سعد هجرس - إسماعيل صبرى عبدالله.. فارس الفكر والثورة

أصر الموت على أن يبقى سرادقات العزاء مفتوحة طوال هذا العام.. كما أصر على أن يختطف من هذه الأمة المكلومة كوكبة من أفضل أبنائها فى عام 2006 الذى يستحق بامتياز لقب عام الحزن.
ففى هذا العام رحل أديب مصر الكبير نجيب محفوظ.
ومنذ شهر تقريباً رحل الكاتب والمفكر الكبير محمد عوده، ومن قبله فقدت مصر اثنان من أنبل أبنائها هما الكاتب الكبير محمد سيد أحمد والقديس نبيل الهلالى محامى الشعب المصرى. كما فقدت المحامى يوسف درويش المحامى اليهودى الذى أسس فى مصر اول لجنة شعبية لمكافحة الصهيونية قبل قيام إسرائيل، والدكتور أحمد عبدالله رزة الباحث السياسى المرموق وأحد أبرز قادة الانتفاضة الطلابية فى أوائل سبعينات القرن الماضى التى كانت بدورها أول رد فعل غاضب على الهزيمة المريرة فى يونيه 1967 كما كانت إرهاصاً مبكراً يعبر عن أشواق الشعب المصرى إلى الديموقراطية والحرية.
وقبل أن يلملم عام الحزن، عام 2006، اوراقه ويرحل أبى إلا أن يصطحب معه الدكتور اسماعيل صبرى عبدالله.
وبرحيله تغيب عن أرض الكنانة شخصية فذة بكل معانى الكلمة.
فهذا الرجل يعتبر بحق أحد ألمع العقول ليس فى مصر فقط وإنما فى العالم العربى والعالم الثالث أيضاً..
ومن خلال هذا المعرفة الموسوعية الأصيلة والشاملة والمتكاملة، تبلورت شخصية إسماعيل صبرى عبدالله الفريدة، الذى رفض أن يوضع فى إطار المثقف المترفع المنعزل فى برجه العاجى.
أختار اسماعيل صبرى عبدالله – بالمقابل – مكانة "المثقف العضوى" حتى قبل أن يصك جرامشى هذا المصطلح الذى يصف المثقف الذى يرتبط بمجتمعه ويهتم بقضاياه ويناضل من أجلها.
وهذا بالضبط هو اسماعيل صبرى عبدالله الذى ولد فى أجواء ثورة 1919، وتحديد "بعد اندلاعها بستة أعوام، ثم حصل على ليسانس الحقوق من جامعة فؤاد الأول (القاهرة) عام 1946 وسافر إلى فرنسا حيث حصل على درجة الدكتوراه من جامعة باريس عام 1951.
وكانت كل السبل ممهدة أمامه ليكمل حياته هناك فى السلك الأكادبمى، لكنه عاد إلى الوطن وقام بتدريس علم الاقتصاد فى جامعتى الاسكندرية والقاهرة.
ونظراً لمواهبه التى لم يكن من الصعب اكتشافها تم اختياره وهو فى ريعان الشباب مستشارا للشئون الاقتصادية والمالية بمكتب رئيس الوزراء فى الفترة من 1954 إلى 1955، ثم مديرا للإدارة الاقتصادية بالمؤسسة الاقتصادية لدى إنشائها عام 1957.
لكن مواهبه وكفاءاته لم تغفر له اشتغاله بالسياسة. وهنا نفتح قوساً لنقول أن هذا "المثقف العضوى" لم تمنعه الدراسة الأكاديمية من الانخراط فى صفوف الحياة السياسية، بل إنه دخل إلى غمارها من الباب الأصعب .
فقد كان من الميسور جداً بالنسبة لرجل يحظى بهذه الكفاءات العلمية النادرة أن يتسلق السلم السياسى إلى أعلى المناصب لو اختار الطريق الرسمى والمأمون.
لكنه اختار الطريق الصعب.
أختار دخول السياسة من أكثر أبوابها خطورة، هو باب اليسار والشيوعية فى وقت كانت هذه الكلمة كفيلة وحدها بفتح أبواب جهنم أمام من ينطق بها.
وكان دوره السياسى قيادياً وعلى أعلى مستوى وساهم من خلاله فى زرع شجرة الاشتراكية على ضفاف النيل، والمشاركة فى قيادة النضال من أجل الاستقلال الوطنى والعدل الاجتماعى والديموقراطية فى ظل ظروف بالغة القسوة.
ومع أنه لم يكن من أعداء الرئيس جمال عبدالناصر بل كان ممن يعتبرونه زعيما وطنياً كبيراً، فان الحكم فى العهد الناصرى لم يأبه لذلك، بل قام بوضعه فى غياهب المعتقلات والسجون، مع زملائه وتلامذته، حيث تعرض للتعذيب المروع والحرمان من الحرية سنوات إثر سنوات فى ظل ظروف لايتحملها بشر.
لكنه خرج من هذه التجربة مرفوع الرأس .. وواصل العطاء العلمى والوطنى من مواقع مختلفة.
فى دار المعارف من 1965 إلى 1969.
ثم مديراً لمعهد التخطيط القومى من 1969 حتى 1971.
ونائباً لوزير التخطيط من 1971 حتى 1972.
ثم وزير دولة للتخطيط من 1974 حتى 1977 فى عهد الرئيس أنور السادات.
وقبل دخوله الوزارة وبعد خروجه منها لم يتوقف اسماعيل صبرى عبدالله عن العطاء فى مجالات متعددة.
وقد عكف فى السنوات الأخيرة على مشروع بحثى جبار يستشرف أحوال مصر عام 2020 من خلال منتدى العالم الثالث، اتمنى لو أن من يضعون السياسات فى الميادين المختلفة كانوا قد كلفوا خاطرهم إلقاء نظرة عليه. فلو أنهم فعلوا ذلك لأراحوا واستراحوا ووفروا على بلادنا أن تكون حقلاً للتجارب الفاشلة.
وها هو عام الحزن يمضى بعد أن أصر أن يصطحب هذا الانسان الاستثنائى الذى جمع بين المعرفة الاكاديمية ، والموسوعية ، الاقتصادية والسياسية والثقافية والابداعية، وبين النضال السياسى .. فى رحلة عطاء نادرة المثال وحافلة بالتضحيات.



أعلى