شرفات الأمريكان سيرة شكوى ونضال..
باهتمام كبير وعناية فائقة، تماهيت مع مجموعة "شرفات الأمريكان" للأديبة الجزائرية "إلهام بورابة"، ولم أشأ أن أتركها دون تدوين مراجعة وجيزة، لوجوب الاعتراف بمقدرة القاصة على الصياغة والتجديد في مواكبة الموروث الثقافي الذّاتي والاجتماعي، فمجموعتها نفسيّة وحسيّة تتوافق ومتطلبات الرّوح والجسد وصروف الأقدار وكذا العقائد. هذه المجموعة صادرة عن دار أجنحة للنشر والتوزيع سنة 2019. تضمُّ 12 قصة موزعة على ضفاف 75 صفحة. وتعتبر أوّل عمل أدبيّ لها.
استهلّت القاصة "إلهام بورابة" مجموعتها بقصة:
"لأجلك يا قدس". والتي اعتبرتها من منظوري الخاصّ بوابة لولوج كنه إلهام الإنسانة، ومعرفة ماضيها والالتقاء بمحطاتها المختلفة. جرت أحداث هذه القصة بين السيرة الشخصيّة وبين المسار الذي تودُّ البطلة الوصول إليه، يكتنزها كمٌّ كبير من الواقعيّة والاندفاع نحو المستقبل. سردتها إلهام على لسان بطلتها "نعيمة" وهي بمثابة حياة مواكبة بين الحاضر والماضي، وبين الأحلام الجميلة. "نعيمة" المتألّقة التي سعت جاهدة لتحقيق أحلامها وطموحاتها، والتي أصبحت صحفية فيما بعد في قصة موالية، نعيمة هذه الفتاة المُثقلة بارهاصات نفسيّة جرّاء استبداد والدها، أستاذ اللّغة والأدب العربي، فعلى امتداد هذه القصة تتراءى للقارئ عوالم الصبايا الحالمات بغدٍّ مشرق وبهيج. عملت إلهام على إدراج الزّمن الجميل زمن الغناء والطرب، زمن الجرائد والتلفزة الوطنيّة والراديو الذي يبثّ أغاني فيروز. فيروز الصوت الرخيم الذي يسكن الأنثى ويحرّضها على الجنون. تعدّدت الشخصيّات بعد إضافة إلهام للصديقتين "بديعة" و"سلوى" وابنتها "نهى" كذلك. فكانت حاذقة ومبهرة للغاية في هذه القصة، إذ أنها غاصت بسردها السلس إلى حقبة مصحوبة بالصدق والثراء الثقافي والمعرفي.
ومن ذاك الشّجن الخالص انتقلت بنا إلى القصة الثانية "بطل للحياة" والتي تغيّرت فيها جذريًّا نمطية الحكي والسرد، حيث اكتفت إلهام بالظِّل واختارت الراوي الرّحال لينوب عنها في الشخصيّة المنتقاة لروايته البطل "ليون الإفريقي الثاني"، وبهذا الأسلوب المغاير نعيش مشاهدًا درامية للرّحال وشخصيات روايته التي تتخضّب بين الأوراق الصفراء المنثورة في صحراء الجزائر، جعلت إلهام من هذه القصة ما يشبه الاعتراف بجرائم فرنسا. تلك التي ارتكبتها في حقّ الشعب الجزائري خاصة التفجيرات النووية التي تسببت بندوب وعاهات وتشوّهات وخراب نفسيّ للكثير. رسخت هذه القصة في ذاتي. حتّى أنّني أطلقت عليها اسم القصة "اللغز" لأنّي اصدمت بطيف "نعيمة" بناءً على ما سبق أو خُيّل لي ذلك..!
ومنها نلّج إلى القصة الثالثة المعنونة ب: "في جُبَّةِ جدِّي... جنيّة"، والتي استعرضت إلهام من خلالها، معطياتها الإبداعيّة المترابطة وأماكنها المعلومة والمُعتادة، بالكثير من الدّهاء والفطنة والخيال والتشويق، الجميل في سردها أنّها تجعل القارئ يتعاطى أجواءها النفسية ويلمس وجودها في الجزء المغيّب أيضًا. فاتّخذت من الجد،ّ والجدّة، والأمّ شخصيات بارزة، وأردفت الشخصيّة الوهميّة المتمثلة في جنيّة النّهر "كركارة". قدّمت هذه القصة في أربعة صفحات، لكنّها بمثابة بداية لرواية أو سلسلة من قصص الأساطير والخرافات. أعجبتني الفكرة وطريقة طرحها لموضوع السحر والعالم الآخر، بطريقة لم تنقطع فيها صلّتها بالأرض والوطن أيضًا. فهي بمثابة حلٍّ لقصة اللّغز التي وردت قبل قليل. وهنا نجد أنّ إلهام تميل كثيرًا إلى بيئتها، وتعود بنا إلى بداياتها التي تبلورت بين طفولة حالمة ومراهقة خلّاقة وشقيّة في الآن ذاته.
لتأتي في المرتبة الرابعة قصة "المعبد"، وتعود معها من جديد الصحفية "نعيمة الحلزون". تلك التي ظلّت تواكب أخبار الوطن، وكبار الصحفيين والفدائيين، وتكرّر سيّرهم وبطولاتهم في الصمود والنضال، سواء بالكلمة أو بالسلاح، فوق الأرض أو تحتها، على السطح أو في الأنفاق المظلمة. هذه القصة قويّة وايحائيّة جدًّا غير أنّها سلكت نهاية غير متوقّعة.
واعتمادًا على الحالات المعيشيّة، والنفسيّة والاجتماعية والاقتصادية، تنوّعت الطقوس السرديّة للشخصيات. فنلاحظ في القصة الخامسة "حياة" خروج القاصة إلهام بورابة من الجوّ المشحون والمكهرب، وصولاً إلى حياتها الخاصة، والتي استحضرت فيها والدها كشخصيّة رئيسيّة. اعتزازًا به وبمهنته، وامتنانا للإنسانيّة كذلك. غلب على هذه القصة أسلوب الحوار واحتشدت بالأسئلة الكثيرة، التي برعت القاصة في تأثيثها بشكل مذهل. وذلك بالرّجوع إلى أجواء "قسمطينة" الراسخة في لواعجها، والمحمولة في عمق كيانها، والمزدحمة في شوارع قلبها.
ولأنّ الحياة هي الأمّ الزّهرة العطرة والشجرة والمباركة عن سائر العالمين. احتفت إلهام بوالدتها في القصة السادسة "أمّي... حَبّة البركة" أين تآلفت الأجساد والأرواح بالحنان والعطف والتضحية. ويطلّ وجه "نعيمة" مرّة أخرى، تلك التي تورطت فيها الكاتبة والتبست بها بشكل بارز ومحسوس.
ويستمر الاسترسال في مدِّ جسور راسخة وضاربة في تاريخ "قسمطينة". هذا التتابع الوجدانيّ الجليّ في القصة السابعة "مالك الحزين". أن تحبّ الاستثناء مالك حدّاد معناه أن تهتدي لعالم سابح في ملكوت المعنى، ومتسع على صدق العاطفة والإحساس. كتبت إلهام "مالك حدّاد" بسرد شاعري مفتوح على تساؤلات أدبيّة وإنسانيّة وتاريخيّة متدفّقة، وأبرزت في كشف الصراع الجسدي والنفسي للذّات الكاتبة، لأنّها لم تبرح بعد عالم "نعيمة" أو بالأحرى عالمها هي، ذاك العالم المُطلّ من "شرفات الأمريكان" القصة الثامنة. والتي اختارتها كعنوان رئيسيّ للمجموعة ككلّ، وما تزال "نعيمة" تتسلَّق مجرى السرد. وتواصل امتدادها ونبشها وحفرها في الحياة الكاملة للساردة. هذه القصة مستفيضة بالإيقاع والتلاحم الإنسانيّ النبيل. ومنه عُرضت علينا مسيرة خالتي "حورية" الآتيّة من بلاد الشاوية، التي تعمل بوّابة للعمارة المفتُوحة على حيّين راقيين ألَّا وهما: "نهج السيّدات" و "شاطئ 304". راقتني هذه القصة كثيرًا لأنّها ارتبطت بحقبة زمنيّة كانت الحياة فيها أشبه بالمدرسة الحرّة، نظير الرّقيّ، والانتساب لجيل ابن باديس والانفتاح على علمه وعمله وحداثته.
نودّع الشرفات لنعانق بنفس النسق القصة التاسعة :
"غدا... التقينا". القصة الملازمة لحياة الكاتبة، وإن صحَّ التعبير هي سرد لسيرة مقتضبة للبطلة "حوّاء الحلوّة" والتي ما تزال "نعيمة" تقترن بها وتشاركها محطات الرضّى والمعارضة، الفرح والحزن، الأمل والخذلان، الاتساع والضيق، التأقلم والضياع. لترمي بنا إلهام إلى حقائق الأشياء، وجوهرها الأصل. وتدعونا للتفاعل مع عذابات الإنسان باعتباره وقود الحياة والمعنى الأسمى للوجود.
وبالعودة إلى الاغتراب والتشتت والانفصام تتباين لنا القصة العاشرة "عقيقُ الشّمس" وتظهر من أُفقها البطلة "ندى" ابنة الشاعر، "ندى" المُحاطة بالشعر والأناشيد والأهازيج والتغريدات. فمن بداية القصة إلى نهايتها كانت إلهام ترفل في حشد سرديّ كبير من المُكابدة والشقاء.
تقول إلهام:
"غادرت سيرتا وأنا أقسم يمين اللّه بأنّي لن أعاودها، وأرض اللّه الواسعة عانقت قسمي، وأسكنتني فسيحها. وهبتني خبزا مدسوس فيه سمّ الجفاء والغربة".
فيا لكمية هاته الاستغاضة والحسرة المُترامية ها هنا. والتي حقّقت بها مناجاتها وسلواها، رغم أنّها قصة مُثقلة بالأسى، إلَّا أنّها سلتنا للاستماع إلى الحوار الداخليّ للكاتبة من عديد الزّوايا. وفهم مِحنْ وصراعات المرأة التي جاءت بدلاً عنها أيّ عن "نعيمة" ذاتها التي لا تتجزَّأ منها في أغلب القصص.
وصولاً إلى قصة "اسم الطفلة.. صدقة" التي عالجت حياة لاجئة مالية تقضي يومها متسكّعة في شوارع المدينة طلبًا لبعض المال والرأفة، قصة تعج بقضية إنسانيّة بالغة الحساسيّة، شأنها شأن القصة التّالية: " من افريقيا... أناديك يا وطني" أحسست أنّهما قصتين شاملتين لحياة واحدة، وجنس واحد، هو الأنثى دون سواها، الأنثى التي تعيش في بيئة قاسية، الأنثى التي تشهد قهرها وخرابها على مرأى منها، الأنثى التي تحمل على عاتقها هموم الآخرين. الأنثى القابعة في قصص الأدب والتاريخ البشريّ كوشم لا يُمحى ولا يزول من الصفحات.
"شرفات الأمريكان" سيرة البحث المستمر. أقل ما يُقال عنها أنّها قيمة أدبيّة مُضافة لجنس القصة القصيرة، وتستحقُّ القراءة، والتأمّل، والدراسة. لاختلافها وتفرّدها وتميّزها وإبرازها لقضايا حياتيّة غُيِّبت في المجموعات الأخرى. فألف شكر وتقدير للأديبة "إلهام بورابة" التي أعادت للقصة القصيرة مجدها في الجزائر.
يقول الروائي والكاتب المسرحي
"وليام سومرست موم": (إذا كان باستطاعتك أن تخبر القصص وتخلق الشخصيات وتبتكر الأحداث بشفافية وصدق، ليس المهمّ حينها كيف تكتب).
(فلتكتبي يا إلهام، أنت رائعة.. أنت استثناء).
(*) جريدة: الجديد الثقافية - الجزائر
..............................................
https://www.facebook.com/photo.php?...caJTF1MOmt31grk5hP4p-vNu8WHQV68tVHRZoWB3I5ZrM
باهتمام كبير وعناية فائقة، تماهيت مع مجموعة "شرفات الأمريكان" للأديبة الجزائرية "إلهام بورابة"، ولم أشأ أن أتركها دون تدوين مراجعة وجيزة، لوجوب الاعتراف بمقدرة القاصة على الصياغة والتجديد في مواكبة الموروث الثقافي الذّاتي والاجتماعي، فمجموعتها نفسيّة وحسيّة تتوافق ومتطلبات الرّوح والجسد وصروف الأقدار وكذا العقائد. هذه المجموعة صادرة عن دار أجنحة للنشر والتوزيع سنة 2019. تضمُّ 12 قصة موزعة على ضفاف 75 صفحة. وتعتبر أوّل عمل أدبيّ لها.
استهلّت القاصة "إلهام بورابة" مجموعتها بقصة:
"لأجلك يا قدس". والتي اعتبرتها من منظوري الخاصّ بوابة لولوج كنه إلهام الإنسانة، ومعرفة ماضيها والالتقاء بمحطاتها المختلفة. جرت أحداث هذه القصة بين السيرة الشخصيّة وبين المسار الذي تودُّ البطلة الوصول إليه، يكتنزها كمٌّ كبير من الواقعيّة والاندفاع نحو المستقبل. سردتها إلهام على لسان بطلتها "نعيمة" وهي بمثابة حياة مواكبة بين الحاضر والماضي، وبين الأحلام الجميلة. "نعيمة" المتألّقة التي سعت جاهدة لتحقيق أحلامها وطموحاتها، والتي أصبحت صحفية فيما بعد في قصة موالية، نعيمة هذه الفتاة المُثقلة بارهاصات نفسيّة جرّاء استبداد والدها، أستاذ اللّغة والأدب العربي، فعلى امتداد هذه القصة تتراءى للقارئ عوالم الصبايا الحالمات بغدٍّ مشرق وبهيج. عملت إلهام على إدراج الزّمن الجميل زمن الغناء والطرب، زمن الجرائد والتلفزة الوطنيّة والراديو الذي يبثّ أغاني فيروز. فيروز الصوت الرخيم الذي يسكن الأنثى ويحرّضها على الجنون. تعدّدت الشخصيّات بعد إضافة إلهام للصديقتين "بديعة" و"سلوى" وابنتها "نهى" كذلك. فكانت حاذقة ومبهرة للغاية في هذه القصة، إذ أنها غاصت بسردها السلس إلى حقبة مصحوبة بالصدق والثراء الثقافي والمعرفي.
ومن ذاك الشّجن الخالص انتقلت بنا إلى القصة الثانية "بطل للحياة" والتي تغيّرت فيها جذريًّا نمطية الحكي والسرد، حيث اكتفت إلهام بالظِّل واختارت الراوي الرّحال لينوب عنها في الشخصيّة المنتقاة لروايته البطل "ليون الإفريقي الثاني"، وبهذا الأسلوب المغاير نعيش مشاهدًا درامية للرّحال وشخصيات روايته التي تتخضّب بين الأوراق الصفراء المنثورة في صحراء الجزائر، جعلت إلهام من هذه القصة ما يشبه الاعتراف بجرائم فرنسا. تلك التي ارتكبتها في حقّ الشعب الجزائري خاصة التفجيرات النووية التي تسببت بندوب وعاهات وتشوّهات وخراب نفسيّ للكثير. رسخت هذه القصة في ذاتي. حتّى أنّني أطلقت عليها اسم القصة "اللغز" لأنّي اصدمت بطيف "نعيمة" بناءً على ما سبق أو خُيّل لي ذلك..!
ومنها نلّج إلى القصة الثالثة المعنونة ب: "في جُبَّةِ جدِّي... جنيّة"، والتي استعرضت إلهام من خلالها، معطياتها الإبداعيّة المترابطة وأماكنها المعلومة والمُعتادة، بالكثير من الدّهاء والفطنة والخيال والتشويق، الجميل في سردها أنّها تجعل القارئ يتعاطى أجواءها النفسية ويلمس وجودها في الجزء المغيّب أيضًا. فاتّخذت من الجد،ّ والجدّة، والأمّ شخصيات بارزة، وأردفت الشخصيّة الوهميّة المتمثلة في جنيّة النّهر "كركارة". قدّمت هذه القصة في أربعة صفحات، لكنّها بمثابة بداية لرواية أو سلسلة من قصص الأساطير والخرافات. أعجبتني الفكرة وطريقة طرحها لموضوع السحر والعالم الآخر، بطريقة لم تنقطع فيها صلّتها بالأرض والوطن أيضًا. فهي بمثابة حلٍّ لقصة اللّغز التي وردت قبل قليل. وهنا نجد أنّ إلهام تميل كثيرًا إلى بيئتها، وتعود بنا إلى بداياتها التي تبلورت بين طفولة حالمة ومراهقة خلّاقة وشقيّة في الآن ذاته.
لتأتي في المرتبة الرابعة قصة "المعبد"، وتعود معها من جديد الصحفية "نعيمة الحلزون". تلك التي ظلّت تواكب أخبار الوطن، وكبار الصحفيين والفدائيين، وتكرّر سيّرهم وبطولاتهم في الصمود والنضال، سواء بالكلمة أو بالسلاح، فوق الأرض أو تحتها، على السطح أو في الأنفاق المظلمة. هذه القصة قويّة وايحائيّة جدًّا غير أنّها سلكت نهاية غير متوقّعة.
واعتمادًا على الحالات المعيشيّة، والنفسيّة والاجتماعية والاقتصادية، تنوّعت الطقوس السرديّة للشخصيات. فنلاحظ في القصة الخامسة "حياة" خروج القاصة إلهام بورابة من الجوّ المشحون والمكهرب، وصولاً إلى حياتها الخاصة، والتي استحضرت فيها والدها كشخصيّة رئيسيّة. اعتزازًا به وبمهنته، وامتنانا للإنسانيّة كذلك. غلب على هذه القصة أسلوب الحوار واحتشدت بالأسئلة الكثيرة، التي برعت القاصة في تأثيثها بشكل مذهل. وذلك بالرّجوع إلى أجواء "قسمطينة" الراسخة في لواعجها، والمحمولة في عمق كيانها، والمزدحمة في شوارع قلبها.
ولأنّ الحياة هي الأمّ الزّهرة العطرة والشجرة والمباركة عن سائر العالمين. احتفت إلهام بوالدتها في القصة السادسة "أمّي... حَبّة البركة" أين تآلفت الأجساد والأرواح بالحنان والعطف والتضحية. ويطلّ وجه "نعيمة" مرّة أخرى، تلك التي تورطت فيها الكاتبة والتبست بها بشكل بارز ومحسوس.
ويستمر الاسترسال في مدِّ جسور راسخة وضاربة في تاريخ "قسمطينة". هذا التتابع الوجدانيّ الجليّ في القصة السابعة "مالك الحزين". أن تحبّ الاستثناء مالك حدّاد معناه أن تهتدي لعالم سابح في ملكوت المعنى، ومتسع على صدق العاطفة والإحساس. كتبت إلهام "مالك حدّاد" بسرد شاعري مفتوح على تساؤلات أدبيّة وإنسانيّة وتاريخيّة متدفّقة، وأبرزت في كشف الصراع الجسدي والنفسي للذّات الكاتبة، لأنّها لم تبرح بعد عالم "نعيمة" أو بالأحرى عالمها هي، ذاك العالم المُطلّ من "شرفات الأمريكان" القصة الثامنة. والتي اختارتها كعنوان رئيسيّ للمجموعة ككلّ، وما تزال "نعيمة" تتسلَّق مجرى السرد. وتواصل امتدادها ونبشها وحفرها في الحياة الكاملة للساردة. هذه القصة مستفيضة بالإيقاع والتلاحم الإنسانيّ النبيل. ومنه عُرضت علينا مسيرة خالتي "حورية" الآتيّة من بلاد الشاوية، التي تعمل بوّابة للعمارة المفتُوحة على حيّين راقيين ألَّا وهما: "نهج السيّدات" و "شاطئ 304". راقتني هذه القصة كثيرًا لأنّها ارتبطت بحقبة زمنيّة كانت الحياة فيها أشبه بالمدرسة الحرّة، نظير الرّقيّ، والانتساب لجيل ابن باديس والانفتاح على علمه وعمله وحداثته.
نودّع الشرفات لنعانق بنفس النسق القصة التاسعة :
"غدا... التقينا". القصة الملازمة لحياة الكاتبة، وإن صحَّ التعبير هي سرد لسيرة مقتضبة للبطلة "حوّاء الحلوّة" والتي ما تزال "نعيمة" تقترن بها وتشاركها محطات الرضّى والمعارضة، الفرح والحزن، الأمل والخذلان، الاتساع والضيق، التأقلم والضياع. لترمي بنا إلهام إلى حقائق الأشياء، وجوهرها الأصل. وتدعونا للتفاعل مع عذابات الإنسان باعتباره وقود الحياة والمعنى الأسمى للوجود.
وبالعودة إلى الاغتراب والتشتت والانفصام تتباين لنا القصة العاشرة "عقيقُ الشّمس" وتظهر من أُفقها البطلة "ندى" ابنة الشاعر، "ندى" المُحاطة بالشعر والأناشيد والأهازيج والتغريدات. فمن بداية القصة إلى نهايتها كانت إلهام ترفل في حشد سرديّ كبير من المُكابدة والشقاء.
تقول إلهام:
"غادرت سيرتا وأنا أقسم يمين اللّه بأنّي لن أعاودها، وأرض اللّه الواسعة عانقت قسمي، وأسكنتني فسيحها. وهبتني خبزا مدسوس فيه سمّ الجفاء والغربة".
فيا لكمية هاته الاستغاضة والحسرة المُترامية ها هنا. والتي حقّقت بها مناجاتها وسلواها، رغم أنّها قصة مُثقلة بالأسى، إلَّا أنّها سلتنا للاستماع إلى الحوار الداخليّ للكاتبة من عديد الزّوايا. وفهم مِحنْ وصراعات المرأة التي جاءت بدلاً عنها أيّ عن "نعيمة" ذاتها التي لا تتجزَّأ منها في أغلب القصص.
وصولاً إلى قصة "اسم الطفلة.. صدقة" التي عالجت حياة لاجئة مالية تقضي يومها متسكّعة في شوارع المدينة طلبًا لبعض المال والرأفة، قصة تعج بقضية إنسانيّة بالغة الحساسيّة، شأنها شأن القصة التّالية: " من افريقيا... أناديك يا وطني" أحسست أنّهما قصتين شاملتين لحياة واحدة، وجنس واحد، هو الأنثى دون سواها، الأنثى التي تعيش في بيئة قاسية، الأنثى التي تشهد قهرها وخرابها على مرأى منها، الأنثى التي تحمل على عاتقها هموم الآخرين. الأنثى القابعة في قصص الأدب والتاريخ البشريّ كوشم لا يُمحى ولا يزول من الصفحات.
"شرفات الأمريكان" سيرة البحث المستمر. أقل ما يُقال عنها أنّها قيمة أدبيّة مُضافة لجنس القصة القصيرة، وتستحقُّ القراءة، والتأمّل، والدراسة. لاختلافها وتفرّدها وتميّزها وإبرازها لقضايا حياتيّة غُيِّبت في المجموعات الأخرى. فألف شكر وتقدير للأديبة "إلهام بورابة" التي أعادت للقصة القصيرة مجدها في الجزائر.
يقول الروائي والكاتب المسرحي
"وليام سومرست موم": (إذا كان باستطاعتك أن تخبر القصص وتخلق الشخصيات وتبتكر الأحداث بشفافية وصدق، ليس المهمّ حينها كيف تكتب).
(فلتكتبي يا إلهام، أنت رائعة.. أنت استثناء).
(*) جريدة: الجديد الثقافية - الجزائر
..............................................
https://www.facebook.com/photo.php?...caJTF1MOmt31grk5hP4p-vNu8WHQV68tVHRZoWB3I5ZrM