إن ما كتبته يمكن أن يدخل في إطار جنس القصة القصيرة . كتبتها بكثير من الرقة والعذوبة والصدق .وبأسلوب شعري يقوم على الإيحاء والرمز والأسطورة والخيال الخصب. إن الواقع والخيال ليمتزجان في هذه القطعة الأدبية ، فلا يعرف المتلقي الحدود الفاصلة بين الخيال والواقع . فأحيانا يرتفع به السارد على أجنحة الخيال إلى عوالم سامية يملؤها الحب والصفاء والجمال وزرقة البحر ورفرفة النوارس ، وأحيانا أخرى ينزل به إلى واقع قاس ليس ثمة واقع أقسى منه هو واقع الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين ومدينة عكا الفضاء الذي يدور فيه حدث القصة ، وتوحي به أحذية الجنود الثقيلة التي يسمع وطأتها على صخور الشاطئ العاشقان الحالمان بعالم جميل يعمه الحب والسلام والاستقرار . نفاجأ بهجرة المعشوق وأهله إلى بيروت ونعاني مع البطلة لحظة الوداع . ولا يعرف القارئ أن الأمر يتعلق بشخصية واقعية وليس بمجرد شخصية ورقية في قصة خيالية إلا في آخر القصة عن طريق خبر مفجع يصل إلى الحبيبة في عكا نكتشف من خلاله أن الحبيب القديم هو الكاتب الفلسطيني العبقري غسان كنفاني الذي اغتالته أيدي العدو الإسرائيلي بتفجير سيارته وهو رفقة ابنة أخته لميس . إن خرق أفق انتظار المتلقي ليزيد القصة فنية وجمالية. ومن الجدير بالملاحظة استعمال الكاتبة بعض الكلمات العامية ، بل الخاصة بالبيئة المحلية في عكا مما يجعلنا نعيش في فضاء واقعي حميمي تعرف أسراره وجزئياته شخصيات القصة ، ويقرب القارئ إلى أجواءالحياة في عكا.. شكرا لك ، الصديقة الفنانة سامية قزموز بكري على هذه المتعة الفنية ، وعلى الوفاء لمناضل و أديب وروائي فلسطيني عربي عالمي هو غسان كنفاني في ذكرى استشهاده.
***
ما تبقى لنا !
سامية قزموز بكري
- يده - (عنوان اّخر كان )
فتى وفتاه في عمر الورود... هو بعينيه الكحيلة يقول للقمر" قوم وأنا بقعد مطرحك "... هي يغار شلال الشمس من خروب شعرها... تقفت أثر وقع أقدامه على رمل الشاطئ ... اختبأت وراء صخرة تتلصص عليه جذلى ... ترقب يده تقبض على القصبة ( أهل عكا يسمونها الغابي) بعد أن رمى بخيط الصنارة الى البحر... ينتظر أن تأكل السمكة الطعم...
والبحر أمامهما أزرق ... أزرق بصفاء السماء... والموج يتهادى بحنية ليفقس باقترابه منهما بياضا , كذيل فستان عروس تتبختر بكشاكش التفتا والدانتيل ... والأفق همهمات جنية حالمة...
صنارته تنتع يده يسحب خيط القصبة بمهارة ليلتقط سمكة عفية لكنها كانت أكثر منه فهلوية فلتت وقفزت الى البحر حرة ... زعل... قهقهت رنين بلور... انتبه لها تخفي عينها الواسعة وراء الصخرة ... ولربما عرف ملاحقتها له من قبل... ولم يرد أن يحرجها...
جلست ويداها تداعب الرمل فيتناثر في الهواء سنابل صفراء... وتسترق النظر اليه خجلى.
ترامى الى سمعها صوت أمها تحمله الريح :
- فوز.... يا فوز ... يا فوز....
ذهلت وركضت فالتفت الفتى اليها حرا... انساب الرمل من قدميها الحافيتين ذهبا وطار شلال الخروب في الريح...
سمعها تغني للبحر ذات صباح وهو مختبئ وراء الصخرة ذاتها ... وصلت الى الشاطئ امرأة روسية ... مهرولة ... وقالت : أتعلمين أن صوتك ناداني من بيتي.. سمعتك ... أتدرين أن صوتك
-2-
يستحضر أميرة البحر؟ اتسعت حدقتا عينيها الناعستين ... كررت الفتاة مشوارها البحري
والغناء لعل الأميرة تخرج من البحر لتراها..
تصحو من نومها تنسحب من البيت بهدوء وأهلها نيام.. تركض حافية تعبر الحرش الخفيض لتعلو سفحه وتصل نافذة غرفته الكبيرة ... تطل برأسها متسرقة نظرة اليه
يجلس كعادته على مكتبه يده... تكتب ... أو يقف أمام مرسم خشبي ... يده ترسم...
ترى هذا الشيء لأول مرة في حياتها... أثاث ( من الأربعينات) غير موجود في بيتها... مكتبة لفتتها مليئة بالكتب .. وأقلام كثيرة في كوب كبير وألوان ....ألوان...
ولوحات متكئة على الحائط تظنها صورا...
حانت منه التفاتة الى النافذة ... تراجعت العين الواسعة ومعها الشعر الغجري...
فتى وفتاة بعمر الزهور اختلسا النظرات من الزمن الصافي ... بحضن البحر والسور...
وتحت مظلة النوارس...
ذات غروب قاتم... لطم الموج الصخور... والريح الشعثاء طيرت الشجر والأولاد.
والأفق غدا صوت امرأة نائحة.... بصاطير ( أحذية ثقيلة) جنود تدوس رمال الشاطئ يقسوة تتزعزع العصافير... تقفز القلوب والعيون وتضج المدينة... وتهج...
تنظر مرتاعة...والده يدفعه الى داخل سيارة ( من الأربعينات) تئن من ثقل الحقائب على ظهرها... يحاول أن يقاوم لأنه يريد أن يأخذ معه صديقه محمود ..يقنعه أبوه باستحالة الأمر دون أهله... يتقدم من صديقه بحزن ودمعة ..يعطيه قلما جميلا ومضرب التنس خاصته
- 3 -
هدية ... ينظر اليها من بعيد رافعا يده مودعا.. لم تعلم أنها لن ترى هذه اليد الجميلة التي طالما راقبت أفعالها... أبدا.
تمر السنون الصعبة عليه هناك في بيروت.. وهي هنا في مدينته... تتابع وتلملم كل خبر عنه
تجلس على شرفتها والبحر... تقرأ ما كتب متخيلة يده ... تعتز به : " انك تضيئني ... وتضيء مدينتك.. ليتك بقيت ولم تغادر .
ينظر الى البحر هناك... يراه بحر عكا ..فيعود ... يسير في حواريها من بيته مارا بمقبرة النبي صالح يمنة وحديقة البلدية يسرة ... ثم بمحاذاة السور العظيم الذي طالما رفع عينيه
الى حجارته وضخامته معجبا ...وقرب العيد ...أي المراجيح التي علقها أبو حسين الحتحوت والحدقة على فروع أشجار الكينا الباسقة العتيقة... يجلس في مربع خشبي ذي حواف ويطيرون الى الأعالي ليروا البحر وأعلى السور فيرفرف قلبه خوفا وغبطة حتى يسمعوا صاحب الأرجوحة يقول: مولا أي انتهى الشوط فينزلون... ثم الى شط العرب وبوابة عكا الشرقية العريقة..فشارع صلاح الدين الأيوبي ليصل الى مدرسته...
ويراها أيضا تطل عليه من خلف صخرة .. بعين غزالة محبة... وعين واجمة راجفة لحظة الوداع...
من مذياع قديم ضخم ...وهي تغزل الصوف على شرفة البحر ... يذاع الخبر الصاعق عن انفجار سيارته وابنة أخته لميس التي أحب, في بيروت... وجدوا يده على بعد عشرات الأمتار ملقاة على العشب الأخضر تنزف حناء روحه...
سال دمعها فوق البحر... فاض البحر... والأفق يومها صار صراخ امرأة ... ولولة....!
8-7-2016
عكا
***
ما تبقى لنا !
سامية قزموز بكري
- يده - (عنوان اّخر كان )
فتى وفتاه في عمر الورود... هو بعينيه الكحيلة يقول للقمر" قوم وأنا بقعد مطرحك "... هي يغار شلال الشمس من خروب شعرها... تقفت أثر وقع أقدامه على رمل الشاطئ ... اختبأت وراء صخرة تتلصص عليه جذلى ... ترقب يده تقبض على القصبة ( أهل عكا يسمونها الغابي) بعد أن رمى بخيط الصنارة الى البحر... ينتظر أن تأكل السمكة الطعم...
والبحر أمامهما أزرق ... أزرق بصفاء السماء... والموج يتهادى بحنية ليفقس باقترابه منهما بياضا , كذيل فستان عروس تتبختر بكشاكش التفتا والدانتيل ... والأفق همهمات جنية حالمة...
صنارته تنتع يده يسحب خيط القصبة بمهارة ليلتقط سمكة عفية لكنها كانت أكثر منه فهلوية فلتت وقفزت الى البحر حرة ... زعل... قهقهت رنين بلور... انتبه لها تخفي عينها الواسعة وراء الصخرة ... ولربما عرف ملاحقتها له من قبل... ولم يرد أن يحرجها...
جلست ويداها تداعب الرمل فيتناثر في الهواء سنابل صفراء... وتسترق النظر اليه خجلى.
ترامى الى سمعها صوت أمها تحمله الريح :
- فوز.... يا فوز ... يا فوز....
ذهلت وركضت فالتفت الفتى اليها حرا... انساب الرمل من قدميها الحافيتين ذهبا وطار شلال الخروب في الريح...
سمعها تغني للبحر ذات صباح وهو مختبئ وراء الصخرة ذاتها ... وصلت الى الشاطئ امرأة روسية ... مهرولة ... وقالت : أتعلمين أن صوتك ناداني من بيتي.. سمعتك ... أتدرين أن صوتك
-2-
يستحضر أميرة البحر؟ اتسعت حدقتا عينيها الناعستين ... كررت الفتاة مشوارها البحري
والغناء لعل الأميرة تخرج من البحر لتراها..
تصحو من نومها تنسحب من البيت بهدوء وأهلها نيام.. تركض حافية تعبر الحرش الخفيض لتعلو سفحه وتصل نافذة غرفته الكبيرة ... تطل برأسها متسرقة نظرة اليه
يجلس كعادته على مكتبه يده... تكتب ... أو يقف أمام مرسم خشبي ... يده ترسم...
ترى هذا الشيء لأول مرة في حياتها... أثاث ( من الأربعينات) غير موجود في بيتها... مكتبة لفتتها مليئة بالكتب .. وأقلام كثيرة في كوب كبير وألوان ....ألوان...
ولوحات متكئة على الحائط تظنها صورا...
حانت منه التفاتة الى النافذة ... تراجعت العين الواسعة ومعها الشعر الغجري...
فتى وفتاة بعمر الزهور اختلسا النظرات من الزمن الصافي ... بحضن البحر والسور...
وتحت مظلة النوارس...
ذات غروب قاتم... لطم الموج الصخور... والريح الشعثاء طيرت الشجر والأولاد.
والأفق غدا صوت امرأة نائحة.... بصاطير ( أحذية ثقيلة) جنود تدوس رمال الشاطئ يقسوة تتزعزع العصافير... تقفز القلوب والعيون وتضج المدينة... وتهج...
تنظر مرتاعة...والده يدفعه الى داخل سيارة ( من الأربعينات) تئن من ثقل الحقائب على ظهرها... يحاول أن يقاوم لأنه يريد أن يأخذ معه صديقه محمود ..يقنعه أبوه باستحالة الأمر دون أهله... يتقدم من صديقه بحزن ودمعة ..يعطيه قلما جميلا ومضرب التنس خاصته
- 3 -
هدية ... ينظر اليها من بعيد رافعا يده مودعا.. لم تعلم أنها لن ترى هذه اليد الجميلة التي طالما راقبت أفعالها... أبدا.
تمر السنون الصعبة عليه هناك في بيروت.. وهي هنا في مدينته... تتابع وتلملم كل خبر عنه
تجلس على شرفتها والبحر... تقرأ ما كتب متخيلة يده ... تعتز به : " انك تضيئني ... وتضيء مدينتك.. ليتك بقيت ولم تغادر .
ينظر الى البحر هناك... يراه بحر عكا ..فيعود ... يسير في حواريها من بيته مارا بمقبرة النبي صالح يمنة وحديقة البلدية يسرة ... ثم بمحاذاة السور العظيم الذي طالما رفع عينيه
الى حجارته وضخامته معجبا ...وقرب العيد ...أي المراجيح التي علقها أبو حسين الحتحوت والحدقة على فروع أشجار الكينا الباسقة العتيقة... يجلس في مربع خشبي ذي حواف ويطيرون الى الأعالي ليروا البحر وأعلى السور فيرفرف قلبه خوفا وغبطة حتى يسمعوا صاحب الأرجوحة يقول: مولا أي انتهى الشوط فينزلون... ثم الى شط العرب وبوابة عكا الشرقية العريقة..فشارع صلاح الدين الأيوبي ليصل الى مدرسته...
ويراها أيضا تطل عليه من خلف صخرة .. بعين غزالة محبة... وعين واجمة راجفة لحظة الوداع...
من مذياع قديم ضخم ...وهي تغزل الصوف على شرفة البحر ... يذاع الخبر الصاعق عن انفجار سيارته وابنة أخته لميس التي أحب, في بيروت... وجدوا يده على بعد عشرات الأمتار ملقاة على العشب الأخضر تنزف حناء روحه...
سال دمعها فوق البحر... فاض البحر... والأفق يومها صار صراخ امرأة ... ولولة....!
8-7-2016
عكا