أحمد شحيمط - هايدغر ورحلة البحث عن الوجود

مارتن هايدغر (1976-1889) فيلسوف ألماني، منابع فكره متنوعة ، أصيل في فلسفته، متميز في إعادة تصويب التفكير الفلسفي بعيدا عن الذاتية والعقلانية ، وبعيدا عن هيمنة الفكر الوضعي وآثار النزعة الإنسانية، والتراث الخاص بهيجل وماركس ، تفكيره في الوجود، ومحاولة تجاوز الميتافيزيقا والنفاد للفكر، حيث انشغل التفكير الفلسفي السابق بالموجود ونسيان الوجود ، وبذلك كانت العودة واضحة لأرسطو وفلاسفة الوجود خصوصا بارميند وهيراقليد ، من يقرأ في أفكاره يتيه نوعا ما في مرامي الأهداف التي يصبو إليها في التأسيس للوجود، لغته التواء وكلمات منتقاة ومراوغة بالكلمات بحثا عن الأصيل وإزالة الالتباس عن لغز الوجود الإنساني، وانتشاله من الرتابة وهيمنة التقنية، فلسفته شديدة التعقيد، وتأويل في أفكاره يسمح للقارئ بالعودة للتراث الفلسفي بأكمله، وقراءة في جملة من المفاهيم، كالحقيقة والزمان والكائن والكينونة والحرية والوجود واللغة، التمس هايدغر من نيتشه آلية النقد والتشكيك في الثابت، ومن هوسرل المنهج الفينومينولوجي، وتطبيقه في تفسير الوجود الإنساني، ومن كييركجارد معنى القلق والسقوط، وأشكال الوجود كالوجود الأصيل والمزيف، وبالطبع الفكر الألماني من ديلتاي وكانط والكانطيون الجدد .
وضع هايدغر مذهبا متكاملا في الوجود، ولم يكتفي بتحليل المواقف الوجودية على غرار وجودية سارتر، بل كان السؤال الأساسي عن معنى الوجود، لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمكنه فهم معنى الوجود، وفكرة الوجودية التي يشترك فيها هؤلاء الفلاسفة تمنح الأسبقية للوجود على الماهية، وأن الإنسان قذف إلى العالم، ولم يختره بإرادة، ولا فائدة من تكرار السؤال عن أسباب السقوط، بل الأهم إمكانية التأسيس للوجود والموجود . أنا ظاهرة من ظواهر الوجود، أنا وجود محدد في الزمان والمكان ، أنا وجود هنا (da-sein)، فمن يبحث في الوجود لا يستطيع أن ينسى أنه أيضا وجود ، وأنه مندرج في الوجود(1)، الطابع الأساسي للوجود هو الهمُ، وبالتالي ينبغي للكائن تحقيق ذاته بعيدا عن السقوط والابتذال، ولذلك يضع هايدغر للسقوط علامات وسمات، كالثرثرة والفضول الزائف، والالتباس. فوجود الإنسان مرهون بالحرية، وشرط الانفتاح على المستقبل، موجود زماني وكائن محدود، والزمان حركة مستمرة نحو المستقبل، لأن الفكرة الأساسية في الوجودية أن الإنسان مشروع مستقبلي، والزمان لا يوجد خارج الإنسان، وهنا نلمس تأثر هايدغر بكانط، في اعتبار الزمان والمكان ليس لهما وجود خارجي، الزمن صورة محضة للحدس الحسي، وشرط حدسنا الذاتي، لكن زمانية الكائن محدودة، والأفق الذي يرسمه الإنسان لذاته يأتي بفضل القلق، وبتحرير الذات من الخوف، واستباق المستقل، والتحرر من الماضي، والعيش في الحاضر، القلق تجربة وجودية تكشف للذات حقيقة وجودها ، أسلوب خاص في الكينونة، يتضح للموجود البشري من خلال عدم جدوى الموضوعات العالمية، وتفاهة شتى الأشياء الكائنة في هذا العالم (2)، هذا القلق الذي يساور الذات أمام العدم، حالة تنتاب الذات في العودة لذاتها، والانفصال عن الأشياء وعالم الماديات، عند سارتر القلق ينتج من وجود الكائن في العالم، ومن حضور الآخر الذي يولد الخجل، وتكثر الأسئلة عن جدوى الوجود مع الغير مادامت العلاقة بين الأنا والآخر شبه منعدمة، والسبب نظرات الغير المتكررة، وغياب العلاقة المعرفية، باعتبارها علاقة شبيهة بتلك العلاقة بين الأشياء الجامدة، نوع من العدم، يولد الارتباك والنفور، سببه القناعات والمبادئ التي تميزنا كذوات مختلفة الرؤى والأهداف، الغياب لا يستمد من الأنا، ولا من الغير، بل من غياب التفاعل والتقارب الفكري، العدم عند هايدغر لا يسبق الوجود، ولا يأتي بعده، بل متضمن فيه، والقلق غير الخوف، ينطوي على معنى إيجابي لأنه يدفع الإنسان للبحث عن وجوده المتحجب. فالإنسان هو السائل الذي يريد إماطة اللثام عن حقيقة الوجود، ولذلك اهتم هايدغر بفكرة الموت والحقيقة والزمان، في رحلة البحث عن الوجود، يكمن الشعور بالقلق والنهاية الحتمية بالموت .

الوجود والقلق والموت
تخاطب الوجودية الإنسان بوصفه كائن يحيا في الوجود، ومع الموجودات الأخرى ، ما يفعله الفرد من أفعال، ويجسده من مواقف هي ما يشكل الوجود الإنساني، وعندما يقوم هايدغر بتحليل الوجود العيني المفرد، يحاول أن يرسم ملامح هذا الوجود بكل ما يملكه الإنسان من إمكانات، قلق الإنسان مرده للمصير– الموت- أساسه الخوف من العدم، هذا القلق الوجودي من الشيء الذي ينهي الحياة، ويهدد كينونته واستمراره في الوجود ، وحسب فهم هايدغر للوجود، المقصود هنا، الوجود الأصيل، وليس الوجود المزيف، والقلة من الناس من تختار هذا النوع من الوجود، في عزلة عن الآخرين أو بعبارة أدق، لا يريد الكائن الذي اختار هذا النوع من الوجود، أن يعيش في وسط الجماعة، ويفكر بطريقة الآخرين، ولا يرضى أن يكون نسخة متشابهة من الكل، يعني اختيار نمط الوجود النابع من قناعات ذاتية، من دون تنميط حتى لا يصاب الوجود الإنساني بالاغتراب عن ذاته، هذه الميزة مهمة لفهم معنى الحياة، والاستعداد للموت . الإنسان بفضل تعرضه للموت يكون مفتوحا لتجربة الانسحاب والاختفاء، وبناء على ذلك يستطيع أن يفهم الكون وينفتح له . الإنسان كفان يحتضن ماهية الكون (3)، الموت كما نفهم في الحياة العادية حدث يقع للآخرين، ونخفي عن أنفسنا عند التخفيف بالكلام من النهاية الحتمية للكائن الإنساني، وننسى أن وجودنا من أجل الموت، الاغتراب ينسينا في كل تفكير عن الموت، هذا الكائن الذي يدرك بالتمام أنه في أي لحظة مقبل على الموت، وبالتالي على الكائن الإنساني اكتشاف تفاصيل حياته بنفسه، لا ينزوي في عزلة طويلة، ولا يكتفي بالجاهز من الأشياء، يبحث عن الحقيقة في ركام الأشياء، لا يتقمص شخصية الآخرين، ولا يعيش في ذواتهم، إزالة القناع عن الإنسان، والكشف عن الحقيقة، وانكشاف الموجود في الوجود، ويكون الوجود البشري أصيلا بالقدر الذي يمتلك فيه الموجود نفسه، وبالقدر الذي يشكل فيه ذاته في صورته الخالصة(4) ، معيار الأصالة هي التي دفعت الكائن الإنساني للسؤال، والبحت عن الوجود .
لا يهرب الإنسان من مصيره، ولا يتنصل من المسؤولية ، كما لا يمكن استيعاب الوجود إلا عن طريق وجودنا ، الذات ركام من الحقائق، والعادات والتقاليد التي حفرت في الوعي، العالم يغرينا بكل ما فيه من الأشياء، والحياة اليومية تنسينا فهم معنى الحياة ومصيرنا، العودة للبدايات، لأصول الأشياء، العودة إلى منابع الفكر الأصيل ، دون الانغماس في تاريخ الفلسفة الذي يعتبره هايدغر نسيان للوجود والاهتمام بالموجود، الإنسان هو الموجود الذي يدرك نهايته، وتجربة القلق ليست شعورا في موقف معين أمام الآخر الذي يحاول أن يسلبني الحرية والعفوية كما في وجودية سارتر، القلق أكثر من ذلك، إنه قيمة فلسفية، بحيث لا نقلق من الأشياء العادية أو القلق على الشيء، بل من الأشياء الغامضة التي تثير فينا الحيرة والتساؤل، من العدم، ومن هذا الوجود المفعم بالقلق، أي الوجود في العالم . فالكائن عندما قذف للعالم لم يختر بنفسه ذلك، والهروب من العالم المزيف يلقي على الكائن الإنساني اختيار نمط وجوده المميز عن الآخرين، وجودنا مع الغير في العالم مهم لأننا نشترك معه هذا الوجود ، الإنية كثبات للوجود ودوامه تعيش بين الانيات، ولا تعيش في عزلة مطلقة ، حالة السقوط كما يفسرها هايدغر تعني الانغماس في وسط الجماعة، حتى تتحول الذات إلى نسخة من الكل، والاختيار ليس سهلا في واقع معطى، بل نوع من المجازفة والمخاطرة في اختيار نمط الوجود بجرأة وقناعة، ولن تكون الفلسفة كما رسمها هوسرل وهيجل البحث في الماهيات والوصول للمطلق والاكتمال، وتجلي العقلانية في كل مجالات الحياة، بل البحث في الكائن والكينونة معا، فلا يهدأ هايدغر من طرح الأسئلة الوجودية عن مصيرنا، والسؤال الأهم عن تجربة الموت، والذات الراغبة في البحث عن معنى الوجود ، فبمجرد أن يولد الإنسان يكون ناضجا للموت، وليس الموت حادثا يطرأ على الحي، بل الحي يحمل الموت بين جوانحه منذ أن بدأت الحياة(5)، وهمُ الإنسان تحقيق وجوده والقلق من ينبهنا للعدم .

الوجود والزمان والحرية
سؤال في صميم الحقيقة، لماذا يوجد هناك وجود وليس هناك عدم؟ الوجود هنا يعني الوجود العيني الخاص بالفرد، الوجود الإنساني في مقابل الوجود الموضوعي، ليس الإنسان شيئا أو موضوعا كما تنفي ذلك الوجودية ، وجود منقسم بين الوعي والجسد، في ذاته ولذاته ، طبيعة الوجود في العالم، والتميز عن الآخرين دون السقوط في الرتابة والتنميط، والانزلاق نحو الوجود المزيف، صيغة الوجود الذي ينتبه فيه الإنسان لوجوده ومصيره، باعتباره الكائن الوحيد الذي يعلم أنه سيموت، وبالتالي عليه أن يكشف مصيره بنفسه، والأفضل أن يتحقق هذا الوجود الأصيل، بدل الشعور بالاغتراب والضياع، أن يمنح الكائن للحياة معنى ودلالة ، والذين لا يريدون تحقيق هذا النوع من الوجود محكوم عليهم العيش في اليومي، وفي واقع هيمنة التقنية وعالم الاستلاب. فالوجود شيء يحيط بي ويؤلف كياني(6)، وتحليل الوجود يقتضي بالضرورة فهم الموجود الذي يشمل عالم الذوات والأشياء، وتحقيق هذا الوجود في ارتباط بالمستقبل، والزمان في أبعاده هو الكائن نفسه، حضوره في العالم، وانفتاحه على المستقبل يعني إمكانية التأسيس للوجود والموجود معا، زمانية الكائن محدودة ومتناهية، هو الفعل الذي يبديه الفرد للتحرر من كل ما يؤدي للاغتراب والضياع، التحرر من سلبيات الماضي والحضور في الحاضر، والارتماء نحو المستقبل، يفيد الكائن في إعطاء الحياة معنى، الزمان بوصفه أفقا للوجود، والزمان هنا متصل، الكائن نفسه الذي يحيا في الوجود، الزمان يحدد الأفق الذي يعبر منه الإنسان نحو الوجود، الكائن هنا غير منفصل عن الزمان، والسؤال عن الوجود داخل عالم لا ينكشف بسهولة إلا لمن يعيش تجربة القلق، ويثير السؤال عن الوجود ، لا بالمعنى السائد في الانطولوجيا التقليدية، التي تهتم بالوجود بما هو وجود، حيث يحدد هايدغر معاني الوجود عند الفلاسفة، في الوجود كصورة، وفي التصور المطلق وإرادة القوة، مجمل التصورات تُعنى بالوجود في صورته الثابتة والحقيقة في معنى التطابق، وفي بعدها المعرفي، والأحرى تحليل حقيقة الوجود الإنساني في ارتباط هذا الوجود، بالمستقبل، مشروع يتحقق بفضل التجاوز والقدرة في رسم الممكنات، الفرد جوهره الحرية، التي تؤكد نفسها في مقابل ما عداها ، والحرية اختيار مطلق، والاختيار ينطوي على النبذ، مما يسمح للعدم بولوج الوجود (7)، حرية الإنسان في تحقيق وجود أصيل بعيدا عن السقوط والاغتراب ، هكذا يمنحنا الوجود الأصيل متعة وسكينة ، ولا يمكن للذات أن تصير كذلك إلا بالحرية، وتجربة القلق الوجودي .

هوامش :
(1)عبد الرحمان بدوي "دراسات في الفلسفة الوجودية " المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1980 ص88
(2) دراسات في الفلسفة المعاصرة" دار مصر للطباعة -1998 ص408
(3)مارتن هايدغر " كتابات أساسية الجزء الثاني " ترجمة إسماعيل المصدق، المجلس الأعلى للثقافة 2003 ص215
(4)جون ماكوري "الوجودية" ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ، سلسلة عالم المعرفة عدد 58 – 1982 ص228
(5)عبد الرحمان بدوي "دراسات في الفلسفة الوجودية" ص93
(6)عبد الرحمان بدوي – نفس المرجع – ص88
(7)عبد الرحمان بدوي –نفس المرجع – ص9


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى