كاهنة عباس - أحتاج الى ما لا يسمى

أحتاج إلى الأشياء الّتي ما انّفك الإنسان يقاومها مثل النسيان والعزلة وتقبّل الفناء ، أحتاج إلى جرعة من طعمها لأدخل تلك المناطق المجهولة الّتي لم تكشف عن أسرارها بعد، إنّها هي من جعلتنا نكتب المعاني على طيّات الألوان ونوزّع على القرى والمدن أسماء غريبة حتّى لا تغيب معالمها وروائحها عن ذاكرتنا ، إنّها من علمتنا البكاء كل البكاء بانهماره وما يتبعه من انهيار وتطهّر وتحرّر .

أحتاج إلى تلك الأشياء الرهيبة التي سمينّاها من باب العجز: الفراغ والنسيان والغياب دون أن تكون لا للغة ولا للعلم دراية صحيحة بها والّتي ترفض الاستقرار بالذاكرة .

أحتاج إلى الاغتسال من كلّ ما أملك،عسى أن تجعلني مساحات الخواء أكثر انتباها ،أن لا يدمرّني فراق الأحبّة دون رجعة أن يبعثني من جديد بعد الخيبات التي عشتها.

أحتاج إلى أن أستعيد طفولتي، أن أقرّر تاريخها وبداياتها وتفاصيلها وكلّ ما يتعلق بها هذه المرّة، أن أتمتع بكلّ ذلك الغياب عن الواقع مرحا وتجوّلا وأن لا يغلبني زماني ويسيطر علي وجداني .

لذلك، فأنا لا أبتغي من أفكاري سوى الهجران ثم الاندثار، حتّى أتسكع من فضول إلى فضول ومن سؤال إلى آخر دون يقين، تتلاعب برأسي نخوة الدّهشة في عالم تجاوز ثنائيّة الشّر والخير.

إنني مازلت أنتظر أن يهجرني الامتلاء كلّ الامتلاء ، بما هو قدرة وسلطة، بما هو معرفة، بما هو كسب ومال، بما هو تجربة، بما هو إحساس بالماضي، أن أصبح متأهبّة لاستقبال الفراغ الكليّ حتّى أرى الماء من وجهة نظر أخرى، فيلوح لي في هيئة الباعث على النضارة والشباب والجمال، بوصفه المنبع الأولّ للروائح والأشكال والأجسام والأمكنة، قبل أن نحكيها ونؤرّخ لها ونسردها.

أحتاج إلى توأم الماء ألا وهي الرّيح، تلك القّوة اللاّمرئية ،أحتاج إليهما معا، كي أسألهما إن كانا قد هيآ للغياب وللفناء الطّريق منذ نشأة الموجودات ؟

لقد أرهقني الغياب والفقد والشوق بما تحمله من ثقل يضاهي ثقل الدّنيا، أرهقتني جراحها الّتي لا شفاء منها في غياب قول يعبّر عنها ، أحتاج أن أواجهها أن ألمسها،أن لا أقاومها أو أدفعها بعيدا عنّي .

أحتاج إلى كيان جديد ووجود مختلف يخون عهودي السّابقة وينقض ما كنت عليه، لكلّ ما كنت له وفيّة، حتى أعيد ترتيب الذّكريات والأحداث و ما اتّصل بهما من معاني وأحاسيس وأفكار، أحتاج إلى معجزة ممكنة .

لا أشتهي سعادة لغويّة تتقفى إمكانيات اللّغة واستعاراتها، كي تفتح لي نفقا ضيّقا للممكن والمستحيل ، لا أشتهي منافذ للتخييل خاصّة تلك المكبوتة داخلنا، غير المعلنة .

من قال أن ما نقوله هو فعلا ما نشعر به ، وإلاّ، فلم وكيف وجدت الجريمة وكيف نشأ العنف؟

فجلّ ما نراه ونلمحه هو أوهام ،ما يبعثه الواقع في أنفسنا من حزن أو فرح هو أوهام ، حتّى اللّغة فهي تمثّل للموجود ،الفيصل بيننا وبين العالم بما يفوق كلّ تقدير أو تصوّر .

المسألة بسيطة ، كيف نعيد الرّبط بين الأحاسيس والمشاعر واللّغة مع اعتبار أسبقيّة الإحساس على اللّغة ؟ تلك هي المعضلة.

لقد رمتني خيوط الإحساس إلى الشفق الأحمر عند غروب الشّمس،ثم رمتني في أمكنة وبقاع لم أعهدها قطّ وطوّقت حولي الرّباط ، ثم أحاطتني خيوطها بأواصل أجهل أسبابها وأعماقها .

من سيخرجني من الورطة بعد انهزام اللّغة وانعدام الارادة في إتيان أيّ فعل من أفعال العنف ؟

من يخبرني أو يبيّن لي ما أشعر به الآن وأنا أكتب هذا النّص حول الغياب والفقدان والنّسيان الذي قد يكون مصدره قوة قاهرة ، أجهلها ؟

من يبين لي علاقتها بحياتي وتجربتي وما عرفت ؟

لا أحد .

كاهنة عباس .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى