تعد رواية الكاتب السوري حيدر حيدر من الروايات العربية المبكرة التي حفلت بنماذج فلسطينية مختلفة ، فقد صدرت الرواية في نهاية سبعينيات القرن العشرين تقريبا ، وهي الفترة التي شهدت صعود العمل الفدائي في الأرض المحتلة وخارجها معا ، وإن أتت على المقاومة الفلسطينية قبل العام ١٩٤٨ مجسدة بالقسام وعبد القادر الحسيني ثم تقمصت الكولونيل محمد خال الفدائي ؛ محمد الذي استشهد قبل العام ١٩٤٨ وأرادت أخته لابنها أن يكون على شاكلته لا مثل أبيه الذي يهمه العمل والعيش ولا يفكر في الالتحاق بالمقاومة والدفاع عن الوطن . لقد تساوى في رأس المرأة الحياة والموت وحين استشهد أخوها لم ترد التصديق ، ذلك أنه تماثل في تفكيرها مع الإله الحي ، والطريف أن والدة الدكتور نافذ لم تكن المثال الذي اختاره نموذجا لزوجة له ، وأغلب الظن أنها نموذج يعيش في ذهن الروائي أكثر مما يعيش على أرض الواقع ، فإذا ما قارنا بين هذه المرأة والمرأة الفلسطينية في أدبيات فلسطينية أنجزت قبل العام ١٩٨٠ بالكاد نعثر على نموذج نسوي يصل إلى هذا النموذج في الوعي الوطني ، وهنا أشير إلى بعض قصص نجاتي صدقي " حياة بلابسي " وسميرة عزام " خبز الفداء " وفي القصتين صورة للمرأة الفلسطينية المشاركة في العمل الوطني .
في الرواية عموما امرأتان ؛ الأم والزوجة ، وهما نموذجان مختلفان كليا في التعامل مع الحياة ومع القضية الوطنية .
يروي الروايةالفلسطيني نافذ علان الذي التحق قبل هزيمة حزيران ١٩٦٧ بالجيش الأردني وسجن قبل الحرب لإطلاقه النار على ضابط أردني سخر من الفلسطينيين واتهمهم ببيع أرضهم لليهود وهجرانها ، وهم بالتالي لا يستحقونها ، وأن اليهود أحق بها منهم . لم يهادن الفلسطيني ورد على الإهانة بالنار ، ما أدى إلى سجنه . حين تندلع حرب حزيران يتمرد نافذ مع سجناء آخرين ، مطالبين بإطلاق سراحهم حتى يحملوا السلاح ويشاركوا في الحرب ، وفي ظل فوضى الهزيمة يخرج من السجن ومعه سلاح الحراس ، ويتسلل إلى الضفة الغربية وقريته عينابوس لينشيء خلايا فدائية تقاوم الاحتلال الإسرائيلي .
وللدكتور نافذ علان قصة قديمة مع الهزيمة ، فقد أقام والده قبل العام ١٩٤٨ في مدينة حيفا وعمل سائق قطار مع الانجليز وكان محايدا ، ويختلف عنه خال نافذ الذي قاوم الحركة الصهيونية واستشهد دفاعا عن عروبة فلسطين .
في أحداث حيفا في ١٩٤٨ تتنازع العائلة فيما بينها حول الهجرة والبقاء في المدينة ، وفي ظل الفوضى يخرج نافذ مع عمه برا ، وتخرج أمه وإخوته وأخواته عبر الميناء ، ويغرقون في البحر ، فالسلاح الإسرائيلي لاحقهم وأغرق مراكبهم ، وهكذا عاش نافذ مع عمه بلا أسرته الصغيرة وواصل حياته يعاني من الحركة الصهيونية والنظام العربي ويعيش في المنفى في بلدان عربية لم تعامل الفلسطيني باحترام ، عاش هذا النمط من الحياة مقرونا بوعي سياسي وفلسفي ، واضطر أن يتزوج من امرأة بسيطة ريفية تنشد الهدوء والاستقرار ولا تفهم في السياسة ولا تسأل عما هو خارج محيط بيتها .
في عينابوس يؤسس الدكتور الذي مارس الطب الشعبي ، متجولا بين قرى الضفة الغربية ، لقواعد فدائية تسعى لمقاومة المحتل الإسرائيلي .
في أثناء استدعاء الحاكم العسكري لنافذ ليعينه مختارا وليعرض عليه أيضا التعاون مع الاحتلال الديموقراطي (؟) يتغابى الفدائي ويعلن رفضه للمخترة والتعاون ، فهو ينشد حياة هادئة لا تحب التدخل في شؤون الآخرين الذين يختلط بهم بحكم عمله طبيبا مداويا فقط . إن طبيعة المهنة تتطلب منه الاحتكاك بهم ، ولكنه في قرارة نفسه لا يحب معاشرتهم . هكذا يبرر رفضه للمخترة ، علما بأن الحقيقة ليست كذلك .
يكن الدكتور نافذ كراهية عميقة للاحتلال الاسرائيلي وللنظام العربي معا ، فهما المسؤولان عن تشرد عائلته وفقدانه لها ، وعن ضياع فلسطين ولجوء أهلها إلى المنافي ليعانوا فيها التسول والاضطهاد والإذلال ، ولذلك فإنه يتطلع إلى المقاومة ليخلص وطنه وشعبه مما وقعا فيه ، غير مكترث لعدم التوازن في موازين القوى الذي دفع بعض الفدائيين إلى الانسحاب وعدم إكمال النضال ، وبعض الفلسطينيين إلى الهجرة ، أو إلى الخيانة والتعاون مع المحتل.
نافذ علان هو الذي يروي قصة حياته وما جرى معه ، فالرواية في قسمها الأكبر مسرودة بالضمير الأول ؛ ضمير الأنا / الأنا المتكلم - أي أسلوب الترجمة الذاتية ، وإذا عرفنا أن الشخصيات شخصيات حقيقية وأن أحداث الرواية جرت على أرض الواقع حقا ، تبين لنا السبب الذي حدا بالروائي حيدر حيدر إلى توظيف هذا الأسلوب ، كما لو أنه لم يكن له إلا كتابة قصة الشخصية الحقيقية - أي شخصية الدكتور التي تعرفت في المنفى ، بعد خروجها من سجون الأرض المحتلة إلى المنفى ، إلى الكاتب .
الفلسطيني في الرواية لا تختلف صورته عن صورة الفدائي في قصيدة ابراهيم طوقان " الفدائي " ، وكما حفلت أشعار طوقان بنماذج سلبية فلسطينية تراوحت سلبيتها من التخاذل إلى السمسرة والتفريط بالأرض ، فإن الفلسطيني المتخاذل أو الجبان والفلسطيني الخائن يحضرون في الرواية . إن الإبلاغ عن مخازن أسلحة الفدائيين تم من خلال عضو خلية تخاذل ، وإلقاء القبض على الدكتور نافذ تم من خلال المتعاون الشيخ أحمد القطناني الذي خدع المقاوم وسلمه قنبلة فاسدة ليتم القبض عليه .
هذه الصورة للفلسطيني إذا ما قورنت بصورته في رواية اميل حبيبي " المتشائل " تبدو إلى حد بعيد متقاربة .
ومن المؤكد أن قاريء الرواية الذي يعرف أن كاتبها السوري الذي لم يقم في الأرض المحتلة ، ولم يعرف تضاريسها وتاريخها جيدا ، يلحظ تأثير هذا في بعض المواطن ، فمثلا نجده يشير إلى " الحرس الوطني " بعد ١٩٦٧ ، والحرس الوطني تشكل بعد العام ١٩٤٨ وانتهى مع الحكم الأردني للضفة الغربية وحل محل العبارة عبارة " حرس الحدود " وهؤلاء هم جنود من الدروز خدموا في الجيش الإسرائيلي ، عدا أن صورة المكان بدت باهتة ، كما أن كثيرا من شخصيات الرواية غير الشخصية المحورية فيها بدت مجهضة .
إن ما يهمنا هنا على أية حال هو صورة الفلسطيني ، وهي كما ذكرت متنوعة ومتفاوتة ، ولكن الصورة البارزة الغالبة هي شخصية الفدائي في زمن صعود حركة المقاومة التي انبثقت من رحم نكبة وهزيمة - أي نهاية ستينيات القرن العشرين وبداية سبعينياته.
٧ حزيران ٢٠٢٠
في الرواية عموما امرأتان ؛ الأم والزوجة ، وهما نموذجان مختلفان كليا في التعامل مع الحياة ومع القضية الوطنية .
يروي الروايةالفلسطيني نافذ علان الذي التحق قبل هزيمة حزيران ١٩٦٧ بالجيش الأردني وسجن قبل الحرب لإطلاقه النار على ضابط أردني سخر من الفلسطينيين واتهمهم ببيع أرضهم لليهود وهجرانها ، وهم بالتالي لا يستحقونها ، وأن اليهود أحق بها منهم . لم يهادن الفلسطيني ورد على الإهانة بالنار ، ما أدى إلى سجنه . حين تندلع حرب حزيران يتمرد نافذ مع سجناء آخرين ، مطالبين بإطلاق سراحهم حتى يحملوا السلاح ويشاركوا في الحرب ، وفي ظل فوضى الهزيمة يخرج من السجن ومعه سلاح الحراس ، ويتسلل إلى الضفة الغربية وقريته عينابوس لينشيء خلايا فدائية تقاوم الاحتلال الإسرائيلي .
وللدكتور نافذ علان قصة قديمة مع الهزيمة ، فقد أقام والده قبل العام ١٩٤٨ في مدينة حيفا وعمل سائق قطار مع الانجليز وكان محايدا ، ويختلف عنه خال نافذ الذي قاوم الحركة الصهيونية واستشهد دفاعا عن عروبة فلسطين .
في أحداث حيفا في ١٩٤٨ تتنازع العائلة فيما بينها حول الهجرة والبقاء في المدينة ، وفي ظل الفوضى يخرج نافذ مع عمه برا ، وتخرج أمه وإخوته وأخواته عبر الميناء ، ويغرقون في البحر ، فالسلاح الإسرائيلي لاحقهم وأغرق مراكبهم ، وهكذا عاش نافذ مع عمه بلا أسرته الصغيرة وواصل حياته يعاني من الحركة الصهيونية والنظام العربي ويعيش في المنفى في بلدان عربية لم تعامل الفلسطيني باحترام ، عاش هذا النمط من الحياة مقرونا بوعي سياسي وفلسفي ، واضطر أن يتزوج من امرأة بسيطة ريفية تنشد الهدوء والاستقرار ولا تفهم في السياسة ولا تسأل عما هو خارج محيط بيتها .
في عينابوس يؤسس الدكتور الذي مارس الطب الشعبي ، متجولا بين قرى الضفة الغربية ، لقواعد فدائية تسعى لمقاومة المحتل الإسرائيلي .
في أثناء استدعاء الحاكم العسكري لنافذ ليعينه مختارا وليعرض عليه أيضا التعاون مع الاحتلال الديموقراطي (؟) يتغابى الفدائي ويعلن رفضه للمخترة والتعاون ، فهو ينشد حياة هادئة لا تحب التدخل في شؤون الآخرين الذين يختلط بهم بحكم عمله طبيبا مداويا فقط . إن طبيعة المهنة تتطلب منه الاحتكاك بهم ، ولكنه في قرارة نفسه لا يحب معاشرتهم . هكذا يبرر رفضه للمخترة ، علما بأن الحقيقة ليست كذلك .
يكن الدكتور نافذ كراهية عميقة للاحتلال الاسرائيلي وللنظام العربي معا ، فهما المسؤولان عن تشرد عائلته وفقدانه لها ، وعن ضياع فلسطين ولجوء أهلها إلى المنافي ليعانوا فيها التسول والاضطهاد والإذلال ، ولذلك فإنه يتطلع إلى المقاومة ليخلص وطنه وشعبه مما وقعا فيه ، غير مكترث لعدم التوازن في موازين القوى الذي دفع بعض الفدائيين إلى الانسحاب وعدم إكمال النضال ، وبعض الفلسطينيين إلى الهجرة ، أو إلى الخيانة والتعاون مع المحتل.
نافذ علان هو الذي يروي قصة حياته وما جرى معه ، فالرواية في قسمها الأكبر مسرودة بالضمير الأول ؛ ضمير الأنا / الأنا المتكلم - أي أسلوب الترجمة الذاتية ، وإذا عرفنا أن الشخصيات شخصيات حقيقية وأن أحداث الرواية جرت على أرض الواقع حقا ، تبين لنا السبب الذي حدا بالروائي حيدر حيدر إلى توظيف هذا الأسلوب ، كما لو أنه لم يكن له إلا كتابة قصة الشخصية الحقيقية - أي شخصية الدكتور التي تعرفت في المنفى ، بعد خروجها من سجون الأرض المحتلة إلى المنفى ، إلى الكاتب .
الفلسطيني في الرواية لا تختلف صورته عن صورة الفدائي في قصيدة ابراهيم طوقان " الفدائي " ، وكما حفلت أشعار طوقان بنماذج سلبية فلسطينية تراوحت سلبيتها من التخاذل إلى السمسرة والتفريط بالأرض ، فإن الفلسطيني المتخاذل أو الجبان والفلسطيني الخائن يحضرون في الرواية . إن الإبلاغ عن مخازن أسلحة الفدائيين تم من خلال عضو خلية تخاذل ، وإلقاء القبض على الدكتور نافذ تم من خلال المتعاون الشيخ أحمد القطناني الذي خدع المقاوم وسلمه قنبلة فاسدة ليتم القبض عليه .
هذه الصورة للفلسطيني إذا ما قورنت بصورته في رواية اميل حبيبي " المتشائل " تبدو إلى حد بعيد متقاربة .
ومن المؤكد أن قاريء الرواية الذي يعرف أن كاتبها السوري الذي لم يقم في الأرض المحتلة ، ولم يعرف تضاريسها وتاريخها جيدا ، يلحظ تأثير هذا في بعض المواطن ، فمثلا نجده يشير إلى " الحرس الوطني " بعد ١٩٦٧ ، والحرس الوطني تشكل بعد العام ١٩٤٨ وانتهى مع الحكم الأردني للضفة الغربية وحل محل العبارة عبارة " حرس الحدود " وهؤلاء هم جنود من الدروز خدموا في الجيش الإسرائيلي ، عدا أن صورة المكان بدت باهتة ، كما أن كثيرا من شخصيات الرواية غير الشخصية المحورية فيها بدت مجهضة .
إن ما يهمنا هنا على أية حال هو صورة الفلسطيني ، وهي كما ذكرت متنوعة ومتفاوتة ، ولكن الصورة البارزة الغالبة هي شخصية الفدائي في زمن صعود حركة المقاومة التي انبثقت من رحم نكبة وهزيمة - أي نهاية ستينيات القرن العشرين وبداية سبعينياته.
٧ حزيران ٢٠٢٠