يعَد العجيب مقولة تصنيفية – إجناسية، بينما يعَد الأعجب صيغة تفضيل تحمل في طياتها بعْدا تثمينيا. والخلط بينهما غير مقبول، وقبل الفصل في هذا الأمر لا بأس من ترتيب القضايا المتعلقة به. وهي ثلاثة: ما المقصود بالعجيب؟ مدى انطباقه على الحكايا في»ألف ليلة وليلة»؟ وبأي صيغة ممْكِنة؟ أتعَد صيغة التفضيل «أعجب» دالة على بعد تصنيفي؛ أي أنها مشتقة من مقولة إجناسية أم لا؟
لا ريب أن الحكي العجيب قد نظر إليه من زاوية إقحام المنافي لغير الطبيعي في ثنايا صيرورة واقعية (الجن- السحر- إسناد خاصيات إنسانية للجماد والحيوان- خرق قوانين الطبيعة…الخ)، وهو مخالف للغريب الدال على سلوك إنساني طبيعي لكنه يتميز بالغرابة، وعدم تطابقه مع العادي والجاري، ومخالف أيضا للفانتازي الدال على التردد بين الطبيعي وغير الطبيعي (تودوروف)، مثل ما يَرِد في قصة محمد أنقار «ألم الاحتضار»؛ حيث يتكلم الميت وهو محمول في النعش. لقد تعرضت هذه التحديدات للنقد الشديد، خاصة منها المقولة الإجناسية الأخيرة، لكن مَهمتنا، لا تكمن- هنا- في إبراز الثغرات، بقدر ما تكمن في أمرين: أ- كون العجيب لا يتصل بالإجناس الأدبي، وإنما بالإجناس الخطابي (باختين). ولا يعَد هذا الأمر مشكلة حادة حتى نفرد له نصيبا وافرا من النظر. ب- الكيفية التي طبقت بموجبها مقولة العجيب على نصوص «ألف ليلة وليلة». وأول ما نعترض عليه هو التعامل مع الليالي وكأنها تتضمن الوعي الإجناسي الخاص بهذه المقولة؛ وهذا أمر غير مقبول؛ فهي متأتية من فكر نظري معاصر؛ وإذا لم يكن هناك تنظير نقدي في التراث العربي للحكي عامة، والليالي خاصة، فإن هناك في الاستعمال اللساني لمفهوم العجيب ما يفيد في هذا النطاق؛ حيث يحدد انطلاقا من ثلاثة عناصر: مخالفة العرْف والعادة، وتحقيق الإجادة في الصنع (الحسن)، وترك الأثر السار في النفس. وهذه العناصر هي التي تسمح بإدراج كل حكايات الليالي ضمن العجيب، لا تصور تودوروف؛ فإذا ما أخدنا بتطبيق هذا الأخير عليها فستستعصي حكايات كثيرة على تصنيفها ضمنه، ومنها حكاية هشام بن عبد الملك مع الفتى الأعرابي التي لا تتوفر على عناصر غير طبيعية.
لا يمكِن معالجة العجيب في الليالي من دون ربط العناصر الثلاثة التي سبق ذكرها بمفهوم اصطلاح «الحديث» الوارد في الليالي على لسان شهرزاد قبْل شروعها في السرد، وبما لحقه من توصيف في العبارة الآتية: «يا أختي حدثينا حديثا غريبا نقطع به السهر»؛ فالنعت «غريب» الوارد- هنا- يحرج النظرية الإجناسية التي تميز الغريب من العجيب، ومن ثمة فالأنسب هو الأخذ بالعناصر الثلاثة التي ذكرناها، والتي تتضمن «غير المألوف» في حزمتها. ومما ينبغي الوقوف عنده في هذا النطاق المسمى الذي ينطبق عليه النعت، ألا وهو الحديث؛ فبه يكتمل النظر. ويقوم هذا الأخير على عناصر ثلاثة: الجدة، والإسناد، والجهة الموجه إليها. ولا بد للحديث الغريب المعْجِب- وفق هذه الخاصيات الثلاث- من أن يكون جديدا غير قديم، وعلينا أن نفهم الجديد- هنا- بكون سماعه ومعرفته غير مسبوقيْن، وأن يكون مسندا إلى جهة موثوق بها، ولا أوثقَ من المكتبة التي تروي شهرزاد من مخزونها، وأن يكون موجها إلى جهة سامية (الملوك)؛ إذ يعَد الرجل الحَدِث منْ كان محدثا الملوك ومصاحبا إياهم. وترتبط هذه العناصر الثلاثة بإيتوس سارد الحديث المعجِب؛ حيث إنها تحدد المواصفات المتعلقة بالوضع الذي يسمح له بالحكي من جهة، وبأن يكون فعل سرده مقبولا، ومعترَفا به. ومن ثمة يؤدي ربط المعجِب بالحديث من حيث هو وضع سردٍ وتلق إلى تغيير جذري في مفهوم العجيب؛ حيث لا ينفصل فيه موضوع الحكاية وبنيتها عن الطريقة التي يسردان بوساطتها في مقام تلفظي معين.
تسمح لنا المراجعة أعلاه بمعالجة صيغة التفضيل «أعجب» التي تَرِد في متم بعض الحكايات، أو ما يوازيها (أين من هذا الحكاية المقبلة). وتكمن وظيفة هذه الصيغة في أمريْن: أ- تبرير الانتقال السردي من حكاية إلى أخرى، ب- ضمان التماسك النصي الماثل في مجاورة حكاية لأخرى. لكنْ إلى أي حد يمْكِن تعميم هذه الصيغة في ترتيب الحكايات وفق الأسبقية في الورود حسب سلم الأفضلية، أي ورودها وفق الصعود من العجيب صوب الأعجب (سعاد مسكين)؟ قد يكون هذا غير ممْكِن لأسباب ثلاثة: أولها أن الأمر لا يتعلق بالعجيب كما هو مصوغ من قِبَل تودوروف، وقد أوضحنا هذا الأمر في ما سبق. وثانيها يتعلق بالحكايات التي أضيفت إلى ألف ليلة وليلة مع توالي العصور، وتعاقب المدونين؛ فكيف يمكِن تصنيفها وفق سلم الأفضلية إذا كانت تقلد ما أنجزته شهرزاد من حكي، والمقلد يقصر عن المقلد، فكيف يكون أعجب منه؟ ويتمثل السبب الثالث- وهو الأقوى- في كون صيغة التفضيل «أعجب»، أو ما يوازيها من عبارة، لا يتعلقان بموضوع الحكاية أو تصنيفها، وإنما بفعل السرد؛ فهي تَرِد ردا على تثمين مضمَر غير معلن عنه نصا من قِبَل شهريار، أو ردا على تثمين دنيا زاد المصرح به. ويقام صيغة التفضيل «أعجب»، وما يوازيها، على وظيفة خاصة fonction accentuelle تقع في نهاية الحكاية (فولوشينوف)، وهي ما تجعل الحكاية ممتدة في الحكايات الأخرى، كما أنها تؤشر إلى الخطاب؛ حيث تتقاطع فعالية السارد والمسرود له. وإذا كان هناك من أفضلية- في هذا الصدد- فهي راجعة إلى طريقة أداء السرد من قِبَل شهرزاد؛ وينبغي فهم صيغة «أعجب» في إطار كون صيغة التفضيل تتصل بمراتب الكلام (مراتب أفعال السرد)، كما ذكر هذا ابن أبي حديد في نص له أورده الزركشي في «البرهان في علوم القرآن» (محمد الحيرش). ومراتب أفعال السرد (طرائق السرد) لا يحسم فيها إلا بالذوق الذي يتأتى بالقدرة على الحكي، والخبرة بأحواله، ومقتضياته النصية، لا بالقدرة والخبرة العلميتين أو المنطقيتين، وتقوم ثقافة السارد في الليالي بدور مهم (الزاد الماثل في المكتبة، ومراعاة وضع شهريار، وتوقيف الحكايا واستئنافها، والتنويع، ومراعاة معرفة المسرود له التي تقتضي عدم مجاوزة حد العَجَب نحو العجاب الذي يقع خارجه). ومن ثمة يرتبط الأعجب بالطريقة التي تتصل بالصناعة المتفردة في السرد، والتي هي قليلة الاعتياد أو منعدمته.
٭ أكاديمي وأديب مغربي
لا ريب أن الحكي العجيب قد نظر إليه من زاوية إقحام المنافي لغير الطبيعي في ثنايا صيرورة واقعية (الجن- السحر- إسناد خاصيات إنسانية للجماد والحيوان- خرق قوانين الطبيعة…الخ)، وهو مخالف للغريب الدال على سلوك إنساني طبيعي لكنه يتميز بالغرابة، وعدم تطابقه مع العادي والجاري، ومخالف أيضا للفانتازي الدال على التردد بين الطبيعي وغير الطبيعي (تودوروف)، مثل ما يَرِد في قصة محمد أنقار «ألم الاحتضار»؛ حيث يتكلم الميت وهو محمول في النعش. لقد تعرضت هذه التحديدات للنقد الشديد، خاصة منها المقولة الإجناسية الأخيرة، لكن مَهمتنا، لا تكمن- هنا- في إبراز الثغرات، بقدر ما تكمن في أمرين: أ- كون العجيب لا يتصل بالإجناس الأدبي، وإنما بالإجناس الخطابي (باختين). ولا يعَد هذا الأمر مشكلة حادة حتى نفرد له نصيبا وافرا من النظر. ب- الكيفية التي طبقت بموجبها مقولة العجيب على نصوص «ألف ليلة وليلة». وأول ما نعترض عليه هو التعامل مع الليالي وكأنها تتضمن الوعي الإجناسي الخاص بهذه المقولة؛ وهذا أمر غير مقبول؛ فهي متأتية من فكر نظري معاصر؛ وإذا لم يكن هناك تنظير نقدي في التراث العربي للحكي عامة، والليالي خاصة، فإن هناك في الاستعمال اللساني لمفهوم العجيب ما يفيد في هذا النطاق؛ حيث يحدد انطلاقا من ثلاثة عناصر: مخالفة العرْف والعادة، وتحقيق الإجادة في الصنع (الحسن)، وترك الأثر السار في النفس. وهذه العناصر هي التي تسمح بإدراج كل حكايات الليالي ضمن العجيب، لا تصور تودوروف؛ فإذا ما أخدنا بتطبيق هذا الأخير عليها فستستعصي حكايات كثيرة على تصنيفها ضمنه، ومنها حكاية هشام بن عبد الملك مع الفتى الأعرابي التي لا تتوفر على عناصر غير طبيعية.
لا يمكِن معالجة العجيب في الليالي من دون ربط العناصر الثلاثة التي سبق ذكرها بمفهوم اصطلاح «الحديث» الوارد في الليالي على لسان شهرزاد قبْل شروعها في السرد، وبما لحقه من توصيف في العبارة الآتية: «يا أختي حدثينا حديثا غريبا نقطع به السهر»؛ فالنعت «غريب» الوارد- هنا- يحرج النظرية الإجناسية التي تميز الغريب من العجيب، ومن ثمة فالأنسب هو الأخذ بالعناصر الثلاثة التي ذكرناها، والتي تتضمن «غير المألوف» في حزمتها. ومما ينبغي الوقوف عنده في هذا النطاق المسمى الذي ينطبق عليه النعت، ألا وهو الحديث؛ فبه يكتمل النظر. ويقوم هذا الأخير على عناصر ثلاثة: الجدة، والإسناد، والجهة الموجه إليها. ولا بد للحديث الغريب المعْجِب- وفق هذه الخاصيات الثلاث- من أن يكون جديدا غير قديم، وعلينا أن نفهم الجديد- هنا- بكون سماعه ومعرفته غير مسبوقيْن، وأن يكون مسندا إلى جهة موثوق بها، ولا أوثقَ من المكتبة التي تروي شهرزاد من مخزونها، وأن يكون موجها إلى جهة سامية (الملوك)؛ إذ يعَد الرجل الحَدِث منْ كان محدثا الملوك ومصاحبا إياهم. وترتبط هذه العناصر الثلاثة بإيتوس سارد الحديث المعجِب؛ حيث إنها تحدد المواصفات المتعلقة بالوضع الذي يسمح له بالحكي من جهة، وبأن يكون فعل سرده مقبولا، ومعترَفا به. ومن ثمة يؤدي ربط المعجِب بالحديث من حيث هو وضع سردٍ وتلق إلى تغيير جذري في مفهوم العجيب؛ حيث لا ينفصل فيه موضوع الحكاية وبنيتها عن الطريقة التي يسردان بوساطتها في مقام تلفظي معين.
تسمح لنا المراجعة أعلاه بمعالجة صيغة التفضيل «أعجب» التي تَرِد في متم بعض الحكايات، أو ما يوازيها (أين من هذا الحكاية المقبلة). وتكمن وظيفة هذه الصيغة في أمريْن: أ- تبرير الانتقال السردي من حكاية إلى أخرى، ب- ضمان التماسك النصي الماثل في مجاورة حكاية لأخرى. لكنْ إلى أي حد يمْكِن تعميم هذه الصيغة في ترتيب الحكايات وفق الأسبقية في الورود حسب سلم الأفضلية، أي ورودها وفق الصعود من العجيب صوب الأعجب (سعاد مسكين)؟ قد يكون هذا غير ممْكِن لأسباب ثلاثة: أولها أن الأمر لا يتعلق بالعجيب كما هو مصوغ من قِبَل تودوروف، وقد أوضحنا هذا الأمر في ما سبق. وثانيها يتعلق بالحكايات التي أضيفت إلى ألف ليلة وليلة مع توالي العصور، وتعاقب المدونين؛ فكيف يمكِن تصنيفها وفق سلم الأفضلية إذا كانت تقلد ما أنجزته شهرزاد من حكي، والمقلد يقصر عن المقلد، فكيف يكون أعجب منه؟ ويتمثل السبب الثالث- وهو الأقوى- في كون صيغة التفضيل «أعجب»، أو ما يوازيها من عبارة، لا يتعلقان بموضوع الحكاية أو تصنيفها، وإنما بفعل السرد؛ فهي تَرِد ردا على تثمين مضمَر غير معلن عنه نصا من قِبَل شهريار، أو ردا على تثمين دنيا زاد المصرح به. ويقام صيغة التفضيل «أعجب»، وما يوازيها، على وظيفة خاصة fonction accentuelle تقع في نهاية الحكاية (فولوشينوف)، وهي ما تجعل الحكاية ممتدة في الحكايات الأخرى، كما أنها تؤشر إلى الخطاب؛ حيث تتقاطع فعالية السارد والمسرود له. وإذا كان هناك من أفضلية- في هذا الصدد- فهي راجعة إلى طريقة أداء السرد من قِبَل شهرزاد؛ وينبغي فهم صيغة «أعجب» في إطار كون صيغة التفضيل تتصل بمراتب الكلام (مراتب أفعال السرد)، كما ذكر هذا ابن أبي حديد في نص له أورده الزركشي في «البرهان في علوم القرآن» (محمد الحيرش). ومراتب أفعال السرد (طرائق السرد) لا يحسم فيها إلا بالذوق الذي يتأتى بالقدرة على الحكي، والخبرة بأحواله، ومقتضياته النصية، لا بالقدرة والخبرة العلميتين أو المنطقيتين، وتقوم ثقافة السارد في الليالي بدور مهم (الزاد الماثل في المكتبة، ومراعاة وضع شهريار، وتوقيف الحكايا واستئنافها، والتنويع، ومراعاة معرفة المسرود له التي تقتضي عدم مجاوزة حد العَجَب نحو العجاب الذي يقع خارجه). ومن ثمة يرتبط الأعجب بالطريقة التي تتصل بالصناعة المتفردة في السرد، والتي هي قليلة الاعتياد أو منعدمته.
٭ أكاديمي وأديب مغربي