محمد الصباغ - درس في الأدب

اجتمعنا في هذا اليوم الأول من الموسم الدراسي الجديد الذي نحن بصدد تدشينه في هذا الفصل بالدرس الأول في تاريخ الأدب. وبين يدي منهج الأدب العربي لهذه السنة. وقد كلفت من طرف مصلحة التعليم الثانوي، والتي لا ترحم معلما، أن أدرس معكم كل ما يحويه هذا المنهج، وأن تخبروا أنتم، وتعلموا دقائق محتوياته. فهل أراني ألبي ؟ وهل أعاكس ذوقي في الأدب، وجوهره، وماهيته فأنفذ معكم مقررات هذا المنهج عن آخرها ؟ وهل أخلص لذوقي وميولي التي كونت هذا الذوق في الأدب، فأطرح المنهج جانبا، وأنفذ معكم إلى لب الأدب الكمين في سراديب الحياة ؟
لو كنت يا إخواني الطلبة، معلم الحساب، أو الهندسة ،أو الجغرافية، أو ما شاكل ذلك من العلوم العملية، أو الطبيعية، أو اللسانية، أو الاجتماعية، لطبقت مقررات مناهجها تطبيقا تاما يرضي مصلحة التعليم. أما، ونحن في حضرة الأدب الذي لا يحد بحدود، ولا يستقيم في مقررات ولا مناهج، فإني أشفق عليكم، وعلى نفسي، وعلى الأدب كذلك من أن نسيجه، و نسيج أنفسنا معه في دائرة لا حدود لها، ولا منتهى، ولا قرار.
فلننفذ إذاً إلى أسرار الأدب الخبيئة في طلاسم الحياة، التي نمر بها، ولا نحفل بها، وتمر بها فئة مختارة عجائبها. وهذه هي الفئة التي نسميها: فئة الأدباء والشعراء التي تكشف لنا عمق هذه الأسرار التي من بينها أسرار حياتنا وحقيقتها المحجبة عنا بأستار لا ندركها ببصرنا. وهذه الأسرار التي ينفذ إليها الأدب، ويكتشفها لنا، وهي أبعد وأوسع من أن يشملها هذا المنهج بين دفتيه.
لا أيها الأخوة، ليس هذا المنهج من صلب الأدب في شيء. وإني أربأ بكم أن تتخذوه مسلكا نيرا لحقيقة الأدب، وهذه الحقيقة التي يجب أن ننفذ إليها مذيبين قشرتها بشرارة عواطفنا وإحساسنا حتى نلمسها بين أصابعنا. وإذا نحن لمسناها، لمسنا روح الحياة التي تجري في قلوب الشعراء جداول من ورد، وسواقي من عطر السماء.
فما هي هذه الحياة ؟ ومن هم الأدباء ؟ وكيف هؤلاء الأدباء تمخضت بهم الحياة حتى أصبحوا وتاريخ الحياة توأمين ؟
ليس علي أن أكون فيلسوفا لأحدد معنى الحياة تحديدا ((عقلانيا)) كما يقال. لأني أعلم أن العقل لا يستقر به قرار، ولا يخضع لمفهوم أو مدلول، أو تحديد. فهو دائما يجنح إلى ما وراء العقل، فيسقط في حومة الجدال والنقاش من قال ويقول، وزعم ويزعم.
فلندخل يا أحبائي إلى الحياة من باب الحياة الواسع، لندخل إليها بعواطفنا ومشاعرنا. وما الحياة إلا مجموعة من العواطف، والآمال، والأحلام، والآلام، والمخاوف، والأشواق، والأفراح، والنزعات، وما ينتاب الإنسان، وغير الإنسان، من جماد وحيوان ونبات، وما يعتريه ويطرأ عليه في هذا الوجود. عواطف تلك الأغصان الرطيبة التي تمد أعناقها إلى ضرع الصباح لتدر منه حليبا فتكتسي بالندى. وأحلام تلك الموجه التي تغفو على أختها في الشاطئ حالمة بالتسلق إلى هامات الجبال، ثم التغلغل في شرايين الأرض العميقة. وأشواق تلك الصبية التي فقدت لهاثها في البحث عن أمها. ونزعات التربية المتخومة بالأنفاس المخنوقة، والأصلاب المرضوضة، والأعضاء المكدودة من قبل آدم إلى يومنا هذا.
وأنا ما قمت معكم بهذه الجولة القصيرة في دروب الحياة، إلا لأضرب لكم مثلا بسيطا عن محور الحياة. ولكم بعد ذلك أن تجولوا مع أنفسكم في دروب الحياة. إن في كل صفحة من صفحات دفاتركم لأسرارا بيضاء إذا أنتم تتبعتم أدوارها وأطوارها وصيرورتها منذ أن كانت جذوعا، وقبل أن تكون بذورا، وبعدما ستصير عليه. .
إني ـ وحق الحياة ومحبتكم ـ لأتخشع كلما تغلغل خيالي في أسرار الحياة. وأريدكم أن تتغلغلوا أنتم بخيالكم في هذه الأسرار، لتشعروا بها، وتحسوها، وتعيشوها، ولتشحذ خيالكم، وترهف أذواقكم، وتملأكم بروح الحياة. ومتى نفذتم إلى هذه الأسرار، وانبلجت أمامكم دروب الحياة بروادها الذين صنعوا تاريخها الصحيح، لا المكذوب في أسفار تواريخ الآداب.
ومن منا يستطيع أن يصدق ما يطرح إليه باسم التاريخ، وخصوصا تاريخ الأدب؟ وكل ما وصل إلينا منه، ما هو إلا قشور وظلال تومئ إلى لبابها وأنوارها ولا تبوح. وبالأحرى حياة الأديب التي تشتمل حياة كل ما تقع عليه عينه، ويلمسه خياله، وتدركه حواسه وعواطفه التي يستحيل حصرها، والإحاطة بها.
فكيف بالتاريخ ـ أي تاريخ ـ وإن بلغ ما بلغ من الأمانة، أن يدرك عمق هذه المشاعر ويحصرها في سطوره !
إن تاريخ الأدب برئ كل البراءة مما نسب إليه لأننا لحد الآن نكتبه. وإن شئتم أن تدركوا صفوته، ففتشوا عنها في غير التواريخ المكتوبة، فتشوا عنها بنور في عينكم، وعاطفة في مشاعركم.
وإليكم يا أعزائي المثل:
ليس تاريخ امرئ القيس يبدأ بذلك اليوم الذي ولد فيه، في ذلك المكان المعين من الصحراء، وأن أباه هو حجر الكندي، وعاش قبل الإسلام بنحو ثمانين سنة كما يروي لنا تاريخ الأدب العربي، وأنه قال قصائده: ((قفا نبك. .. ألا انعم صباحا. . وقد طوفت في الآفاق. .)) وغيرها من القصائد، ثم نكتفي بهذه المعلومات، وندعي أننا نعرف امرأ القيس، وتاريخه معرفة صحيحة. وليست هذه المعلومات سوى معلومات أي إنسان ـ مع فارق الشعر ـ عاش فترة من الزمن ثم مات. أما امرؤ القيس فقد تميز عن الناس لكونه شاعرا. فلنفتش عن مصدر شعوره، ومن أين له هذا الشعور ؟ وكيف أنطق هذه الجوامد الأوابد ((الدخول)) و((الحومل)) وغيرها، وبعث فيها الروح حتى أصبحت تحيا معنا وفينا، والأقمار الاصطناعية تمر علينا في هذا العصر بسرعة النور ؟ !
لا يا أحبائي، إن صفوة امرئ القيس، وصفوة سواه من الشعراء والأدباء لن تعثروا عليها في كتب التاريخ، والتاريخ بعيد عنها. لأن هذه الصفوة السحرية الخفية تلامس الحياة، وتعانق كل ما في أعماق الحياة، مما يلمس وممالا يلمس، مما ينظر ومما لا ينظر هازئة بالزمن، وأبعاده، وحدوده، ومقاييسه. وهذه الصفوة هي روح الأدب والحياة.
ولا أريد أن تفهموا من هذا الدرس يا أخواني أني أريد أن أجعل منكم أدباء، أو شعراء. لأنه ليس بمستطاعي، ولا بمستطاع أي إنسان أن يجعلكم تشعرون، فتقولوا الشعر، أو تكتبوا الأدب. ولكني أريد أن أقربكم إلى روح الأدب ومنابعه الصافية، وأن تنهلوا من هذه المنابع في دراستكم للآداب، وأن تمتلئ أرواحكم بالعاطفة، والذوق، والجمال. وهذا ما هدفت إليه في هذا الدرس. فحسبي وحسبكم ذلك.
ولست أدري بعد هذا، هل ترضى مصلحة التعليم الثانوي عن أهدافي من دراسة الأدب، أم تغضب فتطردني من إطار المعلمين ؟
والسلام عليكم





دعوة الحق
13 العدد




أعلى