أحمد شحيمط - في النزعة الإنسانية

ظل الإنسان في الفكر الفلسفي والاجتماعي ذلك الكائن العاقل والمفكر الذي يصبغ المعنى على الأشياء، وينتج المعرفة ويغير من الحقيقة التي تحيل على التطابق بين الفكر وذاته، وبين الفكر وعالم الأشياء والموضوعات الخارجية ، الإنسان مقياس كل الأشياء حسب السفسطائيون، والنجاح العملي وتعلم فنون القول والخطابة أفضل من المبادئ النظرية الصرفة. القضية المركزية في الفكر السفسطائي هو الإنسان، وليس الطبيعة، ومبدأ القول أن الفضيلة شيء يُكتسب ويتعلم(1)، في إكساب الفرد مجموعة من المكتسبات، تندرج ضمن الثقافة السائدة التي كان الفرد مقياسا للمعرفة وللحقيقة، ومعيارا للرأي الصائب. هذا التحول في دلالة الإنسان وفي بعده الذاتي المعرفي والأخلاقي والاجتماعي، سيهيمن على الفكر الإنساني في لحظات فلسفية مختلفة، من إنسان عصر النهضة، وإنسان عصر الأنوار، والإنسان في الفكر الإسلامي، وإنسان المعرفة والإنتاج الفكري في العصر الحديث. في قلب اللحظات الفكرية الكبرى تبلورت النزعة الإنسانية التي اعتبرت الإنسان كائن مفكر ومحور الأشياء، والقادر على إنتاج المعرفة، وتغيير الأشياء بالإرادة الحرة، والفاعلية الذاتية، عندما يمتلك المعرفة وقوة الإرادة. فالنزعة الإنسانية رؤية شخصية متنوعة المستويات والمجالات، من المجال الأدبي والسياسي والفلسفي والاجتماعي. الحركة الإنسية (الإنسانية )عرفت نفسها بأنها حركة تحرير للإنسان عن طريق اكتشاف القيم الأخلاقية والفكرية المطمورة في الأدبيات الإغريقية– اللاتينية، وتعديلها لكي تتأقلم مع الحاجات الجديدة(2). يطبع هذا العصر التفاؤل بمنجزات الإنسان وقدرته في تحويل الطبيعة، وتطويعها، وإرغامها في الامتثال للإنسان بوصفه الكائن الفاعل والمنتج، والمبدع الذي بدأت معالمه تتشكل من سياق معرفي بديل عن مرحلة القرون الوسطى، وهيمنة الكنيسة والفكر اليقيني، والرؤية اللاهوتية للعالم والحياة الاجتماعية، وذاك السياج المحكم على سلطة العقل من خلال التقاليد، واكتساح رجال الدين للخطاب الموجه للجماهير الواسعة .النزعة الإنسانية من خصائصها انتشال الإنسان من الاستعباد والاسترقاق والاغتراب، وعودة الإنسان من جديد في كرامته وإنسانيته، ضد القوى الخارقة وفكر القرون الوسطى، الذي جعل من الإنسان يركن إلى ظواهر الأشياء، ويصدقها ويتوهم أنه عرفها بمجرد أنه رآها، ولم يكن يفكر في تفكيكها أو تشريحها لكي يتوصل إلى حقيقتها.كان يعتقد بإمكانية التوصل إلى الحقيقة الكاملة والمعرفة المليئة عن العالم بمجرد قراءة النصوص(3)، بالمعنى الدقيق أن النزعة الإنسانية التي تبلورت في عصر النهضة جعلت من الإنسان غاية وليس وسيلة، ورفعت من مكانة الإنسان ككائن يمتلك من مقومات الإبداع ما يمكنه أن يغير العالم والأشياء .

النزعة الإنسانية هو التيار الفكري والثقافي العام والشامل الذي شمل ميادين الفنون والآداب والفلسفة، والذي انطلق في البداية من ايطاليا في عصر النهضة ليعم بعد ذلك كثيرا من البلاد الأوروبية خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر(4)،كانت هذه النزعة الإنسانية في عصر النهضة بمثابة صيحة جديدة في عالم التفكير، والإقلاع عن منطق القدماء، لهذا كانت العودة من قبل الإنسانيين للتراث اليوناني واللاتيني، في مجال العودة البحث عن الإرث القيمي والحضاري، الذي تجلى في الحضارتين اليونانية والرومانية، والنقد للفلسفة المدرسية التي كان همها التوفيق بين المسيحية والفلسفة اليونانية. فالإنسانيون كانوا متمردين واعين بذلك سواء من المهتمين بالبحث العلمي أم بالفلسفة أم بالفن أم بالأدب، وهم محدثون للغاية في إدراكهم بأنهم في ثورة ضد آبائهم، رجال العصور الوسطى(5)، نسف القيم والمذاهب المغلقة لإنارة الطريق أمام ثورة جديدة في بناء المعرفة، ونهضة مبنية وفق صورة تمنح القدرة والقوة للكائن الإنساني الفعال، ورفع شعار: "لا سلطة تعلو فوق سلطة العقل"، والحرية أساس الإبداع والتغيير، والعودة للأصول لإعادة ترتيب العلاقة بين الإنسان والطبيعة من جهة، والإنساني والإلهي من جهة أخرى. وتكون العودة للوراء للبناء والتفكير في كيفية تأصيل وبعث الإرث السابق من الحضارتين اليونانية والرومانية . فقد كان الغزو متبادلا بينهما، في الجانب العسكري من قبل روما، وفي المستويات الفلسفية والأدبية والفكرية من قبل اليونان كذلك، الغرب ليس إلا نتيجة للتفاعل بين الحضارات، عصارة الإنتاج الإنساني يستثمر لإعادة بناء عصر بتصورات وأفكار، أو بأيديولوجية مغايرة تترك هامشا كبيرا للطاقات الإبداعية والخيال البشري في إنتاج المفيد والحقيقي، وإذا رمنا القول أن تأثيرات النزعة الإنسانية كان قويا في الفكر الفلسفي الحديث من منطلق فكري وسياسي واجتماعي . آليات جديدة في البناء المعرفي، حيث وضعت الفلسفة الحديثة سؤالا فلسفيا جوهريا، كيف تبنى المعرفة ؟وما حدودها ؟ تلك الأسئلة التي تبلورت مع ديكارت واسبينوزا وهيوم وكانط عن المعرفة، وشروط بنائها، وقوة العقل في استنباطها. النهضة الأوروبية نتاج للانفصال بين الفكر الوسيط والنزعة الجديدة السائدة كخلاص الإنسان من القوى المفارقة ، ونزعة الإنسان نحو تأصيل المعرفة بمثابة انقلاب الفكر نحو أفق جديدة، جاءت الأفكار وليدة مسارات منها السياسي والفكري، وأفضى العصر إلى تحولات وقطائع معرفية ومنهجية في ولادة السياسة بالقواعد الجديدة، والعلم بنظريات ومناهج انتهت لانقلاب كامل على أسس الفكر الأرسطي .

إن النزعة الإنسانية هي ذلك الجهد الذي يبدله الإنسان لكي ينمي في داخله وبواسطة النظام الصارم والمنهجي كل الطاقات البشرية، فلا يترك شيئا يضيع مما يعظم الإنسان ويمجده(6)،الإنسان بالمعاني السامية يستمر في المراحل اللاحقة، ويسمو بالملكات، والنزوع الشديد نحو المعرفة، وتملك الطبيعة والسيطرة عليها ، طموح ديكارت وفرانسيس بيكون، وأصحاب النزعة العلمية التجريبية في العلوم الوضعية، التي وضعت الإنسان الغربي في مكان الصدارة لما تنطوي عليه المعرفة من سلطة . وزاد من إشاعة النزعة الإنسانية ثقافة عصر الأنوار في القرنين السابع عشر والثامن عشر في رفع الوصاية عن العقل، وفتح المجال للفاعلية النقدية، والفصل بين الأخلاق والسياسة من خلال رؤية جديدة للعلاقة بين الأخلاقي والمعرفي، والدعوة لرفع الوصاية عن الإنسان حتى يمتلك الجرأة والقدرة في استعمال العقل . أول سمة تكوينية لفكر الأنوار تتمثل في جعلنا نفضل ما نختاره، ونقرره بأنفسنا على ما تفرضه علينا سلطة خارجة عن إرادتنا ، هو إذن اختيار ذو وجهين : وجه نقدي وآخر تكويني، فمن ناحية يجب عدم الخضوع لكل وصاية مفروضة على البشر من خارج إرادتهم، ومن ناحية أخرى ينبغي الانقياد طوعا للقوانين والقيم والقواعد المرغوب فيها(7)، مشروع الأنوار تأسس وفق منطق الغائية والاستقلالية الذاتية، ومفهوم الكونية، معايير وأسس النزعة الذاتية التي تروم أن يكون الإنسان أسمى الموجودات، الكائن الإنساني باعتباره عقلا وفكرا ووعيا وذات أخلاقية، يسمو فوق جميع الكائنات بالفهم والكرامة كقيمة مطلقة . يحمل الإنسان في ذاته الحقائق الثابتة يكفي أن يتأملها . فكل ما في الطبيعة والإنسان من قوانين تعتبر مبادئ للانتظام، والسيرورة تحدد الغاية من الوجود الإنساني، ومبدأ الطبيعة، والحق الطبيعي الذي يخول أن يتصرف الإنسان وفق أسس ثابتة تمنحه مكانة سامية. كل شيء في الطبيعة يخضع لقوانين،الكائن العاقل وحده هو الذي يملك المقدرة على السلوك بحسب تصور القوانين، أي بحسب مبادئ، أو بعبارة أخرى، هو الكائن الذي يملك الإرادة لذلك، ولما كان العقل مطلوبا لأجل استنباط الأفعال من القوانين، فليست الإرادة سوى عقل عملي(8)، قوانين ذاتية نابعة من الإرادة المشرعة للفعل الأخلاقي، ونابعة من قيمة النقد المسلط على المعرفة في سلطة ما، غير سلطة العقل، والمبادئ التي تعني أن ما في الطبيعة من قوانين يوجد في الإنسان كذلك. بواعث النزعة الإنسانية في عصر الأنوار، بين الميل الراديكالي نحو الإنعتاق من الفكر المنغلق، وبين تنوير الأذهان بالممكن في سماء التحرر والاستقلالية، وتقوية مناعة الفرد في واقع كلي يروم أن تنهض الجماعة، وترفع الوصاية عن الأفكار الجامدة والمكبلة للعقل. كل عصر تنبثق منه أسئلة مشروعة عن واقع الحال، والدواعي التي قامت عليه الأفكار الجديدة، تراكمات الماضي الإنساني من تاريخ الأفكار، وترسبات الفكر السابق من الأسباب التي دفعت الإنسان في ترسيخ فكر مضاد، والإعلاء أكثر من النزعة الإنسانية. فحرية الفرد أساسية، وعقلانية المجتمع قضية لا تحتمل التجاوز، وكونية المبادئ التي جاءت بها فلسفة الأنوار تقتضي الانتشار والتعميم . وكونية المبادئ نابعة من الذات والنقد للمعرفة .

يكتسي الإنسان قيمة فكرية وأخلاقية، وليس قيمة نفعية أو مبتذلة حسب كانط، حيث وضع الفيلسوف مبادئ للتعامل مع الإنسان كغاية في ذاته ينتمي إلى مملكة الغايات، وليس مجرد وسيلة. افعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك، وفي شخص كل إنسان سواك بوصفها دائما، وفي نفس الوقت غاية في ذاتها، ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة(9). يتبلور الطموح في العودة إلى الذات للبناء الفكري والأخلاقي، للقول بالذاتية والكونية، حتى ولو كانت القوانين مثالية أو مطلقة، يتم اعتراضها بالقوانين الذاتية المنسجمة وروح ثقافة المجتمع، قوانين صادرة من الإرادة، والحرية مقيدة بالبعد القانوني وسلطة الدولة، وطموح الإنسان نحو الغايات الكبرى في تحقيق العقلانية كصورة راقية في الفعل والتفكير، دليل على عملية الاكتمال، والتدرج في سلسلة لا محدودة من الإبداعات التي عبر عنها الفيلسوف هيجل في قولته :"كل ما هو عقلي فهو واقعي ، وكل ما هو واقعي فهو عقلي"، درجة الاكتمال والتعين للفكرة في الفرد والمجتمع، وفي مستويات كثيرة من المعرفة التي عبرت عن إرادة الإنسان من خلال تحليل تناقضات الوقائع، في كل مركب يبنى وفق قراءة جدلية للتاريخ والعالم الموضوعي، نوازع الإنسان الخيرة والشريرة عكست في مجملها التناقض بين دعاة الرومانسية ودعاة العقلانية ، يعني أن التناغم بين الإنسان والطبيعة، والإنسان والعالم، مرده إلى الإنسان ذاته.

يعتبر جون جاك روسو اعتراف الإنسان بنوازعه الداخلية مبدأ يؤسس للقيم الإنسانية النبيلة دون إفراط في النزعة العقلانية. هذه النزعة ساهمت في نتائج غير مأمولة، حيث يعترف روسو أن الطبيعة في أساسها عفوية وودية قبل أن تجلب الحضارة مفاسدها. حكمنا على أفعالنا هو الذي يضفي قيمة أخلاقية ، إن صح أن الخير خير حقا، وجب أن يكون كذلك في قلوبنا وفي أفعالنا، وجزاء العدل هو أولا وقبل كل شيء الشعور بأدائه ، إن كان الإنسان طيبا بطبعه،فلا يكون سليما عقلا وجسدا إلا إذا تحلى بتلك الفضيلة(10)، والمناداة بالعودة إلى الطبيعة لا يعني الإجهاز على مكتسبات الإنسان في المعرفة والحضارة، بل نوع من الحنين إلى حياة تقل في واقعها نوازع الشر والعدوانية عند البشر، قلاقل الصراعات وعامل الاندفاعات، وسيادة الملكية الخاصة، وتنوع الطبائع وازدياد المتاعب يجلب الفكرة القائلة للعودة إلى الطبيعة، إلى دين الفطرة، للحظة السعيدة، بعدما انكشفت معالم الحضارة الفاسدة التي انتصرت للبعد العقلاني، ونسيت المشاعر والعواطف النبيلة في تربية الإنسان على القيم والنزعة الإنسانية الفعلية ، فمن الاندفاعات نحو التملك وهيمنة الأقوى على الضعيف، ومن سيادة حق القوة على قوة الحق تراجعت الآمال في مجتمعات إنسانية راقية ،رهافة الإحساس والرأفة والتعاطف مع الإنسان يولد مشاعر جديدة في تهذيب النزعة المادية .

يوجد إذن في سر النفوس مبدأ يولد مع الإنسان ،على ضوئه يحكم الفرد، ولو صدم ذلك ميوله الشخصية، على تصرفات غيره ، فينعتها بالصالحة أو بالفاسدة، وهذا المبدأ هو الذي أسميه أنا الضمير(11)، وعندما تحولت الأهواء والغرائز من مجالها الطبيعي إلى حالة من الاستقواء على الآخر تحت ذريعة الحق الطبيعي والأنانية الفردية ، تصبح القوانين ضرورية ولازمة، وبالتالي أضحي منطق صيانة الإنسان في ذاته وكرامته ضد كل التدخلات القوية مسألة حتمية ، إلا أن الإنسان بعقله الأخلاقي العملي وعواطفه النبيلة، ونزوعه نحو القوة المادية والقانونية ساهم في تأسيس المجتمع المدني، وأرسى دعائم الدولة الحديثة، ووضع القوانين والتشريعات، وأثبت روح القوانين، وكرس عمق النزعة الإنسانية من عصر النهضة إلى عصر الأنوار، وثقافة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، القيمة المركزية للإنسان في الوجود القدرة على التفلسف والتفكير وتغيير الأشياء. فالصفة المميزة للإنسان هي أنه موهوب بنوع من الحرية التي تسمح له بتغيير ذاته، وتغيير العالم، وهذه الحرية بالذات هي التي تدفعه إلى فعل الخير والشر في آن واحد، واستعداده بالذات إلى الكمال، الذي هو السبب في أكثر نجاحاته، هو أيضا مصدر مصائبه(12)،لابد أن تحتوي طبائع البشر على نزوع نحو الخير والشر معا، إلا أن أخلاق الضمير، وتقيد الإنسان بالقانون الطبيعي، وبناء قوانين مدنية موازية يمنح الكائن الإنساني الفضيلة والكرامة في الإعلاء من الإنسان، وتأسيس نزعة إنسانية جديدة .

حال النزعة الإنسانية كانت تتضمن نقدا جذريا لكل ما هو يقيني وثابت، حتى ولو تعلق الأمر بالعقل في مبادئه الخالصة،كذلك النقد الذي عبر عنه الفيلسوف دافيد هيوم في نزعته الشكية التي شملت مبادئ العقل، ومبدأ العلية، وكل الأسس الفكرية الأخلاقية، والانتهاء بالإجهاز على مقومات الذات العاقلة والمفكرة، الأمر الذي جعل كانط ينتبه لذلك، ويعيد بناء المعرفة، ويطرح سؤالا عن الأنوار بالقول، مفاده أن الأنوار هي خروج الإنسان من مرحلة القصور العقلي، وبلوغه مرحلة النضج، وإزالة كل أشكال الوصاية، وانتشال الإنسان من الجبن والكسل للتفكير، وإعادة تشكيل المعرفة من جديد من خلال النظر في العقل الخالص والعقل العملي . ومن ثم فإن فكر التنوير الذي نسعى جاهدين إلى فهمه ليس عقيدة جديدة تماما حلت محل عقيدة قديمة تماما، ولعل الأجدر أن نقول أن فكر التنوير سلسلة من التجارب، والمشاعر والأحاسيس، والمواقف الجديدة والقديمة. إنه مزيج آخر وهام جدا يبدو لعاشق السلام والبساطة اليائس، مزيج أو خلطة الثقافة الحديثة (13)، ينتهي عصر ويظهر آخر بملامح فكرية مغايرة نوعا ما أو نقول أن العصور تتلاحق ويتبع بعضها البعض، ويؤدي إلى انبثاق ثقافة جديدة، وإشكاليات يحيا في قلبها الإنسان بالآمال والتطلعات الجديدة، إنسان القرن التاسع عشر، والنزعة الإنسانية التي وصلت للتباهي والتقدم، وهيمنة الحضارة الغربية في المعرفة العلمية تستنير بالعصور الزاهية التي تحققت من عصر النهضة إلى عصر الأنوار، مع نخبة كبيرة من المفكرين والفلاسفة ورواد الإصلاح الديني، ومؤسسي النظريات العلمية والإنسانية، والثورات السياسية والاجتماعية كالثورة الفرنسية والثورة الأمريكية والثورة الصناعية ، وفلسفة التعاقد الاجتماعي، وبناء أسس الدولة الحديثة والعقلانية العلمية، حقائق العلم في تراكم وتجدد مستمرين، والطاقات الإبداعية غير محدودة، وثورة الإنسان في السياسة هي بناء القواعد الجديدة للدولة التي تعني إحلال النظام الرأسمالي، والفلسفة الليبرالية محل النظام الإقطاعي، وانتشار واسع للنظريات العلمية، وظهور العلوم الإنسانية، فسادت الحركة الرومانسية ضد النزعة المغالية في سلطة العقل من مرحلة الأنوار. قطائع هامة في الفكر والمعرفة تنتج أشكال جديدة من النزعة الإنسانية، التي تضفي الاستمرارية والتتابع، وتقطع مع الأشكال المرفوضة من مسارات معينة للفكر الغربي. لقد شهد القرن التاسع عشر في كل أنحاء العالم الغربي قدرا من الإيمان بالنزعة الفردية ، وهو إيمان يجد التبرير النظري والتأييد له في مذهب الحقوق الطبيعية (14)، من سيادة الفرد إلى بناء حقوق الإنسان، وبداية اعتبار هذه الحقوق كونية، وبالتالي نقلها إلى الآخر، ومحاولة تعميم النمط الليبرالي من خلال تفتيت ثقافة الآخر، وخلق ثقافة تشع بالعقلانية والحضارة وفق نزعة مركزية غربية جديدة . تهدف إلى ترويض المجتمعات الأخرى، وتحويل المعرفة من الذات إلى الآخر. نتائج هذه النزعة مرحلة الاستعمار وأفول فلسفة الأنوار .

يمكن القول أن جدلية العلاقة بين الأنا والآخر في فلسفة هيجل من خلال جدلية السيد والعبد، هذا الصراع الأزلي يفيد أن الغرب لا يمكن أن يروض الآخر على معيار ثقافته المسلحة بالعلم الوضعي والعلوم الإنسانية، بل يفترض التهليل للحداثة الغربية بالقوة الناعمة في تقديمها بالوسائل الممكنة، في تقبل الآخر للصدمة الايجابية بين الثقافات التي تكرس للوحدة والتعدد معا في المراحل اللاحقة. فالحداثة هي ظهور ملامح المجتمع الحديث المتميز بدرجة معينة من التقنية والعقلانية، والتعدد والتفتح، الحداثة كونيا هي ظهور المجتمع البورجوازي الغربي الحديث في إطار ما يسمى بالنهضة الغربية أو الأوروبية، هذه النهضة التي جعلت المجتمعات المتطورة صناعيا تحقق مستوى عاليا من التطور مكنها ودفعها إلى غزو وترويض المجتمعات الأخرى(15)، هذا المجتمع الذي رفع من قواعد الإنسان والنزعة الإنسانية سرعان ما تحول إلى مجتمع يمتلك السلطة والمعرفة، وقيادة العالم نحو أفق يعلي من قناعات الغرب في جدوى ومصداقية الحداثة. ما في الفكر الغربي من نزعة إنسانية ميالة إلى اعتبار الإنسان أسمى الموجودات في الإبداع والفعل ، وطموح النزعة الإنسانية نحو التقدم الذي يعتبر نتاج للحراك الاجتماعي والطفرة الاقتصادية في مجال الإنتاج، الذي يتراكم كميا، وهامش الحرية التي ازداد بفعل وجود الدولة الحديثة العقلانية التي رسم ملامحها رواد الفكر الاجتماعي والقانوني خلال المرحلة الحديثة، أي التقدم استمر كما وكيفا نحو الإنتاج، وتنويع العلاقات الإنسانية ، وتعميم الفلسفة الليبرالية ومجابهة الفكر المضاد للرأسمالية، نحو توحيد الأمم وفق فلسفة ضامنة للسلم العالمي، والالتفاف على صياغة مواثيق عالمية تدعو إلى احترام الإنسان في كرامته وخصوصيته .

بقي الإنسان مصدر المعرفة وصاحب الفعل والقدرة في البناء، وإعادة البناء للواقع، وظلت النزعة الإنسانية كما عرفها أندريه لالاند في معجمه الفلسفي، بأنها مركزية إنسانية متروية، تنطلق من معرفة الإنسان، وموضوعها تقويم الإنسان وتقييمه، واستبعاد كل من شانه تغريبه عن ذاته، سواء باختصار لقوى الطبيعة البشرية، أم بتشويهه من خلال استعماله استعمالا دونيا(16)، فكل عصر تبلورت في واقعه نزعة مركزية، تتشكل معالم ذلك العصر من سياقات متنوعة، لا يخلو من إيديولوجية، تمثل نظرة الإنسان لذلك العصر، إلا أن حقيقة الفكر يتغير، ويتبدل بالآراء النقدية، من تيارات مخالفة تعتبر البناء الفكري للواقع يكتسي طابعا ماديا صرفا، المقصود هنا الفلسفة الماركسية. في المادية التاريخية والمادية الجدلية، للقراءة المعكوسة للتاريخ والوجود الاجتماعي، ومفاهيم كالطبقة والمجتمع والوعي والصراع، ونقدها الجذري للفلسفة السابقة، بسبب بؤسها الذي يتجلى في عدم التركيز على المفيد من القراءة الموضوعية العلمية للحياة الاجتماعية، والطبيعة الاستغلالية للفكر الذي يبرر للأوضاع من منطلق الإبقاء على الإرث البورجوازي من الفكر المثالي والعقلاني، وثقافة الأنوار، العالم كما قال ماركس في حاجة للتغيير، وليس الوصف والتفسير، هذا التغيير ينعكس على البناء العام للمجتمع، ويبدل من الأنماط الإنتاجية والعلاقات، فيتجلى التماثل والتوافق بين البنية الفوقية والبنية التحتية، وبالطبع سيكون الإنسان الفاعل الذي يمتلك الوعي الطبقي، ويدرك أن الشروط الموضوعية موجودة في تحويل مسارات وأنماط الإنتاج إلى أنماط جديدة تعلن عن وحدة القوى العمالية، في القضاء على كل أشكال الاستلاب والتغريب لصالح البروليتاريا، وبالتالي قلب التصورات المثالية نحو واقع حقيقي يضع الإرادة الإنسانية في الفعل والإنتاج والعمل أي امتلاك الإنسان للأيديولوجية الحقيقية بدل المزيفة التي كانت تعني التبرير والتشويه للواقع في خدمة الطبقة البورجوازية.

إن العامل الجوهري في عملية الخلق الذاتي للعنصر البشري يتمثل في علاقات الإنسان بالطبيعة، حيث يكون الإنسان، في بداية تاريخه، مكبلا ومقيدا بشكل أعمى إلى الطبيعة، إلا أنه في عملية تطوره، يتحول بعلاقاته إلى الطبيعة، ومن ثم إلى ذاته(17)، والعنصر الأساسي هو الشغل الذي يحرر الإنسان من الحتمية الاقتصادية نحو الإشباع وسد الحاجات، لهذا كان الإنسان دوما في صراع مع الطبيعة ، فحسب وجهة نظر ماركس ، قام الإنسان في مجرى التاريخ بخلق ثقافة سوف يكون له الحرية بأن يجعلها ثقافته، عندما يتحرر من القيود، ليس فقط من قيود الفقر الاقتصادي، بل من قيود الفقر الروحي التي ولدها الاغتراب، فرؤية ماركس مبنية على أساس إيمانه بالإنسان، بالطاقات الواقعية والمتأصلة في جوهر الإنسان، التي تطورت عبر التاريخ. لقد نظر إلى الاشتراكية بوصفها شرطا للتحرر والخلق الإنساني، بدون أن يعتبرها بحد ذاتها، تشكل هدف الحياة الإنسانية(18)،هذا الاغتراب فصل فيه هيجل كثيرا ، فجاءت فلسفة ماركس لإعادة النظر في الإنسان بناء على هيمنة طبقية، ودلالة أخرى للتاريخ والإنسان .لذلك عندما يقول إن الإنسان هو محرك للتاريخ ومغير الأشياء، يعني أن البعد الموضوعي الواقعي هو الذي يكتسي الحقيقة في تغيير العالم، وليس وصفه أو تفسيره كما تعتقد التيارات الفلسفية السابقة. تقدم التاريخ هو العملية التي بواسطتها يطور الإنسان خصائصه النوعية الإنسانية ، قدراته على الحب والفهم، فعندما ينجز الإنسان إنسانيته الكلية، فإنه سيستطيع العودة إلى الوحدة المفقودة بين ذاته والعالم، إلا أن هذه الوحدة تختلف عن الوحدة اللاواعية ما قبل التاريخ : إنها تعويض للإنسان ينجزه مع ذاته، مع الطبيعة ومع أخيه الإنسان، يستند على حقيقة، أن الإنسان يلد ذاته في سياق العملية التاريخية (19)، هذا النقد للفكر السابق من قبل ماركس يدل على الأفق الجديدة للكشف عن التناقض الذي أصبح عليه القرن التاسع عشر من هيمنة المنظومة الرأسمالية، وبداية تعثر الحداثة الغربية في انقسام المجتمع الغربي إلى معسكرات، وتيارات، اليمين واليسار، والحروب اللاحقة، في هذا الأفق كانت العلوم الإنسانية بدأت بالإعلان عن ذاتها، المولود الجديد الذي انبثق من رحم العلوم الطبيعية، وساد القول في القواعد المعمولة للدراسة أن العلوم الإنسانية ملزمة بإتباع العلوم الوضعية في منهجها بالقول :يجب ملاحظة الظواهر الاجتماعية على"أنها أشياء" (20)، المعيار المهيمن على علمية الدراسات في ميدان العلوم الإنسانية هو المنهج العلمي والموضوعية، ومسألة الحياد، وتجريد الذات من الخلفيات والأحكام المسبقة،
منطق الوضعية العلمية الذي بدأ يفرض ذاته في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، وتحولت الدراسات نحو الشعوب الأخرى قصد تحديثها. بداية عمل الأنثروبولوجيا بأنواعها. المشروع الاستعماري الذي بدأ من القرن التاسع عشر بدوافع واضحة من التعميم، والتغيير والتجريب والعقلنة، وكل المسميات أو المفاهيم التي أنتجتها الحضارة الغربية دون أن يدري العالم أن آليات ووسائل الحضارة الغربية ستفضي للحرب الشاملة بين القوميات الأوروبية، حروب شرسة وضارية أسبابها في تقسيم العالم إلى مناطق، ونفوذ موزعة بين الأقوياء، وتصدير فكر الأنوار، ومسميات أخرى دافعها التحديث والقضاء على الأنماط التقليدية.

بدأت النزعة الإنسانية تتلاشى بفعل وحشية الإنسان ودمويته في سفك الدماء والنزوع نحو الشر. كانت التعليلات والتأويلات سبقت نشوب الصراعات، والحروب في عالم منقسم على ذاته، من سلطة المعرفة إلى إرادة القوة ، ومن النزعة الإنسانية وكونية القيم والمبادئ التي تحتوي عليها الأنوار، والفكر الحديث وعصر النهضة إلى انشطار الذات، وتلاشي منطق الحداثة من خلال العودة مرة أخرى إلى الذات، وسبر أغوارها في الدوافع القاتلة، شيء ما يتوارى يحرك الإنسان، والرغبات الذاتية والغرائز الميالة نحو الفعل والتدمير للكيانات والحضارات، والواقع أن الناس ليسوا مجرد مخلوقات مهذبة ودودة تتمنى الحب، ولا تملك إلا الدفاع عن نفسها لو هوجمت ، لكن قدرا كبيرا من الرغبة في الاعتداء يشكل جزءا من طبيعتهم الغريزية (21)، ومنذ هذا الاكتشاف الكبير للقارة المعتمة (اللاشعور) والإنسان ليس سيدا على ذاته ، ولا يمكن أن تكون الدوافع عقلانية بالتمام، وعي الإنسان كما قال نيتشه لا يمثل إلا الجانب السطحي من التفكير، وعمقه يوحي أن الرغبة في الاستفراد، والقوة ناتجة من إرادة القوة، وضد الانحطاط والسقوط في المثالية والميتافيزيقية، وثقافة الشفقة والزهد والضعف، وغرائز الضعفاء والمحرومين ،لا تزال الفكرة التي مفادها أنه من حق الإنسانية أن تنجز مهمة كبيرة ، وأنها تتجه نحو هدف ما، لا تزال هذه الفكرة الغامضة والاعتبارية حديثة جدا، قد نتخلص منها مجددا قبل أن تصبح"فكرة متسلطة"... هذه الإنسانية لا تشكل مجموعة واحدة : إنها وفرة متلاحمة من الظواهر الحيوية ، التصاعدية والتنازلية(22)، روح الانحطاط تسيطر على العصور، وعندما ينادي الفيلسوف بصيحة التغيير، يكون زمن الفكر قابلا للتحقق في المستقبل من قبل من يحمل شعاع الفكر، الذي تخلص من هيمنة الثابت، وتكون مهمة التفكير أجدر في إتاحة المجال للإنسان الأرقى للتخلص من الرتابة والانحطاط، وكل نزعة إنسانية فقدت بريقها أمام انشطار الذات، وتشظي الفكر من ذوات صنعت أفكارا وتأويلات، وطرقا في بناء المعرفة، والخروج من شرنقة الفكر الميتافيزيقي، ومن الذاتية التي هيمنت على الفكر الغربي .

الهوامش :
أفلاطون "محاورة بروتاغورس" ترجمة عزت قرني ،دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع ، 2011 ص65
(هاشم صالح " مدخل إلى التنوير الأوروبي " دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2005، ص81
(3) هاشم صالح " مدخل إلى التنوير الأوروبي " ص 21
(4) عبد الرزاق الدواي " موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر " دار الطليعة –بيروت ، 2000 ، ص189
(5) كرين برينتون " تشكيل العقل الحديث " ترجمة شوقي جلال ، سلسلة عالم المعرفة ، عدد 82 ،1981 ص41
(6) هاشم صالح " مدخل إلى التنوير الأوروبي " ص 82
(7) تزفيتان تودوروف " ما الأنوار "تعريب حافظ قويعة ، دار توبقال للنشر ،الطبعة الأولى 2007 ص10
(8) ايمانويل كانط " تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق "ترجمة عبد الغفار مكاوي ،منشورات الجمل ،الطبعة الأولى 2002 ص77
(9) ايمانويل كانط " تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق " ص 108-109
(10) جون جاك روسو "دين الفطرة " ترجمة عبد الله العروي ،المركز الثقافي العربي ،الطبعة الأولى 2012ص70
(11) جون جاك روسو "دين الفطرة " ص74
(12) تزفيتان تودوروف " ما الأنوار " ص23-24
(13) كرين برينتون "تشكيل العقل الحديث " ص196
(14) كرين برينتون "تشكيل العقل الحديث " ص227
(15) محمد سبيلا "مدارات الحداثة " الشبكة العربية للأبحاث والنشر،الطبعة الأولى 2009 بيروت ص123
(16) جيري بروتون " عصر النهضة مقدمة قصيرة جدا " ترجمة إبراهيم البيلي محروس، مؤسسة هنداوي، الطبعة الأولى 2014 ص63
(17)اريك فروم " مفهوم الإنسان عند ماركس " ترجمة محمد سيد رصاص ،الطبعة الأولى 1998 ص31
(18)اريك فروم " مفهوم الإنسان عند ماركس " ص79
(19)اريك فروم "مفهوم الإنسان عند ماركس " ص 82-83
(20) إميل دوركايم " قواعد المنهج في علم الاجتماع " ترجمة محمود قاسم والسيد محمد بدوي ،دار المعرفة الجامعية، 1988 ص 71
(21) سيغموند فرويد "الحب والحرب والحضارة والموت" ترجمة عبد المنعم الحفني، دار الرشاد ص 73-74
(22)فريدريك نيتشه "إرادة القوة "ترجمة محمد الناجي ، إفريقيا الشرق ،2001 ص132-133

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى