اتُّبِعت أساليب الإعلان التجاري وأدب البوابين في حكم الجمهورية طوال سنوات من العار والحماقة. وهكذا كان ثمة تاريخان: الإجراميّ، المؤلَّف من الاعتقالات وعمليات التعذيب والحرق والدعارة وسفك الدماء؛ والمسرحيّ، وهو قصص وحكايات تُلفَّق ليستهلكها الحمقى. إن غاية هذه الورقة هي استقصاء تمهيدي للتاريخ الثاني الذي قد لا يقلّ خساسةً عن الأول.
ازدرتِ الدكتاتورية (أو زعمت ازدراء) الرأسمالية، إلا أنها، كما هو الحال في روسيا، نسخت أساليبها وأملتِ الأسماء والشعارات على الناس بالدأبِ ذاته الذي تفرض به التجارة شفرات الحلاقة أو السجائر أو الغسالات. وقد جاء ذاك الدأب، كما يعلم الجميع، بمفعولٍ عكسي: إن المغالاة في صور الدكتاتور قد أفضت بالكثيرين إلى بغض الدكتاتور. لقد انتقلنا من عالم الأفراد إلى عالمٍ من الرموز أشد اضطراماً: لم يكن الصدام بين الأحزاب أو معارضي الدكتاتور، وإنما بين أحزاب ومعارضي هذا الاسم أو تلك الصورة…
كانت المناورة السياسية طبقاً لقواعد الدراما أو الميلودراما مدعاةً للمزيد من الاستغراب. ففي 17 أكتوبر 1945، زُعِمَ إلقاءُ القبض على كولونيل واختطافه وإن الناس قد أنقذوه. لم يكلّف أحد نفسه عناء التعريف بالخاطفين، أو كيف اهتدوا إلى مكان تواجده؛ ولم تُرفع أي اتهامات قانونية ضد أطراف النزاع التي يُفترض أنها مذنبة؛ ولم يُصرَّح عن أسمائهم قط ولا استوقفت أحداً. ثم تدهور التمثيل تدهورا لافتاً على مدار عشر سنين، مع تنامي الامتعاض تجاه الواقعية وابتذال نزعاتها. وفي صباح 31 آب 1955، ادّعى الكولونيل، الدكتاتور الآن، إنه سيستقيل من الرئاسة؛ ولم يُلقِ بلاغه الرسمي في الكونغرس، وإنما على مسمع بعض مُستخدَمي اتحاد الشعب الأكفّاء. أدرك الجميع أن هدف هذه المناورة هو حثّ الناس لكي يتوسلوا إليه ليسحب استقالته. ودَفعاً لأي شكّ، عصابات من مرتزقة الحزب تعاونها الشرطة أغرقت المدينة بملصقات الدكتاتور وزوجته. اجتمعت حشود فاترة الهِمم في بلازا دي مايو (ساحة أيار) حيث كانت إذاعة الدولة تبث إيعازات بعدم المغادرة ومقطوعات موسيقية تخفيفاً للملل. وقبل حلول الليل بالضبط، خرج الدكتاتور إلى إحدى شرفات البيت الوردي. هللوا له، كما هو متوقع، غير أنه نسي الإعلان عن تنحّيه، أو ربما لم يعلنه لأن الجميع كانوا يعرفون ما سوف يفعله، مما يجعل الإلحاح مضجراً. لكنه أمر بمجزرة لا توفّر أحداً من معارضيه، فتعالت هتافات الحشود. ومع ذلك لم يقَعْ شيء تلك الليلة: أدرك الجميع (ربما باستثناء الناطق) أو أحسّوا إن المسألة برمّتها مجرد قصة. حصل الشيء نفسه عند إحراق العلَم، وإن بدرجة أقل. قيل إنه صنيعة الكاثوليكيين؛ فالتقطوا صوراً للعلم الموصوم وأبرزوه للعيان، وآثروا أن يخرقوه بثقب محتشم في مركز الرمز لأن سارية الع لم لم تُتح استعراضاً وافياً. تعداد الأمثلة غير مُجدٍ؛ ليس للمرء إلا أن يستنكر ازدواج الروايات لدى السلطة السابقة، وهو أمرٌ لا يمكن تصديقه وجرى تصديقه.
سيقال إن افتقار الشعب إلى السفسطة كافٍ لتوضيح التناقض؛ أما أنا فأعتقد إن السبب أعمق. تحدث كولريدج عن “الإرجاء الإرادي لعدم التصديق” كإيمانٍ شعري؛ وقال صموئيل جونسون، دفاعاً عن شكسبير، إن المتفرجين على المأساة لا يصدقون إنهم في الإسكندرية خلال الفصل الأول وفي روما أثناء الفصل الثاني، ولكنهم يستسلمون لمتعة القصة. وعلى نحو مماثل، تنأى أكاذيب أية دكتاتورية عن التصديق وعدم التصديق؛ فهي تُحيل إلى مستوى أوسط، وغايتها إخفاء أو تبرير الوقائع القذرة أو المريعة.
إنها تحيل إلى العاطفية الخرقاء أو ما يثير الشفقة والضحك. لحسن الحظ، وفي سبيل تنوير الأرجنتينيين وأمنهم، استوعب النظام الحالي أن دور الحكومة هو أن لا تستنهض مشاعر المعاناة.
(ملاحظة: الكولونيل الدكتاتور المقصود في هذا المقال هو الرئيس الأرجنتيني الأسبق خوان بيرون وخطابه الملقى من إحدى شرفات القصر الرئاسي (البيت الوردي) المطل على ساحة مايو في قلب بوينس أيرس).
ازدرتِ الدكتاتورية (أو زعمت ازدراء) الرأسمالية، إلا أنها، كما هو الحال في روسيا، نسخت أساليبها وأملتِ الأسماء والشعارات على الناس بالدأبِ ذاته الذي تفرض به التجارة شفرات الحلاقة أو السجائر أو الغسالات. وقد جاء ذاك الدأب، كما يعلم الجميع، بمفعولٍ عكسي: إن المغالاة في صور الدكتاتور قد أفضت بالكثيرين إلى بغض الدكتاتور. لقد انتقلنا من عالم الأفراد إلى عالمٍ من الرموز أشد اضطراماً: لم يكن الصدام بين الأحزاب أو معارضي الدكتاتور، وإنما بين أحزاب ومعارضي هذا الاسم أو تلك الصورة…
كانت المناورة السياسية طبقاً لقواعد الدراما أو الميلودراما مدعاةً للمزيد من الاستغراب. ففي 17 أكتوبر 1945، زُعِمَ إلقاءُ القبض على كولونيل واختطافه وإن الناس قد أنقذوه. لم يكلّف أحد نفسه عناء التعريف بالخاطفين، أو كيف اهتدوا إلى مكان تواجده؛ ولم تُرفع أي اتهامات قانونية ضد أطراف النزاع التي يُفترض أنها مذنبة؛ ولم يُصرَّح عن أسمائهم قط ولا استوقفت أحداً. ثم تدهور التمثيل تدهورا لافتاً على مدار عشر سنين، مع تنامي الامتعاض تجاه الواقعية وابتذال نزعاتها. وفي صباح 31 آب 1955، ادّعى الكولونيل، الدكتاتور الآن، إنه سيستقيل من الرئاسة؛ ولم يُلقِ بلاغه الرسمي في الكونغرس، وإنما على مسمع بعض مُستخدَمي اتحاد الشعب الأكفّاء. أدرك الجميع أن هدف هذه المناورة هو حثّ الناس لكي يتوسلوا إليه ليسحب استقالته. ودَفعاً لأي شكّ، عصابات من مرتزقة الحزب تعاونها الشرطة أغرقت المدينة بملصقات الدكتاتور وزوجته. اجتمعت حشود فاترة الهِمم في بلازا دي مايو (ساحة أيار) حيث كانت إذاعة الدولة تبث إيعازات بعدم المغادرة ومقطوعات موسيقية تخفيفاً للملل. وقبل حلول الليل بالضبط، خرج الدكتاتور إلى إحدى شرفات البيت الوردي. هللوا له، كما هو متوقع، غير أنه نسي الإعلان عن تنحّيه، أو ربما لم يعلنه لأن الجميع كانوا يعرفون ما سوف يفعله، مما يجعل الإلحاح مضجراً. لكنه أمر بمجزرة لا توفّر أحداً من معارضيه، فتعالت هتافات الحشود. ومع ذلك لم يقَعْ شيء تلك الليلة: أدرك الجميع (ربما باستثناء الناطق) أو أحسّوا إن المسألة برمّتها مجرد قصة. حصل الشيء نفسه عند إحراق العلَم، وإن بدرجة أقل. قيل إنه صنيعة الكاثوليكيين؛ فالتقطوا صوراً للعلم الموصوم وأبرزوه للعيان، وآثروا أن يخرقوه بثقب محتشم في مركز الرمز لأن سارية الع لم لم تُتح استعراضاً وافياً. تعداد الأمثلة غير مُجدٍ؛ ليس للمرء إلا أن يستنكر ازدواج الروايات لدى السلطة السابقة، وهو أمرٌ لا يمكن تصديقه وجرى تصديقه.
سيقال إن افتقار الشعب إلى السفسطة كافٍ لتوضيح التناقض؛ أما أنا فأعتقد إن السبب أعمق. تحدث كولريدج عن “الإرجاء الإرادي لعدم التصديق” كإيمانٍ شعري؛ وقال صموئيل جونسون، دفاعاً عن شكسبير، إن المتفرجين على المأساة لا يصدقون إنهم في الإسكندرية خلال الفصل الأول وفي روما أثناء الفصل الثاني، ولكنهم يستسلمون لمتعة القصة. وعلى نحو مماثل، تنأى أكاذيب أية دكتاتورية عن التصديق وعدم التصديق؛ فهي تُحيل إلى مستوى أوسط، وغايتها إخفاء أو تبرير الوقائع القذرة أو المريعة.
إنها تحيل إلى العاطفية الخرقاء أو ما يثير الشفقة والضحك. لحسن الحظ، وفي سبيل تنوير الأرجنتينيين وأمنهم، استوعب النظام الحالي أن دور الحكومة هو أن لا تستنهض مشاعر المعاناة.
(ملاحظة: الكولونيل الدكتاتور المقصود في هذا المقال هو الرئيس الأرجنتيني الأسبق خوان بيرون وخطابه الملقى من إحدى شرفات القصر الرئاسي (البيت الوردي) المطل على ساحة مايو في قلب بوينس أيرس).