لفَّتْ جسدها الصغير بعباءة سوداء، أخفتْ شفاهً متشققة وأنفاً مُلتهباً تحت وشاح بالٍ، حامت حول المبنى بإصرار، دلفت بهدوء وحذر، أوغلت السير، تنقـَّـلت بين المكاتب دون أن تحصل على ما تنشد، البرد ماردٌ يطاردها في الأروقة، الجوع ضار ٍ ينهش أحشاءها، التصقت عباءتها الرثـَّة بحائط علي العجوز بائع المشروبات الساخنة في المجمع الحكومي، لم يلفت وقوفها وتحديقها الطويل إلى أكوابه وشطائره انتباهه، ظل يواصل عمله في بلادة متعمَّدة، فقد اعتاد على تنطـُّع المتطفلين والمفلسين أمام دكانه طمعاً في الفُتات، جرى ريقها من تحت اللثام، انتظرت إحساناً ملفوفاً بورق جرائد قديم، أو قليلاً من سائل ساخن قريب الشبه بالشاي يتماوج في علبة كانت تسكنها البقوليات حتى وقت قريب، لكن وقوفها طال دون طائل.
غادرت ناقمة، سعت نحو المخرج، تراءى لها القسم العلوي الذي يحوي المكاتب الإدارية، لاحظت أن نصفها مغلق، لكن ممرَّه كان هادئاً وأكثر تنظيماً، صعدت، تقدمت في محاولة أخيرة، سمعت بعض الأصوات آتيةً من طرف الممر.
همستْ «لعله مأهول بالمحسنين». لازم خطاها السكون كأنها ظلّ، سمعت همهمة في المكتب الأخير، كان صوتاً نسائياً، المكتب قبل الأخير مفتوح، أطلَّت الفتاة الصغيرة من بابه علـَّها تجد من يقدّم إليها معروفاً، كل شيء يدلّ على أنّ العمل فيه قائم، وما لحظة خلوِّه إلا لأمرٍ طارئ، لمحتها بمفردها، متكئة ًعلى كرسي المكتب، أنيقة، متوسّطة الطول، ممتلئة القوام، مشدودة الحزام، منظرها المغري جعلها تعدل عن المرور بالمكتب الأخير.
كان الأمر بالنسبة إليها لعبة حظ، فقط، ألاَّ يراها أحد تفعل ذلك! حثَّت الخطى نحو المخرج قبل أن تدوّي خلفها صرخات هزّت بدنها:
ـــ الحقيبة، الحقيبة، النجدة، لقد سُرِقت حقيبتي!
انبجس العرق من أطرافها، أخفتها تحت ردائها، جاهدت في المضي بهدوء منعاً للشك، مدَّ الممر لسانه ليبدو أطول مما تحتمل قدماها، جلبة وركضٌ يقتربان نحوها، أشار عقلها بالاختباء، أسعفها الممر بإحدى دورات المياه، احتبستْ نفسها فيها وأعطت أذنها للباب.
ركضت صاحبة الحقيبة في كل الاتجاهات، تسأل عن حقيبتها بهستيرية، أحدهم يخبرها أن الفاعل رجل عجوز ولقد رآه يفر من هنا، وآخر يؤكد بأنه صبيٌ متشرد وقد قفز هارباً إلى البستان المجاور، وقال أوسطهم إنه وكأنما رأى شبح امرأةٍ تتسكع في الجوار.. تدفَّق رجال الأمن إلى الصالة خلال دقائق، عمّ الصخب المكان، سألها ضابط الأمن:
ـــ ما لون الحقيبة؟
وهي تكابد عبرتها:
ـــ بُنّية اللون، من جلد فاخر.
ـــ ماذا يوجد بداخلها؟
ــ راتبي بأكمله، هاتفي المحمول باهظ الثمن، ساعة يدي الثمينة، هويتي وبطاقاتي البنكية..
ـــ هل هناك أشياء أخرى؟
ــ بلى يوجد نظارة ومفاتيح المكتب والمنزل، علبة تجميل، بعض الصور.
ـــ أهذا كل شيء؟
ـــ أجل، مهلاً، هناك ميدالية صغيرة، لا يهم، فهي غير ذات قيمة.
بدأت عملية البحث والتفتيش مستنفرة الجميع، فالموظفون كذلك ساهموا في البحث على الرغم من أنهم يعدُّون بدورهم محل شبهة، حتى علي العجوز أغلق دكانه وهبَّ للبحث عن حقيبة الآنسة سكرتيرة المدير، فقد عرض الأخير مبلغاً سخياً لمن يمسك باللص.
ابتعدت الأصوات عن الممر شيئاً فشيئاً، آنست الصبية بعض الهدوء، تنفست الصعداء، حدَّقت في فريستها بفضول، انقضّت عليها بيدٍ لهفى طاشت في جوفها، بحثت عن ذلك الراتب الدسم، الهاتف الثمين، الساعة.
كانت هناك في الأسفل، أول شيء صادفته يدها في الداخل، أخرجته، ميدالية صغيرة الحجم، مستطيلة الشكل، نقش عليها كلمات.
تهجَّتها بصعوبة، تذكرت أنها قرأتها في كتاب كبير، يوماً، انزلق جسدها الضعيف، اغرورقت عيناها، غادرت الفتاة دورة المياه مُخلـِّفة وراءها عباءة سوداء.
وشاحاً باليا.
حقيبة يدٍ عامرة.
فيما اختفت ميدالية صغيرة.
* أسماء المصري
كاتبة من اليمن
- عن الجديد
غادرت ناقمة، سعت نحو المخرج، تراءى لها القسم العلوي الذي يحوي المكاتب الإدارية، لاحظت أن نصفها مغلق، لكن ممرَّه كان هادئاً وأكثر تنظيماً، صعدت، تقدمت في محاولة أخيرة، سمعت بعض الأصوات آتيةً من طرف الممر.
همستْ «لعله مأهول بالمحسنين». لازم خطاها السكون كأنها ظلّ، سمعت همهمة في المكتب الأخير، كان صوتاً نسائياً، المكتب قبل الأخير مفتوح، أطلَّت الفتاة الصغيرة من بابه علـَّها تجد من يقدّم إليها معروفاً، كل شيء يدلّ على أنّ العمل فيه قائم، وما لحظة خلوِّه إلا لأمرٍ طارئ، لمحتها بمفردها، متكئة ًعلى كرسي المكتب، أنيقة، متوسّطة الطول، ممتلئة القوام، مشدودة الحزام، منظرها المغري جعلها تعدل عن المرور بالمكتب الأخير.
كان الأمر بالنسبة إليها لعبة حظ، فقط، ألاَّ يراها أحد تفعل ذلك! حثَّت الخطى نحو المخرج قبل أن تدوّي خلفها صرخات هزّت بدنها:
ـــ الحقيبة، الحقيبة، النجدة، لقد سُرِقت حقيبتي!
انبجس العرق من أطرافها، أخفتها تحت ردائها، جاهدت في المضي بهدوء منعاً للشك، مدَّ الممر لسانه ليبدو أطول مما تحتمل قدماها، جلبة وركضٌ يقتربان نحوها، أشار عقلها بالاختباء، أسعفها الممر بإحدى دورات المياه، احتبستْ نفسها فيها وأعطت أذنها للباب.
ركضت صاحبة الحقيبة في كل الاتجاهات، تسأل عن حقيبتها بهستيرية، أحدهم يخبرها أن الفاعل رجل عجوز ولقد رآه يفر من هنا، وآخر يؤكد بأنه صبيٌ متشرد وقد قفز هارباً إلى البستان المجاور، وقال أوسطهم إنه وكأنما رأى شبح امرأةٍ تتسكع في الجوار.. تدفَّق رجال الأمن إلى الصالة خلال دقائق، عمّ الصخب المكان، سألها ضابط الأمن:
ـــ ما لون الحقيبة؟
وهي تكابد عبرتها:
ـــ بُنّية اللون، من جلد فاخر.
ـــ ماذا يوجد بداخلها؟
ــ راتبي بأكمله، هاتفي المحمول باهظ الثمن، ساعة يدي الثمينة، هويتي وبطاقاتي البنكية..
ـــ هل هناك أشياء أخرى؟
ــ بلى يوجد نظارة ومفاتيح المكتب والمنزل، علبة تجميل، بعض الصور.
ـــ أهذا كل شيء؟
ـــ أجل، مهلاً، هناك ميدالية صغيرة، لا يهم، فهي غير ذات قيمة.
بدأت عملية البحث والتفتيش مستنفرة الجميع، فالموظفون كذلك ساهموا في البحث على الرغم من أنهم يعدُّون بدورهم محل شبهة، حتى علي العجوز أغلق دكانه وهبَّ للبحث عن حقيبة الآنسة سكرتيرة المدير، فقد عرض الأخير مبلغاً سخياً لمن يمسك باللص.
ابتعدت الأصوات عن الممر شيئاً فشيئاً، آنست الصبية بعض الهدوء، تنفست الصعداء، حدَّقت في فريستها بفضول، انقضّت عليها بيدٍ لهفى طاشت في جوفها، بحثت عن ذلك الراتب الدسم، الهاتف الثمين، الساعة.
كانت هناك في الأسفل، أول شيء صادفته يدها في الداخل، أخرجته، ميدالية صغيرة الحجم، مستطيلة الشكل، نقش عليها كلمات.
تهجَّتها بصعوبة، تذكرت أنها قرأتها في كتاب كبير، يوماً، انزلق جسدها الضعيف، اغرورقت عيناها، غادرت الفتاة دورة المياه مُخلـِّفة وراءها عباءة سوداء.
وشاحاً باليا.
حقيبة يدٍ عامرة.
فيما اختفت ميدالية صغيرة.
* أسماء المصري
كاتبة من اليمن
- عن الجديد