عندما كنت تسير في زحمة عتمة شوارع المدينة المريضة كان القمر يسكب نوره الذهبي ببذخ مفرط، وكلما تحاول عيناك اغتراف شيئا منه ينقتب كلبا منك حتى ليكاد يخاللك كظلك دونما يقلع عن نباحه السقيم. ــ ألو... أيوا ... انتبهوا هو جاي صليكم... يبدو أنه طاعشي. !؟. وأنت تصل نهاية شارع هائل منعطفا داخل شارع الرقاص تسمع سحبة زناد الكلاشينكوف أعقبتها دوي انفجار طلقة الرصاصة مع رائحة البارود، وبضع أصوات متزامنة متلاحقة متسارعة “مكانك، مكانك، مكانااااااك". ولأنك لست الوحيد الذي كان يجتاز جولة الرقاص فثمة غيرك في ذات المكان واصلت خطاك ولكن ببطيء وهدوء اعتدت أن تكونه في مثل هكذا مواقف مباغتة تتوقعها. ــ قلنا ... مكانااااااك ... ثابااااااااااات. تلت الأصوات شخيط لهبان أصفران فأحمران فأزرقان على أرضية الأسفلت، ودوي انفجار طلقات رصاص بعضها عبرت فوق رأسك باتجاه صدر السماء. تتوقف تستدير لم يعد في بالك أدنى شك من أنك المقصود، كنت خائفا هذا ما لا ريب فيه، ولكنك أحكمت ضبط نفسك وأنفاسك وعددت من واحد إلى عشرة، وقرأت آية من سورة يس "وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون “. وقفت وحددت النظر وخاطبت عسكريا كان يتجه صوبا مسرعاً ليقف على بعد أمتار: ــ من أنا..!؟ ــ إييه ... وقف. ــ خير ...؟ ــ من وين جاااي بهذه الساعة. ــ من الصحيفة. ــ إبش من صحيفة تعمل. رسمت ابتسامة كاذبة ماكرة ورددت بدهاء لا يترك لمن يسمعك مهما كان غبيا إلا أن يصدقك بسؤال يجيب على هذا العسكري البليد: ــ في عقلك ... إيش من صحف باقية في العاصمة هذه الأيام تعمل وتشتغل. إجابة أوحيت فيها بأنك تعمل بأحد الصحف الباقية في صنعاء، وكلها تتبعهم بعد توقف كل الصحف الأهلية والحزبية. ــ إيش بالشنطة؟ ــ جهازي اللابتوب، وعدد الغد. ــ افتح الشنطة يا ذاك.! ــ حاضر... وأنت تفتح حقيبة جهازك المحمول تستخرج الصحيفة... وتقول له: ــ هذا عدد الغد يا فندم. كان من حسن حظك أنك كنت قد تناولت الشاي مع موزع صحيفة الثورة بكافتيريا ورزان وأعطاك محموعة نسخ من عدد الغد. يصيح عسكري أخر من نافذة سيارة النجدة الواقفة جوار الجولة: ــ ها ... أيش وجدت معه؟ ــ يا فندم هذا من الصحفيين حقاتنا... مروح عند جهاله. ــ خلاص خليه يسرح له.... قوله ... نحن أسفييييين ... ما نسوي ... الدواعش حقكم بتعز ما عد يخلوا لنا حالنا. ابتسمت بتكلف واردفت قائلا: ــ هذا واجبكم. ــ شكرا لتفهمك يا أستاذنا. غادرتهم صوب سكنك القريب كثيرا من الجولة وقبل أن تصل للزقاق المؤدي لسكنك تلفي ذات الكلب الذي كان خلفك بشارع هائل يكاد يخاللك كظلك دونما يقلع عن نباحه السقيم تغير اتجاهك صوب بقالة اعتادت أن تسهر حتى قبيل آذان صلاة الفجر. دخلت البقالة وجلست تمازح صاحبها كدأبكما كل ليلة، وتراقب الكلب الواقف جوار بابها. ينتبه صاحب البقالة للكلب ... وبصوت مسموع صاح: ــ اخرخرريييج... كلمة لا تقال سوى للكلاب ... عندما تسمعها تفهم أنها غير مرغوب بها، وأن ما بعدها ليس سوى قذفها بالأحجار فتنصرف. ينصرف الكلب منكسا رأسه مهطعا آيباً على عقبيه متواريا في سواد ليل المدينة الهاجعة في أحضان الرعب. وهو يبتسم يسألك: ــ بالله عليك ... أيش بايستفيد؟ ــ كل امرئ معتكف على ما تمليه عليه خلقته التي وهبه الله إياها منحة فصارت جوهره الذي يبتلى به في حياته. ـــ والله ما افتهم لي شيء مما قلت. يبتسم بأخلاق البائع الطيب الحاذق ويستتلي: ــ ما ضيعك يا أستاذ إلا لسانك وكلامك هذا ...تشتي الصدق ... قم سافر بلادك. ترد عليه وأنت تبادله الابتسامة: ــ وهذه أليست مدينتي وعاصمتنا. !!! ــ يا صديقي ... حاليا لا... لم تعد بلادك ولا بلادي ولا عاصمة اليمنيين.... لقد صارت عاصمة الضباع... صدقني لو كنت مثلك حرا غير مرتبط بأي عمل هنا وملزما به لكنت الأن هناك (يتلفت صوب باب البقالة وبصوت خافت) لكنت الأن في تعز مع المقاومة الشعبية والجيش الوطني الذي يعاد بناءه من جديد في النشمة والعين والتربة تعز ... هذه البقالة شغل ثلاثة أجيال جدي وأبي وأنا وأخواني.... صعب نغلقها ونسافر... لكن عند الله الله... والله سنغلقها ونلحق بالرجال. تطلعت صوبه وهززت رأسك... وأصابعك تقبض على كيس الأغراض التي اشتريتها دينا دنوت منه وهمست بصوت خفيف: ــ شوف ... إذا لم تراني غداً فثمن ما بهذا الكيس لن يدفع إلا بعد عودتي إلى صنعاء وقد تحررت تعز، وإن لم أعد .... ... يقاطعك...: ــ مسامح دنيا وآخرة... لكن أنا على يقين أنك ستعود... ستعود يا حبيب. في تلك الليلة بت والقمر ترعاه ويرعاك ... يعاف النوم جفنا كلاكما، وعندما صدحت مآذن مدينة صنعاء بآذان الفجر أذَّن وعيك آذان السفر إلى تعز عاصمة حنين الحياة. انت تعلم ياصديقي أن كل شيء في تعز يكاد يكونه مغلفا بالحنين. الحنين هو سمة هذه المحافظة. انه الحنين إلى الحياة. طف فوق تلك الجبال الشامخة في الحجرية وجبل الصلو وجبل صبر وما بينها من هضاب وتلال وربى و أودية ووهاد وسواقي وملاقي المياه وحقول وشعاب ومدرجات وأحجار وأشجار ورمال وتراب وأسواق وقرى ومنازل. ستقرأ فوق كل شيء وداخل كل عين شيء كما وصفه محمد عبد الولي اسمه الحنين. نعم هنا كل شيء يستوطن حنين في حنين إلى مدن الغد الجديدة ؛ والحياة التي تتجلى في ثناياها أن هذه الأرض حينما عرفت بأرض العرب السعيدة لم يكن التاريخ ليكذب على الحياة بقدر ما كان يثبت حقيقة انها حقا كانت بلادا سعيدة.