التي تبني نظامه. وبذلك اعتبر العمل السردي القصصي نظاماً بنائياً مغلقاً.
لقد ترك مفهوم الوظيفة، وبالتالي مفهوم البنية المستقلة بنظامها والمغلقة على ذاتها، أثره على مناهج التناول للنص السردي الروائي خاصة بعد أن قدم الشكليون الروس (وبروب يعتبره البعض واحداً منهم) نصوصهم في نظرية الرواية (3)، وبعد أن نقل كتاب بروب "مورفولوجيا الحكاية" إلى الإنكليزية (1965)، وإلى الفرنسية (1966). يومها عرفت البنيوية أوجها وتحولت الشخصية الروائية مع غريماس وبارت وهامون إلى كائن من ورق يعادل أشارات النص(4).
إلا أن البنيويين الفرنسيين ما لبثوا بعد ذلك أن مالوا إلى الإفادة من علم الدلالة، أو التركيب الدلالي، والنظر إلى النص في ضوء علاقته بالقراءة. وهذا ما طرح مسألة العلاقة بالمرجع الذي يبرز كطرف ثالث، قائم ضمنا (ومشترك)، بين القراءة والنص، أو بالمرجع الذي، كما يقال، يحيل عليه النص ويتمثل في الذاكرة عند القراءة. ومع الميل إلى التأويل بعد أن أغلقه المنحى التحليلي الشكلي على ذاته.
لكن، لئن كان المنحى التأويلي قد أدى بالدراسة النقدية إلى كسر أسوار النظام البنائي المغلق، فإن مناهج الدراسة النقدية الحديثة بقيت على تعددها واختلافها بما في ذلك المناهج ذات المرتكز الفكري الماركسي، متوافقة على مفهوم البنية المستقلة للنص، أي على اعتبار النص بنية لعالم متخيل مفارق لواقعه المرجعي: فالنص السردي القصصي مثلاً ليس صورة تحاكي الواقع المرجعي (أو أي مرجع نصي) حتى عندما تكون حكايته حكاية عن هذا الواقع. لأن النص خطاب لغوي. أي نظام من لعلامات دال، وبالتالي مفارق لواقعه المرجعي الذي قد لا يكون موجوداً في إدراكنا إلا من خلال جسده اللغوي، أو من خلال كون من العلامات هو حسب تعبير باختين، كون إيديولوجي.
في هذا الضوء يمكن القول بأن إنجاز بروب الخاص بتحليل بنية الشكل، أو هيكل البنية، كان في أساس انتقال الدراسة النقدية من مفهوم المحاكاة والمشابهة الأرسطي إلى مفهوم المفارقة والإختلاف، ومن القول بثنائية اللفظ والمعنى (حسب نظرية البلاغة العربية)، أو الشكل والمضومون (حسب النظرة الكلاسيكية للأدب) إلى القول بالعلامة ـ الخطاب باعتبار الخطاب بنية قائمة بنظامها الدلالي المستقل لكن الموحي بمرجعي هو فيه حقيقته.
هكذا، فلئن كان المنحى الحدائي عني بهيكل البنية قد قدم إنجازات تخص الجانب التقني ـ الإجرائي لتحليل الحكاية، فإن المنحى التأويلي المعني بما تولده العلائق اللغوية والإنساق التركيبية من دلالات ومعاني طرح سؤالاً حول مفهوم الحقيقة ومعيار القيمة، أو بالأحرى حمل العمل النقدي على التساؤل حول مهمته وحدودها:
هل يكتفي العمل النقدي بالتأويل، أم أنه معني بالمعنى والحقيقة؟
هل يتكلم الأدب على العالم ويتكلم العمل النقدي على الأدب، أم يتكلم العمل النقدي على الأدب والعالم أيضاً؟
هل النص هوالإطار المرجعي لذاته أم أن بإمكان الناقد أن يعلق على النص ويحاور معناه وحقيقته؟.
ماهي المرجعية التي يرتكز إليها الناقد في حواره للنص وفي تقويمه له؟
أليس في اعتماد مرجعية خارجية لتقويم النص سلطة عليه، أو تعال يؤول إلى انقطاع بين النص المدروس والنص النقدي الدراسي؟
تدعوني هذه الأسئلة ـ بالنظر هنا إلى النصوص السردية القصصية ـ إلى القول بأن العمل النقدي الذي يمارس التأويل وينحو به منحى البحث عن المعنى في الرواية، أو عن الحقيقة فيها ، هو عمل معني بتأويل الرواية لا باعتبار خطابها وحسب (أي لا باعتبار خصائص الخطاب البنائية، أو العلائق التركيبيةـ الأسلوبية وما يتولد عنها من الدلالات)، بل كذلك باعتبار الحكاية فيها (أي الشخصيات وأفعالها وما يعنيه ذلك من هوية وسلوك ورؤى)، وما تحيل عليه من مرجعي خاص.
وقد يقال أن المرجعي هو حضور في الرواية وليس خارجها، أي أنه نسيج الخطاب الروائي نفسه، ولكننا نقول بأن الحكاية التي تحكيها الرواية وينسجها الخطاب تشير إلى معنى خاص، وأن هذا المعنى الخاص يرتبط بهوية الإنسان ـ الشخصية الروائية، وبالحدث ـ الأحداث التي تقوم بها ضد ـ الشخصيات أو التي تقع عليها، وأن ذلك يجري في مكان وزمن، أو في محيط بشري ـ اجتماعي له خصوصية ما... وبذلك تبدو الرواية خطابا يحكي حكاية خاصة، أو خطاباً له معناه الخاص.
لكن قد يقال أيضاً بأن الطابع الحقيقي الذي يكتسبه المعنى الخاص إنما يتحقق على مستوى فنية الخطاب. فالفني هو الذي يوضح بالحقيقي هذا صحيح، إلا أننا نقول بأن هذا الحقيقي يبقى سؤالاً على مستوى الحكاية نفسها باعتبار المرجع الذي تحيل عليه، أو تذكرنا به، نحن القراء. بدون هذا السؤال يبدو حقيقي الرواية، أو حقيقي الفني، سلطوياً، مستبداً، أو واحدياً مطلقاً.
يهمني هنا التأكيد على هذا المعنى الخاص للحكاية التي ترويها الرواية العربية لأذكر بأن هذا المعنى الخاص مرتبط في الرواية العربية بحكاية الإنسان العربي لا بصفتها الإيديولوجية أو الشعاراتية. بل بصفتها حكاية لحياته ومعاناته، أو لواقعه ولبؤسه وأحلامه... أي أنه معنى مرتبط بخصوصيات هذه الحياة في الزمن والمكان، أو في التاريخ والمجتمعي.
ونحن لو نظرنا إلى الخطاب الروائي العربي لوجدناه في حداثته خطاباً يروي حكاية خاصة، وهو في روايته لهذه الحكاية يحقق تميزه واستقلاله لآليات تبنيه التقني ـ الفني. وتبدع هذه الآليات زمن عالم الرواية، ولغات الشخصيات المتمايزة، وخصوصيات أمكنة تواجدهم، وعلائق عيشهم ورموز معاناتهم الكبرى المتمثلة في الـ أنا السلطوي الذي يقمعهم ويهمش وجودهم ويتواطأ مع هو الخارج... وهم يكابدون من أجل العيش عادل، أو من أجل تحقيق أحلام لا تبعد عن أن تكون أحلاماًَ يشاركهم فيها كل إنسان مدرك لمعنى إنسانيته.
لن أتعرض لذكر الأمثلة، فهي ليست بقليلة، ولعلنا نتوافق على تميز عدد منها. غير أنني أشير إلى أن مثل هذا الخطاب الروائي العربي المتميز هو خطاب ينتج على مستواه الفني، معرفة بحقائق تسكت عنها الخطابات الأخرى (خاصة السياسية). تخص هذه الحقائق إنساناً عربياً، أو إنساناً من هذا العالم الذي كانوا يسمونه الثالث. أي تخص إنساناً يقاوم التسلط والتبعية، ويعبر عن تمزقه وتكسر ومنه وانطفاء أحلامه وتعاقب الهزائم عليه.
لنقل أن الخطاب الروائي العربي الذي أفاد من تقنيات السرد الروائي العامة، أو الكونية، هو خطاب أخذ يتميز بنسيج عالمه الخاص، أو المتخيل بهويتها الحياتية في الواقع والتاريخ، وبمنطوقها، لا الإشاري بل الدلالي، وبمعاناتها الفردية والمجتمعية، وبأحلامها الذاتية والإنسانية...وبهذا كله أخذت الحكاية تستوي في فضاء عالم روائي متخيل له منظوره ومعناه، أي في فضاء عالم له حكايته الخاصة وروائيته العامة.
أمام نص روائي عربي يتميز برواية حكاية خاصة، هل يقف عقدنا عند حدود التحليل لهيكل البنية؟ هل يكتفي بتأويل يقف قبل معنى؟ أو يكتفي بتحليل يقتل المعنى؟ هل يقتصر على تطبيق مجموعة من المفاهيم والأدوات، وعلى رصد الوظائف!.
لا ينكر أهمية هذه الخطوات المنهجية في مقاربة النص مقاربة نقدية، لكن النقد الذي يعتمد التأويل لينتج معرفة بموضوعه مدعو إلى النظر في هذا الموضوع، الذي هو هنا العمل الروائي، باعتبار خصوصيته، وباعتباره، بحكم هذه الخصوصية، عاملاً هاماً ومحدداً من عوامل إنتاجية هذه المعرفة. فالمعرفة تنتج بعلاقة مع موضوعها لأنها تحتاج المختلف فيه، بدون أخذ هذه العلاقة بعين الاعتبار قد تؤدي ممارستنا النقدية إلى تغريب النص الروائي في القراءة، وبالتالي إلى تغريب حكايته عنه.
ومثل هذا التغريب هو في الوجه الآخر له غربة العمل النقدي في الثقافة والحياة.
صحيح أن العمل النقدي العربي كان في بداية انفتاحه على حداثة الأعمال النقدية الغربية، معارف ومناهج، يعيش حداثة مضاعفة هي حداثته وحداثة النص الروائي نفسه. لكن، لئن كانت الرواية العربية قد مالت، كما أشرنا، إلى تميزها بأنماط السردية، فإن النقد صار مدعوا لأن يتميز بدوره. لم يعد جائزاً أن تبقى تجربتنا النقدية، تعد تميز موضوعها، متوكئة على المناهج النقدية الغربية محاكاة وتطبيقها.
نحن لا ننكر الطابع الكوني للمفاهيم وللأدوات، ولسنا ضد الإفادة منها، غير أن علينا أن ندرك بأن هذه المفاهيم والأدوات تجد عادة، مبررها الفكري ـ الإيديولوجي في النص الأدبية نفسها، أو في الثقافي الذي يشمل الأدب والنقد.
أن تقنية تسكير الزمن مثلاً هي تقنية كونية لكنها تصوغ، أو صاغت في الرواية الأوروبية الحديثة معنى مختلفاً عن المعنى الذي صاغته، أو تصوغه، في رواية أميركا اللاتينية: ففي الأولى تصوغ معنى الآلينة وحقيقته، أي معنى الإنسان المهمش في مجتمع صناعي تتحكم به الآلة ويسيطر على حياته الإعلام. أما في الثانية فهي تصوغ معنى تأبد دكتاتورية الفرد الحاكم وزمنه في مجتمع يفتقر إلى تقدم وسائل العيش والحياة فيه.
حديثاً تحاول بعض الراويات العربية الإفادة من هذه التقنية إنما لصياغة المعنى الخاص بالحكاية العربية، حكاية الإنسان في تمزقه، وانقسامه على ذاته وتحول مقاومته إلى خنجر يطعن قلب حامله.
فهل يقارب عملنا النقدي نصنا الروائي ليحلل فقط آليات التكسر بالمشابهة والمحاكاة، أم ليكشف بتحليله خصوصية التوظيف التقني في تحوله إلى صياغة فنية تولد معنى الحكاية الخاص، الحكاية التي ترويها الرواية والتي تكتسب بروائيتها طابع الحقيقي؟
يمكننا طرح السؤال نفسه بالنسبة لمفهوم العدمية الذي أعقب في أوروبا الاعتراف بالتنوع والمساواة بين البشر، واعتبار الحقيقة نسبية. ولكن، لئن كان هذا المفهوم (مفهوم العدمية) قد وجد مبرره في سياق تاريخي خاص، فإن أخذ العمل النقدي الأوروبي به كان إضافة إلى ذاك، يجد مبرراً إيديولوجياً له في بعض النصوص الأوروبية الروائية نفسها.
وبذلك يبدو العمل النقدي الأوروبي على علاقة بمرجعي خاص، أو بثقافي له خصوصيته التاريخية وله مرتكزاته الإيديولوجية، وأنه بالتالي على علاقة وثيقة بموضوعه (النص) الإيديولوجي، الذي يحكم هذا الموضوع.
فهل ندفن المعنى الخاص لحكايتنا، أو نقول بنسبية حقيقتها قبل أن نصل إلى الاعتراف بوجودها؟.
أو هل نحاكي ونشابه فنغفل عن حقائق تنسجها نصوصنا الروائية في حكاياتها عن أناس مازالوا يسعون من أجل حقهم الحقيقي في التحرر والوجود في عالم ينفيهم منه؟
ليس فيما أقول دعوة إلى الانصراف إلى الاهتمام ببنية الشكل بل فيه من ناحية إشارة إلى ضرورة بأثر المرجع الحي بنية الشكل هذه، وفيه من ناحية ثانية إشارة إلى أن الاهتمام ببنية الشكل لا يعني شكلانية في العمل النقدي، لأن الشكل دال، وتميزه كبنية مستقلة هو، في جانب هام منه، أثر من علاقة بمرجع خاص.
أضف أن اهتمام العمل النقدي بأثر ضد المرجع في تمييز بنية الشكل لا يعني، كما قد يظن البعض، إهمالا لأدبية الأدب، أو لروائية الرواية، أو تحويل العمل الأدبي إلى مجرد مضمون إيديولوجي. ذلك أن الاهتمام بأثر المرجع في تمييز بنية الشكل مرهون بنظرتنا إلى طبيعة حضور المرجع لا كمجرد مضمون في وعاء، بل كنسيج جسدي. بهذا المعنى، يصبح الاهتمام بأثر المرجع في تمييز بنية الشكل المرهوناً، كذلك، بقدراتنا المعرفية على قراءة النص، أو على بلورة قراءة منهجية (لا أعني بالقراءة) المنهجية منهجاً لأن المنهجية تترك مجالاً لاختلاف القراءة في حين يحددها المنهج.
تعنى بمفهوم الشكل الدال(5)، وبما تولده آلياته الصياغة، أو علائقه، حسب مفهوم عبد القاهر الجرجاني (القرن الخامس هجري) من دلالات تنتظم وتنسق في معنى العمل، أي في ضرورته البنائية، وتولده، من ثم، وهم حقيقته.
لا تنتج المعارف إلا بعلاقة أساسية مع موضوعاتها، ولئن كانت الرواية العربية، موضوع كلامنا، تتشكل بعلاقة مع مرجع حي (أو مع واقع مرجعي خاص) تحكي حكايته، فإن النظر في أثر هذا المرجع، أو في وظيفته الداخلية في تمييز بنية الشكل، هو سؤال معنية تجربتنا النقدية به. فبهذا السؤال الذي قد تضمره الممارسة النقدية، أو الذي قد يشكل خلفية لقراءة النص الإنتاج معرفة به، يمكن لعملنا النقدي أن يتمايز منهجياً ويؤصل المفاهيم التي يتوسلها والتي يأخذها من تجارب ومباحث أخرى ينفتح عليها.
من حقنا أن نفيد من المناهج والنظريات العالمية في مجال الدراسة النقدية، إنما ليس من المفيد لنا في حقل الإنتاج المعرفي، أن يبقى استخدامنا لما نفيده منه استخداماً في حدود المحاكاة والتطبيق.
أن نقل التفكيكية مثلاً، أو محاكاة منهجاً، أدى ببعض النقاد عندنا إلى قتل المعنى في النص، لأن محاولاتهم لم تكن من منطلق التفكر إن هذه النظرية تأسست على نقد المركزية، أي على نقد ثقافة المركز التي غيبت في خطابها ثقافة الهامش. ولئن كانت هذه النظرية بنقدها للمركزية قد حرصت على عدم قلب المواقع واستبدالها بين طرفي المعادلة (معادلة المركز والهامش أو الكتابة والكلام، أو غير ذلك) متأبية بذلك على مفهوم الثنائية، فإنه من غير الجائز لنا، نحن الذين نسعى إلى الإفادة من هذه النظرية من موقع الهامش، أن ننفي ذواتنا في الكلام على الآخر أو في تعديل العلاقة معه، أي ليس من الجائز أن تضاعف هامشيتنا في الكلام على آخر كلي.
لقد تأبت التفكيكية على الثنائية من موقع المركز باتجاه الهامش.
لذا فإن أفادتنا من المنهج التفكيكي تطرح علينا السؤال التالي:
كيف يمكننا فكرياً، وليس فقط شكلياً، أو تطبيقياً، أن نتأبى على الثنائية من موقع الهامش باتجاه المركز؟ كيف يمكننا أن نستفيد فعلياًَ من التفكيكية دون أن نرمي بأنفسنا خلف معنى هامشيتنا، أو دون أن نثبت فاعلا في موقعه، أو دون أن نضع قناعا على وجه قامع يقمعنا، وستاراً يحجب سلطة تستبد بنا وتحولنا إلى سلطة في السوق العالمية الجديدة؟
بكلام آخر كيف يمكننا أن نستعين بالتفكيكية لنتأبى عن الثنائية من معنى آخر لها: هو معنى الهامش ـ المركز وليس المركزـ الهامش، وبالتالي لنمارس منهجاً تفكيكياً من مواقعنا في الكلام حذر السقوط في لا ثنائية وهمية يبقى معها المركزي مركزياً والهامش هامشياً. جميل أن نلعب بالكلمات ولكن ليس بالمعاني التي تسأل من هو الآخر الذي نريد أن تتعدل به المعادلة، وهل تتعدل هذه المعادلة بقبول الهامش للمركز تماماً كقبول المركز للهامش؟
في ضوء هذه الأسئلة الرامية إلى التفكر بهمومنا في مجال المقاربات النقدية لنصوصنا الروائية، و باعتبار هذه الهموم غير منفصلة عن الهم الثقافي ـ الاجتماعي الخاص، أجدني أتطلع إلى مقاربة (يتعاضد على بلورتها اليوم قلة من النقاد العرب)، هي في نظري مقاربات لمعنى النص في بنيته المميزة. ومعنى النص، بالنسبة لنسيج النص ـ أو لجسده اللغوي، يعادل منطقة البنائي، وضرورة العلائق الوظيفية بين مكوناته أن اللغة الروائية هي لغة تنسج معناها بنسج العلائق بين مكونات عالمها. وهي بهذا النسيج تتميز كجنس أدبي، كما تتمايز بخصوصي لها فتبدع حقيقتها، حقيقي هذا الخاص: معناها هكذا يمكن القول: لئن كان معنى الرواية الخاص يرتبط بالحكاية التي تحكيها الرواية، فإن الحكاية لا تكتسب طابع الحقيقي إلا بروائيتها، أي بالفني. لذا يبدو لي الحقيقي بنسيجه الروائي أثراً لمرجع تحليل عليه الرواية وترتقي به، في الوقت نفسه، إلى ما هو أبعد من هذا المرجع.
وعليه أرى أن الكلام على الاتجاهات الجديدة في تناولنا النقدي للقصة والرواية العربيتين هو كلام على هذا المرجع في معادله الفني في السرد القصصي ـ الروائي. العربي الحديث نفسه؟
الهوامش
(1)ـ راجع الكتاب غريماس:
Sémantique Structural. Ed. Lilrouirie Larousse. Paris 1966 p.180.
(2)ـ يرى تودورف أن ثمة 3 حوافز أساسية اعتبرها نشطة إيجابية.عليها يترتب 3 حوافز نشطة ولكن سلبية، ويقابل هذه الحوافز الستة النشطة 6 حوافز سكونية (3 إيجابية و3 سلبية).
راجع في هذا الصدد كتاب: "تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي. يحنى العبد. دار الفارابي. بيروت 1990.
(3)ـ مارس الشكليون الروس نشاطهم بين عامي 1915ـ 1930 فيما بعد قام تودوروف باختيار بعض نصوصهم ونقلها إلى الفرنسية، وقد صدرت تحت عنوان "نظرية الأدب" عام 1965.
(4)ـ راجع في هذا الصدد:
Joove (Vincent): (L'effet _ Personnage dans le Roma Paris. P.U.F. 1992.P.g.
(5)ـ يقول هنري متيران: "الشكل (فيما هو أكثر من حدود الجملة، أو أقل منها) وسيط طبيعي بينا المادة الاجتماعية الخارج نصية، والمعنى الذي يتخذه المنطوق بتحديدات تاريخية للعمل الروائي، ونقد "شكلي". أن النقد الاجتماعي ليس شيئاً آخر غير النقد الدلالي.
راجع كتابه بالفرنسية:
Le discourse du Roman. Paris, P.U.F. 1980. P:1.