فوزية ضيف الله - في الدّلالة التأويليّة للمعاصرة الجماليّة عند غادامار (جزء 1)

إنّ الزمانية المنتمية إلى الوجود الجماليّ هي زمانيّة المعاصرة، ذلك أنّ الأعمال الفنيّة التي تظلّ دوما محقّقة لوظيفتها، هي أعمال مواتية لكلّ عصر ومعاصرة لكلّ زمان. إنّها لا توجد في المتاحف على أنّها تحف فنيّة تنتسب إلى الماضي، بل على أنّها آفاق فنيّة تعطي تثير في المشاهد إحساس التعلّق بالخلود والخروج من منطق الأزمنة المنقضية أو التي ستنقضي. غير أنّ ذلك لا يمكن حصوله إلاّ بالتخلّي عن نمط الوعي الجماليّ التاريخيّ واستبداله بوعي جماليّ تأويليّ. يعني ذلك أنّه ينبغي على علم الجمال أن ينخرط في سياق التأويليّة، وأن يُدرك الأثر الفنيّ ضمن حدوث المعنى الذي يتحقّق ضمن حدث الفهم نفسه. لا ينبغي النظر إلى العمل الفنيّ على أنّه شيئا من الماضي، أو على أنّه تابع لعلم الآثار والتاريخ، فالفنّ حدث غير تاريخيّ، وغير زمانيّ أصلا لأنّه دائم الحضور من جهة انطوائه على المعنى و بموجب حضوره المتميّز بالمعنى. فكيف يمكن للتأويليّة أن تنصف تجربة الفنّ؟ وأيّ دلالة تأويليّة يُسندها غادامار لمفهوم "المعاصرة الجماليّة"؟
لم يتحدّث غادامار في كتابه الحقيقة والمنهج (1960) وكذلك في تجليّ الجميل (1986) بإسهاب عن مفهوم "المعاصرة الجماليّة"، فباستثناء عنوان صغير نعثر عليه تابعا للفصل الثاني من القسم الأوّل من الكتاب، فإنّنا لا نراه يطيل التحدّث عن هذا المفهوم الذي يعيّنه بإسمه في مواضع قليلة، لكنّه ما فتئ يشير إلى معاني المعاصرة و اللازمانية المميّزة للعمل الفنيّ ضمن هذين الكتابين. لذلك نلاحظ أنّ غادامار لم يسخّر لهذا المفهوم مساحة كبيرة من كتبه لكنّه لم يتخلّى عنه، فظلّ حاضرا وإن كان حضوره متناثرا بين ثنايا كتبه. يوضّح غادامار أنّ معاصرة الوجود الجماليّ تعني بوجه عامّ حضوره اللازمانيّ . بيد أنّه يُشدّد على ضرورة تواجد الزمانية ضمن هذه اللازمانيّة نفسها، فالزمانيّ هو الأصل الذي ينشأ عنه اللازمانيّ، فهما من الأضداد لكنّهما ينتميان إلى جوهر واحد هو الزمان، سواء كان هذا الزمان ثابتا في حضوره أو متحرّكا في سيره. لذلك تسمّى الزمانيّة "زمانيّة تاريخيّة" أو "زمانيّة فوق تاريخيّة"، فعندما يكون الزمان "زمانا فوق التاريخ" هو زمان لا يكون فيه الحاضر مجرّد "لحظة زائلة"، لأنّه يُصيّر الحضور ثباتا مقدّسا، ويستلهم هذه القداسة من لحظة اكتمال الزمان لديه اكتمالا مترويّا وبريئا. لذلك لا يرى غادامار أي ضرب من التناقض الذي يمكن أن يحصل بين الزمانيّ وغير الزمانيّ، بين الزمان التاريخي والزمان غير التاريخيّ، لأنّ اللازمانيّة هي في الأصل "مجرّد ميزة تنشأ عنهاوبالضدّ منها "
.
يتعرّض غادامار لتأويلية "المعاصرة الجماليّة" ضمن "أنطولوجيا العمل الفنّ" اقتداء بهيدغر، ذلك أنّ عمليّة الفهم هي عمليّة مشاركة وجوديّة تقوم على الحوار بين المتلقيّ والعمل الفنيّ. فمن شأن "المعاصرة" أن تنتمي إلى وجود العمل الفنّي، لذلك تشكّل جوهر "الحضور" وإن كان "التعاصر" مختلفا عن الوجود. يقصد غادامار بالمعاصرة الجماليّة أن يُنجز أمامنا الحضور الجزئي للعمل الفنيّ حضورا أقصى مهما كان أصله نائيا في الزمان، فنستحضر معا لحظتين غير متزامنتين دون تحيّز أو تفضيل لواحدة على الأخرى، فكلاهما له من المشروعيّة ما يجعلها متأهّلة للحدوث ضمن جوهر "الحضور". فيكوّنان ضربا من "المعاصرة الجماليّة" التي لا تعدّ في نظر غادامار مجرّد شكل من أشكال المعطى في الوعي، بل تتعيّن "حضورا كليّا" يحلّ فيه كلّ توسّط ويُحتفظ فيه بحضور الشيء الجزئي حتّى يصبح "مُعاصرا" ضمنه
.
يُشير غادامار إلى أنّ مفهوم "التعاصر" هو مفهوم يعود إلى كيركغارد، ولا يعني بالنسبة إليه "الوجود في الوقت نفسه" (شذرات فلسفيّة، الفصل الرابع). لكنّ كيركغارد مزجه بطابع لاهوتي، فيحضر "التعاصر" و"المعاصرة" في الطقوس الدينيّة على وجه الخصوص (الوعظ، إعلان كلمة الله). لذلك يُعيَّن التعاصر على أنّه مهمّة يواجهها المؤمن عندما يستحضر في الوقت نفسه لحظة حضوره في الزمان ولحظة الفداء لدى المسيح، فلا يُنظر إلى لحظة الفداء على أنّها أمر ولّى وانقضى في الماضي، بل على أنّها لحظة حاضرة يُشارك فيها المؤمن مشاركة أصليّة. غير أنّ ولادة الفنّ ضمن المعبد، قد تجعل "المعاصرة الجماليّة" ناشئة ضمن جماليّة الشعائر والطقوس والمواعظ. فالمهمّة التي يُقرّرها التعاصر هي جعل المشاهد منجذبا إلى الحدث الفنّي، مشاركا في ما يعرض أمامه ( من لوحات، طقوس، تماثيل، مسرح) مشاركة أصيلة، مُنسجمة مع استمراريّة حدوث المعنى إلى حدّ نسيان ذاته ونسيان الزمان الذي ينتمي إليه الأثر الفنيّ في الأصل
. قد تعني "المعاصرة" إذن ضربا من توقّف السّير المطّرد للزمان، ليجد المتفرّج نفسه عند لحظة ثابتة تحول دون رجوعه إلى الماضي أو استباقه للمستقبل، ليكون في وضع يسمح له بإدراك استمراريّة المعنى في الزمان وفي الوجود. فهل يعني ذلك أنّ التعاصر هو تعاصر في الزمان وفي المكان فينخرط الوجود الجماليّ في حضور مطلق للزمان ؟
إنّ لحظة "المعاصرة الجماليّة" هي على حدّ تعبير غادامار نفسه، "اللحظة المطلقة التي يقف فيها المتفرّج، هي لحظة ينسى فيها ذاته ويتوسّط معها. فما ينتزعه من ذاته يُعيد إليه في الوقت نفسه وُجوده ككلّ"
. معنى ذلك أنّ المتفرّج يصبح ينسجم مع العمل الفنيّ انسجاما يجعله منتميا إليه وتابعا له، إلى الحدّ الذي يجعله غير قادر على التمييز بين ما يراه في العمل وما يراه في ذاته. لأنّ ذاته التي ترى وتتأمل وتحسّ وتفهم العمل الفنيّ تنعطي إنعطاء كليّا لهذا العمل لتُستردّ في الوقت نفسه مُحمّلة بكليّة المعنى. فمن شأن هذا الطابع التعاصريّ للفنّ أن يميّز لغة العمل الفنّي الذي لا يخاطبنا كأيّ موضوع آخر من الماضي، ويظلّ حاضرا حضورا مطلقا بالنسبة إلى أيّ زمان. لذلك فإنّه يصبح قادرا على التجليّ والتواصل معنا تواصلا حميما، متجاوزا كلّ أشكال الاغتراب التي كان يعانيها الوعي الجماليّ والوعي التاريخيّ. غير أنّ هذه القدرة على تجاوز الاغتراب تحتاج في تحقّقها إلى مساندة الهرمينوطيقا التي تتكفّل بفهم الفنّ وتحديد ما يدلّ عليه وما يقصده أوّلا، لتتعهّد ثانيا "هرمينوطيقا الفنّ" بالكشف عن حقيقة العمل الفنّ المغتربة في التاريخ. فيصبح قيام هرمينوطيقا الفنّ بالنسبة إلى غادامار ضرورة ملحّة. وإن كانت مشكلة اغتراب الوعي هي مشكلة حديثة إلى حدّ ما، فإنّ غادامار يعتبر كانط المسؤول المباشر عنها إلى جانب مساهمة قرّائه وأتباعه في تعميقها.
لقد رفض غادامار-احتذاء بأستاذه- أن يختزل الهرمينوطيقا في جملة من الأدوات التقنيّة بحثا عن معنى نصّي، ليرتفع بالفهم (Verstehen) نحو البنية الأنطولوجيّة لنمط وجود الموجود في العالم وفي التاريخ. إذ ليس الفهم عند هيدغر نمطا من سلوك الوجود الإنسانيّ، ولكنّه "ضرب وجود الدازين نفسه" الذي يتحقّق وجوده ضمن الفهم نفسه. لقد عالج هيدغر من جديد راهنيّة سؤال الفنّ في ارتباطه بسؤال الوجود، ضمن تأويليّة أنطولوجيّة للأثر الفنّي، فيفهم الأثر الفنيّ على أنّه أنّه ضرب وجود "الوجود –في-العالم". غير أنّ السؤال عن الأثر الفنيّ قد كان سيء الطرح في نظر هيدغر لأنّنا لم نبحث عن الأثر، ولكن بحثنا من جهة أولى عن "شيء" ( une chose) ومن الجهة الثانية عن "منتوج" ( un produit). ويردّ هيدغر مسؤولة وقوعنا في مثل هذا الخطأ إلى الاستيطيقا من جهة اكتفائها بالتأويل التقليديّ للموجود.
يتجلّى لدينا إذن أنّ المعاصرة الجماليّة تصيّر ماهيّة الذات المتفرجة منتمية لماهيّة العمل، فيصبح كلاهما دالاّ على الآخر دون تحيّز أو تمييز لأحد الماهيّتين عن الأخرى. غير أنّ إنعطاء الذات لدى العمل الفني لا يدلّ على نقص في الوجود الجماليّ للأثر، ولا يدلّ على افتقار للذات على معنى من المعاني، ولكنّ الذات تقصد العمل الفنيّ من جهة "اللعب" الجماليّ. يبحث غادامار عن أسس أنثروبولوجيّة للفنّ من خلال ظاهرة اللّعب بوصفها فائض من النشاط الذي يجعل الفنّ قهرا للزمان من جهة محافظته على الاستمراريّة.
د. فوزية ضيف الله تونس
نصوص

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى