" صراخ الطابق السفلي" نص روائي للروائية والمترجمة د. فاطمة سالم الحاجي؛ صدرت عن دار النهضة العربية ببيروت سنة 2015، وتمزج الساردة فيها بين التطور الداخلي للشخصيات الفنية، ووعيها بالكينونة الذاتية، والتأويلات المحتملة للوجود، والهوية، وتحولات البنى الثقافية، والاجتماعية، وإمكانية التفاعل، والتداخل بين الهويات الثقافية، وتنوع اتجاهاتها بين النزعة الإنسانية الفردية، والأصالة المحلية، وتفكيك مركزية التعارض بين الذات، والآخر في حالات الحب، والتعاطف الكوني التي تنطوي عليها بنية التعارض الأولى نفسها؛ ومن ثم لا يمكن فصل عملية التفاعل الثقافي – في الرواية – عن تنوع الأصوات، والأنساق الخطابية الداخلية التي تكشف – بصورة أخرى – شعرية وعي المرأة، وخصوصية لغتها، وتأويلها للعالم؛ وبخاصة في شخصية البطلة / سعاد، وصديقتها عائشة، وما يؤسسه خطابهما الذاتي من تأويل نسوي للهوية الذاتية عبر إنتاجية خيالية للعلامة، ولأخيلة اليقظة التي تجسد البنى التفسيرية السيميائية لوجود الذات، وحضورها الاجتماعي في آن.
وترتكز ساردة فاطمة سالم الحاجي – في النص – على التبئير الداخلي المتنوع وفق تعبير جيرار جينيت؛ فهي تستبطن وعي الشخصيات، وتحولاتها الداخلية، وتنتقل من وعي سعاد، إلى كريستينا، ثم حازم، وذكرى صوت وليم، وتخصص جزءا كبيرا من النص لخطاب عائشة، واتصالها بآدم، وتداخل صوتها الأنثوي مع صوت سعاد في بحثهما عن الروح الفردية الأنثوية بعيدا عن منطق الهيمنة؛ ومن ثم فالشخصيات – في النص – متنوعة في مواقفها، وعوالمها الداخلية، وأخيلتها، ولغتها التفسيرية للوجود، وللهوية الثقافية، ولا تتصل جميعها بحدث واحد، وإنما لكل منها حضور فردي، وتطور خاص رغم تداخل أنساقها الخطابية، ووعيها بالكينونة، وبالآخر أحيانا؛ وأرى أن تنوع العوالم النسبية الفردية – في نص فاطمة الحاجي – يمنح السياق الروائي تعددية تفسيرية تحتفي بالمشترك الإنساني بين الهويات من جهة، وتعزز من كشف السرد الروائي عن الروح الفردية الأنثوية، وشعريتها الخاصة – عبر التبئير المتنوع - من جهة أخرى.
وثيمة التداخل بين الهويات الثقافية تواترت بصور، ودرجات مختلفة في تاريخ الرواية العربية الحديثة، ويمكننا تلمسها في شخصيات بعض روايات نجيب محفوظ، ومنيف، وجبرا إبراهيم جبرا، وأمين معلوف، وأهداف سويف، وقد جسدت رواية فاطمة الحاجي ذلك التداخل في في شبكة من العلاقات الفنية النسبية بين الذات، والآخر، وفي سياق حضاري يسوده التعارض بينما تبحث شخصياته عن المشترك الفردي، والإنساني، فضلا عن الإنتاجية التصويرية النسبية لوعي الأنثى، وطرائق رؤيتها للعالم، وللتاريخ، ولعلامات الهيمنة الرمزية التي قدمتها الساردة في مسافة تقع بين الواقع، وعوالم اللاوعي، وفي صورة تتجاور فيها غريزتا الموت، والحياة طبقا للتصور الفرويدي.
وقد أشار إدوارد سعيد إلى تداخل الهويات الثقافية في حديثه عن كتاب موسى والتوحيد لفرويد؛ وذلك في كتابه المعنون ب فرويد وغير الأوروبيين؛ ويومئ سعيد – في دراسته – إلى شخصية هانيبال الذي تناوله فرويد كبطل، وإن بدد حياته عبثا، وهو يحاول فتح روما، ويرى سعيد أن هانيبال كان قابلا للذوبان في بوتقة أوربا الثقافية، دون تعارض جذري بين الآسيوي، والإغريقي. (1).
ويستمر سعيد في الكشف عن علاقة الأوربي، والإغريقي بالتراث الشرقي في وعي فرويد نفسه؛ ومن ثم يعزز خطاب سعيد من التداخل الطبيعي الإنساني بين الهويات، رغم وجود التعارض الظاهر بينها في حالات كثيرة؛ وهو ما نعاينه في نص فاطمة سالم الحاجي؛ فشخصية آدم تتطور فنيا من التعارض البنائي بين الذات، والآخر في حرب تشاد إلى الاتصال الروحي بصورة الفتاة التي يجمع تكوينها بين السمات العربية، والأفريقية؛ ومن ثم تنفك مركزية التعارض البنائي بين الهويات في وعيه، ولاوعيه، كما تحمل كريستينا – في ذاكرتها، وفي تطورها النفسي – صورة التفسير الروحي للوجود، وأزمة التوتر بين الروح والجسد في خطاب وليم؛ ومن ثم يصير خطاب وليم الشرقي / الهندي جزءا من تطور كريستينا، وتأويلها لوجودها، وروحها الفردية الغربية في النص.
ويمكننا تلمس التفاعل، والتداخل بين الهويات في الأنساق الخطابية لحازم، وكريستينا، وصوت وليم المستعاد، وآدم؛ فقد نسجت هذه الشخصيات وعيا مغايرا بالذات، والآخر، وقضايا الوجود.
يرى حازم أن التاريخ يمثل الهوية، وهو الجذور، وهو الوجود؛ أما كريستينا فترى أن إدراك حقيقة الهوية يتحقق حين نعانق الحضور الداخلي، والتأملات الذاتية، والبحث عن الروح الفردية في السياق الإنساني. (2).
إن خطاب حازم ينطوي على أصالة المحلي بينما يمارس – في لحظة الحكي – نوعا من التعاطف والحب إزاء الآخر / كريستينا؛ ومن ثم ينطوي التعارض عنده على الروح الفردية، ورغبتها في الاتصال بالآخر، والتحرر من الهيمنة الرمزية؛ أما كريستينا فتعزز من هويتها الفردية من خلال خصوصية انطباعاتها الذاتية الأنثوية عن فضاءات المكان / ليبيا، والحضور الشرقي المغاير لحازم الذي قد يكون بديلا عن صورة حبيبها السابق الشرقي أيضا / وليم.
أما خطاب وليم الذي كشف عنه السرد في وعي ولاوعي كريستينا؛ فيرتكز على بحث وليم عن السكينة، والتعالي الروحي، وحل أزمة علاقة الروح بالجسد، وتعقيداتها الداخلية في وعيه؛ ويومئ النص إلى انتحاره بالقفز من ضفة إلى أخرى في رحلة بحثه عن السكينة، كما يومئ إلى أخيلة اتصاله بأرواح أقربائه. (3).
لقد انتقل وعي وليم – إذا – من حالة التفاعل الطبيعي بين روحه الشرقية، والنزعة الفردية لدى حبيبته كريستينا إلى حالة العبور الكامل للجسدي، والدنيوي باتجاه الروح، وعالم الأطياف، وإن كانت رسالته التي تركها بعد الانتحار مازالت متعلقة بذات كريستينا؛ ومن ثم فحالة الطفرة الروحية جاءت حاملة لأثر التفاعل الثقافي البيني في العلاقات البنائية المتشابكة للهويات الثقافية العالمية.
وتتجسد الفتاة التشادية مثل قمر أسمر في أخيلة آدم في قلب سياق الحرب، والتصاعد العدائي بين الذات، والآخر في حرب تشاد، ويعلن – في خطابه – أنه أحب مدينتها التي تدعى فايا لارقو، وعشق شخصيتها العربية الممزوجة بدماء زنجية.(4).
يكمن الاتصال، والتفاعل الطبيعي – إذا – في المستوى العميق من وعي، ولا وعي آدم بعيدا عن الصخب العدائي الظاهر للحرب؛ وكأنه يبحث في سياق الحرب نفسها عن شكل مغاير من الهوية؛ تنفتح فيه الذات على الآخر، وأصالته الإنسانية، ونسبية تشكله الشعري الظاهراتي في الوعي المدرك، وإنتاجيته الخيالية.
ويمكننا قراءة خصوصية اللغة، وشعرية التأويل النسوي للوجود في خطابي البطلة / سعاد، وصديقتها / عائشة؛ فكل منهما تبحث عن الروح الفردية، وتحتفي بالتأملات التصويرية الأنثوية التي تذكرنا بطاقة الأنيما، وتأملاتها طبقا لتصور باشلار في كتابه شاعرية أحلام اليقظة؛ فهما تعارضان منطق الهيمنة في الحالات المتعلقة بطمس هوية الآخر الفردية في البنى الاجتماعية.
ترسم سعاد صورة تأويلية لشعرية وجودها الذاتي بعدما التقت بطاهر قبل أن تكتشف حقيقته؛ فرأت نفسها في غابة مسحورة لا يسكنها إلا العشاق، وتحلقت حولها رقصة بهيجة للأطياف التي ألبستها إكليلا من الضياء، وثوبا حريريا، وشعرت أنها تخلصت من تأثير الجاذبية، ثم عادت بعدها إلى إدراك فضاء الغرفة. (5).
تتشكل هوية سعاد في بنيتي الحضور الفردي الشعري في اللغة، وإنتاجيتها لفضاء انفصالي مغاير، وفي بنية تأملات الرقصة الكونية الحلمية التي تجسد أخيلتها الأنثوية المؤولة للواقع / فضاء الغرفة من منظور نسوي تصويري، يرتكز على الحب، واتساع الهوية الفردية.
وسنلاحظ أن الساردة عرضت لشخصيتي طاهر، والرجل الذي مارس القهر على عائشة بصورة ساكنة رمزية للهيمنة، بينما أحدثت طفرات، وتحولات فردية في بنى الشخصيات الفنية الأخرى؛ وبخاصة سعاد، وعائشة، وآدم، وويلم؛ وهو ما يعكس ثراء الشخصية الفنية المتحولة في النص الروائي، وتعارضها مع النماذج الساكنة.
وقد مارست سعاد حالة التأملات الأنثوية الإنتاجية حين مرت بالمقبرة، وتساءلت عن المدلول الفلسفي للحزن؛ فربما صارت العظام ترابا، ثم مزج وعيها المبدع بين لون شقائق النعمان الأحمر، ودماء الموتى، ونسجت حضورا شعريا للفضاء من داخل العلاقات الجمالية السيميائية بين البحر، والزهرة البنفسجية، والأخرى البيضاء التي اتصلت فيزيقيا بالأخرى. (6)
لقد امتزت شعرية الوعي التصويري لسعاد بنماذج اللاوعي الجمعي، وذكرتني بتصور جيمس فريزر عن أخيلة عودة الربيع، وعلاقته بشقائق النعمان في كتابه أدونيس، أو تموز؛ ومن ثم يمزج وعي سعاد الأنثوي التفسيري بين أخيلة الموت، والحياة، والانبعاث في موقفها من ظاهرية الفضاء، وبنية الموت التي تبدو مؤجلة في الأخيلة الأنثوية للبطلة.
وتبدو مثل هذه التأملات النسوية الإبداعية التفسيرية للذات، وللوجود في خطاب عائشة أيضا في سياق بحثها المستمر عن آدم، وذكرى انتهاك جسده وهويتها الفردية في الفضاء الواقعي الكابوسي الذي اختطفت فيه في النص.
يتحول الحصان المرسوم في لوحة قديمة بمنزل عائشة إلى حصان آخر يبدو مجنحا مثل البراق، وتزدوج صورته بالبحث عن آدم، ورؤية كابوسية أخرى يأمر فيها العائلة بأن تغادر المنزل؛ لأنه مسكون بالجان.(7).
ونلاحظ – إذا – تواتر الإنتاجية التصويرية النسوية، واستعادة نماذج اللاوعي الجمعي في النسق السيميائي للخطاب النسوي المؤول للهوية في خطاب عائشة؛ ووعيها الشعري الذي يعاين الصورة الإيجابية للحصان في سياق تأكيد الروح الفردية، والحب؛ بينما يتجلى الحصان بصورة حلمية كابوسية في سياق الهيمنة، والخروج القسري من التجسد الفردي، أو من الفضاء / المنزل، أو من الواقع الفيزيقي برمته؛ وهو ما سيبدو في انتحارها، وبحثها عن الخلاص الفردي الحلمي في النهاية حين تلح على وعيها، ولاوعيها حادثة انتهاك روحها، وجسدها.
وسنلاحظ أن خروج الحصان التصويري من اللوحة يومئ إلى ملمح جمالي من ملامح ما بعد الحداثية، وإن جاء في سياق بنية الحلم؛ إذ تنفك بنية الإطار في الوعي المدرك للذات.
لقد تجلى الفضاء الكابوسي الواقعي الذي اختطفت فيه عائشة مثل قبر، أو مستشفى للصرع، وكان يشبه المتاهة، وشعرت بوخزة، وهي بصحبة امرأة تبدو كممرضة.(8).
لقد ارتكز الخطاب الكابوسي أيضا على البنية التصويرية الحلمية لانتهاك الذات، والفضاء الفيزيقي، أو العالم الممثل للهوية بين الحلم، والواقع؛ وستسهم هذه الخبرة في عبور عائشة لأزمة الهوية بصورة سلبية، وإن ظل طيفها يبحث عن التحرر الفردي النسوي مثل البطلة /سعاد.
إن رواية فاطمة سالم الحاجي تحتفي – إذا – بشعرية وعي الأنثى، وخطابها التفسيري في سياق التحولات الحضارية، وشبكة التفاعلات الواسعة بين الأصوات، والهويات الثقافية.
*هوامش الدراسة:
(1) راجع، إدوارد سعيد، فرويد، وغير الأوربيين، ت: فاضل جتكر، دار الآداب ببيروت، ط1، 2004، ص-ص 24، 25.
(2) راجع، د. فاطمة سالم الحاجي، صراخ الطابق السفلي، دار النهضة العربية ببيروت، 2015، ص-ص 107، 108.
(3) راجع، السابق، ص 137.
(4) راجع، السابق، ص-ص 306، 307.
(5) راجع، السابق، ص 33.
(6) راجع، السابق، من ص 50: ص52.
(7) راجع، السابق، ص 243.
(8) راجع، السابق، ص 282.
د. محمد سمير عبد السلام – مصر
وترتكز ساردة فاطمة سالم الحاجي – في النص – على التبئير الداخلي المتنوع وفق تعبير جيرار جينيت؛ فهي تستبطن وعي الشخصيات، وتحولاتها الداخلية، وتنتقل من وعي سعاد، إلى كريستينا، ثم حازم، وذكرى صوت وليم، وتخصص جزءا كبيرا من النص لخطاب عائشة، واتصالها بآدم، وتداخل صوتها الأنثوي مع صوت سعاد في بحثهما عن الروح الفردية الأنثوية بعيدا عن منطق الهيمنة؛ ومن ثم فالشخصيات – في النص – متنوعة في مواقفها، وعوالمها الداخلية، وأخيلتها، ولغتها التفسيرية للوجود، وللهوية الثقافية، ولا تتصل جميعها بحدث واحد، وإنما لكل منها حضور فردي، وتطور خاص رغم تداخل أنساقها الخطابية، ووعيها بالكينونة، وبالآخر أحيانا؛ وأرى أن تنوع العوالم النسبية الفردية – في نص فاطمة الحاجي – يمنح السياق الروائي تعددية تفسيرية تحتفي بالمشترك الإنساني بين الهويات من جهة، وتعزز من كشف السرد الروائي عن الروح الفردية الأنثوية، وشعريتها الخاصة – عبر التبئير المتنوع - من جهة أخرى.
وثيمة التداخل بين الهويات الثقافية تواترت بصور، ودرجات مختلفة في تاريخ الرواية العربية الحديثة، ويمكننا تلمسها في شخصيات بعض روايات نجيب محفوظ، ومنيف، وجبرا إبراهيم جبرا، وأمين معلوف، وأهداف سويف، وقد جسدت رواية فاطمة الحاجي ذلك التداخل في في شبكة من العلاقات الفنية النسبية بين الذات، والآخر، وفي سياق حضاري يسوده التعارض بينما تبحث شخصياته عن المشترك الفردي، والإنساني، فضلا عن الإنتاجية التصويرية النسبية لوعي الأنثى، وطرائق رؤيتها للعالم، وللتاريخ، ولعلامات الهيمنة الرمزية التي قدمتها الساردة في مسافة تقع بين الواقع، وعوالم اللاوعي، وفي صورة تتجاور فيها غريزتا الموت، والحياة طبقا للتصور الفرويدي.
وقد أشار إدوارد سعيد إلى تداخل الهويات الثقافية في حديثه عن كتاب موسى والتوحيد لفرويد؛ وذلك في كتابه المعنون ب فرويد وغير الأوروبيين؛ ويومئ سعيد – في دراسته – إلى شخصية هانيبال الذي تناوله فرويد كبطل، وإن بدد حياته عبثا، وهو يحاول فتح روما، ويرى سعيد أن هانيبال كان قابلا للذوبان في بوتقة أوربا الثقافية، دون تعارض جذري بين الآسيوي، والإغريقي. (1).
ويستمر سعيد في الكشف عن علاقة الأوربي، والإغريقي بالتراث الشرقي في وعي فرويد نفسه؛ ومن ثم يعزز خطاب سعيد من التداخل الطبيعي الإنساني بين الهويات، رغم وجود التعارض الظاهر بينها في حالات كثيرة؛ وهو ما نعاينه في نص فاطمة سالم الحاجي؛ فشخصية آدم تتطور فنيا من التعارض البنائي بين الذات، والآخر في حرب تشاد إلى الاتصال الروحي بصورة الفتاة التي يجمع تكوينها بين السمات العربية، والأفريقية؛ ومن ثم تنفك مركزية التعارض البنائي بين الهويات في وعيه، ولاوعيه، كما تحمل كريستينا – في ذاكرتها، وفي تطورها النفسي – صورة التفسير الروحي للوجود، وأزمة التوتر بين الروح والجسد في خطاب وليم؛ ومن ثم يصير خطاب وليم الشرقي / الهندي جزءا من تطور كريستينا، وتأويلها لوجودها، وروحها الفردية الغربية في النص.
ويمكننا تلمس التفاعل، والتداخل بين الهويات في الأنساق الخطابية لحازم، وكريستينا، وصوت وليم المستعاد، وآدم؛ فقد نسجت هذه الشخصيات وعيا مغايرا بالذات، والآخر، وقضايا الوجود.
يرى حازم أن التاريخ يمثل الهوية، وهو الجذور، وهو الوجود؛ أما كريستينا فترى أن إدراك حقيقة الهوية يتحقق حين نعانق الحضور الداخلي، والتأملات الذاتية، والبحث عن الروح الفردية في السياق الإنساني. (2).
إن خطاب حازم ينطوي على أصالة المحلي بينما يمارس – في لحظة الحكي – نوعا من التعاطف والحب إزاء الآخر / كريستينا؛ ومن ثم ينطوي التعارض عنده على الروح الفردية، ورغبتها في الاتصال بالآخر، والتحرر من الهيمنة الرمزية؛ أما كريستينا فتعزز من هويتها الفردية من خلال خصوصية انطباعاتها الذاتية الأنثوية عن فضاءات المكان / ليبيا، والحضور الشرقي المغاير لحازم الذي قد يكون بديلا عن صورة حبيبها السابق الشرقي أيضا / وليم.
أما خطاب وليم الذي كشف عنه السرد في وعي ولاوعي كريستينا؛ فيرتكز على بحث وليم عن السكينة، والتعالي الروحي، وحل أزمة علاقة الروح بالجسد، وتعقيداتها الداخلية في وعيه؛ ويومئ النص إلى انتحاره بالقفز من ضفة إلى أخرى في رحلة بحثه عن السكينة، كما يومئ إلى أخيلة اتصاله بأرواح أقربائه. (3).
لقد انتقل وعي وليم – إذا – من حالة التفاعل الطبيعي بين روحه الشرقية، والنزعة الفردية لدى حبيبته كريستينا إلى حالة العبور الكامل للجسدي، والدنيوي باتجاه الروح، وعالم الأطياف، وإن كانت رسالته التي تركها بعد الانتحار مازالت متعلقة بذات كريستينا؛ ومن ثم فحالة الطفرة الروحية جاءت حاملة لأثر التفاعل الثقافي البيني في العلاقات البنائية المتشابكة للهويات الثقافية العالمية.
وتتجسد الفتاة التشادية مثل قمر أسمر في أخيلة آدم في قلب سياق الحرب، والتصاعد العدائي بين الذات، والآخر في حرب تشاد، ويعلن – في خطابه – أنه أحب مدينتها التي تدعى فايا لارقو، وعشق شخصيتها العربية الممزوجة بدماء زنجية.(4).
يكمن الاتصال، والتفاعل الطبيعي – إذا – في المستوى العميق من وعي، ولا وعي آدم بعيدا عن الصخب العدائي الظاهر للحرب؛ وكأنه يبحث في سياق الحرب نفسها عن شكل مغاير من الهوية؛ تنفتح فيه الذات على الآخر، وأصالته الإنسانية، ونسبية تشكله الشعري الظاهراتي في الوعي المدرك، وإنتاجيته الخيالية.
ويمكننا قراءة خصوصية اللغة، وشعرية التأويل النسوي للوجود في خطابي البطلة / سعاد، وصديقتها / عائشة؛ فكل منهما تبحث عن الروح الفردية، وتحتفي بالتأملات التصويرية الأنثوية التي تذكرنا بطاقة الأنيما، وتأملاتها طبقا لتصور باشلار في كتابه شاعرية أحلام اليقظة؛ فهما تعارضان منطق الهيمنة في الحالات المتعلقة بطمس هوية الآخر الفردية في البنى الاجتماعية.
ترسم سعاد صورة تأويلية لشعرية وجودها الذاتي بعدما التقت بطاهر قبل أن تكتشف حقيقته؛ فرأت نفسها في غابة مسحورة لا يسكنها إلا العشاق، وتحلقت حولها رقصة بهيجة للأطياف التي ألبستها إكليلا من الضياء، وثوبا حريريا، وشعرت أنها تخلصت من تأثير الجاذبية، ثم عادت بعدها إلى إدراك فضاء الغرفة. (5).
تتشكل هوية سعاد في بنيتي الحضور الفردي الشعري في اللغة، وإنتاجيتها لفضاء انفصالي مغاير، وفي بنية تأملات الرقصة الكونية الحلمية التي تجسد أخيلتها الأنثوية المؤولة للواقع / فضاء الغرفة من منظور نسوي تصويري، يرتكز على الحب، واتساع الهوية الفردية.
وسنلاحظ أن الساردة عرضت لشخصيتي طاهر، والرجل الذي مارس القهر على عائشة بصورة ساكنة رمزية للهيمنة، بينما أحدثت طفرات، وتحولات فردية في بنى الشخصيات الفنية الأخرى؛ وبخاصة سعاد، وعائشة، وآدم، وويلم؛ وهو ما يعكس ثراء الشخصية الفنية المتحولة في النص الروائي، وتعارضها مع النماذج الساكنة.
وقد مارست سعاد حالة التأملات الأنثوية الإنتاجية حين مرت بالمقبرة، وتساءلت عن المدلول الفلسفي للحزن؛ فربما صارت العظام ترابا، ثم مزج وعيها المبدع بين لون شقائق النعمان الأحمر، ودماء الموتى، ونسجت حضورا شعريا للفضاء من داخل العلاقات الجمالية السيميائية بين البحر، والزهرة البنفسجية، والأخرى البيضاء التي اتصلت فيزيقيا بالأخرى. (6)
لقد امتزت شعرية الوعي التصويري لسعاد بنماذج اللاوعي الجمعي، وذكرتني بتصور جيمس فريزر عن أخيلة عودة الربيع، وعلاقته بشقائق النعمان في كتابه أدونيس، أو تموز؛ ومن ثم يمزج وعي سعاد الأنثوي التفسيري بين أخيلة الموت، والحياة، والانبعاث في موقفها من ظاهرية الفضاء، وبنية الموت التي تبدو مؤجلة في الأخيلة الأنثوية للبطلة.
وتبدو مثل هذه التأملات النسوية الإبداعية التفسيرية للذات، وللوجود في خطاب عائشة أيضا في سياق بحثها المستمر عن آدم، وذكرى انتهاك جسده وهويتها الفردية في الفضاء الواقعي الكابوسي الذي اختطفت فيه في النص.
يتحول الحصان المرسوم في لوحة قديمة بمنزل عائشة إلى حصان آخر يبدو مجنحا مثل البراق، وتزدوج صورته بالبحث عن آدم، ورؤية كابوسية أخرى يأمر فيها العائلة بأن تغادر المنزل؛ لأنه مسكون بالجان.(7).
ونلاحظ – إذا – تواتر الإنتاجية التصويرية النسوية، واستعادة نماذج اللاوعي الجمعي في النسق السيميائي للخطاب النسوي المؤول للهوية في خطاب عائشة؛ ووعيها الشعري الذي يعاين الصورة الإيجابية للحصان في سياق تأكيد الروح الفردية، والحب؛ بينما يتجلى الحصان بصورة حلمية كابوسية في سياق الهيمنة، والخروج القسري من التجسد الفردي، أو من الفضاء / المنزل، أو من الواقع الفيزيقي برمته؛ وهو ما سيبدو في انتحارها، وبحثها عن الخلاص الفردي الحلمي في النهاية حين تلح على وعيها، ولاوعيها حادثة انتهاك روحها، وجسدها.
وسنلاحظ أن خروج الحصان التصويري من اللوحة يومئ إلى ملمح جمالي من ملامح ما بعد الحداثية، وإن جاء في سياق بنية الحلم؛ إذ تنفك بنية الإطار في الوعي المدرك للذات.
لقد تجلى الفضاء الكابوسي الواقعي الذي اختطفت فيه عائشة مثل قبر، أو مستشفى للصرع، وكان يشبه المتاهة، وشعرت بوخزة، وهي بصحبة امرأة تبدو كممرضة.(8).
لقد ارتكز الخطاب الكابوسي أيضا على البنية التصويرية الحلمية لانتهاك الذات، والفضاء الفيزيقي، أو العالم الممثل للهوية بين الحلم، والواقع؛ وستسهم هذه الخبرة في عبور عائشة لأزمة الهوية بصورة سلبية، وإن ظل طيفها يبحث عن التحرر الفردي النسوي مثل البطلة /سعاد.
إن رواية فاطمة سالم الحاجي تحتفي – إذا – بشعرية وعي الأنثى، وخطابها التفسيري في سياق التحولات الحضارية، وشبكة التفاعلات الواسعة بين الأصوات، والهويات الثقافية.
*هوامش الدراسة:
(1) راجع، إدوارد سعيد، فرويد، وغير الأوربيين، ت: فاضل جتكر، دار الآداب ببيروت، ط1، 2004، ص-ص 24، 25.
(2) راجع، د. فاطمة سالم الحاجي، صراخ الطابق السفلي، دار النهضة العربية ببيروت، 2015، ص-ص 107، 108.
(3) راجع، السابق، ص 137.
(4) راجع، السابق، ص-ص 306، 307.
(5) راجع، السابق، ص 33.
(6) راجع، السابق، من ص 50: ص52.
(7) راجع، السابق، ص 243.
(8) راجع، السابق، ص 282.
د. محمد سمير عبد السلام – مصر