المكان .المصطلح والمفهوم :
إن أول من اهتم بدراسة المكان هم الفرنسيون ، ذلك في عهد الستينيات والسبعينيات و أبرز هؤلاء : ( جورج بولي ، وجليبر دوران ، ورولان برونوف )، وكان أبرز من أسهم بفعالية في لفت الانتباه لمصطلح المكان " في بنية نسج العمل الإبداعي هم الباحثون " يوري لوتمان youri lotman، روبير بيتش –R petch وهيرمان ميير H-meyer". 1 ومن أبرز المؤلفين في دراسات المكان الروائي ، " هنري متران " ، وذلك بإصداره كتاب خطاب الرواية عام 1980:discour du roman، كما عد كتاب "غاستون باشلار " من أهم الكتب التي ألفت في الموضوع.2
ومع اختلاف الدراسيين في تحديد مفهوم المصطلح اختلفت تسمياته، فالبعض أطلق عليه اسم " الحيز المكاني " والبعض الآخر " المكان " وآخرون " الفضاء "، وراح كل باحث يدافع على تسميته ويبرز دلالته الأدبية. مع أن مصطلح الفضاء "أشمل وأوسع من معنى المكان والمكان هو مكون الفضاء، وما دامت الأمكنة في الرواية غالبا ما تكون متعددة وترد متفاوتة فإن فضاء الرواية يلفها جميعا، فهو العالم الواسع الذي يشمل مجموعة الأحداث الروائية ، فالمقهى أو المنزل أو الساحة، كـل منها يعـتبر مكانا محددا، ولكن إذا كانت الرواية تشمل هذه الأماكن كلها فإن جميعها يشكل فضاء الرواية".3 ومن خلال هذا التعريف يتبين لنا وكأن المكان محدود، إذ يدخل ضمن الفضاء ويعطي ذلك المكان المحصور الذي حدد بالحيز المكاني فضاءات مختلفة من خلال تفاعله مع جميع عناصر الرواية الأخرى كالسرد والأحداث والشخصيات والزمن.
ورغم المصطلحات المتداولة في الدراسات الحديثة ممارسة وتطبيقا، إلا أن مصطلح " الفضاء" عد من أبرزها شيوعا وأغناها لأنه أوسع في المعنى وأعمق دلالة، ولهذا كان الفضاء من ابرز مكاسب الحركة النقدية الغربية، إذ سعت المدرسة الألمانية إلى التمييز بين مكانين مختلفين وهما: "lokal" و "raum "، دلّ مصطلح "lokal " على المكان المحدد الذي يمكننا ضبطه وقياسه بالأعداد والمقاسات أما المصطلح الثاني " raum " عرّف بأنه الفضاء الدلالي المتعلق بالشخصيات، وأحداث الرواية4، فنجد أن مصطلح "raum" هو ما يتعلق بدراسة المكان الروائي، حيث يساهم في إبراز الأحداث، كما أنه يعمل على تطويرها داخل النص الروائي من خلال حركة الأبطال ضمن مكان مغلق أو مفتوح.
ويضاف إلى جهود المدرسة الألمانية ما قدمه الروسيي " باختين " bakhtine " الذي حدد أربعة أنواع للمكان وأعطى لكل منهما اسما خاصا بحسب دوره في الرواية وهو المكان الداخلي، المكان الخارجي، المكان المعادي، وأطلق على الرابع فضاء العتبة وهو المكان الذي يكون ممرا للبطل عبر تنقلاته، كما أنه يتمثل في الأبواب، النوافذ، الحافلات، والسيارات والبواخر5، ويريد "باختين " بالمكان الخارجي، المكان المفتوح، الذي يخرج عن نطاق غرفة في مقابل البلد والبلد الأصلي في قابل بلد الغربة، وهو مكان رحب وواسع، غالبا ما نجد الفرد يتفاعل معه ايجابيا، أما المكان الداخلي فهو المكان المعاكس للمكان الخارجي، يمثل الانسداد والانغلاق، كما أنه يتصف بالتحديد، وهذا لا ينفي انفتاحه على أمكنة أخرى، فالغرفة المحددة مساحتها، قد تنقلنا عبر جدرانهـا إلى عـوالم أمكـنة عديدة، مـن خلال أثاثها أو رسوماتها أو المجسمات التي تحويها وبالتالي تعطيها دلالة تفوق دلالتها الأولى، والمكان المعادي عند " باختين "، هو المكان الشبيه بالداخلي أو الضيق. ينكس على حاله الفرد نفسيا، فهو المكان الذي يحس بالضيق فيه وإن كان واسعا، كتواجد شخص ما في بلاد الغربة فمهما يحمل ذلك البلد من رحابه و امتيازات، يعد مكانا ضيقا على نفسية المقيم فيه .
ويربط " غريماس "مفهوم المكان عنده بالخطاطة السردية، إذ لا يعتبر في نظره المكان مجرد فضاء فارغ تصب فيه التجارب الإنسانية، إنما يتعلق بما تمليه عليه الخطاطة السردية.
وبذلك يتوزع المكان كسلسلة من المحطات التي لا وظيفة لها إلا بتفاعلها مع رحلة البطل، ومن خلال تلك المحطات تطرح مجموعة من الإشارات الشكلية التي تساهم في تفكيك القصة إلىمقاطع ومن ثم تؤدي إلى كشف الأماكن6، ويركز "غريماس " في هذا الصدد على دور اللغة في إبراز المكان من خلال الأحداث التي تسردها، مثلا وأنت تقرأ الكلمات ، تنطلق من مكان ما، فتتنقل بعده إلى محطات مختلفة وتحط الرحال في محطة أخيرة، وتكون الشخصية وسيلتك في التنقل ، حيث تبرز في كل مرة أحداثا تتفاعل معها سلبا و إيجابا ويبقى لكل مكان يتردد عليه أبطال الرواية دلالات خاصة وبالتالي يخرج المكان من كونه مجرد كلمات تتضمنها الرواية إلى مكان أوسع متصل بالعالم الخارجي.
وحددت أربعة أماكن للمكان عند "مول "و " رومير " وجميعها يتعلق بالسلطة التي تخضع لها تلك الأماكن وهي:
1-"عندي: ويربطاه بالمكان الذي يمارس فيه الفرد سلطته ، ويكون ذا علاقة أليفة وحميمية معه ، يحس بامتلاكه وحرية التنقل فيه كالبيت الذي تربى وكبر فيه، أو ألاماكن الخارجة عن البيت ولكنها قريبة من نفسية الفرد ، حيث تجده يتردد عليها باستمرار.
2-عند الآخرين : وهو مكان مشابه للأول إلا أنه يختلف عن كونه يخضع لسلطة الغير، وعلى الفرد الاعتراف به واحترامه.
3-الأماكن العامة : والتي لا تعد ملكا لأحد ،بل ملكا للدولة وداخلها نجد شخصا يفرض سلطته مع أنه يعد هو أيضا متحكم فيه ، كالشرطي الذي يتحكم في السير ويكلف بالتنظيم وفي الوقت نفسه يخضع لسلطة أقوى منه تفرض عليه قوانينها .
4-المكان اللامتناهي: وهو المطلق الحر الخالي من الناس، كالصحراء، والبحر وهذه الأماكن لا يتحكم فيها أحد ولا تخضع لسلطة الدولة وقهرها، كما أنها تفتقر إلى المرافق العامة والحضارية وإلى ممثلي السلطة"7، ولجميع هذه الأماكن أثر على القارئ، يتفاعل معها بحسب رغبته، فنجده يتفاعل إيجابيا مع المكانيين الذين أسماهما "مول " و "رومير " بـ (عندي) و(اللامتناهي)، فالأول مكانا للألفة والثاني مكان واسـع ذو رحابة، عادة ما يلجأ إليه الإنسان الذي يحس بضيق "كالبحر" الذي يرمي فيه همومه وينفس عن ضيقه،ولأن " المكان لم يعد مجرد خلفية تقع فيها الأحداث السردية"8، فقد أصبح يحمل دلالات مختلفة حسب تفاعل الأبطال معه ، لذلك جعلت منه السيميائية مصدرا للأحداث ومنتجا لها ومحركا للأبطال .
واستعمل مصطلح " المكان " في السيميائية " كموضوع تام يشمل عناصر غير مستقرة انطلاقا من انتشارها ، ويهتم بالفاعل كمنتج ومستهلك للفضاء ، وبفضل تدخل الإنسان في إنتاج علاقات جديدة"9، تركز السيميائية في هذا الصدد على دور البطل في إنتاج الدلالات، لأنه يعكس لنا أصناف المكان من خلال تنقلاته وتفاعله مع الأمكنة التي يتردد عليها ويعطيها صورة شاملة عنها ، وبالتالي يضفي عليها انطباعات حسنة وسيئة.
وإذا كانت المفاهيم السالفة الذكر تتفق على دور البطل في إبراز المكان وتصويره فإن الروائي للدور الأهم حيث "يعمل فينا خياله نحتا وصقلا ومزاوجة وتنسيقا"10، ويجعلنا نتنقل من مكان لآخر دون جواز سفر، ولكن بوسيلة اللغة التي تدفعنا إلى، "استعمال حاسة البصيرة وملكة الخيال وحركة الذهن".11، فالمكان مجسد في الصور التي تقدمها الرواية، وقد يكون ظاهرا حيث يصفه الروائي وصفا دقيقا أو باطنا يدفعك إلى استنباطه من خلال رموز الكلمات وتطور الأحداث ، وبالتالي تصبح البيانات التي تضمها الرواية الأساس في كشف المكان.
ومن أبرز من أسهم بفاعلية في إبراز المكان وإعطائه دلالته داخل النص الروائي "غاستون باشلار " في كتابة "شعرية الفضاء" poétique du l’espace ، وفيه ركز على بيت الألفة وأعطى مفهوما للمكان باعتباره صورة فنية، أطلق عليه "المكان الأليف، الذي ولدنا فيه ومارسنا فيه أحلام اليقظة، وتشكل فيه خيالنا ، والمكانية في الأدب هي الصورة الفنية التي تذكرنا أو تبعث فينا ذكريات بيت الطفولة"12.
هذا إذا حددنا مفهوم المكان الروائي، وهناك اهتمامات أخرى "بالمكان النصي"، الذي يحدد طبيعة تعامل القارئ مع النص الروائي، وأكثر المهتمين به، " ميشال بوتور " إذ أطلق عليه " l’espace textuel "وقصد به الحيز الذي تشغله الكتابة ذاتها، باعتبارها أحرفا طباعية على مساحة الورق من تصميم الغلاف وترتيب الفصول ووضع المطابع وتغيرات الكتابة المطبعة وتشكيل العناوين، وهذا المكان لا يتحرك فيه الإبطال إنما تتحرك فيه عين القارئ.13
لمحة عن صورة المكان في روايات الطيب صالح :
إن تأثير المكان على حياة المبدعين موغل في التاريخ الأدبي القديم العربي والغربي وظاهرة الوقوف على الطلل في الشعر الجاهلي من ابرز التجارب الإنسانية التي كشفت وجود صلة قوية بين المبدع والمكان ومنذ ذلك الوقت بقي المبدع متعلقا بالمكان الذي يكتب فيه وعنه، فتميز كل مبدع بطريقة توظيفه للمكان، فمنه من جعل الحافلة موقعا لإظهار أحداثه وآخرون اتخذوا الشارع مكانا لإبراز انفعالاتهم، وكان للطبيب للطبيب صالح رؤيته الخاصة للمكان حيث اهتم بالمكان الداخلي (الوطن) كما انه لم يهمل المكان الخارجي (الغربة) وجعل من القرية المساحة الواسعة في خريطة قصصه، كما ان اكتفى في الكثير من الأحيـان بوضع الملامح العامة لها، ودفع القارئ إلى كشف خصوصيات المكان بنفسه، فكانت القرية المكان الذي يكتب عليه باستمرار، والمسرح الذي تتحرك فوقه الشخصيات، التي تكررت في المكان والزمان نفسه، كما حدث في رواياته الأخيرة ( ضو البيت، بندر شاه، مريود)14، و لأن الطيب صالح كان ذا انتماء عميق للسودان جعل من شمال السودان المادة إلي يختار منها نماذجه الإنسانية، ونظرا للقرية في السودان نظرة ايجابية وأخرى سلبية، ايجابية تمثلت في تمسك القروي بأرضه والدفاع عنها بأنفس ما يملك ، سلبية لأنها تكشف لنا عن مجمل العقليات المتحجرة لأهل القرية وتخوفهم من عنصر التجديد15.
أصناف ودلالات المكان في رواية موسم الهجرة إلى الشمال:
إن أول ما يلفت انتباهنا في رواية " موسم الهجرة إلى الشمال" ، أثناء التصنيف هو عنوانها حيث مكننا من تحديد الإطار العام الذي وقعت فيه الأحداث،وأوضح لنا " العنوان" أن موسم الهجرة كان من الجنوب إلى الشمال، ومنه استنبطنا جملة الدلالات المكانية داخل الرواية، وبقي رمزا محافظا على إحداث الرواية، ولولاه لكان النص عرضة للذوبان في نصوص أخرى، خاصة أن الموضوع طرح عند روائيين أخريين.
وعدّ العنوان "موسم الهجرة إلى الشمال " لافتة معبرة عن الحركة والانتقال من الجنوب إلى الشمال ومن لندن إلى السودان ومن الشرق إلى الغرب وبالتالي جاء العنوان "عتبة للقراءة يلج منها القارئ إلى عالم النص."16، وعند ولوجنا إلى عالم النص الروائي، كشفت أصنافا عديدة للمكان، كل بحسب دلالته وتأثير الشخصيات عليه وتأثرها به، حيث تضمنت الرواية مكانين كبيرين، الأول داخلي والثاني خارجي تمثلها كل من لندن والسودان، وداخل هذين المكانين أماكن أخرى تتصف بالانفتاح والانغلاق وبينهما مكان " للعبور" وهو مكان عابر ومؤقت.
I-المكان الداخلي:
تمثله السودان بكل ما تضمه من أماكن، وفيه وصف لنا الروائي، بيت مصطفى سعيد المدرسة، قصر مفتش المركز الإنكليزي، بيوت القرية، بيت الجد، قاعة الاستقلال وغرفة مصطفى سعيد، وهي أبرز ألاماكن دلالة وأبعدها عمقا .
1-بيت مصطفى سعيد :
لم يكن الروائي ليصف لنا بيت "مصطفى سعيد "، إلا حين اندهاشه من شخصيته فكان وصفه لبيت البطل هروبا من تساؤلات كثيرة خطرت بباله، من يكون؟. وما سبب اختلافه عن أهل القرية؟؟، لكنه لم يجد الإجابة في جدران البيت لأنه "كان بيتا عاديا ليس أحسن ولا أسوأ من بيوت الميسورين في البلد، منقسم إلى جزئين كبقية البيوت، جزء للنساء، والقسم الذي فيه الديوان للرجال، إلى يمين الديوان غرفة من الطوب الأحمر مستطيلة الشكل ذات نوافذ خضراء سقفها لم يكن مسطحا كالعادة ولكنه كان مثلثا كظهر الثورة"17، رغم أن البطل معجون من طينة أخرى، إلا انه شارك أهل القرية في البساطة المعيشية كما حافظ على عرفها، إذا قسم بيته إلى قسمين قسم للرجال وآخر للنساء، وجاء هذا الوصف في خضم الوصف العابر، إذا لم يضف دلالات للنص الروائي، ولم يزل الستار على حقيقة شخصية البطل، غير أنه قدم التناقص في شخصيته، حيث وصفه بغير العادي في تصرفاته ونظراته والعادي في مسكنه ومعيشته.
2-المدرسة :
فيها برزت أهمية المكان في نظر البطل، حيث استفتح بها عرض قصة حياته ، فهي المكان الذي جعل منه مغامرا، وغازيا ومثقفا، ومفوضا عن بلدته ووطنه،إن المكان الذي تفتحت فيه أفكاره على عوالم لم يرها، وكان أول شيء تعلمه داخلها هو " النظام "، كانت "بناء جميل من الحجر وسط حديقة كبيرة على شاطئ النيل، يدق الجرس، ويدخل الفصل مع التلاميذ، تعلم فيها القراءة والكتابة والحساب."18، إنه مكان مغلق ومفتوح، مغلق لأنه يمتـثل فيه لأوامـر مسيّريه، من معلمين ومدراء ومراقبين ومفتوح على المستقبل، حيـث يجعـلك تراه بعين واسعة، إنه المكان الذي عرف فيه " مصطفى سعيد " حقيقة بلده وتاريخ مغتصبيه، وهو المكان الذي فتح الآفاق لرحلة البطل وأوصله إلى محطة فيكتوريا وإلى عالم جين مورس فيما بعد، فيه جهز سلاحه ، وصوب نظراته نحو لندن، تعلم الإنجليزية وأجادها وهو دون الثانية عشر أبدى فيه تفوقه، وبرزت عبقريته، كما أبرز داخله احتياجه إلى مزيد من العلم الثقافة، لكن في مكان آخر!.
3-قصر مفتش المركز الإنجليزي :
إن كان بيت مصطفى سعيد عاديا فلأنه من السودان ، ولا يحق التمتع بما هو أفضل من مساكن أهله ، في حين يحق للغرباء أن يتمتعوا بثروات غيرهم ،في مكان ليس لهم، منهم مفتش المركز الإنجليزي، الذي كان يقيم في"قصر طويل عريض مملوء بالخد، ومحاط بالجند وكانوا يتصرفون كالآلهة."19، يجسد هذا المكان إعلاء المعمرين من مكانتهم، كما يثبت وجود الطبقية ويؤكد استمرارية الاستعمار حتى بعد الاستقلال، في الوقت الذي يحق لأهل القرية التمتع بأراضيهم وأموالهم يجندون لحماية أسيادهم، فهم في نظر الإنجليز خدم يقومون بتوفير الأمن والأمان لهم، وقد يتراءى القارئ عدم أهمية وصف هذا المكان، لكنه يعكس الحسرة التي يحسها الراوي عن بلده وكأنه هو الغريب وهم أهل البلد ومالكوها .
4-القرية :
عاد الراوي إلى قريته الصغيرة على ضفة النيل ، ووجدها على حالها ، لم يتغير أي شيء رغم تغير الزمن والأحداث ، فكانت كبيوت العهد القديم ،"متلاصقة من الطين والطوب الأحمر تشرئب بأعناقها، بيوت على حافة الصحراء ، كأنها قوم في عهد قديم أرادوا أن يستقروا ثم نفضوا أيديهم ورحلوا على عجل ."20، بقيت البلد تعيش في تدهور وعاشت على أنقاض ماضيها متأثرة به، لم يساهم أبناؤها في ترميمها، وهذا يعكس عقليات أهلها المتمسكة بماضيها وأعرافها التليدة، لأن كل ما هدمته لندن، لا يمكنه أن يعوض إلا بعد سنوات طويلة !
5-بيت الجد:
تجسدت فيه الثنائية الزمنية زمن الحاضر وزمن الماضي، زمن الاستقلال، وزمنالاستعمار وبذلك كان بيتا قديما وحديث الصنع، تتوفر فيه الأبواب، وأحيانا تنعدم فيه النوافذ به "غرف كثيرة مختلفة الأحجام، بنيت بعضها في أوقات مختلفة، غرف يؤدي بعضها إلى بعض، بعضها لها نوافذ كثيرة وبعضها ليس لها نوافذ، حيطانها ملساء مطلية بمادة هي من خليط الرمل الخشن والطين الأسود وزبالة البهائم، وكذلك السطوح والأسقف، من جذوع النخل وخشب النسط وجريد النخل."21، وصفه الراوي بدقة مذهلة تعكس شخصية صاحبها ، الذي يمثل تاريخ السودان ولأن الجد لم ينتقل من السودان، لم يظهر تغير في بيته بقي محتفظا بماضيه في غرفة الوطيئة التي تنحني عند الدخول إليها، وهذا البناء يدل على جمود الشخصية المالكة له وثباتها رغم مرور الزمن.
6-قاعة الاستقلال:
تعد آثارا من البناء الإنجليزي ، واسعة ومؤثثة بكل ما هو فاخر وجميل، دقق الراوي في وصفها ليظهر مهارة الغرب في بنائهم كمهارتهم في الاستيلاء على ثروات غيرهم، ولكن بناءها كلف "أكثر من مليون جنيه، صرح من الحجر والإسمنت والرخام والزجاج مستديرة كاملة الاستدارة، وضع تصميمها في لندن، ردهاتها من رخام أبيض جلب من ايطاليا وزجاج النوافذ ملون، قطع صغيرة، مصفوفة بمهارة في شبكة من خشب التيك، أرضية القاعة مفروشة بسجاجيد فاخرة والسقف على شكل قبة مطلية بماء الذهب تتدلى على جوانبها شمعدانات ، كل واحد منهم بحجم الجمل العظيم ، المنصة حيث تعاقب وزراء التعليم في أفريقيا خلال تسع أيام ،من رخام أحمر كما الذي في قبر نابليون في الانفاليد وسطحها أملس لمّاع من خشب الأبنوس على الحيطان لوحات زيتية وقبالة المدخل خريطة واسعة لإفريقيا من المرمر الملون، كل قطر بلون"22 ، كانت قاعة للاستقلال ولكنها مصنوعة بأيادي الاستعمار، تختلف كل الاختلاف عن بناءات أهل القرية الذين تعودوا على طلي الحيطان بخليط من الرمل الخشن والطين الأسود وزبالة البهائم ، إنه صرح من الحجر والإسمنت والرخام ، فيه اعتمد الراوي على الدقة الماهرة في إبراز حضارة انجلترا وتفننها في البناء ، كتفننها في السيطرة والاستيلاء أثناء الاستعمار ورغم تداول الوزراء على هذا المكان ، إلا انه لا يمت بصلة إلى بلدهم، وأفكار أبنائه وصح أن نطلق عليه "المكان المقحم"، فلا هوية للسودانيين داخله رغم تواجده في صلبه وهذا ما دفع بالراوي إلى وصفه بتعجب وتفصيل مدهش!.
7-غرفة مصطفى سعيد :
تعتبر أبرز الأماكن دلالة في الرواية ، تنقلنا عبر جدرانها إلى فضاءات خارجية، إلى لندن وحاناتها وجامعاتها ، تجمع في هيئتها بين مكانين مختلفين، بين السودان ولندن كانت "أرضية الغرفة كلها مغطاة بأبسطة فارسية"23 بها "مدفأة إنجليزية بكامل هيئتها وعدتها، فوقها مظلة من النحاس وأمامها مربع ملبط بالرخام الأخضر، ورق المدفأة من رخام أزرق ولى جانبي المدفأة كرسيان فيكتوريان مكسوان بقماش من الحرير المشجر بينهما منضدة مستديرة عليها كتب ودفتر."24، أثاث لندني في بيت سوداني، وجوده رمز للتذكر، تذكر لندن وذكرياتها المأسوية، كان أثاثا مرتبا على حسب ما تمليه الأعراف في وسطه "قوس يفصل الحجرة نصفين يسندهما عمودان رخاميان لونها أصفر ضارب إلى الحمرة"24، فصل الغرفة إلى قسمين يوحي إلى احتوائها على عالمين متمايزين، الأول مر ومرفوض لكنه محتفظ به في ذاكرة البطل، والثاني حاضر مرغوب فيه، وكلاهما يمثلان شعورا متناقضا، وإذا كان الأول يرمز إلى الانغلاق والانسداد فإن الثاني يرمز إلى الرحابة والانفتاح وجعل منها ديكورها الخاص المميز متحفا لحفظ التاريخ ومصدرا لكشف حقيقة البطل وكل ما تجول الراوي داخلها كشف الغريب والمدهش، وسائدها "من الريش النعام"25، محاطة بأشياء لم يلاحظها الراوي من قبل، حتى وهو في لندن، لكنها في كل مرة تزيل الستار عن الغبار الذي ارتسم في مخيلة الراوي بعد سماعه لقصة "مصطفى سعيد"رواية "وفي غرة البطل ظهر الصراع بين الشرق والغرب، بين مصطفى سعيد وعشيقاته بين الماضي والحاضر، ومن ثم قدمت لنا غرفة "مصطفى سعيد" مكانا واحدا بدلالتين الأولى؛ رمزية تمثلت في استرجاع زمن لندن و أحداثها، والثانية مرجعية تمثلت في وصف المكان وصفا مباشرا26 ويلاحظ في أماكن السودان وجود شعور ثابت متشابه، يسير وفق نمط واحد، ويعبر عن حركة تنقل البطل من السودان ثم عودته إليها بنظرة وفكرة غير التي جاء بها، وبالتالي كان السودان مكانا مفتوحا رحبا، انطلقت منه الرحلة وحطت به بدأت بحركة ديناميكية وتمت بسكون داخل نهر السودان.
II) المكان الخارجي :
تمثل لندن المكان الخارجي، وابرز الأماكن دلالة داخله غرفة " مصطفى سعيد " التي مثلت الوطن المصغر له خارج بلده الأصلي، كان كل همه أن يصل إلى لندن، "جبلا آخر أكبر من القاهرة ."27، ولم تكن رغبته مبنية على التمتع والاكتشاف، بل على الحقد والانتقام، ولم يصف لندن رغم شساعتها سوى عند دخوله لها، حيث وصفها بالغريبة الرائح كان البطل "ينظر إلى اليسار وإلى اليمين، إلى الخضرة الداكنة والقرى السكسونية القائمة على حواف التلال، سقوف البيوت حمراء محدودبة، كظهور البقر وثمة غلال شفافة من الضباب، منثورة فوق الوديان ."28
رغم جمال المنطقة ورحابة الخضرة، لم يمسح الضباب عن عيني " مصطفى سعيد"ولم تتغير نظرته للندن وأهلها، جاءها غازيا منتقما وسيبقى كذلك، ومع كثرة تجوله في شوارع لندن وجامعاتها ونواديها وحاناتها، لم يهتم إلا بوصف غرفة نومه ليعبر عن شعور دفين يكنّه للندن، جعلها غرفة مزدوجة الديكور، ومحددة الهدف حيث كانت "مقـبرة تطـل على حديقة، ستائرها وردية منتقاة بعناية، بها سجاد سندسي دافئ والسرير رحب مخداته من ريش النعام، وأضواء كهر بائية صغيرة، حمراء، زرقاء، بنفسجية، موضوعة في زاوية معينة وعبر الجدران مرايا كثيرة، تعبق الغرفة برائحة الصندل المحروق والند ، وفي الحمام عطور شرقية نفاذة، وعقاقير كيماوية، ودهون ومساحيق وحبوب، غرف نومي قال- مصطفى سعيد – تمثل غرفة العمليات في مستشفى ."29 ، فيها تكشف حقيقة " مصطفى سعيد "وداخلها تقهر لندن، ذات ديكور ملفق، غرفة عمليات من تـدخلها لا تضـمن خروجها سالمة، تجتمع فيها لندن بتسلطها الماضي مع السودان في انكسارها الحاضر كانـت مصدرا لإظهار قوة البطل، تثور داخلها عواطفه وسرعان ما تهمد، لأن كل من تدخلها بتولا، تخرج منها وهي تحمل في دمها جرثوم المرض، غرفة جمعت في تهيئتها كل المغريات، المخدات من ريش النعام، والأضواء مختلفة الألوان والعطور شرقية ومغربية، نفاذة تعيق داخلها رائحة الصندل المحروق والند، داخل هذا المكان تحول الوطن السودان إلى فكرة، ووقف "مصطفى سعيد "، أمام قطبين قطب الداخل وتمثله، " أنا البطل "، وقطب الخارج تمثله " الأنا الآخر" (العشيقات)، فيه أحسن البطل بالدلالة الكاملة لصراع الداخل مع الخارج، في اغترابه في صراعه وعدائه30، تولد من مكان الأنا والأنا الآخر، ثنائية القريب والبعيد، ومن ثم تبين لنا التميز بين مكان الأهل ومكان الغربة.
ولكل من مكان الداخل ومكان الخارج انفتاح وانغلاق وانسداد ، حيث دفعنا المكان الداخلي إلى الانطواء على جوانب عميقة من حياة "مصطفى سعيد " وأصبحت معايشتنا للمكان داخل السودان عملية تتجاوز قدرتنا الواعية، ودفعتنا إلى التوغل في اللاشعور، فأحسسنا داخله بالجذب والاحتواء، كان المكان الخارجي عكس ذلك، حيث دل على الغربة والعداء وداخل ثنائية الخارج يحس البطل بالانفتاح مرة والانغلاق مرة أخرى، بحسب تفاعله مع ألاماكن التي يتردد عليها ومن ثم ظهرت دلالات تمثلت في المكان المفتوح، المكان المغلق، المكان المغلق المفتوح.
المكان المفتوح، المكان المغلق، المكان المغلق المفتوح:
إن الذات البشرية لا تكتمل في تفاعلها مع ذاتها، إنما خـارجها لتـؤثر في كل ما حولها، من ثم تسقط قيما حضارية معينة على الأماكن التي تلجأ إليها، وغالبا ما تجدها تفضل أماكن عن أخرى، إذ نجد أن الأماكن المرغوبة تتصف بالانفتاح والمرفوضة تتصف بالانغلاق، وقد لا تعطى هذه الأماكن الدلالة نفسها، فهناك أماكن مغلقة ومحدودة، ولكنها جاذبة للإنسان وممثلة لحمايته، كغرفة "مصطفى سعيد " في السودان، التي اختارها أن تكون بعيدة عن صخب الحياة، ليعيش في راحة واطمئنان، ودلت تلك الغرفة على الألفة والأمان رغم انغلاقها وتحديدها مساحة.
أما غرفته في لندن فكانت مغلقة مفتوحة في الوقت نفسه ، مفتوحة على العالم الخارجي لندن، لكنها أعطت معاني الغربة ، البرودة والعدوانية ، ومفتوحة على نفسية البطل باعتبارها المكان الوحيد الذي حقق فيه أمانيه بحرية مطلقة، وهي مكان مغلق مقيد الحرية ،إذ لا يمكن للبطل تجاوزه في أداء مهمة الحضارية، لأنه خارج هذه الغرف يمثل دور الأستاذ المحترم والمؤلف البارع، ولم تكن لندن في نظر الراوي سوى مكان للتضجر والانغلاق والانسداد في حين كانت السودان ذلك المكان الداخلي المغلق مساحة ذات رحابة ، عرف داخلها "مصطفى سعيد" توازنا في شخصيته واستعان بها في استرجاع الدفء والحنان الذي فقده في لندن.
I-مكان العبور :
المكان العابر، يكون المكوث فيه مؤقتا، يفصل بين عالمين، ومن ثم بين مكانين، وفي رواية " موسم الهجرة إلى الشمال " فصل " الطيب صالح "بين الشرق والغرب بين السودان والقاهرة، بين القاهرة ولندن، وبين لندن والسودان، وأخيرا بين الحياة والموت، تجسدت أماكن العبور داخل الرواية في المدرسة، المحطة، القاهرة، البحر المحكمة السجن والنهر.
1-المدرسة :
كانت بمثابة المحطة التي تحققت داخلها الأماني، مكث فيها "مصطفى سعيد" لفترة مؤقتة ، تسلح بالعلم وراح يحمل تأثره عبر محطة القطار متجها نحو القاهرة.
2-المحطة :
اعتبرها شريبط احمد شريبط بمثابة العتبة للمدينة أو المرتفع ، كما عدها مكانا لتصادم قيم الريف مع قيم المدينة، وهي المعبر الذي من خلاله تتحقق الأحلام أو تنكسر، في محطة القطار تعرف البطل برجل دين مسيحي، تجاذب معه أطراف الحديث، سأله عن سنه ومقصده واندهش من تحدثه المذهل للغة الإنجليزية، كانت تلك أول محطة تنـفتح فيها أعين البطل على عالم جديد، وأناس جدد، جاءوا من أماكن مختلفة، وهي أول خطوة لتحقيق الحكم، كما كانت محطة فاصلة بين السودان والقاهرة، ومع أن المحطة تدفع في الغالب إلى الانتقال من المكان المرفوض إلى المكان المحبوب إلا أن محطة البطل الأولى كانت انتقالا من المكان المحبوب إلى المكان المرفوض ، ولكنها اعتبرت جسرا تحققت عبره الأحلام .
3- القاهرة :
حط القطار بالقاهرة حيث واصل "مصطفى سعيد" تعليمه الثانوي، اعتبر القاهرة محطة عابرة ، وعتبة لا بد من أن يتخطاها ليصل إلى لندن، لم يتحدث كثيرا عن هذا المكان، إلا أنه وصف لنا الاستقبال الحفيف الذي وجده عند " مستر روبسن وزوجته"، زار معهما جوامع القاهرة ومتاحفها وآثارها ، لكنه كان مشغولا أكثر بنفسه، حتى انه لم يحفل بالحب الذي أسبغه عليه الزوجان ، كان كل همه أن يصل إلى لندن "جبلا آخر أكبر من القاهرة، علاقته بالقاهرة بنيت على المنفعة، حيث أخذ منها التأشيرة التي أهلته إلى السفر نحو" محطة فيكتوريا وعالم جين موريس"،وهذه العتبة فصلته بين مكانين ، الأول عظيم والثاني أعظم منه ، هما القاهرة ولندن .
4- البحـــر :
بدأ الحلم في القاهرة يتحقق يوما بعد يوم، لما أنهى البطل دراسته، جهز البطل أمتعته متجها نحو عالم لندن بلد الضباب والعدوانية، وأثناء رحلته تلك، كان عليه أن يتخطى عتبة كبيرة وهي "البحر" الفاصل بين الشرق والغرب كله، حولته من رائحة غريبة، إلى رائحة أغرب، فلما: "هاج الموج تحت السفينة واستدار الأفق الأزرق حواشيها – قال البطل– أحسست توا بألفة عابرة للبحر واستمرت طيلة الرحلة ذلك الإحساس في أني في لا مكان وحدي أمامي وخلفي الأبد أولا شيء، وصفحة البحر حين يهدأ سراب آخر ."31
كان آخر عتبة يتخطاها ليصل إلى لندن وداخل البحر أبدى استعداده المغامرة والغزو حيث قال: "استمرأت طيلة الرحلة ذلك الإحساس في أني في لا مكان."32 نظرته إلى البحر كشفت غرضه السيئ، ولكنه كان عتبة قربته من تحقيق الحلم وخوض المعركة بسلاح العلم.
5- المحكمة والسجن :
مكث " مصطفى سعيد " داخل المحكمة مدة أسابيع يستمع إلى المحامين، وهم يتحدثون عنه وكان الأمر لا يهمه ، فيها سئل عن انتحار الفتيات الثلاث وفي كل مرة يجيب بـ: "لست أدري !! " ؛ لكنه اعترف بقتل" جين مورس "كان ينتظر حكما قاسيا يستحقه لكن "البروفسور ماكسول" راح يرسم للقضاة صورة فريدة لعقل عبقري دفعته الظروف للقتل في لحظة جنون، هذا الاعتذار الذي لم يره "مصطفى سعيد "إلا "بؤرة للرشوة والفساد والتزوير"33، وبعده جر إلى السجن الذي لم يقض داخله سوى سبع سنوات مع أنه يستحق الإعدام، وعدّ كل من السجن المحكمة، محطة عابرة قلبت الهجرة من الجنوب إلى الشمال، إلى الهجرة من الشمال إلى الجنوب، ووصفت بأنها مكان مغلق ومسدود، يسيرها أناس أشداء، لا يلفت من أيديهم أحد .
6- النهــــر :
النهر الذي لولاه لم تكن بداية ولا نهاية ، يجري نحو الشمال ولا يلوي على شيء قد يعترضه جبل فيتجه شرقا وقد تصادفه وهدة من الأرض فيتجه غربا ، ولكنه إن عاجلا أم آجلا يستقر في مسيره الحتمي ناحية البحر في الشمال . و هو المكان الذي أخفى سر" مصطفى سعيد "، وهو المكان الذي طالما استحضره البطل وهو في لندن ، جعله مصدرا للتباهي ومسرحا للمغامرات ، ومقبضا للأرواح ، حكى عنه لإحدى عشيقاته عن كيفية غرق والديه داخله، لأنه كان يجرف كل من حوله إلى الشمال، كما فعل " مصطفى سعيد " وغرق البطل في النهر، كان فاصلا بين مكانين عظيمين جدا هما الحياة والموت !!.
نجد أثناء التصنيف أن مكان العبور ورد على شكل فلاشات داخل الرواية ، وعبّر عن أحداث متعددة وأعطى دلالات كثيرة ،كما كان مصورا لنفسية البطل، وتطور أحداثها اتسمت تنقلاته من عتبة المدرسة إلى عتبة القطار ، ثم عتبة البحر بالتوتر والثورية ؟، لكن العتبة الأخيرة التي عكست هجرته إلى الجنوب " المحكمة " كانت أقلهم ثورية.
الإحالات
(1)ينظر شريبط احمد شريبط ( بينية القضاء في رواية إذا يوم جديد )، مجلة "الثقافة " ،تصدر عن وزارة الثقافة والإتصال العدد 115، سنة 1995 ص 141/142/144 .
(2) ينظر المرجع نفسه ص 154
(3) حميد الحميداني " بنية النص السردي من منظور النقد الادبي" ، المركز الثقافي العربي ،(د،ت) .(د.ط).ص :63.
(4) ينظر : شريبط أحمد شريبط : ص : 157
(5) ينظر : المرجع نفسه ص : 158
(6) ينظر السعيد بن كراد : " مدخل إلى السيميائيات السردية " دار تينمل للطباعة والنشر ، مراكش ، 1994 ص : 87/88 .
(7) لوري لوتمان :" حماليات المكان " ، سيزا قاسم ، دار قرطبة ، الطبعة الثانية ،الدار البيضاء 1988،ص ،62
(8) عثمان بدري " وظيفة اللغة في الخطاب الروائي الواقعي عند نجيب محفوظ "،المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية 2000، ص : 91.
(9) سعيد علوش " معجم المصطلحات الادبية والمعاصر ، دار الكتاب اللبناني ، 1985 بيروت ص : 164
(10)علي بوملحم ." في الأدب وفنونه "، المطبعة العصرية للطباعة والنشر ، صيدا ، بيروت ،(د.ت).(د.ط) ص 126.
(11) عبد المالك مرتاض ." بحوث في النظرية الروائية " –بحث في تقنيات السرد – المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت ، سلسلة عالم المعرفة ع ( 240).ديسمبر 1998 ، ص ، 142
(12) غاستون باشلار " جماليات المكان ، ت:" غالب هلسا ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ط3، سنة 1987 ، بيروت ، ص: 6.
(13) ينظر : حميد الحميداني، ص : 55/56.
(14) ينظر الطيب صالح وصلاح حزين مجلة العربي ، ص: 139
(15) الطاهر رواينية ، ص : 15.
(16) الرواية ص : 36.
(17) المصدر نفسه ص : 43.
(18) المصدر السابق ، ص 69.
(19) المصدر نفسه ، ص: 81.
(20) الرواية ص : 84
(21) المصدر نفسه ص : 117.
(22). (23) المصدر السابق ص : 130.
(24).(25) المصدر نفسه ص : 131
(26)-See claudine Verly –Aguide to the criticale readinge of fiction in engliche – edition ophyse .1998.page -135 /136.
(27)- الرواية ، ص : 48
(28)- المصدر نفسه ، ص :49
(29) المصدر السابق ، ص : 53
(30) ينظر : غاستون باشلار ،ص :191
(31) الرواية ص : 49.
(32) المصدر نفسه ص : 158.
(33) المصدر نفسه ص : 81
أ. كلثوم مدقن
جامعة ورقلة- الجزائر
* منقول للفائدةعن مجلة جامعة ورقلة
إن أول من اهتم بدراسة المكان هم الفرنسيون ، ذلك في عهد الستينيات والسبعينيات و أبرز هؤلاء : ( جورج بولي ، وجليبر دوران ، ورولان برونوف )، وكان أبرز من أسهم بفعالية في لفت الانتباه لمصطلح المكان " في بنية نسج العمل الإبداعي هم الباحثون " يوري لوتمان youri lotman، روبير بيتش –R petch وهيرمان ميير H-meyer". 1 ومن أبرز المؤلفين في دراسات المكان الروائي ، " هنري متران " ، وذلك بإصداره كتاب خطاب الرواية عام 1980:discour du roman، كما عد كتاب "غاستون باشلار " من أهم الكتب التي ألفت في الموضوع.2
ومع اختلاف الدراسيين في تحديد مفهوم المصطلح اختلفت تسمياته، فالبعض أطلق عليه اسم " الحيز المكاني " والبعض الآخر " المكان " وآخرون " الفضاء "، وراح كل باحث يدافع على تسميته ويبرز دلالته الأدبية. مع أن مصطلح الفضاء "أشمل وأوسع من معنى المكان والمكان هو مكون الفضاء، وما دامت الأمكنة في الرواية غالبا ما تكون متعددة وترد متفاوتة فإن فضاء الرواية يلفها جميعا، فهو العالم الواسع الذي يشمل مجموعة الأحداث الروائية ، فالمقهى أو المنزل أو الساحة، كـل منها يعـتبر مكانا محددا، ولكن إذا كانت الرواية تشمل هذه الأماكن كلها فإن جميعها يشكل فضاء الرواية".3 ومن خلال هذا التعريف يتبين لنا وكأن المكان محدود، إذ يدخل ضمن الفضاء ويعطي ذلك المكان المحصور الذي حدد بالحيز المكاني فضاءات مختلفة من خلال تفاعله مع جميع عناصر الرواية الأخرى كالسرد والأحداث والشخصيات والزمن.
ورغم المصطلحات المتداولة في الدراسات الحديثة ممارسة وتطبيقا، إلا أن مصطلح " الفضاء" عد من أبرزها شيوعا وأغناها لأنه أوسع في المعنى وأعمق دلالة، ولهذا كان الفضاء من ابرز مكاسب الحركة النقدية الغربية، إذ سعت المدرسة الألمانية إلى التمييز بين مكانين مختلفين وهما: "lokal" و "raum "، دلّ مصطلح "lokal " على المكان المحدد الذي يمكننا ضبطه وقياسه بالأعداد والمقاسات أما المصطلح الثاني " raum " عرّف بأنه الفضاء الدلالي المتعلق بالشخصيات، وأحداث الرواية4، فنجد أن مصطلح "raum" هو ما يتعلق بدراسة المكان الروائي، حيث يساهم في إبراز الأحداث، كما أنه يعمل على تطويرها داخل النص الروائي من خلال حركة الأبطال ضمن مكان مغلق أو مفتوح.
ويضاف إلى جهود المدرسة الألمانية ما قدمه الروسيي " باختين " bakhtine " الذي حدد أربعة أنواع للمكان وأعطى لكل منهما اسما خاصا بحسب دوره في الرواية وهو المكان الداخلي، المكان الخارجي، المكان المعادي، وأطلق على الرابع فضاء العتبة وهو المكان الذي يكون ممرا للبطل عبر تنقلاته، كما أنه يتمثل في الأبواب، النوافذ، الحافلات، والسيارات والبواخر5، ويريد "باختين " بالمكان الخارجي، المكان المفتوح، الذي يخرج عن نطاق غرفة في مقابل البلد والبلد الأصلي في قابل بلد الغربة، وهو مكان رحب وواسع، غالبا ما نجد الفرد يتفاعل معه ايجابيا، أما المكان الداخلي فهو المكان المعاكس للمكان الخارجي، يمثل الانسداد والانغلاق، كما أنه يتصف بالتحديد، وهذا لا ينفي انفتاحه على أمكنة أخرى، فالغرفة المحددة مساحتها، قد تنقلنا عبر جدرانهـا إلى عـوالم أمكـنة عديدة، مـن خلال أثاثها أو رسوماتها أو المجسمات التي تحويها وبالتالي تعطيها دلالة تفوق دلالتها الأولى، والمكان المعادي عند " باختين "، هو المكان الشبيه بالداخلي أو الضيق. ينكس على حاله الفرد نفسيا، فهو المكان الذي يحس بالضيق فيه وإن كان واسعا، كتواجد شخص ما في بلاد الغربة فمهما يحمل ذلك البلد من رحابه و امتيازات، يعد مكانا ضيقا على نفسية المقيم فيه .
ويربط " غريماس "مفهوم المكان عنده بالخطاطة السردية، إذ لا يعتبر في نظره المكان مجرد فضاء فارغ تصب فيه التجارب الإنسانية، إنما يتعلق بما تمليه عليه الخطاطة السردية.
وبذلك يتوزع المكان كسلسلة من المحطات التي لا وظيفة لها إلا بتفاعلها مع رحلة البطل، ومن خلال تلك المحطات تطرح مجموعة من الإشارات الشكلية التي تساهم في تفكيك القصة إلىمقاطع ومن ثم تؤدي إلى كشف الأماكن6، ويركز "غريماس " في هذا الصدد على دور اللغة في إبراز المكان من خلال الأحداث التي تسردها، مثلا وأنت تقرأ الكلمات ، تنطلق من مكان ما، فتتنقل بعده إلى محطات مختلفة وتحط الرحال في محطة أخيرة، وتكون الشخصية وسيلتك في التنقل ، حيث تبرز في كل مرة أحداثا تتفاعل معها سلبا و إيجابا ويبقى لكل مكان يتردد عليه أبطال الرواية دلالات خاصة وبالتالي يخرج المكان من كونه مجرد كلمات تتضمنها الرواية إلى مكان أوسع متصل بالعالم الخارجي.
وحددت أربعة أماكن للمكان عند "مول "و " رومير " وجميعها يتعلق بالسلطة التي تخضع لها تلك الأماكن وهي:
1-"عندي: ويربطاه بالمكان الذي يمارس فيه الفرد سلطته ، ويكون ذا علاقة أليفة وحميمية معه ، يحس بامتلاكه وحرية التنقل فيه كالبيت الذي تربى وكبر فيه، أو ألاماكن الخارجة عن البيت ولكنها قريبة من نفسية الفرد ، حيث تجده يتردد عليها باستمرار.
2-عند الآخرين : وهو مكان مشابه للأول إلا أنه يختلف عن كونه يخضع لسلطة الغير، وعلى الفرد الاعتراف به واحترامه.
3-الأماكن العامة : والتي لا تعد ملكا لأحد ،بل ملكا للدولة وداخلها نجد شخصا يفرض سلطته مع أنه يعد هو أيضا متحكم فيه ، كالشرطي الذي يتحكم في السير ويكلف بالتنظيم وفي الوقت نفسه يخضع لسلطة أقوى منه تفرض عليه قوانينها .
4-المكان اللامتناهي: وهو المطلق الحر الخالي من الناس، كالصحراء، والبحر وهذه الأماكن لا يتحكم فيها أحد ولا تخضع لسلطة الدولة وقهرها، كما أنها تفتقر إلى المرافق العامة والحضارية وإلى ممثلي السلطة"7، ولجميع هذه الأماكن أثر على القارئ، يتفاعل معها بحسب رغبته، فنجده يتفاعل إيجابيا مع المكانيين الذين أسماهما "مول " و "رومير " بـ (عندي) و(اللامتناهي)، فالأول مكانا للألفة والثاني مكان واسـع ذو رحابة، عادة ما يلجأ إليه الإنسان الذي يحس بضيق "كالبحر" الذي يرمي فيه همومه وينفس عن ضيقه،ولأن " المكان لم يعد مجرد خلفية تقع فيها الأحداث السردية"8، فقد أصبح يحمل دلالات مختلفة حسب تفاعل الأبطال معه ، لذلك جعلت منه السيميائية مصدرا للأحداث ومنتجا لها ومحركا للأبطال .
واستعمل مصطلح " المكان " في السيميائية " كموضوع تام يشمل عناصر غير مستقرة انطلاقا من انتشارها ، ويهتم بالفاعل كمنتج ومستهلك للفضاء ، وبفضل تدخل الإنسان في إنتاج علاقات جديدة"9، تركز السيميائية في هذا الصدد على دور البطل في إنتاج الدلالات، لأنه يعكس لنا أصناف المكان من خلال تنقلاته وتفاعله مع الأمكنة التي يتردد عليها ويعطيها صورة شاملة عنها ، وبالتالي يضفي عليها انطباعات حسنة وسيئة.
وإذا كانت المفاهيم السالفة الذكر تتفق على دور البطل في إبراز المكان وتصويره فإن الروائي للدور الأهم حيث "يعمل فينا خياله نحتا وصقلا ومزاوجة وتنسيقا"10، ويجعلنا نتنقل من مكان لآخر دون جواز سفر، ولكن بوسيلة اللغة التي تدفعنا إلى، "استعمال حاسة البصيرة وملكة الخيال وحركة الذهن".11، فالمكان مجسد في الصور التي تقدمها الرواية، وقد يكون ظاهرا حيث يصفه الروائي وصفا دقيقا أو باطنا يدفعك إلى استنباطه من خلال رموز الكلمات وتطور الأحداث ، وبالتالي تصبح البيانات التي تضمها الرواية الأساس في كشف المكان.
ومن أبرز من أسهم بفاعلية في إبراز المكان وإعطائه دلالته داخل النص الروائي "غاستون باشلار " في كتابة "شعرية الفضاء" poétique du l’espace ، وفيه ركز على بيت الألفة وأعطى مفهوما للمكان باعتباره صورة فنية، أطلق عليه "المكان الأليف، الذي ولدنا فيه ومارسنا فيه أحلام اليقظة، وتشكل فيه خيالنا ، والمكانية في الأدب هي الصورة الفنية التي تذكرنا أو تبعث فينا ذكريات بيت الطفولة"12.
هذا إذا حددنا مفهوم المكان الروائي، وهناك اهتمامات أخرى "بالمكان النصي"، الذي يحدد طبيعة تعامل القارئ مع النص الروائي، وأكثر المهتمين به، " ميشال بوتور " إذ أطلق عليه " l’espace textuel "وقصد به الحيز الذي تشغله الكتابة ذاتها، باعتبارها أحرفا طباعية على مساحة الورق من تصميم الغلاف وترتيب الفصول ووضع المطابع وتغيرات الكتابة المطبعة وتشكيل العناوين، وهذا المكان لا يتحرك فيه الإبطال إنما تتحرك فيه عين القارئ.13
لمحة عن صورة المكان في روايات الطيب صالح :
إن تأثير المكان على حياة المبدعين موغل في التاريخ الأدبي القديم العربي والغربي وظاهرة الوقوف على الطلل في الشعر الجاهلي من ابرز التجارب الإنسانية التي كشفت وجود صلة قوية بين المبدع والمكان ومنذ ذلك الوقت بقي المبدع متعلقا بالمكان الذي يكتب فيه وعنه، فتميز كل مبدع بطريقة توظيفه للمكان، فمنه من جعل الحافلة موقعا لإظهار أحداثه وآخرون اتخذوا الشارع مكانا لإبراز انفعالاتهم، وكان للطبيب للطبيب صالح رؤيته الخاصة للمكان حيث اهتم بالمكان الداخلي (الوطن) كما انه لم يهمل المكان الخارجي (الغربة) وجعل من القرية المساحة الواسعة في خريطة قصصه، كما ان اكتفى في الكثير من الأحيـان بوضع الملامح العامة لها، ودفع القارئ إلى كشف خصوصيات المكان بنفسه، فكانت القرية المكان الذي يكتب عليه باستمرار، والمسرح الذي تتحرك فوقه الشخصيات، التي تكررت في المكان والزمان نفسه، كما حدث في رواياته الأخيرة ( ضو البيت، بندر شاه، مريود)14، و لأن الطيب صالح كان ذا انتماء عميق للسودان جعل من شمال السودان المادة إلي يختار منها نماذجه الإنسانية، ونظرا للقرية في السودان نظرة ايجابية وأخرى سلبية، ايجابية تمثلت في تمسك القروي بأرضه والدفاع عنها بأنفس ما يملك ، سلبية لأنها تكشف لنا عن مجمل العقليات المتحجرة لأهل القرية وتخوفهم من عنصر التجديد15.
أصناف ودلالات المكان في رواية موسم الهجرة إلى الشمال:
إن أول ما يلفت انتباهنا في رواية " موسم الهجرة إلى الشمال" ، أثناء التصنيف هو عنوانها حيث مكننا من تحديد الإطار العام الذي وقعت فيه الأحداث،وأوضح لنا " العنوان" أن موسم الهجرة كان من الجنوب إلى الشمال، ومنه استنبطنا جملة الدلالات المكانية داخل الرواية، وبقي رمزا محافظا على إحداث الرواية، ولولاه لكان النص عرضة للذوبان في نصوص أخرى، خاصة أن الموضوع طرح عند روائيين أخريين.
وعدّ العنوان "موسم الهجرة إلى الشمال " لافتة معبرة عن الحركة والانتقال من الجنوب إلى الشمال ومن لندن إلى السودان ومن الشرق إلى الغرب وبالتالي جاء العنوان "عتبة للقراءة يلج منها القارئ إلى عالم النص."16، وعند ولوجنا إلى عالم النص الروائي، كشفت أصنافا عديدة للمكان، كل بحسب دلالته وتأثير الشخصيات عليه وتأثرها به، حيث تضمنت الرواية مكانين كبيرين، الأول داخلي والثاني خارجي تمثلها كل من لندن والسودان، وداخل هذين المكانين أماكن أخرى تتصف بالانفتاح والانغلاق وبينهما مكان " للعبور" وهو مكان عابر ومؤقت.
I-المكان الداخلي:
تمثله السودان بكل ما تضمه من أماكن، وفيه وصف لنا الروائي، بيت مصطفى سعيد المدرسة، قصر مفتش المركز الإنكليزي، بيوت القرية، بيت الجد، قاعة الاستقلال وغرفة مصطفى سعيد، وهي أبرز ألاماكن دلالة وأبعدها عمقا .
1-بيت مصطفى سعيد :
لم يكن الروائي ليصف لنا بيت "مصطفى سعيد "، إلا حين اندهاشه من شخصيته فكان وصفه لبيت البطل هروبا من تساؤلات كثيرة خطرت بباله، من يكون؟. وما سبب اختلافه عن أهل القرية؟؟، لكنه لم يجد الإجابة في جدران البيت لأنه "كان بيتا عاديا ليس أحسن ولا أسوأ من بيوت الميسورين في البلد، منقسم إلى جزئين كبقية البيوت، جزء للنساء، والقسم الذي فيه الديوان للرجال، إلى يمين الديوان غرفة من الطوب الأحمر مستطيلة الشكل ذات نوافذ خضراء سقفها لم يكن مسطحا كالعادة ولكنه كان مثلثا كظهر الثورة"17، رغم أن البطل معجون من طينة أخرى، إلا انه شارك أهل القرية في البساطة المعيشية كما حافظ على عرفها، إذا قسم بيته إلى قسمين قسم للرجال وآخر للنساء، وجاء هذا الوصف في خضم الوصف العابر، إذا لم يضف دلالات للنص الروائي، ولم يزل الستار على حقيقة شخصية البطل، غير أنه قدم التناقص في شخصيته، حيث وصفه بغير العادي في تصرفاته ونظراته والعادي في مسكنه ومعيشته.
2-المدرسة :
فيها برزت أهمية المكان في نظر البطل، حيث استفتح بها عرض قصة حياته ، فهي المكان الذي جعل منه مغامرا، وغازيا ومثقفا، ومفوضا عن بلدته ووطنه،إن المكان الذي تفتحت فيه أفكاره على عوالم لم يرها، وكان أول شيء تعلمه داخلها هو " النظام "، كانت "بناء جميل من الحجر وسط حديقة كبيرة على شاطئ النيل، يدق الجرس، ويدخل الفصل مع التلاميذ، تعلم فيها القراءة والكتابة والحساب."18، إنه مكان مغلق ومفتوح، مغلق لأنه يمتـثل فيه لأوامـر مسيّريه، من معلمين ومدراء ومراقبين ومفتوح على المستقبل، حيـث يجعـلك تراه بعين واسعة، إنه المكان الذي عرف فيه " مصطفى سعيد " حقيقة بلده وتاريخ مغتصبيه، وهو المكان الذي فتح الآفاق لرحلة البطل وأوصله إلى محطة فيكتوريا وإلى عالم جين مورس فيما بعد، فيه جهز سلاحه ، وصوب نظراته نحو لندن، تعلم الإنجليزية وأجادها وهو دون الثانية عشر أبدى فيه تفوقه، وبرزت عبقريته، كما أبرز داخله احتياجه إلى مزيد من العلم الثقافة، لكن في مكان آخر!.
3-قصر مفتش المركز الإنجليزي :
إن كان بيت مصطفى سعيد عاديا فلأنه من السودان ، ولا يحق التمتع بما هو أفضل من مساكن أهله ، في حين يحق للغرباء أن يتمتعوا بثروات غيرهم ،في مكان ليس لهم، منهم مفتش المركز الإنجليزي، الذي كان يقيم في"قصر طويل عريض مملوء بالخد، ومحاط بالجند وكانوا يتصرفون كالآلهة."19، يجسد هذا المكان إعلاء المعمرين من مكانتهم، كما يثبت وجود الطبقية ويؤكد استمرارية الاستعمار حتى بعد الاستقلال، في الوقت الذي يحق لأهل القرية التمتع بأراضيهم وأموالهم يجندون لحماية أسيادهم، فهم في نظر الإنجليز خدم يقومون بتوفير الأمن والأمان لهم، وقد يتراءى القارئ عدم أهمية وصف هذا المكان، لكنه يعكس الحسرة التي يحسها الراوي عن بلده وكأنه هو الغريب وهم أهل البلد ومالكوها .
4-القرية :
عاد الراوي إلى قريته الصغيرة على ضفة النيل ، ووجدها على حالها ، لم يتغير أي شيء رغم تغير الزمن والأحداث ، فكانت كبيوت العهد القديم ،"متلاصقة من الطين والطوب الأحمر تشرئب بأعناقها، بيوت على حافة الصحراء ، كأنها قوم في عهد قديم أرادوا أن يستقروا ثم نفضوا أيديهم ورحلوا على عجل ."20، بقيت البلد تعيش في تدهور وعاشت على أنقاض ماضيها متأثرة به، لم يساهم أبناؤها في ترميمها، وهذا يعكس عقليات أهلها المتمسكة بماضيها وأعرافها التليدة، لأن كل ما هدمته لندن، لا يمكنه أن يعوض إلا بعد سنوات طويلة !
5-بيت الجد:
تجسدت فيه الثنائية الزمنية زمن الحاضر وزمن الماضي، زمن الاستقلال، وزمنالاستعمار وبذلك كان بيتا قديما وحديث الصنع، تتوفر فيه الأبواب، وأحيانا تنعدم فيه النوافذ به "غرف كثيرة مختلفة الأحجام، بنيت بعضها في أوقات مختلفة، غرف يؤدي بعضها إلى بعض، بعضها لها نوافذ كثيرة وبعضها ليس لها نوافذ، حيطانها ملساء مطلية بمادة هي من خليط الرمل الخشن والطين الأسود وزبالة البهائم، وكذلك السطوح والأسقف، من جذوع النخل وخشب النسط وجريد النخل."21، وصفه الراوي بدقة مذهلة تعكس شخصية صاحبها ، الذي يمثل تاريخ السودان ولأن الجد لم ينتقل من السودان، لم يظهر تغير في بيته بقي محتفظا بماضيه في غرفة الوطيئة التي تنحني عند الدخول إليها، وهذا البناء يدل على جمود الشخصية المالكة له وثباتها رغم مرور الزمن.
6-قاعة الاستقلال:
تعد آثارا من البناء الإنجليزي ، واسعة ومؤثثة بكل ما هو فاخر وجميل، دقق الراوي في وصفها ليظهر مهارة الغرب في بنائهم كمهارتهم في الاستيلاء على ثروات غيرهم، ولكن بناءها كلف "أكثر من مليون جنيه، صرح من الحجر والإسمنت والرخام والزجاج مستديرة كاملة الاستدارة، وضع تصميمها في لندن، ردهاتها من رخام أبيض جلب من ايطاليا وزجاج النوافذ ملون، قطع صغيرة، مصفوفة بمهارة في شبكة من خشب التيك، أرضية القاعة مفروشة بسجاجيد فاخرة والسقف على شكل قبة مطلية بماء الذهب تتدلى على جوانبها شمعدانات ، كل واحد منهم بحجم الجمل العظيم ، المنصة حيث تعاقب وزراء التعليم في أفريقيا خلال تسع أيام ،من رخام أحمر كما الذي في قبر نابليون في الانفاليد وسطحها أملس لمّاع من خشب الأبنوس على الحيطان لوحات زيتية وقبالة المدخل خريطة واسعة لإفريقيا من المرمر الملون، كل قطر بلون"22 ، كانت قاعة للاستقلال ولكنها مصنوعة بأيادي الاستعمار، تختلف كل الاختلاف عن بناءات أهل القرية الذين تعودوا على طلي الحيطان بخليط من الرمل الخشن والطين الأسود وزبالة البهائم ، إنه صرح من الحجر والإسمنت والرخام ، فيه اعتمد الراوي على الدقة الماهرة في إبراز حضارة انجلترا وتفننها في البناء ، كتفننها في السيطرة والاستيلاء أثناء الاستعمار ورغم تداول الوزراء على هذا المكان ، إلا انه لا يمت بصلة إلى بلدهم، وأفكار أبنائه وصح أن نطلق عليه "المكان المقحم"، فلا هوية للسودانيين داخله رغم تواجده في صلبه وهذا ما دفع بالراوي إلى وصفه بتعجب وتفصيل مدهش!.
7-غرفة مصطفى سعيد :
تعتبر أبرز الأماكن دلالة في الرواية ، تنقلنا عبر جدرانها إلى فضاءات خارجية، إلى لندن وحاناتها وجامعاتها ، تجمع في هيئتها بين مكانين مختلفين، بين السودان ولندن كانت "أرضية الغرفة كلها مغطاة بأبسطة فارسية"23 بها "مدفأة إنجليزية بكامل هيئتها وعدتها، فوقها مظلة من النحاس وأمامها مربع ملبط بالرخام الأخضر، ورق المدفأة من رخام أزرق ولى جانبي المدفأة كرسيان فيكتوريان مكسوان بقماش من الحرير المشجر بينهما منضدة مستديرة عليها كتب ودفتر."24، أثاث لندني في بيت سوداني، وجوده رمز للتذكر، تذكر لندن وذكرياتها المأسوية، كان أثاثا مرتبا على حسب ما تمليه الأعراف في وسطه "قوس يفصل الحجرة نصفين يسندهما عمودان رخاميان لونها أصفر ضارب إلى الحمرة"24، فصل الغرفة إلى قسمين يوحي إلى احتوائها على عالمين متمايزين، الأول مر ومرفوض لكنه محتفظ به في ذاكرة البطل، والثاني حاضر مرغوب فيه، وكلاهما يمثلان شعورا متناقضا، وإذا كان الأول يرمز إلى الانغلاق والانسداد فإن الثاني يرمز إلى الرحابة والانفتاح وجعل منها ديكورها الخاص المميز متحفا لحفظ التاريخ ومصدرا لكشف حقيقة البطل وكل ما تجول الراوي داخلها كشف الغريب والمدهش، وسائدها "من الريش النعام"25، محاطة بأشياء لم يلاحظها الراوي من قبل، حتى وهو في لندن، لكنها في كل مرة تزيل الستار عن الغبار الذي ارتسم في مخيلة الراوي بعد سماعه لقصة "مصطفى سعيد"رواية "وفي غرة البطل ظهر الصراع بين الشرق والغرب، بين مصطفى سعيد وعشيقاته بين الماضي والحاضر، ومن ثم قدمت لنا غرفة "مصطفى سعيد" مكانا واحدا بدلالتين الأولى؛ رمزية تمثلت في استرجاع زمن لندن و أحداثها، والثانية مرجعية تمثلت في وصف المكان وصفا مباشرا26 ويلاحظ في أماكن السودان وجود شعور ثابت متشابه، يسير وفق نمط واحد، ويعبر عن حركة تنقل البطل من السودان ثم عودته إليها بنظرة وفكرة غير التي جاء بها، وبالتالي كان السودان مكانا مفتوحا رحبا، انطلقت منه الرحلة وحطت به بدأت بحركة ديناميكية وتمت بسكون داخل نهر السودان.
II) المكان الخارجي :
تمثل لندن المكان الخارجي، وابرز الأماكن دلالة داخله غرفة " مصطفى سعيد " التي مثلت الوطن المصغر له خارج بلده الأصلي، كان كل همه أن يصل إلى لندن، "جبلا آخر أكبر من القاهرة ."27، ولم تكن رغبته مبنية على التمتع والاكتشاف، بل على الحقد والانتقام، ولم يصف لندن رغم شساعتها سوى عند دخوله لها، حيث وصفها بالغريبة الرائح كان البطل "ينظر إلى اليسار وإلى اليمين، إلى الخضرة الداكنة والقرى السكسونية القائمة على حواف التلال، سقوف البيوت حمراء محدودبة، كظهور البقر وثمة غلال شفافة من الضباب، منثورة فوق الوديان ."28
رغم جمال المنطقة ورحابة الخضرة، لم يمسح الضباب عن عيني " مصطفى سعيد"ولم تتغير نظرته للندن وأهلها، جاءها غازيا منتقما وسيبقى كذلك، ومع كثرة تجوله في شوارع لندن وجامعاتها ونواديها وحاناتها، لم يهتم إلا بوصف غرفة نومه ليعبر عن شعور دفين يكنّه للندن، جعلها غرفة مزدوجة الديكور، ومحددة الهدف حيث كانت "مقـبرة تطـل على حديقة، ستائرها وردية منتقاة بعناية، بها سجاد سندسي دافئ والسرير رحب مخداته من ريش النعام، وأضواء كهر بائية صغيرة، حمراء، زرقاء، بنفسجية، موضوعة في زاوية معينة وعبر الجدران مرايا كثيرة، تعبق الغرفة برائحة الصندل المحروق والند ، وفي الحمام عطور شرقية نفاذة، وعقاقير كيماوية، ودهون ومساحيق وحبوب، غرف نومي قال- مصطفى سعيد – تمثل غرفة العمليات في مستشفى ."29 ، فيها تكشف حقيقة " مصطفى سعيد "وداخلها تقهر لندن، ذات ديكور ملفق، غرفة عمليات من تـدخلها لا تضـمن خروجها سالمة، تجتمع فيها لندن بتسلطها الماضي مع السودان في انكسارها الحاضر كانـت مصدرا لإظهار قوة البطل، تثور داخلها عواطفه وسرعان ما تهمد، لأن كل من تدخلها بتولا، تخرج منها وهي تحمل في دمها جرثوم المرض، غرفة جمعت في تهيئتها كل المغريات، المخدات من ريش النعام، والأضواء مختلفة الألوان والعطور شرقية ومغربية، نفاذة تعيق داخلها رائحة الصندل المحروق والند، داخل هذا المكان تحول الوطن السودان إلى فكرة، ووقف "مصطفى سعيد "، أمام قطبين قطب الداخل وتمثله، " أنا البطل "، وقطب الخارج تمثله " الأنا الآخر" (العشيقات)، فيه أحسن البطل بالدلالة الكاملة لصراع الداخل مع الخارج، في اغترابه في صراعه وعدائه30، تولد من مكان الأنا والأنا الآخر، ثنائية القريب والبعيد، ومن ثم تبين لنا التميز بين مكان الأهل ومكان الغربة.
ولكل من مكان الداخل ومكان الخارج انفتاح وانغلاق وانسداد ، حيث دفعنا المكان الداخلي إلى الانطواء على جوانب عميقة من حياة "مصطفى سعيد " وأصبحت معايشتنا للمكان داخل السودان عملية تتجاوز قدرتنا الواعية، ودفعتنا إلى التوغل في اللاشعور، فأحسسنا داخله بالجذب والاحتواء، كان المكان الخارجي عكس ذلك، حيث دل على الغربة والعداء وداخل ثنائية الخارج يحس البطل بالانفتاح مرة والانغلاق مرة أخرى، بحسب تفاعله مع ألاماكن التي يتردد عليها ومن ثم ظهرت دلالات تمثلت في المكان المفتوح، المكان المغلق، المكان المغلق المفتوح.
المكان المفتوح، المكان المغلق، المكان المغلق المفتوح:
إن الذات البشرية لا تكتمل في تفاعلها مع ذاتها، إنما خـارجها لتـؤثر في كل ما حولها، من ثم تسقط قيما حضارية معينة على الأماكن التي تلجأ إليها، وغالبا ما تجدها تفضل أماكن عن أخرى، إذ نجد أن الأماكن المرغوبة تتصف بالانفتاح والمرفوضة تتصف بالانغلاق، وقد لا تعطى هذه الأماكن الدلالة نفسها، فهناك أماكن مغلقة ومحدودة، ولكنها جاذبة للإنسان وممثلة لحمايته، كغرفة "مصطفى سعيد " في السودان، التي اختارها أن تكون بعيدة عن صخب الحياة، ليعيش في راحة واطمئنان، ودلت تلك الغرفة على الألفة والأمان رغم انغلاقها وتحديدها مساحة.
أما غرفته في لندن فكانت مغلقة مفتوحة في الوقت نفسه ، مفتوحة على العالم الخارجي لندن، لكنها أعطت معاني الغربة ، البرودة والعدوانية ، ومفتوحة على نفسية البطل باعتبارها المكان الوحيد الذي حقق فيه أمانيه بحرية مطلقة، وهي مكان مغلق مقيد الحرية ،إذ لا يمكن للبطل تجاوزه في أداء مهمة الحضارية، لأنه خارج هذه الغرف يمثل دور الأستاذ المحترم والمؤلف البارع، ولم تكن لندن في نظر الراوي سوى مكان للتضجر والانغلاق والانسداد في حين كانت السودان ذلك المكان الداخلي المغلق مساحة ذات رحابة ، عرف داخلها "مصطفى سعيد" توازنا في شخصيته واستعان بها في استرجاع الدفء والحنان الذي فقده في لندن.
I-مكان العبور :
المكان العابر، يكون المكوث فيه مؤقتا، يفصل بين عالمين، ومن ثم بين مكانين، وفي رواية " موسم الهجرة إلى الشمال " فصل " الطيب صالح "بين الشرق والغرب بين السودان والقاهرة، بين القاهرة ولندن، وبين لندن والسودان، وأخيرا بين الحياة والموت، تجسدت أماكن العبور داخل الرواية في المدرسة، المحطة، القاهرة، البحر المحكمة السجن والنهر.
1-المدرسة :
كانت بمثابة المحطة التي تحققت داخلها الأماني، مكث فيها "مصطفى سعيد" لفترة مؤقتة ، تسلح بالعلم وراح يحمل تأثره عبر محطة القطار متجها نحو القاهرة.
2-المحطة :
اعتبرها شريبط احمد شريبط بمثابة العتبة للمدينة أو المرتفع ، كما عدها مكانا لتصادم قيم الريف مع قيم المدينة، وهي المعبر الذي من خلاله تتحقق الأحلام أو تنكسر، في محطة القطار تعرف البطل برجل دين مسيحي، تجاذب معه أطراف الحديث، سأله عن سنه ومقصده واندهش من تحدثه المذهل للغة الإنجليزية، كانت تلك أول محطة تنـفتح فيها أعين البطل على عالم جديد، وأناس جدد، جاءوا من أماكن مختلفة، وهي أول خطوة لتحقيق الحكم، كما كانت محطة فاصلة بين السودان والقاهرة، ومع أن المحطة تدفع في الغالب إلى الانتقال من المكان المرفوض إلى المكان المحبوب إلا أن محطة البطل الأولى كانت انتقالا من المكان المحبوب إلى المكان المرفوض ، ولكنها اعتبرت جسرا تحققت عبره الأحلام .
3- القاهرة :
حط القطار بالقاهرة حيث واصل "مصطفى سعيد" تعليمه الثانوي، اعتبر القاهرة محطة عابرة ، وعتبة لا بد من أن يتخطاها ليصل إلى لندن، لم يتحدث كثيرا عن هذا المكان، إلا أنه وصف لنا الاستقبال الحفيف الذي وجده عند " مستر روبسن وزوجته"، زار معهما جوامع القاهرة ومتاحفها وآثارها ، لكنه كان مشغولا أكثر بنفسه، حتى انه لم يحفل بالحب الذي أسبغه عليه الزوجان ، كان كل همه أن يصل إلى لندن "جبلا آخر أكبر من القاهرة، علاقته بالقاهرة بنيت على المنفعة، حيث أخذ منها التأشيرة التي أهلته إلى السفر نحو" محطة فيكتوريا وعالم جين موريس"،وهذه العتبة فصلته بين مكانين ، الأول عظيم والثاني أعظم منه ، هما القاهرة ولندن .
4- البحـــر :
بدأ الحلم في القاهرة يتحقق يوما بعد يوم، لما أنهى البطل دراسته، جهز البطل أمتعته متجها نحو عالم لندن بلد الضباب والعدوانية، وأثناء رحلته تلك، كان عليه أن يتخطى عتبة كبيرة وهي "البحر" الفاصل بين الشرق والغرب كله، حولته من رائحة غريبة، إلى رائحة أغرب، فلما: "هاج الموج تحت السفينة واستدار الأفق الأزرق حواشيها – قال البطل– أحسست توا بألفة عابرة للبحر واستمرت طيلة الرحلة ذلك الإحساس في أني في لا مكان وحدي أمامي وخلفي الأبد أولا شيء، وصفحة البحر حين يهدأ سراب آخر ."31
كان آخر عتبة يتخطاها ليصل إلى لندن وداخل البحر أبدى استعداده المغامرة والغزو حيث قال: "استمرأت طيلة الرحلة ذلك الإحساس في أني في لا مكان."32 نظرته إلى البحر كشفت غرضه السيئ، ولكنه كان عتبة قربته من تحقيق الحلم وخوض المعركة بسلاح العلم.
5- المحكمة والسجن :
مكث " مصطفى سعيد " داخل المحكمة مدة أسابيع يستمع إلى المحامين، وهم يتحدثون عنه وكان الأمر لا يهمه ، فيها سئل عن انتحار الفتيات الثلاث وفي كل مرة يجيب بـ: "لست أدري !! " ؛ لكنه اعترف بقتل" جين مورس "كان ينتظر حكما قاسيا يستحقه لكن "البروفسور ماكسول" راح يرسم للقضاة صورة فريدة لعقل عبقري دفعته الظروف للقتل في لحظة جنون، هذا الاعتذار الذي لم يره "مصطفى سعيد "إلا "بؤرة للرشوة والفساد والتزوير"33، وبعده جر إلى السجن الذي لم يقض داخله سوى سبع سنوات مع أنه يستحق الإعدام، وعدّ كل من السجن المحكمة، محطة عابرة قلبت الهجرة من الجنوب إلى الشمال، إلى الهجرة من الشمال إلى الجنوب، ووصفت بأنها مكان مغلق ومسدود، يسيرها أناس أشداء، لا يلفت من أيديهم أحد .
6- النهــــر :
النهر الذي لولاه لم تكن بداية ولا نهاية ، يجري نحو الشمال ولا يلوي على شيء قد يعترضه جبل فيتجه شرقا وقد تصادفه وهدة من الأرض فيتجه غربا ، ولكنه إن عاجلا أم آجلا يستقر في مسيره الحتمي ناحية البحر في الشمال . و هو المكان الذي أخفى سر" مصطفى سعيد "، وهو المكان الذي طالما استحضره البطل وهو في لندن ، جعله مصدرا للتباهي ومسرحا للمغامرات ، ومقبضا للأرواح ، حكى عنه لإحدى عشيقاته عن كيفية غرق والديه داخله، لأنه كان يجرف كل من حوله إلى الشمال، كما فعل " مصطفى سعيد " وغرق البطل في النهر، كان فاصلا بين مكانين عظيمين جدا هما الحياة والموت !!.
نجد أثناء التصنيف أن مكان العبور ورد على شكل فلاشات داخل الرواية ، وعبّر عن أحداث متعددة وأعطى دلالات كثيرة ،كما كان مصورا لنفسية البطل، وتطور أحداثها اتسمت تنقلاته من عتبة المدرسة إلى عتبة القطار ، ثم عتبة البحر بالتوتر والثورية ؟، لكن العتبة الأخيرة التي عكست هجرته إلى الجنوب " المحكمة " كانت أقلهم ثورية.
الإحالات
(1)ينظر شريبط احمد شريبط ( بينية القضاء في رواية إذا يوم جديد )، مجلة "الثقافة " ،تصدر عن وزارة الثقافة والإتصال العدد 115، سنة 1995 ص 141/142/144 .
(2) ينظر المرجع نفسه ص 154
(3) حميد الحميداني " بنية النص السردي من منظور النقد الادبي" ، المركز الثقافي العربي ،(د،ت) .(د.ط).ص :63.
(4) ينظر : شريبط أحمد شريبط : ص : 157
(5) ينظر : المرجع نفسه ص : 158
(6) ينظر السعيد بن كراد : " مدخل إلى السيميائيات السردية " دار تينمل للطباعة والنشر ، مراكش ، 1994 ص : 87/88 .
(7) لوري لوتمان :" حماليات المكان " ، سيزا قاسم ، دار قرطبة ، الطبعة الثانية ،الدار البيضاء 1988،ص ،62
(8) عثمان بدري " وظيفة اللغة في الخطاب الروائي الواقعي عند نجيب محفوظ "،المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية 2000، ص : 91.
(9) سعيد علوش " معجم المصطلحات الادبية والمعاصر ، دار الكتاب اللبناني ، 1985 بيروت ص : 164
(10)علي بوملحم ." في الأدب وفنونه "، المطبعة العصرية للطباعة والنشر ، صيدا ، بيروت ،(د.ت).(د.ط) ص 126.
(11) عبد المالك مرتاض ." بحوث في النظرية الروائية " –بحث في تقنيات السرد – المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت ، سلسلة عالم المعرفة ع ( 240).ديسمبر 1998 ، ص ، 142
(12) غاستون باشلار " جماليات المكان ، ت:" غالب هلسا ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ط3، سنة 1987 ، بيروت ، ص: 6.
(13) ينظر : حميد الحميداني، ص : 55/56.
(14) ينظر الطيب صالح وصلاح حزين مجلة العربي ، ص: 139
(15) الطاهر رواينية ، ص : 15.
(16) الرواية ص : 36.
(17) المصدر نفسه ص : 43.
(18) المصدر السابق ، ص 69.
(19) المصدر نفسه ، ص: 81.
(20) الرواية ص : 84
(21) المصدر نفسه ص : 117.
(22). (23) المصدر السابق ص : 130.
(24).(25) المصدر نفسه ص : 131
(26)-See claudine Verly –Aguide to the criticale readinge of fiction in engliche – edition ophyse .1998.page -135 /136.
(27)- الرواية ، ص : 48
(28)- المصدر نفسه ، ص :49
(29) المصدر السابق ، ص : 53
(30) ينظر : غاستون باشلار ،ص :191
(31) الرواية ص : 49.
(32) المصدر نفسه ص : 158.
(33) المصدر نفسه ص : 81
أ. كلثوم مدقن
جامعة ورقلة- الجزائر
* منقول للفائدةعن مجلة جامعة ورقلة