عبد الرحيم التوراني - أوراق متناثرة من الذاكرة.. حول صديقي الشاعر أحمد الجوماري

في بداية التسعينيات من القرن الماضي، كنت أقيم في مدينة الرباط، اكتريت بيتا واسعا يمتد على مساحة طابق أرضي كامل من فيلا بحي النهضة، حي بعيد يقع على أطراف العاصمة، خلف أحياء السويسي والتقدم ومابيلا واليوسفية. لكني لم أكن سعيدا بإقامتي الرباطية.
ومثل المنتمين إلى الدارالبيضاء، كنت في خصام موروث مع الاستقرار في الرباط، التي كنا نصفها نحن البيضاويون ب"الْمَقْناطة"، أي أنها مدينة تبعث على القنط والضيق النفسي، ونصف أهلها ب"مسلمين الرباط" إمعانا في الهزء بهم وبمكرهم وببخلهم. ربما لكونها مدينة تعيش على إيقاع رتابة بيروقراطية قاتلة ناتجة عن قدرها مدينة إدارية مركزية وعاصمة سياسية. بخلاف الدار البيضاء المدينة التي تنهض وتنام على الصخب والحركة والنشاط بمعانيه المختلفة، القريبة والبعيدة، مدينة سيدي بليوط المفتوحة والمنفتحة على جميع المغاربة من كل الأقاليم والأرجاء، الدار البيضاء هي القاموس الضخم للدارجة المغربية، الدارجة الحية المتحركة بشكل دائم، ومرجل وتيرموميتر التحولات التي تقع بالبلاد، الدار البيضاء هي المختبر الأنثروبولوجي الأكبر للمغرب الأصيل والحداثي في آن واحد.
لذلك، كنت ما أن تحل نهاية الأسبوع ويطل مساء الجمعة، حتى أشد الرحال إلى مدينتي، و"لا بد من الدار البيضاء ولن يطول السفر". ومع بعض التحوير لبيت شاعر العرب في كل الأزمنة والعصور، أبو الطيب المتنبي، أردد مدندنا على تفعيلة قصيدته الهجائية ضد كافور بيتا في مدح الدار البيضاء، وأقول مع القائلين:
[أمّا الأحِبّةُ فالبَيْضاءُ مسْكنَهُمُ *** فَلَيتَ كل الأحبّة سكنوا البيضاء]
كنت لا أعود إلى عملي بالعاصمة إلا في صباح مبكر من يوم الاثنين الموالي.
لكني لم أعرف كيف قررت البقاء في نهاية أسبوع من أسابيع شهر يناير 1995.
بقيت في الرباط ذلك الويكند، لكن عقلي كان هناك في المدينة التي وصفها أحد أساطير الحلقة الشعبية المرحوم اخليفة ب"كويزة لعزيزة".
حوالي منتصف النهار جلست مع كتاب في صالون البيت، قرأت صفحات منه دون أن أستوعب ما قرأته. مرت لحظات قمت بعدها بخلع قميصي، وتمددت عاريا على بلاطة أرضية الصالون رابطا ذراعي إلى جسدي كالميت. إلى أن جاء من نهاني وحذرني من انتقال برودة البلاط إلى عظامي، فنهضت. ولم أجد حينها تفسيرا لهذا.
في صباح الغد، ذهبت إلى العمل، حملت جرائد اليوم أتصفحها، وكانت أول جريدة وقعت بين يدي هي يومية "الاتحاد الاشتراكي"، كم كانت مفاجأتي كبيرة وأنا أرى صورة كبيرة وضعت على أربعة أعمدة يسارا، بأعلى الصفحة الأولى، كانت صورة صديقي الحميم الشاعر أحمد الجوماري، وفوقها عنوان بالبنط العريض ينعيه. لم أعرف كيف وصلت من الرباط إلى الدار البيضاء وإلى زنقة مون بلان بالمعاريف حيث شقة الراحل الجوماري، وجدت أرملته عائشة وكريم، عانقتها وبكيت بكاء مرا، إلى اليوم ظلت معي حسرة لا تفسير لها، عدم حضوري لمراسيم تشييع صديقي أحمد الجوماري. قال لي يومها صديقنا أحمد المديني لم نعرف كيف نتصل بك لنخبرك، ولم يكن لدي هاتف ثابث، والهاتف النقال كان في بداية دخوله إلى المغرب وسعر الاشتراك به ليس في المتناول.
بعدها سأعلم أنه في تلك الساعة التي قمت فيها بذلك التصرف الغريب، بالتمدد عاريا على أرض الصالون العارية، هي نفس التوقيت الذي كان يدلون فيه جثمان صديقي الجوماري في القبر.
سألت عمن جاء وعمن لم يجئ من الأصدقاء، أتذكر أن أحمد المديني كان غاضبا من صديقنا محمد زفزاف، قال لي عنه: وصل زفزاف وانصرف سريعا ولم ينتظر تشييع جنازة الفقيد.
لقد أثار محمد زفزاف الجميع بقدومه المتأخر وهروبه السريع. جاء من زنقة "ليستلير" الملتصقة تماما بزنقة الجوماري، زنقة "مون بلان". صعد مؤلف "محاولة عيش" إلى شقة المرحوم، قدم واجب العزاء بكلمات متقطعة ومتلعثمة، ثم غادر كهارب ليختفى في شقته.
لم يلتفت أي منا إلى "فوبيا الموت" التي كانت تنتاب زفزاف عند وفاة صديق أو قريب، وسأدرك ذلك لاحقا وأعرفه من زفزاف شخصيا.
***
قبل وفاته بأقل من أسبوعين التقيت بأحمد الجوماري، وجلسنا في مقهى بشارع ابراهيم الروداني، كان اسمه "كاب 2000"، هي نفس المقهى التي اجتمعنا فيها مرات مع الراحل أحمد المجاطي، الذي كان يحافظ على زيارة صديقه الجوماري في المعاريف.
أذكر أن الجوماري كان مثل طفل صغير، في حالة مرح وسعادة، هو الذي لا ينفتح بسهولة على غير الأصدقاء الحميميين، وهم قلة، أعتز بكوني كنت واحدا منهم.
مما بقي عالقا بذاكرتي، أنه أخبرني عن السهرة التي أسعدته قبل يومين صحبة صديقنا إدريس الخوري. وصل بّا دريس من الرباط حيث يقيم، على غير موعد، وقد اعتاد زيارة حي المعاريف للالتقاء بالأصدقاء، وفي مقدمتهم محمد زفزاف وأحمد الجوماري ومحمد الشيخي ومصطفى عزمي وأحمد زكي وكاتب هذه السطور.
أخبرني الجوماري أنه قضى وقتا ممتعا مع صاحب "الأيام والليالي" في المعاريف، قبل أن ينتقلا مساء إلى فضاء مدار مرس السلطان عند "مدام غيران".
قال لي: "رغم السهر إلى وقت متأخر فأنا لم أحس بأي عارض سلبي".
لا زلت أتذكر ابتسامته الجميلة، وهو يعلق على جولته تلك، بكون صحته وقلبه احتمل ذلك التعب الطويل والسهر. قال لي: "ما طرا ليا والو..".
ومن أين لي أن أعلم أنه سيكون آخر لقاء سيجمعني بصديقي الشاعر؟!!
رغم أني أعرف أنه كان يعاني من داء القلب، وبسبب ذلك أقام فترة بمصحة "بوليكلينيك" درب غلف، وفرض عليه اتباع وصفة دواء دائمة.
و كتب صديقنا أحمد صبري كلمة حزينة رقيقة بمناسبة دخول الجوماري المستشفى، في الصفحة الأخيرة لصحيفة "الاتحاد الاشتراكي".
مرات كنت أجول مع السي أحمد حي المعاريف نبحث عن صيدلية تحتفظ في مخازنها بنوع الدواء الذي يتناوله، وكان يحدث أن ينسى اقتناء الدواء في الوقت المناسب.
مرة، وكان يوم أحد، لا تفتح فيه إلا صيدليات الحراسة، لم نجد دواءه، فخفت عليه، قلت له:
- ماذا ستفعل الآن؟
نظر إلي ورد علي سؤالي:
- ماذا علي أن أعمل..؟ ليس أمامي إلا انتظار الصباح.
***
وصف لي صديقنا المرحوم مصطفى المسناوي، وكان من أصهاره، ونحن نتحدث عن وفاة صديقنا السي أحمد الجوماري، أن ما أقدم عليه صاحب "أشعار في الحب والموت"، من سهر طويل، ومن تجاوز لقدراته الصحية، ولتعليمات الطبيب ونصائحه، يمكن تفسيره بأن الواحد لما يدرك أن الموت أقرب إليه ويهدده باستمرار، ويكون قد مر من تجربة رأى فيها الموت ولامسه، يشتغل لا وعيه الباطن بتحدي الحالة، فيتقدم صوب الموت كفارس شجاع لا يهابه. هو شيء يشبه الانتحار.
***
كان يوم أحد من شهر يناير 1995. غادر أحمد الجوماري شقته ذلك الصباح ومشى خطوات صوب كشك الجرائد، اقتنى صحيفته المفضلة، ثم اتجه إلى مقهى "موزار"، المحاذية لمبنى البريد بشارع بير أنزران. طلب فنجان قهوة وأخذ يتسلى بقراءة العناوين التي بين يديه. أما السيجارة فقد اضطر للإقلاع عنها اتباعا لنصائح الطبيب، وكان من قبل مدخنا مدمنا للتبغ الأسود، وبالتحديد سجائر "أولمبيك" الحمراء.
وجاء من سيقتحم عليه وحدته ويقلقه، أحد المنتمين لهيأة التدريس، من ساكنة الحي. والجوماري إنسان محب للعزلة والتأمل. جلس الرجل بجانبه من غير دعوة وانخرط في ثرثرة وترهات لم يحتملها الشاعر، انتابه غضب داخلي كبير. فوقف مغادرا المقهى، تاركا فنجان القهوة والجريدة على الطاولة، ليعود مباشرة إلى بيته بالطابق الأول من عمارة قديمة بزنقة مون بلان (ابن فارس حاليا). نبضات قلبه تدق وتخفق بقوة متسارعة. كانت الساعة تشير إلى حوالي الواحدة زوالا. جلس على الكنبة وتناول الهاتف ليكلم صديقه البنكي محمد أبو القاسم، يطلب منه المجيء لأخذه بسيارته إلى المصحة. فجأة انقطعت المكالمة في بدايتها وسقطت سماعة الهاتف من يد الشاعر. لتعلو صرخة مدوية هزت أركان البيت، من شريكة حياته السيدة الفاضلة عائشة وكريم، والدة وحيدهما يونس، وكان وقتها يتابع دراسته في الاتحاد السوفياتي، فلم يتسن له حضور مراسيم تشييع جنازة والده.
تم الاتصال بالأهل وبالأصدقاء، وكان الناقد إدريس الناقوري أول من حضر لبيت العزاء بعد إذاعة نعي الشاعر أحمد الجوماري في القناة الثانية، ووصل أبو القاسم ومصطفى المسناوي، وأحمد المديني وعلى الأجديري وأحمد زكي وعبد الفتاح السعدي وغيرهم.
***
أحمد الجوماري رجل حيي وخجول، لا تفارقه سمات حزن دفين، لا يجالس إلا من يرتاح لمجالسته. رجل كريم، لما وصل زفزاف إلى الدار البيضاء أقام ببيته أشهرا قبل أن يكتري شقة بنفس الحي. وقد أكرمت عائشة وكريم مثواه، هي التي حكت لي عن الأصل الوزاني لمحمد زفزاف، الذي ينسب إلى مدينة سوق الأربعاء أو مدينة القنيطرة حيث قضى سنوات من طفولته وشبابه الأول بهاتين المدينتين، وزفزاف هو من حدث عائشة وكريم عن كون أصله من مدينة وزان.
***
كان أدباء ومثقفو المغرب يقصدون المعاريف بحثا عن زفزاف والجوماري، لكن علاقة الصديقين لم تكن دائما سمنا على عسل، كانت تفسدها النميمة والملاسنات والمشاحانات أحيانا، يظنهما من يراهما خصمين عدوين، لكنه سيفاجأ عندما يراهما في اليوم الموالي جالسين على رصيف المقهى يدخنان ويشربان القهوة ويتضاحكان.
***
مرة كنت مع أحمد الجوماري نجلس في حانة بشارع ابراهيم الروداني بالمعاريف، حانة نسيت الآن اسمها، وقد اندثرت وأصبح فضاؤها وكالة بنكية، لكننا كنا نسميها حانة "أريناس"، كانت تديرها سيدة اسبانية قصيرة القامة، مسربلة على الدوام كراهبة في السواد، حزنا حد الموت على خطيبها الذي رحل في حادث مروري، وكان يساعدها أخوها ميشيل أريناس. حين التفت إلى السي أحمد ولامني على تقديم بعض الخدمات لزفزاف، وبلغ به الأمر أن استفزني بكلمة، قبل أن يقدم الاعتذار. كان يجرب أن ينهيني عن التوقف على تقديم أي خدمة لزفزاف. في الغد كنا نجتمع الثلاثة الجوماري وزفزاف وأنا مع صديق شمالي، اسمه عيسى، نسهر في شقته العارية تقريبا، فوق العمارة التي كانت تحتها حانة أريناس، وكأن شيئا لم يحدث.
لكن أشهد أن منافسة باطنية، لا أعرف كيف يمكن تسميتها، كانت بين زفزاف والجوماري، كان محمد زفزاف يتطوع لتحرير عمود أسبوعي ب"المحرر" تحت عنوان "كلمة"، وكنت أنا من أمر عليه لأخذ "العمود" وأوصله إلى الجريدة التي أشتغل بها، فطلب مني أحمد الجوماري تخصيص ركن له كل أسبوع في "المحرر"، وكذلك كان، صار أحمد الجوماري ينشر كل خميس قصيدة قصيرة بالصفحة الأخيرة.
أتذكر أنه طلب مني أن أنشر مع القصيدة صورته الشخصية، وأعطاني نسخة من صورة صغيرة له بالأسود والأبيض، وسألني هل من الممكن أن تخرج الصورة بالظلال، على غرار الصورة التي يظهر فيها الثائر الأرجنتيني تشي غيفارا. (وقد اقام تشي غيفارا فترة بالمعاريف بشكل سري، كما أوضحت ذلك في مقال سابق)، وبالفعل كان للجوماري ما أراد، تظهر صورته الغيفارية الشكل مرفقة بقصائده كل خميس.
ووجدتني وسط علاقة غريبة بين الصديقين اللدودين، فامتنعت عن توصيل "كلمة" محمد زفزاف، وبعدها اضطر صاحب "الشجرة المقدسة" إلى مكاتبة الجريدة بواسطة البريد برسالة اطلعت عليها ولازلت أحتفظ بها، يشكو فيها مني للجريدة.
***
علاقة إدريس الخوري بأحمد الجوماري كانت شبيهة بعلاقة بّادريس مع زفزاف، فيها مد وجزر، كم قضينا من السهرات ببيت الجوماري وأتعبنا زوجته عائشة. مرة وكنا نجلس بمقهى "الصحراء" في شارع الروداني، اقتنينا من بائع متجول بعض الكاسيطات، ومنها كاسيط للمغني الشعبي سليم الهلالي، وفي سهرة الليل ببيت الجوماري شغلنا الكاسيط وغنينا وأعدنا الاستمتاع ب "العين الزرقا". كان بّادريس يكعكع، والجوماري وأنا نكعكع وراءه مرتين، مرة على كلام الأغنية وتحليله السيميولوجي لكلماتها، ومرة ثانية على الأسلوب الساخر لبّادريس.
وكان بادريس لما يخاصم الجوماري يسخر منه ويصفه ب "شاعر الجلبانة"، ويتلقاها الجوماري منه ضاحكا كأنها قيلت في آخر.
من الأصدقاء الذين كنا نجتمع معهم، أحمد زكي، موظف جمركي، من أبناء الحي المحمدي، الحي الذي يتحدر منه الجوماري. كان أحمد زكي مثقفا ويكتب شعرا باللغتين الفرنسية والعربية، لكن شعره العربي كان يتبع فيه أوزان الخليل الفراهيدي، وقد نشرت له "المحرر" و"الاتحاد الاشتراكي" بعضها بتوقيع أبو أيوب، منها قصيدة حول حرب الخليج، لكن أشهر قصائده واحدة غير منشورة عن رواد البارات في الدار البيضاء، يهجوهم هجاء يجعلك تضحك مع كل بيت في القصيدة. يقول مطلعها "بنو هلال عربدوا.."، وكان الخوري يحفظها هو وصديقنا الدكتور محمد طروس.
أيضا واحد آخر من أبناء الحي المحمدي كان يجيء بانتظام إلى المعاريف للقاء صديقه أحمد الجوماري، وهو الأستاذ عبد الفتاح السعدي. لما يجيء عبد الفتاح كان يتحاور ويضحك مع ابن حيه وصاحبه القديم الشاعر بكلام وبنكت لم أكن أسايرها، وكنت أجدها قديمة. كان عبد الفتاح يهرب بالجوماري ويأخذه مني إلى ذكريات بعيدة مشتركة بينهما.
مرة رافقنا عبد الفتاح السعدي، الجوماري وأنا، في ساعة متأخرة من الليل إلى عمارة عالية، المصعد بها معطل، مع ذلك صعدنا أكثر من ثمانية أوعشرة طوابق، لا أذكر بالتحديد، طرقنا باب شقة ففتح لنا محمود ابن أخ عبد الفتاح، وقضينا السهرة في الطرب والغناء، عندما حمل ابن محمود آلة العود وغنى لنا بعض المقطوعات الشرقية، كما حدثنا عن الفن الغنائي الشعبي المغربي، وعن الفنان الشعبي الحسين السلاوي و"سرقاته الصغيرة" من الألحان الشرقية، مثل لحنه في أغنية "يا موجة غني".. ولم يكن ابن أخ عبد الفتاح سوى الفنان الراحل محمود السعدي أحد مؤسسي الظاهرة الغيوانية، إذ قبل مشاركته كعازف ضمن مجموعة جيل جيلالة، كان محمود السعدي من مؤسسي ناس الغيوان، قبل أن يتم استبداله بالفنان علال يعلى. أما العمارة التي كان يقطن بها فهي عمارة روماني 1 بشارع دانطون (بير أنزران حاليا)، وقد ظل سكانها يعيشون لسنوات من دون ماء ولا كهرباء بسبب خلافات مع شركة توزيع الماء والكهرباء.
***
مرة توصلت ببطاقة بريدية (لا زالت في أرشيفي الخاص) من بغداد عليها صورة "كهرمانة" أرسلها إلي أحمد الجوماري يحكي لي فيها باختصارعن مقامه بعاصمة الرشيد وقد سافر إليها للمشاركة في مهرجان المربد الشهير، وكتب فيها بالدارجة: "المقالعية هنا على الجهد"، وكان يعني الانتهازيين من الوفد المغربي وسواهم من ضيوف المهرجان العرب.
***
استضاف الجوماري ببيته بعض المثقفين والفنانين ممن كانوا يزورون المغرب، منهم رسام الكاريكاتور المصري المشهور بهجت عثمان، وقد أنجز خلال تواجده بالمغرب رسوما حول مواضيع مغربية تم نشرها بالصفحة الأولى لجريدة "المحرر"، كما رسم رسمة بورتريه للطفل يونس ابن الجوماري.
وزاره أيضا الكاتب العراقي الكبير جمعة اللامي، الذي اتصل بي من إقامته بالشارقة يعزيني في وفاة أرملة الجوماري، طالبا مني إبلاغ عزائه ليونس الجوماري وعائلته.
وقد سبق للصديق جمعة اللامي أن كتب في نص عاشق عن صديقه المغربي تحت عنوان: "
" اعراس طنجة ــ كان الوقت مغربيا"، مما جاء فيه:
أحمد الجوماري ، الشاعر الذي تعذبه ذاكرته يعيش في شقة بحي " معاريف " الذي كان سابقا سكنا للطليان والأسبان بالدار البيضاء ، هذا المناضل ــ نعم المناضل ، منغمر في الشعر و افتكار الوطن ، وهو يطرق ناظراً إلى أرضية غرفته يأتيك صوته كما لو أنه يستدير إلى العالم بظهره : إنه في تضاد مع الخيانة، خيانة اللغة ، خيانة الثقافة المحنطة ، خيانة الأمكنة عندما تكف عن أن تكون ذات حضور نحو الجمال والفن والخير : الخلاصُ في الشعر.
عندما غاب الجوماري لدقائق خارج المنزل من أجل أن يبتاع لنا نبيذاً ، طلبت مني السيدة عائشة ـ زوجته ، أن أُمضي تلك الظعيرة مع احمد .
ــ " أحمد فرحان بك . انه يتكلم الان ، هذه أمنية ، كان يجد شيئا من الفرح في المقهى ، والآن مقاهينا ترهات . وفي المنزل يكون هو الوحدة ".
ــ " اليك بهذا .ّ . قدم أحمد لي " شريط كاسيت " سجل عليه بعض أشعاره بصوته ، عندما عاد الى غرفته الصغيرة .
يريد الجوماري من الشعر ، أجمل مما تهبه الاحلام العظيمة لإنسان يريد ان يكون حراً.
ــ " أحلم في هواء أبيض ، في علاقات بيضاء ، في صداقة بيضاء ، إن كل ما هو حولنا يخنقنا ". قال احمد الجوماري ، وهو يقدم لي كاس نبيذ وطنياً أحمر، حين شاهدت شبحاً يشبه عيسى لحظة صلبه ، ينادي علينا : ايها الرفاق ، لا تتركوني وحييدا! .
ــ " بدأتُ أخشى عليه من هذه الوحدة". قالت عاشة.
كنا الثلاثة : محمد زفزاف ، ادريس الخوري وأنا ، قد هبطنا عليه في بيته ــ بينما كانت الطائرة السعودية التي ستقلني الى دبي ستقلع بعد نحو ثلاث ساعات . وفي غرفة استقبال ضيقة ، وعلى مائدة مفعمة بالتقاليد المغربية كان الجوماري إنسانا وشاعرا ، يتكثف ليصير كلمة واحدة : الشعر والحرية).
(الجوماري : الشعر والحرية، 18 نوفمبر 1984).
***
***
قبل وفاته بأسابيع قليلة حدث لأحمد الجوماري شنآن مع مدير إعدادية ابن طفيل حيث كان مدرسا للغة العربية. أراد المدير أن يفرض على الأستاذ العودة إلى التدريس بالقسم، بعد أن انتقل إلى مكلف بالمكتبة. لقد أصبح التدريس بالقسم يرهقه العمل بحكم ظروفه الصحية.
و لم يستسغ المدير رفض أحمد الجوماري.
***
كان السي أحمد الجوماري إنسانا شديد الحساسية، يسكن صدره قلب متمرد وملتهب بالأحاسيس الثائرة، دائم التأمل إلى حد الوجوم، لكنه يفرض على الآخر احترامه ومهابته.
ومن الأسباب التي عجلت بموته، الإهمال الذي قوبل به من طرف اتحاد كتاب المغرب، عندما احتضن المغرب المؤتمر العام لاتحاد الأدباء العرب بالدار البيضاء، فلما نظم المهرجان العربي للشعر على هامش المؤتمر، تم إقصاء أحمد الجوماري، فيما استدعي من هم أقل منه مرتبة وأدنى موهبة شعرية. والمهرجان كان بالمعاريف على بعد أمتار من بيته. لم يحضر الجوماري المهرجان ولاذ ببيته ليلتها يكابد حزنه.
***
بعد غياب طال، قام الشاعر أحمد المجاطي بزيارة مفاجئة لصديقه الجوماري، قال المجاطي لصاحب "أشعار في الحب والموت": "توحشتك يا أخي... لقد اشتقت إليك وجئت لأراك". وبقي الرجلان معا الوقت كله، بل أن المجاطي قضى ليلته في المعاريف ببيت الجوماري. يذكر ابنه يونس الجوماري أنهما "ظلا جنبا إلى جنب يتحادثان طيلة الجزء الأكبر من الليل". أسبوعا بعدها سيرحل أحمد الجوماري عن دنيانا.
وبعد ذلك بفترة قليلة سيسقط صاحب "الفروسية" مريضا ويترجل ليلتحق بصديقه.
***
كان الجوماري شديد الافتخار بانتمائه للحي المحمدي بالدار البيضاء، عاشقا للشعر والحرية، وذا أذن موسيقية، يتغنى بأغاني وألحان محمد عبد الوهاب ومحمد عبد المطلب وسليم الهلالي وأحمد البيضاوي، ولما ظهرت مجموعة "ناس الغيوان" أحب أغانيها وموسيقاها المستنبتة من التراث الشعبي.
***
من أصدقاء أحمد الجوماري المقربين، أذكر: الكاتب محمد زفزاف، والأستاذ عبد الفتاح السعدي (عم نجم مجموعة جيل جيلالة محمود السعدي)، والجمركي الأديب أحمد الزاكي، والإطار البنكي محمد أبو القاسم، والأديب مصطفى المسناوي (وجمعتهما أيضا مصاهرة)، والقاص إدريس الخوري، والشاعر أحمد المجاطي، والشاعر أحمد بنميمون والقاص البشير جمكار، والكاتب أحمد المديني، والقاص أحمد بوزفور والصحفي عبد الرحيم التوراني.
أما الشاعر محمد الشيخي، وكما ذكرت المرحومة عائشة وكريم زوجة الراحل الجوماري، فكانت خلال إقامة الجوماري بالمستشفى بعد وعكته الصحية، تصادف دائما الشيخي عنده جالسا جنبه، كلما ذهبت لزيارة زوجها.
ومن الشعراء المغاربة الأقرب إلى قلبه، أذكر الشاعر محمد بنطلحة، وكان ينبهني إلى قصائد صاحب "ليتني أعمى" عندما تنشر بالملحق الثقافي ل"المحرر" أو "الاتحاد"...
كان بيت الجوماري محجا للمثقفين المغاربة، وقد استقبل أيضا مثقفين وفنانين عربا كما أسلفت الذكر.
***
كان الجوماري يساريا تقدميا، ربطته علاقات مع الاتحاديين، وكذلك مع مناضلي اليسار الجديد، ومنهم صديقه المعتقل السياسي السابق (منظمة 23 مارس) والمنظر علال الأزهر. وكانت له علاقة خاصة بالاتحادي مصطفى القرشاوي، وقد كتب الجوماري قصيدة بعنوان "إلى والدي مع حبي " أيام اعتقال القرشاوي في السبعينيات من القرن الماضي، كما كتب قصائد عديدة حول اختطاف المناضل المهدي بنبركة، واغتيال المناضل الشهيد عمر بنجلون، وقصيدة حول الاعتقال الشهير للمناضل النقابي محمد نوبير الأموي في مستهل التسعينيات، لما اعتقل وحوكم بسبب استجوابه الشهير مع صحيفة :الباييس" الاسبانية ووصف الوزراء باللصوص و"المينكانطيس".
***
أول استجواب في الستينيات أجري مع اللاعب محمد بوعسة، الشهير باسم بؤاسا، لاعب فريق الطاس (الاتحاد البيضاوي) والمنتخب الوطني لكرة القدم، تم بسطح منزل الجوماري بدرب مولاي الشريف في الحي المحمدي، وكان بحضور صحفي شاب اسمه: إدريس الخوري.
***
أحمد الجوماري من مواليد سنة 1939 بالحي المحمدي بالدار البيضاء، تابع دراسته الابتدائية بمدرسة الاتحاد الحرة، ثم تلقى تعليمه الثانوي بمدرسة الفقيه محمد المختار السوسي. حصل على الشهادة الثانوية بكلية بن يوسف بمراكش سنة 1957، ثم انخرط في سلك التعليم الابتدائي بمدينة الجديدة، ثم الثانوي بالدار البيضاء، بثانوية غاندي وبعدها ثانوية ابن طفيل.
أولى قصائده نشرت بجريدة "التحرير" سنة 1959 بعنوان "خواطر".
إلى جانب نهمه للقراءة، كان شغوفا بكرة القدم، ومن عشاق ومحبي فريق "الطاس" الاتحاد البيضاوي الذي كان والده السي محمد الجوماري من مسيريه.
"الشعر ككل فن خلاق مهمته أن يغوص في عوالم النفس الإنسانية، ويستكنه خفاياها، ويبشر بأفراحها"، هكذا كان يرى الجوماري مهمة الشعر.
***
صدر للشاعر أحمد الجوماري ديوانين، "أشعار في الحب والموت" و"أوراق الليل"، وأعتز تمام الاعتزاز بدوري في صدورهما، وهو ما يشهد به أحمد الجوماري في الإهداء الذي خصني به.
أعلى