مرة نشرت في جريدة الأيام مقالا عنوانه " رسائل امرأة مجهولة " ، وثانية نشرت تحت العنوان نفسه في موقع " رمان " الالكتروني . وللكتابة في المرتين قصة .
كانت تأتيني في المرتين رسائل بلفونية من جهة مجهولة تختفي وراءها أنثى ترفض الإفصاح عن نفسها وكنت أحيانا كثيرة " ألاحق العيار لباب الدار " فأرد عليها ، وغالبا ما كنت أرد بأدب جم ، ثم مللت وملت المرسلة وتوقفت الرسائل التي فرغتها وصغتها في مقالين .
الرسائل هذه ليست الرسائل الوحيدة التي كانت تكتب إلي ، فقد تواصلت معي فتيات معروفات الاسم وكتبن لفترة طويلة ، ومرة قلت لأحداهن إنني سأوظف رسائلك في نص أدبي إن لم يكن لديك مانع ، وسألتها عن رأيها ، طالبا موافقتها ، فما اعترضت إن كان ما سأكتبه نصا أدبيا - أي إن وظفت الرسائل لإنجاز نص أدبي ، وقد فرغت رسائلها وإلى الآن لم أنجز النص الأدبي .
تذكرت تلك الرسائل وأنا أتابع الضجة التي أثارها مقال سليم بركات " أنا ومحمود درويش " ، وتذكرت قصة طويلة للكاتب الألماني ( اشتيفان زفايج ) عنوانها " رسالة من امرأة مجهولة " ( Brief einer Unbekannten ) ، فالسر الذي أعلنه بركات وبدا غريبا في مجتمعنا العربي ، صاغه الكاتب الألماني في قصة .
في ٢٢ أيلول ١٩٨٩ اشتريت الأعمال القصصية الكاملة ل ( زفايج ) ، فقد صدرت معا ، في ٩٩٦ صفحة ، عن دار نشر " فيشر " ( Fischer ) تكريما للكاتب ، وبيعت بسعر زهيد يشجع الجمهور على اقتنائها ، وبلغ في حينه عشرة ماركات - أي ما يعادل عشرين شيكلا .
في تلك الأيام كانت عائلتي غادرت ألمانيا عائدة إلى عمان وصار لدي فائض من الوقت يسمح لي بإنفاق بعض الوقت في قراءة نصوص أدبية غير النصوص التي أقرأها لإنجاز رسالة الدكتوراه .
ما إن اشتريت الأعمال القصصية ل ( زفايج ) حتى بادرت بقراءة قصة " رسالة من امرأة مجهولة " ، وإن كانت طالبة ألمانية ، تدرس الاستشراق ، اقترحت علي أن أقرأ قصة " لعبة الشطرنج " ( Schachnovelle ) و " ليلة ساحرة ( Phantastische Nacht ) .
وظلت فكرة القصة التي قرأتها في ذاكرتي ، وكنت وظفتها مرة في روايتي " الوطن عندما يخون " ١٩٩٦ ، ثم غابت عن ذهني إلى أن ألحت علي مؤخرا ، فاقترحت على بعض الكتاب قراءتها وفعلوا وتأثروا بها .
تحكي القصة التي تقع في حدود مائة صفحة ، وكتبت بأسلوب الرسالة ، فكانت المرأة هي المؤلف الضمني ، و ( زفايج ) هو الكاتب الحقيقي ، تحكي على لسان المرأة قصتها وقصة الكاتب الكبير .
أقام الكاتب الكبير علاقة جنسية عابرة مع المرأة أسفرت عن ولادة طفل ، ولم تعلم الأم الكاتب بالأمر ، فهي لا تريد أن تزعجه ، ثم مرض الطفل وأوشكت على الموت ، فاحتارت الأم في أمرها ووقعت في الحيرة : أتخبر الكاتب بما يلم بطفله وتشغله عن كتابته التي تفرغ لها أم تتركه يكتب ؟
وتكتب الأم رسالة مؤثرة جدا .
كنت مرة اعتمدت على مقولة ل ( يونغ ) يبدي فيها رأيه في الأعمال الأدبية حيث يرى أنها صدى لأساطير عريقة تتردد في حياة البشر ، ف " هاملت " ل ( شكسبير ) و " السراب " لنجيب محفوظ تعالجان فكرة قديمة ظهرت في الأسطورة . هنا أسطورة " أوديب " التي كتبها الكاتب الإغريقي .
هل ما كتبه سليم بركات عن محمود درويش ، وما كتبه ( زفايج ) ليس إلا إعادة صياغة لأسطورة قديمة مثلا تتردد في حياة البشر ؟
ربما بالغت في الأمر !
ما كنت أرغب في الخوض في مقال سليم بركات والسر الذي أفشاه ، فأقام الدنيا ولما يقعدها ، وسئلت لأبدي رأيي ، بل وطلب مني أن أكتب مقالا في الموضوع .
شخصيا لم أنشغل بصدق الخبر أو كذبه ، قدر انشغالي بموقف المناهج النقدية من التطرق لحياة الكاتب الشخصية .
يمكن هنا الإشارة إلى ثلاثة مناهج تجيز ذلك وتعتمد حياة الكاتب الشخصية في دراسة أدبه ، فالمنهج الوضعي لا يفصل بين المؤلف ونصه ، والمنهج النفسي لدى قسم من أتباعه ، مثل ( ادموند ولسون ) يدرس سيرة الأديب ويعتمد عليها في تفسير أثاره ، ولا يختلف المنهج الاجتماعي الماركسي الذي يدرس سيرة الكاتب ، منطلقا لدراسة أعماله ومواقفه وسلوكه .
وتختلف عن هذه المناهج المناهج النصية التي لا تكترث لحياة الأديب ، فما يعنيها بالدرجة الأولى هو نصه وجمالياته وترابط أجزائه .
كان الناقد العربي اللبناني ميخائيل نعيمة في كتابه " الغربال " كتب مقالا عنوانه " الغربلة " أتى فيه على موقف الناقد من حياة الكاتب ، ورأى أن من حق الكاتب أن يعيش ملاكا أو شيطانا ، فهذا شأنه الخاص ، وما يهم الناقد هو نص الكاتب .
شخصيا أرى أن السر الذي أفشاه بركات قد يفيدنا في إعادة قراءة كتابات درويش وتفسيرها وفق مناهج لم تطبق حتى الآن في دراسة حياته وأعماله وأهمها - أي المناهج - هو المنهج النفسي ، والأمر ينسحب أيضا على سميح القاسم .
الجمعة والسبت
١٢ و١٣ حزيران ٢٠٢٠
كانت تأتيني في المرتين رسائل بلفونية من جهة مجهولة تختفي وراءها أنثى ترفض الإفصاح عن نفسها وكنت أحيانا كثيرة " ألاحق العيار لباب الدار " فأرد عليها ، وغالبا ما كنت أرد بأدب جم ، ثم مللت وملت المرسلة وتوقفت الرسائل التي فرغتها وصغتها في مقالين .
الرسائل هذه ليست الرسائل الوحيدة التي كانت تكتب إلي ، فقد تواصلت معي فتيات معروفات الاسم وكتبن لفترة طويلة ، ومرة قلت لأحداهن إنني سأوظف رسائلك في نص أدبي إن لم يكن لديك مانع ، وسألتها عن رأيها ، طالبا موافقتها ، فما اعترضت إن كان ما سأكتبه نصا أدبيا - أي إن وظفت الرسائل لإنجاز نص أدبي ، وقد فرغت رسائلها وإلى الآن لم أنجز النص الأدبي .
تذكرت تلك الرسائل وأنا أتابع الضجة التي أثارها مقال سليم بركات " أنا ومحمود درويش " ، وتذكرت قصة طويلة للكاتب الألماني ( اشتيفان زفايج ) عنوانها " رسالة من امرأة مجهولة " ( Brief einer Unbekannten ) ، فالسر الذي أعلنه بركات وبدا غريبا في مجتمعنا العربي ، صاغه الكاتب الألماني في قصة .
في ٢٢ أيلول ١٩٨٩ اشتريت الأعمال القصصية الكاملة ل ( زفايج ) ، فقد صدرت معا ، في ٩٩٦ صفحة ، عن دار نشر " فيشر " ( Fischer ) تكريما للكاتب ، وبيعت بسعر زهيد يشجع الجمهور على اقتنائها ، وبلغ في حينه عشرة ماركات - أي ما يعادل عشرين شيكلا .
في تلك الأيام كانت عائلتي غادرت ألمانيا عائدة إلى عمان وصار لدي فائض من الوقت يسمح لي بإنفاق بعض الوقت في قراءة نصوص أدبية غير النصوص التي أقرأها لإنجاز رسالة الدكتوراه .
ما إن اشتريت الأعمال القصصية ل ( زفايج ) حتى بادرت بقراءة قصة " رسالة من امرأة مجهولة " ، وإن كانت طالبة ألمانية ، تدرس الاستشراق ، اقترحت علي أن أقرأ قصة " لعبة الشطرنج " ( Schachnovelle ) و " ليلة ساحرة ( Phantastische Nacht ) .
وظلت فكرة القصة التي قرأتها في ذاكرتي ، وكنت وظفتها مرة في روايتي " الوطن عندما يخون " ١٩٩٦ ، ثم غابت عن ذهني إلى أن ألحت علي مؤخرا ، فاقترحت على بعض الكتاب قراءتها وفعلوا وتأثروا بها .
تحكي القصة التي تقع في حدود مائة صفحة ، وكتبت بأسلوب الرسالة ، فكانت المرأة هي المؤلف الضمني ، و ( زفايج ) هو الكاتب الحقيقي ، تحكي على لسان المرأة قصتها وقصة الكاتب الكبير .
أقام الكاتب الكبير علاقة جنسية عابرة مع المرأة أسفرت عن ولادة طفل ، ولم تعلم الأم الكاتب بالأمر ، فهي لا تريد أن تزعجه ، ثم مرض الطفل وأوشكت على الموت ، فاحتارت الأم في أمرها ووقعت في الحيرة : أتخبر الكاتب بما يلم بطفله وتشغله عن كتابته التي تفرغ لها أم تتركه يكتب ؟
وتكتب الأم رسالة مؤثرة جدا .
كنت مرة اعتمدت على مقولة ل ( يونغ ) يبدي فيها رأيه في الأعمال الأدبية حيث يرى أنها صدى لأساطير عريقة تتردد في حياة البشر ، ف " هاملت " ل ( شكسبير ) و " السراب " لنجيب محفوظ تعالجان فكرة قديمة ظهرت في الأسطورة . هنا أسطورة " أوديب " التي كتبها الكاتب الإغريقي .
هل ما كتبه سليم بركات عن محمود درويش ، وما كتبه ( زفايج ) ليس إلا إعادة صياغة لأسطورة قديمة مثلا تتردد في حياة البشر ؟
ربما بالغت في الأمر !
ما كنت أرغب في الخوض في مقال سليم بركات والسر الذي أفشاه ، فأقام الدنيا ولما يقعدها ، وسئلت لأبدي رأيي ، بل وطلب مني أن أكتب مقالا في الموضوع .
شخصيا لم أنشغل بصدق الخبر أو كذبه ، قدر انشغالي بموقف المناهج النقدية من التطرق لحياة الكاتب الشخصية .
يمكن هنا الإشارة إلى ثلاثة مناهج تجيز ذلك وتعتمد حياة الكاتب الشخصية في دراسة أدبه ، فالمنهج الوضعي لا يفصل بين المؤلف ونصه ، والمنهج النفسي لدى قسم من أتباعه ، مثل ( ادموند ولسون ) يدرس سيرة الأديب ويعتمد عليها في تفسير أثاره ، ولا يختلف المنهج الاجتماعي الماركسي الذي يدرس سيرة الكاتب ، منطلقا لدراسة أعماله ومواقفه وسلوكه .
وتختلف عن هذه المناهج المناهج النصية التي لا تكترث لحياة الأديب ، فما يعنيها بالدرجة الأولى هو نصه وجمالياته وترابط أجزائه .
كان الناقد العربي اللبناني ميخائيل نعيمة في كتابه " الغربال " كتب مقالا عنوانه " الغربلة " أتى فيه على موقف الناقد من حياة الكاتب ، ورأى أن من حق الكاتب أن يعيش ملاكا أو شيطانا ، فهذا شأنه الخاص ، وما يهم الناقد هو نص الكاتب .
شخصيا أرى أن السر الذي أفشاه بركات قد يفيدنا في إعادة قراءة كتابات درويش وتفسيرها وفق مناهج لم تطبق حتى الآن في دراسة حياته وأعماله وأهمها - أي المناهج - هو المنهج النفسي ، والأمر ينسحب أيضا على سميح القاسم .
الجمعة والسبت
١٢ و١٣ حزيران ٢٠٢٠