دائماً يخطر ببالي هذا، أن أكتب عن العربة، عربة قطار آخر الليل الذي يعود من المدينة المكتظة إلى إحدى ضواحيها الشمالية الفقيرة.
يخطر ببالي أن أكتب عن تلك المرأة ذات اللكنة الإسبانية، الخمسينية التي يبدو أنها تعمل في تنظيف المباني بقمطة رأسها، وبنظرتها المتعبة التي تذكّر لأمر ما بالغبار.
أكتب عن الزنجي الذي يبدأ في التمايل على صوت موسيقا المسجلة الصغيرة، الموصولة بأذنيه بسماعة من خصره، يتمايل أول الطريق ثم ما تلبث حركته أن تهدأ، ليبدأ رأسه الغافي بالارتجاج مع حركة القطار الذي يستند إلى زجاج نافذته.
عن مجموعة الشباب هذه التي تتحدث فيما بينها بلهجة ساحلية أعرفها، وتتحدث مع آخرين بالتركية. حينها كنت أهم بسؤالهم: "هل أنتم سوريون/ من اسكندرونة مثلاً؟" ثم أتراجع رغم أننا نهبط دائماً معاً في نفس المحطة.
أكتب عن الفتاة الشاحبة التي تعود دائماً آخر الليل وحيدة، أكتب متخيلاً مصائر البشر الآخرين: ذاك الشاب النحيل بنظاراته المدورة التي يشبه بها تروتسكي. أقول لنفسي: لا بدّ من أنه من أقصى اليسار، هارباً من بلده. ثم أتراجع لعله يميني مثلاً، أو حتى موغل في اليمينية. أو أن لا علاقة له لا باليمين ولا باليسار. أو أنه قد يكون فرنسياً، وليس منفياً كما أظن.
أكتب عن ذاك الكحولي العربي شمال الإفريقي، بشتائمه المليئة بكلمة "الحلوف" ببذلته الصفراء المخططة التي تشي بطبيعة عمله: تنظيف أروقة المترو. والذي يعود الآن ثملاً إلى عائلته الغاطة حتماً في النوم دون أن تتذكره.. أو لأن لا عائلة له هنا أبداً.. تركها هناك، وجاء إلى "نعيم" هنا ليُدفن في النبيذ الرديء، أو في أحد أقبية المترو مع أكوام النفايات.. أتخيل هذا المصير المأساوي المفاجئ، ثم أمرر نظري نحو شاب يبدو حزيناً، وأتخيل أنه بلا أحد، وأنه سيعود-مثلي- إلى برودة ووحدة غرفته.
وذاك الذي يحمل "جيتاراً" بات يهتز مع اهتزاز جسد المتعَب، فلا مكان آخر الليل، لتتحرك الأصابع فوق الأوتار، ولمحاولة جمع قطع النقود الصغيرة التي بذل مثلها طوال النهار.
أمرّر بصري فوق الوجوه، راسماً لها حالاتها، مشيداً في ذهني "سيناريوهات" لتفاصيل أيامها المتكررة، أو لتفاصيل عودتها الليلية هذه...
أنسج كل ذلك في ذهني، ثم يخطر ببالي ذلك: أن أكتب، ولكن ما أن أصل حتى يسرقني التعب إلى دفء فراش مفترَض.
ودائماً يخطر ببالي أن أكتب عن العربة هذه، ولا أفعل، بل أنني الآن لم أعد أستخدم تلك العربة أساساً، انتقلتُ من ضاحية الشمال، ولم أعد أمتطي القطارات، ولم أعد أرى وجوه سكان تلك العربة المتغيرين، نسيتهم تماماً..
دائماً كان يخطر، أن أكتب عن عربة الليل تلك، عن ناسها، ولا أفعل، دائماً كان يخطر ببالي ذلك.
1991
يخطر ببالي أن أكتب عن تلك المرأة ذات اللكنة الإسبانية، الخمسينية التي يبدو أنها تعمل في تنظيف المباني بقمطة رأسها، وبنظرتها المتعبة التي تذكّر لأمر ما بالغبار.
أكتب عن الزنجي الذي يبدأ في التمايل على صوت موسيقا المسجلة الصغيرة، الموصولة بأذنيه بسماعة من خصره، يتمايل أول الطريق ثم ما تلبث حركته أن تهدأ، ليبدأ رأسه الغافي بالارتجاج مع حركة القطار الذي يستند إلى زجاج نافذته.
عن مجموعة الشباب هذه التي تتحدث فيما بينها بلهجة ساحلية أعرفها، وتتحدث مع آخرين بالتركية. حينها كنت أهم بسؤالهم: "هل أنتم سوريون/ من اسكندرونة مثلاً؟" ثم أتراجع رغم أننا نهبط دائماً معاً في نفس المحطة.
أكتب عن الفتاة الشاحبة التي تعود دائماً آخر الليل وحيدة، أكتب متخيلاً مصائر البشر الآخرين: ذاك الشاب النحيل بنظاراته المدورة التي يشبه بها تروتسكي. أقول لنفسي: لا بدّ من أنه من أقصى اليسار، هارباً من بلده. ثم أتراجع لعله يميني مثلاً، أو حتى موغل في اليمينية. أو أن لا علاقة له لا باليمين ولا باليسار. أو أنه قد يكون فرنسياً، وليس منفياً كما أظن.
أكتب عن ذاك الكحولي العربي شمال الإفريقي، بشتائمه المليئة بكلمة "الحلوف" ببذلته الصفراء المخططة التي تشي بطبيعة عمله: تنظيف أروقة المترو. والذي يعود الآن ثملاً إلى عائلته الغاطة حتماً في النوم دون أن تتذكره.. أو لأن لا عائلة له هنا أبداً.. تركها هناك، وجاء إلى "نعيم" هنا ليُدفن في النبيذ الرديء، أو في أحد أقبية المترو مع أكوام النفايات.. أتخيل هذا المصير المأساوي المفاجئ، ثم أمرر نظري نحو شاب يبدو حزيناً، وأتخيل أنه بلا أحد، وأنه سيعود-مثلي- إلى برودة ووحدة غرفته.
وذاك الذي يحمل "جيتاراً" بات يهتز مع اهتزاز جسد المتعَب، فلا مكان آخر الليل، لتتحرك الأصابع فوق الأوتار، ولمحاولة جمع قطع النقود الصغيرة التي بذل مثلها طوال النهار.
أمرّر بصري فوق الوجوه، راسماً لها حالاتها، مشيداً في ذهني "سيناريوهات" لتفاصيل أيامها المتكررة، أو لتفاصيل عودتها الليلية هذه...
أنسج كل ذلك في ذهني، ثم يخطر ببالي ذلك: أن أكتب، ولكن ما أن أصل حتى يسرقني التعب إلى دفء فراش مفترَض.
ودائماً يخطر ببالي أن أكتب عن العربة هذه، ولا أفعل، بل أنني الآن لم أعد أستخدم تلك العربة أساساً، انتقلتُ من ضاحية الشمال، ولم أعد أمتطي القطارات، ولم أعد أرى وجوه سكان تلك العربة المتغيرين، نسيتهم تماماً..
دائماً كان يخطر، أن أكتب عن عربة الليل تلك، عن ناسها، ولا أفعل، دائماً كان يخطر ببالي ذلك.
1991